إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وخيرته من خلقه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
في هذه الليلة ليلة الأربعاء الثاني عشر من شهر رجب لعام (1410) للهجرة ينعقد هذا المجلس وهو الثاني والسبعون من مجالس شرح بلوغ المرام، بعد انقطاع بمناسبة الامتحانات ثم إجازة الربيع.
ونسأل الله تعالى أن يكون عودنا حميداً وأن يسددنا في أقوالنا وأعمالنا إنه على كل شيء قدير.
وموضوع هذه الحلقة هو باب الأذان، فسأبدأ بمقدمة تتعلق بالأذان وما يتعلق به، ثم أنتقل إلى شرح الحديث الأول وهو حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الأذان ].
أولهما: العلم، الأذن يطلق بمعنى العلم، تقول: أذنت بالشيء علمت به، وتأذن أي: أعلم، كما في قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ [إبراهيم:7] أي: أعلم خلقه بذلك.
ومنه: آذن أي: أعلم، كما في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109] أي: أعلمتكم بهذا الأمر حتى صرت وإياكم في العلم سواء فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنبياء:109].
ومنه قوله تعالى في آية الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [البقرة:279] قرئت بالوجهين: (فأذنوا) وقرئت بالمد (فآذنوا)، فأما على الوجه الأول (فأذنوا) فالمعنى: اعلموا وتبلغوا، وأما على الوجه الثاني (فآذنوا بحرب من الله ورسوله) فالمعنى أعلموا، يعني: أعلموا من أصر على تعاطي الربا وأكله والمتاجرة به، ومنه قوله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] أي: إعلام منه تعالى لهم بهذا الحكم، وهو أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التوبة:3].
ومنْه أيضاً قوله تعالى: قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ [فصلت:47] أي: أعلمناك.
ويجوز أن يكون منه قوله في سورة يوسف: ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ [يوسف:70] أي: أعلم معلم ونادى مناد.
فالمعنى الأول للفظ الأذن هو: العلم.
والمعنى الثاني للفظ الأذن هو: السمع، تقول: أذن فلان لهذا الشيء يعنى: استمع له وأنصت، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أذن الله لشيء أذنه لنبي يتغنى بالقرآن ), ( ما أذن الله لشيء أذنه لنبي ) في رواية ( حسن الصوت يتغنى بالقرآن ).
قال أبو عبيد معنى (ما أذن) أي: ما استمع. ما استمع لشيء كاستماعه لنبي يتغنى بالقرآن.
وبالنسبة للفظ الأذان الشرعي المعروف -وهو النداء- يجوز أن يكون مشتقاً من المعنى الأول، ويجوز أن يكون مشتقاً من المعنى الثاني؛ لأن المعنيين متقاربان؛ وذلك -أي: تقاربهما- لأن السمع مصدر للعلم بجميع المسموعات، ولذلك فبين المعنيين تقارب شديد، فيجوز أن يكون الأذان المعروف مشتقاً من العلم؛ لأن الأذان -كما هو معروف- إعلام بالصلاة، فيكون قولنا: الأذان، أي: الإعلام بالصلاة، وهذا ما اختاره ابن فارس وجمع من أئمة اللغة.
ويجوز أن يكون الأذان المعروف مشتقاً من المعنى الثاني وهو السمع؛ وذلك لأنه يسمع الناس، وهذا ما رجحه جماعة من الفقهاء والمحدثين كـابن حجر والنووي وغيرهما.
وكما أسلفت فالمعنيان متقاربان، ولذلك لا يضير الأمر وليس فيه كبير فرق.
ويقصدون بالوجه المخصوص الألفاظ التي وردت في الأذان، أي: أنه لا يجوز الإعلام العام بدخول وقت الصلاة إلا بالألفاظ الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن يشكل على هذا التعريف بعض المسائل, يشكل عليه -مثلاً- كون الأذان أحياناً يكون بعد دخول الوقت بزمن، فليس الأذان مرتبطاً بدخول الوقت بل هو مرتبط بالصلاة، فقد يؤذن مؤذن بعدما يمضي من الوقت جزء قل أو كثر، بل قد لا يؤذن مؤذن إلا بعد خروج الوقت المعتاد، وذلك كما إذا كان يؤذن لصلاة فائتة.
والصحيح الذي عليه الجمهور -بما في ذلك الأئمة الأربعة في المشهور عنهم- أن الصلاة الفائتة يؤذن لها، فإذا قلنا: إن وقتها خرج فمعناه أن الأذان كان للصلاة لا للوقت، وإن كان يحتمل أن نقول: إن الوقت الذي أوقعنا فيه الصلاة الفائتة هو وقتها ما دام أنه معذور في تفويتها؛ لحديث: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك )، وفي لفظ: ( فإن ذلك وقتها ) وقد سبق مَعَنا هذا.
كما أن الأذان -خاصة أذان الفجر الأول- يقع قبل الوقت كما هو معروف ( لينبه نائمكم ويرجع قائمكم ), فأذان الفجر الأول يقع قبل الوقت، ومع ذلك هو أذان شرعي.
ولذلك فلو قلنا في تعريف الأذان: إنه الدعاء أو النداء إلى الصلاة بصفة مخصوصة لكان هذا التعريف سالماً من الاعتراضات.
هذا ومما ينبغي فهمه جيداً أن الأذان لا يكون إلا بعد دخول الوقت، هذا هو الأصل في الأذان، فهذه قضية مفروغ منها ومسلمة، أنه لا يجوز أن يؤذن المؤذن إلا إذا دخل وقت الصلاة.
إنما في مجال التعريفات يراعى دائماً الدقة، كما يقول أهل المنطق: إن التعريف لابد أن يكون جامعاً مانعاً, فيراعى فيه الدقة الكاملة، ولهذا اخترت التعريف الثاني: (النداء إلى الصلاة بصفة مخصوصة) حتى يدخل فيه أذان الفجر الأول مثلاً، ويدخل فيه النداء للفائتة، ويدخل فيه الأذان الأول لصلاة الجمعة أيضاً وهو قبل الوقت وما أشبه ذلك.
المعنى الأول هو: المداومة، والمعنى الثاني هو: المكث والبقاء.
ومعنى الإقامة مأخوذ من قول المؤذن: قد قامت الصلاة، وكأن المعنى: قد حضرت الصلاة وجاء وقتها، معنى: (قد قامت الصلاة) كأنه ضمن معنى: قد حضرت الصلاة فقوموا إليها.
وتسمى الإقامة أذاناً أيضاً، إما على سبيل التغليب حيث يسمى الأذان والإقامة أذانين كما نقول بالنسبة لـأبي بكر وعمر نسميهما العمرين من باب التغليب، وكما يقال: الأسودان ويقصد بهما التمر والماء، مع أن الماء ليس له لون..
هذا يوقعنا في مشكلة ما لون الماء، لكننا متفقون على أنه ليس بأسود, فهذا يحتمل أن يكون على سبيل التغليب.
ويحتمل أن تكون تسمية الإقامة أذاناً على سبيل الحقيقة، وهذا أقرب، بمعنى أنه يمكن أن نسمي الإقامة أذاناً ولو لم يكن الأذان معها، بمعنى: لو قلنا: إنه على سبيل التغليب لا نسمي الإقامة أذاناً، إنما نقول: الأذانين، أي: الأذان والإقامة، وإذا كانت الإقامة منفردة نسميها إقامة فقط ولا نقول: أذان، إنما إذا قلنا: إن الإقامة حقيقة هي أذان جاز لنا أن نسميها أذاناً، فإذا جاء الإمام -مثلاً- ودخل وأراد أن يقيم الصلاة، قال للمؤذن: أذن بالصلاة، يعني: أقم، باعتبار أن لفظ الأذان يطلق على الإقامة حقيقة وليس على سبيل التغليب كما ذكره الخطابي وغيره .
وقد ورد في الحديث الصحيح المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، بين كل أذانين صلاة، قال في الثالثة: لمن شاء )، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (بين كل أذانين) أي: بين كل أذان وإقامة.
فأما الكتاب فقد ورد ذكر الأذان في موضعين من القران الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ [الجمعة:9] هذا الموضع الثاني إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ [الجمعة:9] والموضع الآخر وهو الأول: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58] هذه في سورة المائدة.
فهاتان الآيتان نص على التأذين والنداء للصلاة، فهما أصل في مشروعية الأذان.
وقد ورد في سبب نزول الآية الأولى -آية سورة المائدة- كما ذكر بعض أهل التفسير: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بالأذان المعروف جاءه اليهود وقالوا: ( يا محمد! إنك قد ابتدعت أمراً لم يفعله الأنبياء من قبلك )، فنزل قول الله تعالى: وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [المائدة:58].
ومثله حديث أبي قلابة وهو في الصحيح أيضاً، ومثله حديث عبد الله بن زيد بن عبد ربه في قصة رؤيا الأذان وهو الحديث الأول في هذا الباب، وإن شاء الله تعالى نبدأ بشرحه بعد نهاية هذه المقدمة.
ومن النصوص الواردة أيضاً في السنة في موضوع التأذين حديث أبي الدرداء الذي رواه أحمد وأصحاب السنن، وقال عنه ابن حبان : إسناده صحيح، حديث أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذنون ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية )، والشاهد من هذا الحديث قوله: (لا يؤذنون)، ضع تحت كلمة (لا يؤذنون) خطاً، لماذا؟
لأن هذه الكلمة ليست موجودة -فيما أعلم- في السنن، إنما هي في مسند الإمام أحمد، وأكثر الروايات: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة ) بدون ذكر التأذين، وإن كان التأذين من لوازم إقامة الصلاة، ولذلك حكم بعض الباحثين بأن هذه اللفظة -لفظة: (لا يؤذنون)- شاذة ولا تثبت في هذا الحديث .
والحديث على كل حال كما ذكرت لكم أن ابن حبان قال: إسناده صحيح.
وأيضاً مما يدل على الأذان في السنة النبوية مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الأذان، فمنذ أن شرع الله تبارك وتعالى الأذان في السنة الأولى من الهجرة -كما سيأتي- إلى أن قبض سبحانه نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم والنبي عليه السلام وأصحابه محافظون على الأذان محافظة تامة، حتى إنه لا يكاد يثبت أنهم أخلوا به مرة واحدة في حضر ولا سفر، في أمن ولا حرب.
ومثل هذه المحافظة تدل دلالة قاطعة على مشروعية الأذان؛ لأن مثل هذه الشعائر الظاهرة مما يتواتر نقلها ويتعالم ويتسامع الناس بها، فينقلها الكافة عن الكافة نقلاً مستفيضاً، بل متواتراً يستحيل معه الكذب.
وكذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر أن الأذان علامة للإسلام وشعار للإيمان، فكان إذا بعث سراياه يأمرهم أن ينتظروا، ألا يغيروا ليلاً بل ينتظروا، فإذا سمعوا أذاناً كفوا وإلا أغاروا، فدل على أن من الفوارق بين القرية المسلمة والقرية الكافرة، والدولة المسلمة والدولة الكافرة، والأمة المسلمة والأمة الكافرة: أن الأمة المسلمة والقرية المسلمة والدولة المسلمة ترفع الأذان، وينادى فيها للصلاة وتقام فيها شعائر الدين، وهذا ليس مطرداً على طول الطريق، فقد ينادى للصلاة في بعض البلاد الكافرة، وعلى سبيل المثال في أمريكا في واشنطن يؤذنون للصلاة في المركز الإسلامي، لكن لا يؤذنون في الليل، يؤذنون في الصلوات النهارية في الظهر والعصر والمغرب، أما العشاء والفجر فلا يؤذنون؛ لأنهم يقولون: نزعج الحي المجاور للمسجد، إنما رفع الأذان من شعائر الإسلام ومن علامات الإيمان، فإذا حافظ قوم على رفعه دل على أنهم -إن شاء الله- مؤمنون، هذا هو الأصل، إلا إذا ظهر خلاف ذلك فهذا أمر آخر.
إذاً: فالسنة النبوية مليئة بالأخبار والآثار والأدلة على مشروعية الأذان.
أقول -وأرجو أن تتنبهوا لهذه الكلمة لئلا يقع فيها خلط-: إن العلماء أجمعوا على مشروعية الأذان، وحين أقول: على مشروعية الأذان، كلمة (مشروعية) ماذا تعني؟ هل تعني وجوب الأذان أم استحبابه؟
لما نقول: دليل على مشروعية هذا الشيء، مشروعيته معناه أنه مطلوب شرعاً، لكن ليس بلازم أن يكون طلبه على سبيل الإلزام فيكون واجباً، أو على سبيل الندب فيكون مستحباً، أوسع من ذلك أعم من ذلك، بمعنى أنه لما نقول: هذا العمل مشروع يحتمل أن يكون واجباً ويحتمل أن يكون مستحباً.
والحقيقة: أنا أستخدم هذه العبارة، أقول: هذا العمل مشروع بالإجماع لتعزيز جانب بعض الأحكام التي يتلاعب بها الناس، وقد سبق أن استخدمت هذه الكلمة في كتاب: حوار مع الغزالي في موضوع حجاب المرأة، فقلت: إن الحجاب حجاب المرأة -يعني: نقاب الوجه- مشروع بالإجماع، وأعني بأنه مشروع بالإجماع أن العلماء متفقون على أنه مطلوب، لكن بعضهم يقول: واجب وبعضهم يقول: مستحب، لكن ليس هناك -مثلاً- من يقول: إن الحجاب مباح فقط، لا أعلم أحداً من أهل العلم قال بذلك، فضلاً عن أن يقول: إنه بدعة أو مكروه، وقد رأيت أحد فضلاء إخواننا من الدكاترة انتقد هذه الكلمة، كلمة: أنه (مشروع بالإجماع)، وقال: إنه يحتمل أن الكاتب له رأي في موضوع الحجاب ولكنه لا يجرؤ على التصريح به، فجاء بهذه العبارة الغامضة.
والواقع أنه ليس الأمر كذلك، وإنما كان مرادي أن أبين أن مسألة مشروعية الأمر ثابتة، بمعنى أنه مطلوب عند جميع العلماء، فالمرأة -مثلاً- التي تنتقب، العلماء كافة يحمدونها، بعضهم يقول: فعلت واجباً وبعضهم يقول: فعلت سنة، لكن ليس منهم من يقول: ما فعلته مباح لا تؤجرين عليه قط، ليس من أهل العلم من يقول ذلك، وهذا الاستعمال موجود عند الفقهاء، وأذكر له مثالاً واحداً في موضوع الباب: النووي رحمه الله في المجموع لما تكلم على الأذان قال: الأذان والإقامة للصلوات الخمس مشروعان بإجماع العلماء. هذا كلام النووي، وهو حين يقول: مشروعان -رحمه الله- ماذا يعني؟ هل يعني الوجوب؟
لا، لا يعني الوجوب؛ لأن الشافعية أنفسهم -فضلاً عن جميع العلماء- الشافعية مختلفون في حكم الأذان، والمشهور عند الشافعية أنه سنة كما سيأتي بعد قليل، المشهور عند الشافعية أن الأذان والإقامة سنة.
إذاً: قول النووي : (مشروعان بالإجماع). لا يعني أنهما واجبان بالإجماع، كلا، إنما يعني أنهما مطلوبان طلباً أعم من كونه جازماً أو غير جازم، ثم إذا دخلنا في التفصيل هنا يأتي الكلام.
فإذا قلنا: هذا العمل مشروع فالمعنى أنه مطلوب إما وجوباً أو استحباباً، وهذا الاستخدام والاستعمال شائع جداً في ألسنة الفقهاء، وإنما أحببت التنبيه عليه حتى لا يلتبس الأمر على أحد، خاصة أنه ربما لم أكن وضحت هذا الموضوع بصورة كافية فيما سبق وكنت أظنه واضحاً.
أما الأمور التي ليست واجبة أو مختلف في وجوبها فإن الفقهاء مختلفون في القتال عليها، أنا لا أقول: لا يقاتلون، أقول: فيه خلاف، مثلما لو تواطئوا على ترك سنة الفجر، سنة الفجر مستحبة بإجماع العلماء، لكن ما أحد قال بأنها واجبة.
من الفقهاء من قال: إذا أصروا وتواطئوا جميعاً على ترك ركعتي الفجر يقاتلون على ذلك، ومن الفقهاء من يقول: لا يقاتلون على هذا، وهذا ما رجحه الجويني وانتصر له وقال: إن ما عداه فهو باطل.
وكذلك الأذان والإقامة إذا قلنا بأنهما سنة لا نقول بقتال من تركهما، وإذا قلنا بأنهما واجبان فعلى القول بوجوبهما يقاتل من تركهما إذا لم يكن متأولاً، ومعنى كونه متأولاً يعني: لو تركها وهو يقول: ليس بواجب لا يقاتل على ذلك -والله تعالى أعلم- عند من لا يرون القتال على ترك السنة.
إذاً: خلاصة الكلام الذي أريد أن أوضحه لكم في موضوع قتال تارك الأذان: أن ابن المنذر نقل الإجماع على أن تارك الأذان والإقامة يقاتل عليهما.
والصواب: أن هذه المسالة فيها خلاف، ليس فيها إجماع، فيها خلاف، منهم من يقول: يقاتل على ترك الأذان والإقامة، ومنهم من يقول: لا يقاتل على ترك الأذان والإقامة؛ لأن الأذان والإقامة مختلف في حكمهما كما سوف يأتي.
الأذان والإقامة جاءا بوحي من عند الله تعالى، ولم يكن تشريع الأذان والإقامة بسبب رؤيا أو مشورة من أحد، وإنما الأصل في ذلك أنه تشريع، إما تشريع ابتداء أو إقرار من الله تبارك وتعالى لما اجتهد فيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وفيه الإيماء إلى قضية البعث والمعاد والجزاء والحساب والجنة والنار، وذلك في أي موضع من الأذان؟ الإيمان بهذه الأشياء في أي موضع؟
في قوله: حي على الفلاح؛ لأن المقصود بالفلاح: هو حصول المطلوب ودفع المرهوب في أمور الدين والدنيا، في الدنيا وفي الآخرة، فمن الفلاح -مثلاً- السعادة في الدنيا، ومن الفلاح النجاة من النار في الآخرة والفوز بالجنة، ففي قوله: (حي على الفلاح) إيماء إلى البعث والجزاء والحساب والجنة والنار.
كما أن في الأذان والإقامة دعاء إلى الصلاة، وهي آكد أركان الإسلام العملية، وأمراً بها بقوله: (حي على الصلاة)، ثم تجد في الإقامة وألفاظها دعوة لتجديد الإيمان في القلب وحضور القلب عند الصلاة والإقبال عليها، والانصراف عن شواغل الدنيا وصوارفها وملهياتها، والإقبال على الله سبحانه وتعالى وعلى طاعته وعبادته، ولهذا شرع النداء بهذه الألفاظ المعروفة عند دخول وقت الصلاة وعند الإقامة لها كما هو معروف.
منها -بل من أعظمها- ما رواه أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة )، والحديث رواه البخاري وغيره ( لا يسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة ) يعني: شهد له بما نطق به، أنه يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله إلى غير ذلك.
ومن الأحاديث الواردة في فضل الأذان حديث أبي هريرة المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلم الناس ما في التأذين والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه )؛ وذلك لأنهم لو عرفوا فضله لتشاحوا فيه حتى ربما احتاجوا إلى أن يستهموا عليه، يعني: أن يعملوا القرعة أيهم يكون حظه الأذان، وحديث أبي هريرة هذا متفق عليه.
ومنها حديث معاوية الذي رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة ).
وقد اختلف في هذه اللفظة (أطول الناس أعناقاً) فقيل: إنها بكسر الهمز: (إعناقاً) يعني: إسراعاً إلى الجنة، وقيل -وهو الصحيح-: إنها بفتح الهمزة: أطول الناس أعناقاً يوم القيامة، ثم اختلف في معنى الأعناق وطولها.
فقال بعضهم -وهذا هو الأقرب-: إن الناس يلجمهم العرق يوم القيامة ويصيب منهم، يلجم بعضهم ويصيب منهم بقدر ذنوبهم وأعمالهم، فيكون المؤذنون أبعد الناس عن التعرض لهذه المخافة في ذلك الموقف. وهذا من أجود ما قيل.
وقال بعضهم: لأن الإنسان إذا عطش نزلت عنقه، فالمؤذنون لأنهم مرتوون ليسوا عطاشاً في ذلك الموقف، تكون أعناقهم طويلة منصوبة.
وقيل: إن المعنى أنهم سادة؛ لأن السيد قد يوصف بطول العنق.
وقيل وقيل، المقصود أن الأولى حمل الحديث على ظاهر لفظه، وخاصة أن لهذا الظاهر معنى متبادراً صحيحاً لا إشكال فيه.
ومن الأحاديث الواردة في فضل الأذان أيضاً ما رواه النسائي والبيهقي -وسنده صحيح- عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يعجب ربك من راعي غنم على رأس شظية جبل يؤذن ويقيم الصلاة، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي يؤذن ويقيم الصلاة يخافني، أشهدكم أني قد غفرت لعبدي وأدخلته الجنة )، وهذا الحديث فيه وعد من الله تعالى الجواد الكريم لمن يحافظ على الأذان والإقامة والصلاة ولو كان منفرداً في رأس شظية جبل، بأن الله تعالى قد غفر له وأدخله الجنة.
ومنها -يعني: من أحاديث الفضائل- حديث أبي أمامة الذي رواه الطبراني في الكبير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (المؤذن يغفر له مدى صوته وله من الأجر مثل أجور من صلى معه)، وهذا الحديث -كما ذكرت لكم- رواه الطبراني في الكبير، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: فيه جعفر بن الزبير وهو ضعيف، ولذلك فالحديث ظاهره الضعف، إلا أن للقسم الأول منه شاهداً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (المؤذن يغفر له مدى صوته)، فقد ورد ذكر المغفرة للمؤذنين في أحاديث كثيرة منها: حديث عقبة بن عامر السابق.
أما قوله في آخر الحديث: (وله من الأجر مثل أجور من صلى معه ) فهذا ظاهره أنه ضعيف، وإن كان الشيخ ناصر الدين الألباني قد صحح الحديث أو حسنه في صحيح الجامع كله دون أن يستثني منه شيئاً، فلا أدري إن كان اطلع على طريق أخرى لهذا الحديث الله تعالى أعلم بذلك.
فيما يتعلق بحكمة الأذان والسبب في مشروعيته، فيما يتعلق بحكمته فإن العلماء -كما يقول النووي - ذكروا للأذان عدداً من الحكم، منها:
أولاً: إظهار شعائر الإسلام وكلمة التوحيد بهذا النداء الذي يصرخ به المؤذن في كل بلد وواد حتى يتسامع الناس بذلك، فيكون لهذا إعلاناً وإبلاغاً وبياناً.
الحكمة الثانية فيها: أن في النداء والأذان بياناً لدخول وقت الصلاة، ولذلك قال الفقهاء: إن الأذان إعلام بدخول وقت الصلاة.
الحكمة الثالثة: أن في الأذان بياناً لمكان الصلاة مكان الجماعة وهو المسجد، أو المكان الذي تقام فيه الجماعة.
والحكمة الرابعة: أن في الأذان دعوة دعاء ونداء إلى الصلاة وحثاً على حضورها.
هذه هي الحكم الأربع التي ذكرها النووي رحمه الله عن الفقهاء في مشروعية الأذان.
ومن أدلتهم على سنتيها أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكرهما للمسيء صلاته، وحديثه في الصحيحين والسنن معروف، وليس في شيء من الطرق الصحيحة، وإن كان ورد من طرق ضعيفة أن النبي عليه السلام أمره بالتشهد، يعني الأذان والإقامة، لكن هذا لا يصح ولا يثبت، فقالوا: عدم أمر المسيء صلاته بالأذان والإقامة دليل على عدم وجوبهما.
كما أن من أدلتهم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن، يعني: لم يأمر أحداً بالأذان في ليلة المزدلفة، بل صح عنه -كما في حديث جابر في صحيح مسلم- أنه صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين، وإن كان ورد بأذانين أيضاً كما في حديث ابن مسعود وهو في الصحيح أيضاً، المهم أنه جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء ليلة مزدلفة بأذان واحد وإقامتين، بل ورد أنه صلى الله عليه وسلم جمع من غير أذان في بعض أسفاره، وهذا حديث سيأتي.
كما أن من أدلتهم على عدم الوجوب الطريقة التي شرع بها الأذان، فقالوا: كونه صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان عن مشورة من أصحابه ثم عن رؤيا رآها بعض الصحابة، في هذا ما يدل على أن الأذان أقرب وأليق أن يلحق بالمندوبات والمستحبات لا بالواجبات، هذه أهم أدلتهم على عدم الوجوب.
وأدلة هؤلاء كثيرة، سبق منها حديث مالك بن الحويرث : ( إذا أقيمت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم ) قالوا: ( فليؤذن لكم أحدكم ) وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، ومثله حديث أبي قلابة.
ومن أدلتهم أيضاً حديث أنس في الصحيحين قال: ( أمر
وقالوا: حتى على القول بأن الأمر الآن أمر يتعلق بصيغة الأذان: أن يكون الأذان شفعاً والإقامة وتراً؛ فإن الأمر بالصفة أمر بالأصل، لا يمكن أن تكون الصفة واجبة والأصل غير واجب، فإذا أوجبنا الصفة للأذان فمن باب أولى أن الأذان هو الآخر واجب، وهذا في الواقع ليس بلازم، فقد تكون الصفة واجبة والأمر ليس بواجب، ألم تر إلى الصلاة -مثلاً- النافلة، هل يجب على الإنسان أن يصلي الوتر -مثلاً- أو ركعتي الفجر -سنة الفجر- هل يجب عليه؟
هل يجوز له أن يصلي بطريقة غير مشروعة فيركع ركوعين أو ثلاثة أو أربعة مثلاً؟ كلا.
إذاً: قد تكون الصفة واجبة ويكون الأصل غير واجب، وهذا في مجال العبادات ظاهر لا إشكال فيه، إنما قد يستدل بحديث أنس : ( أمر
كما أن من أدلتهم حديث عبد الله بن زيد وهو أول حديث في الباب، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى الرؤيا قال: ( رؤيا حق، وأمر صلى الله عليه وسلم بالتأذين )، فكونه قال: ( إنها رؤيا حق ) وأمر عليه الصلاة والسلام بأن يؤذن للصلاة دليل على وجوبه.
ومن أدلتهم على الوجوب حديث عثمان بن أبي العاص أنه قال: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، فقال له صلى الله عليه وسلم: أنت إمامهم واقتد بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً)، يعني: يكون أذانه لوجه الله تعالى لا من أجل الراتب أو المغنم أو المقصد الدنيوي، وهذا الحديث رواه الخمسة، وهو من ضمن أحاديث بلوغ المرام فسيأتي إن شاء الله تعالى.
قيل: إن الأذان أفضل؛ وذلك للنصوص الواردة فيه وسبق ذكر بعضها، ولم يرد مثل هذا الفضل في شأن الإمامة، كما أن من قالوا بأن الأذان أفضل احتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن، اللهم أرشد الأئمة واغفر للمؤذنين )، والحديث رواه أبو داود والنسائي وحسنه الحافظ ابن حجر كما في نتائج الأفكار، فقالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث جعل الإمام ضامناً والمؤذن مؤتمناً، والأمانة أعظم من الضمان، كما أنه صلى الله عليه وسلم دعا للأئمة بالرشاد، ودعا للمؤذنين بالمغفرة، والمغفرة أعظم من الدعاء بالإرشاد.
وهذا هو المشهور من مذهب الإمام أحمد وعليه أكثر أصحابه، واختاره الشيخ ابن تيمية رحمه الله.
ومن أدلتهم على أن الإمامة أفضل: أنه يشترط للإمام شروط لا تشترط للمؤذن، وذلك كاشتراط أن يكون الإمام أقرأ، وليست هذه شروطاً، لكن يطلب فيه صفات لا تطلب في المؤذن، ككون الإمام أقرأ وأفقه وأورع وأتقى وما أشبه ذلك، وهذه الأمور ليست مشروطة في المؤذن، هذا هو القول الثاني.
ومن الناس من تكون الإمامة له أفضل، وذلك كما إذا كان قارئاً، مجوداً، ضابطاً، حازماً، قوياً فإن الإمامة له أولى وهو بها أجدر وأحق، فيختلف الناس في هذا الأمر، ولا يوجد ما يدعو إلى أن نضع قاعدة عامة أن الأذان أفضل مطلقاً أو الإمامة أفضل مطلقاً، بل يكون الأذان أفضل بالنسبة لأناس وتكون الإمامة أفضل بالنسبة لآخرين، بل قد يتعين على إنسان ما أن يؤذن أو يتعين على آخر أن يؤم؛ لأنه لا يوجد من يقوم بهذا العمل غيره.
وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74]، وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا [السجدة:24] ليس المقصود هنا فقط الإمامة في الصلاة، الأمر أوسع من ذلك، هي الإمامة في الدين, وتشمل الإمامة في العلم، الإمامة في العمل، الإمامة في الدعوة، في الجهاد، في الأمر بالمعروف، في النهي عن المنكر، في الفقه، ويدخل في ذلك الإمامة في الصلاة، يدخل في ذلك.
لكن أيضاً قال الله تعالى في القرآن الكريم: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33] فبين أنه لا أحسن؛ لأن قوله: (من أحسن) هذا استفهام يراد به النفي، أنه لا أحسن ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال: إنني من المسلمين، وهذا يشمل كل داعية إلى الله تعالى عامل للصالحات مسلم، لكن يدخل في ذلك المؤذن؛ لأنه يدعو إلى الفلاح: حي على الصلاة حي على الفلاح، يعني: هذا له آية وذاك له آية.
سنقف مع هذا الحديث وقفات سريعة بقدر ما يتسع له الوقت، ونكمل الأحاديث الثلاثة الباقية -إن شاء الله- لاحقاً.
ففيما يتعلق أولاً بالحديث فإنه رواه أئمة كثيرون، منهم من ذكر المصنف: أحمد وأبو داود، ورواه أيضاً الترمذي في جامعه مختصراً، ورواه الدارمي ورواه ابن الجارود في المنتقى، والبيهقي وابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما وغيرهم من أهل العلم.
وبعضهم ساق الحديث مطولاً، ولعل من أطول الروايات فيه رواية أبي داود، وفيها ( أن
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر