إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
اليوم الثلاثاء (16/ربيع آخر) لعام (1410 للهجرة)، وفيه ينعقد هذا المجلس -وأظنه التاسع والستين- من مجالس شرح بلوغ المرام، يسر الله تعالى إتمامه بمنه وكرمه، وإن شاء الله تعالى مصممون في هذه الليلة على أن نجتاز باب المواقيت الذي أطلنا فيه بعض الشيء نظراً لانشغالنا أول الوقت بموضوع المراجعة، مراجعة كتاب الطهارة، وذلك لأن أحاديث الليلة كلها سبقت في الشرح، فلم يبقَ إلا الكلام عليها, وتحرير مقاصدها ومعانيها فحسب؛ ولذلك أستميحكم العذر أيضاً في موضوع تسميع الحصة المقررة, وإن كنا سنستمر على ما اتفقنا عليه في موضوع التسميع.
في الأسبوع الماضي داهمنا الوقت ونحن نتحدث عن أهم قضية تقريباً في موضوع المواقيت، في موضوع أوقات النهي، وهي الجمع بين الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أوقات معلومة -كالنهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس, وبعد العصر حتى تغرب الشمس- وبين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة مطلقاً في مناسبات معينة، كأمره بالصلاة -مثلاً- عند الكسوف أو الخسوف, وأمره بالصلاة عند دخول المسجد، وكذلك الصلاة بعد الطواف، والصلاة عند الوضوء، وقضاء الفائتة لمن أدركها في وقت النهي، وإعادة الجماعة في المسجد، وقضاء الراتبة الفائتة أيضاً، وكذلك الصلاة مع أئمة الجور، كما في حديث أبي ذر في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( كيف بك إذا أدركت أقواماً يؤخرون الصلاة عن وقتها؟! قال: فما تأمرني يا رسول الله؟ قال: صلّ الصلاة لوقتها، فإذا أدركتها معهم فصلّ فإنها لك نافلة )، ومعنى ذلك: أنه سوف يصلي العصر -مثلاً- في وقتها، ثم إذا أدرك العصر مع أئمة الجور وأمراء السوء فإنه يعيدها معهم, وتكون له نافلة، وكذلك جاء نحوه في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .. إلى غير ذلك.
فكيف يجمع بين هذه وتلك؟
أن الصلاة التي لها سبب كتحية المسجد وركعتي الطواف، وصلاة الوضوء -ركعتي الوضوء- وصلاة الكسوف, والجنازة, وغيرها مما لها سبب فإنها تفعل مطلقاً في وقت النهي وفي غيره.
وذلك لأن أمامنا الآن عمومين، وهذا سر الترجيح:
العموم الأول: في أحاديث النهي: ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس, ولا بعد الفجر حتى تطلع الشمس )، فهذا عموم من جهة النهي عن الصلاة، ولكنه خاص في أوقات معلومة.
ويقابل الأحاديث الأخرى التي فيها عموم في الأوقات، لكن خصوص في أسباب معلومة، كقوله -مثلاً- عليه السلام: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، فإن هذا الحديث في سبب خاص، وهو من دخل المسجد، لكنه من جهة الوقت عام غير محدد، فهو ما قال: (إلا بعد العصر وبعد الفجر)، قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس ..)، ومثل حديث بلال في صلاة ركعتي الوضوء؛ فإنه قال: ( لم أتطهر أية ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما شاء الله )، ولم يخص أوقات النهي أيضاً، وكذلك في حديث جبير بن مطعم : ( لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء )، ولم يقل: (إلا أوقات النهي)، ففي هذه الأحاديث عموم من جهة الوقت؛ ولذلك اختلف واضطرب أهل العلم فيها.
فمنهم من أخذ بعموم أحاديث النهي، فقال: لا تصلى أي صلاة في وقت النهي, وهذا مذهب الأحناف كما سبق معنا.
ومنهم من أخذ بالأمر الآخر، وقال: يؤخذ بعموم هذه الأحاديث لا بعموم أحاديث النهي.
ومنهم من توقف, وأذكر أن ممن توقف في ذلك الشوكاني، حتى إنه في عدد من كتبه -كـنيل الأوطار، وكذلك في رسالة خاصة له اسمها كشف الشبهات في شرح حديث وبينهما أمور مشتبهات - لجأ إلى قول أرى أنه في غاية الضعف في الجمع بين هذه الأحاديث، فمثلاً: في حديث دخول المسجد: ( فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) قال: لا يدخل المسجد في وقت النهي، لا تدخل المسجد في وقت النهي لماذا؟ قال: لأنك إن صليت خالفت حديثاً، وإن تركت الصلاة خالفت حديثاً آخر، فالأسلم لك أنك لا تدخل المسجد أصلاً في وقت النهي، وهذا في نظري أنه تورع، لكنه في غير محله؛ لأنه يبعد أن ينهى الإنسان عن دخول المسجد أبداً, أما كون الفقيه أو المجتهد تحير فهذا طبيعي، ليس بغريب.
المهم القول الذي أختاره: ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من العمل بعموم الأحاديث الأخرى الآمرة بصلوات معينة لأسباب معلومة، وإنما يرجح عموم هذه الأحاديث على عموم أحاديث النهي لسبب ظاهر، وهو أن أحاديث النهي عمومها مخصوص، أو نقول: عمومها غير محفوظ، يعني: ورد عليه استثناءات كثيرة جداً، وذلك مثل الأمثلة التي سبقت، كونه صلى الله عليه وسلم وجد بعض الصحابة يقضون راتبة الفجر بعد الصلاة فلم ينكر عليهم، كونه صلى الله عليه وسلم قضى راتبة الظهر لما فاتته بعد العصر، إلى غير ذلك من الأحاديث التي سبقت في أدلة الفريق الثاني.
فهذا يضعف عموم أحاديث أوقات النهي؛ لأنه أصبح عموماً غير محفوظ، ومعنى قولنا: (غير محفوظ), أي: أنه مخصوص بأحاديث كثيرة جداً، في حين أن عموم النصوص الأخرى محفوظ مطلقاً, لم يرد ما يخصه أو يعتبر استثناءً.
فمثلاً: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين )، هل تحفظون دليلاً واحداً يشرع فيه -يعني: بمقتضى حديث الرسول عليه السلام- للإنسان الجلوس قبل الصلاة؟ هل تعرفون أن هناك صحابياً جاء والنبي عليه السلام -مثلاً- في المسجد, فصلى فقال له: اجلس لا تصل هذا وقت نهي مثلاً؟! كلا.
بل العكس، حتى أثناء خطبة الجمعة لما دخل رجل فجلس قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( أصليت يا فلان؟! قال: لا، قال: قم فاركع ركعتين وتجوّز فيهما ).
إذاً: عموم أحاديث النهي مخصوص، وعموم الأحاديث الأخرى في الصلوات التي لها سبب غير مخصوص، والعام غير المخصوص أقوى من العام المخصوص، أو نقول بأسلوب آخر: العام المحفوظ -المحفوظ الذي لم يأتِ ما يشكل عليه أو يستثنى منه- يقدم على العام غير المحفوظ.
وبناء على ذلك ترجح الأحاديث التي فيها فعل ذوات السبب، فيفعل الإنسان الصلوات التي لها سبب حتى في أوقات النهي.
أولاً: أن هناك أوقاتاً النهي فيها مغلظ كما سبق، وهي الأوقات الثلاثة, وخاصة عند طلوع الشمس وعند غروبها، حتى إن من السلف من قال: إن النهي بعد الفجر وبعد العصر إنما هو كنوع من الحماية لهذا الوقت، الذي هو مركز النهي وبؤرة النهي عند الطلوع وعند الغروب، وما قبله وما بعده أشبه ما يكون بالحريم والحياطة له.
فهذه الأوقات الثلاثة يتأكد فيها النهي، ولذلك ذهب من ذهب من السلف إلى قصر النهي على هذه الأوقات الثلاثة، فلهذا أرى أن يحرص الإنسان ألا يصلي في هذه الأوقات الثلاثة صلاة وهو يستطيع أن يؤجلها بلا مشقة.
أما إن كان في ذلك عليه مشقة فليصلها، فمثلاً: لو دخل المسجد في مثل هذه الأوقات لا نقول له: لا تصلها؛ لأننا إن قلنا له: اجلس بدون صلاة؛ فهذا مخالف لما رجحناه الآن، وإن قلنا له: انتظر واقفاً؛ فهذا فيه مشقة أنه سوف يقف ربع ساعة -مثلاً- أو عشر دقائق، فيه مشقة، فيقال له: صلّ في هذه الأوقات، لكن لو أن عنده أمراً يمكن تأجيله، ولا يفوت سببه؛ فإنني أرى أن الأولى أن يؤجله، هذه واحدة.
ولذلك ذهب كثير من أهل العلم إلى عدم صلاة الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة، وعدم دفن الموتى فيها أيضاً؛ لحديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، في حين أنهم ذهبوا كلهم -أو جلهم- إلى أن الجنازة تصلى في بقية أوقات النهي، فهذا دليل على تأكد النهي في هذه الأوقات الثلاثة، ومما يخفف الأمر والخطب فيها: أنها أوقات قصيرة، فما بين طلوع الشمس إلى ارتفاعها قيد رمح وقلنا: إنه يساوي بالدقائق عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة، ووقت الزوال
خمس إلى عشر دقائق، ووقت الغروب تقريباً يعادل خمساً إلى عشر دقائق, فبناءً على ذلك تكون هذه الأوقات قصيرة.
الملاحظة الثانية: تتعلق بصلاة الاستخارة، وصلاة الاستخارة ثابتة كما في الصحيح من حديث جابر : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة كما يعلمنا السورة من القرآن، يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك, وأستقدرك بقدرتك, وأسألك من فضلك، فإنك تعلم ولا أعلم, وتقدر ولا أقدر, وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم هذا الأمر -ويسميه باسمه- خيراً لي في ديني ودنياي ومعاشي ومعادي وعاجل أمري وآجله فاقدره لي, ويسره لي، وإن كنت تعلم غير ذلك فاصرفه عني واصرفني عنه, واقدر لي الخير حيث كان, ثم رضني به )، فهذه الاستخارة, يشرع للإنسان أن يفعلها لكن عند الحاجة إليها، لكن إذا كان الأمر الذي يستخير من أجله لا يفوت فلا ينبغي له أن يفعلها في أوقات النهي، لكن لو كان أمراً يفوت، فلو أجل الاستخارة إلى ما بعد خروج وقت النهي لفات الأمر الذي يريد أن يستخير بشأنه؛ فإنه يفعل هذه الصلاة حتى في وقت النهي.
أولها: حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه.
حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الشفق الحمرة ).
لاحظوا عبارة المصنف حسب المطبوع الذي بين أيديكم إن كان كالذي معي، يقول: رواه الدارقطني وصححه ابن خزيمة , وغيره وقفه على ابن عمر .
والذي أعتقد في صحة العبارة -وإن كنت راجعت بعض المخطوطات ووجدت أنها محتملة- لكن الذي أعتقد في صحة العبارة: أن العبارة الصحيحة: رواه الدارقطني وصحح ابن خزيمة وغيره وقفه على ابن عمر، فتكون كلمة (وصححه) الهاء هذه زائدة، والحديث رواه الدارقطني في سننه في باب صفة المغرب والصبح، وزاد في آخره: ( الشفق الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة )، والحديث قال فيه الإمام البيهقي رحمه الله في سننه : روي -يعني: هذا الحديث- بلفظ: (الشفق الحمرة) عن عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وشداد بن أوس وأبي هريرة , ولا يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكأن البيهقي رجح أنه موقوف على بعض الصحابة, وهو الصحيح.
وكذلك ممن رجح أنه موقوف الإمام الحاكم في كتابه المدخل، فإنه رجح أن هذا الحديث موقوف على ابن عمر وغيره.
فهذه المسألة سبقت, والراجح فيها: أن المقصود بالشفق الحمرة.
وهذا الحديث أيضاً: رواه ابن خزيمة في صحيحه في (باب ذكر بيان الصبح الذي تحل فيه الصلاة ويحرم فيه الطعام)، وقال عقب روايته: لم يرفعه في الدنيا غير أبي أحمد الزبيري , وأشار الدارقطني إلى نحو من ذلك، فكأن ابن خزيمة والدارقطني رحمهما الله يرجحان أن الحديث موقوف ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقد سبق أيضاً في بحث هذه المسألة: أن الفجر فجران: الأول: الفجر الكاذب، وهو الفجر المستطيل، وهذا الفجر لا يتعلق به شيء من الأحكام مطلقاً.
وأما الفجر الثاني: فهو الفجر الصادق, وهو الفجر المعترض المستطير في الأفق الذي إذا ظهر لا يغيب؛ بخلاف الفجر الأول فإنه يبدو ثم يختفي، وهذا الفجر الثاني الصادق المستطير -بالراء- هو الذي تتعلق به جميع الأحكام الشرعية، فيدخل به وقت صلاة الفجر، ووقت الصيام, يحرم فيه الطعام, وتحل فيه الصلاة .. إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية، فإن الأحكام الشرعية كلها معلقة بالفجر الصادق لا بالفجر الكاذب.
وللحاكم من حديث جابر نحوه, وزاد في الذي يحرم الطعام: ( إنه يذهب مستطيلاً في الأفق )، وفي الآخر: ( إنه كذنب السرحان ) والمقصود بالسرحان: هو الذئب.
فهذا الحديث الذي رواه الحاكم من طريق جابر هو شاهد للحديث الأول، وقد رواه الحاكم في مستدركه وقال: إسناده صحيح، وهو بمعنى الحديث السابق فلا شيء فيه.
فالذي أعلم أنه في الترمذي : (الصلاة على وقتها)، ليس فيه (في أول وقتها)، وإنما رواية الترمذي : (الصلاة على وقتها)، وبناء على ذلك فرواية الترمذي كرواية الصحيحين لا فرق، والحديث في الصحيحين -كما ذكر- من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، ولفظه: ( أفضل الأعمال الصلاة على وقتها )، وفي بعض ألفاظ مسلم : ( الصلاة لوقتها ), باللام.
إذاً: الفرق بين رواية الصحيحين وبين رواية الحاكم وغيره: أن الحاكم رواه بلفظ: ( الصلاة في أول وقتها )، فهو نص.
أما رواية الصحيحين والترمذي وغيرهما فهي: (أفضل الأعمال الصلاة على وقتها) أو (الصلاة لوقتها).
وفي هذا الحديث عدة مسائل, منها:
وقد اختلف أهل العلم في هذا اللفظ الذي ساقه المصنف: (الصلاة في أول وقتها)، فضعفه جماعة من أهل العلم، بل جزم النووي بتضعيفه، وذلك لتفرد علي بن حفص به وهو صدوق، لكنه تفرد بهذه اللفظة كما ذكر النووي .
والواقع: أنه لم يتفرد بها بل قد توبع بعض المتابعات، وإن كان أكثر الرواة ساقوا الحديث بلفظ: ( الصلاة على وقتها ).
أولاً: أن الصلاة في أول وقتها مستحبة، وهذا سبق تقرير وذكر بعض أدلته، أن الصلاة في أول وقتها أفضل, إلا ما يستثنى من ذلك كصلاة العشاء وكصلاة الظهر عند اشتداد الحر، أما ما عدا ذلك فالأفضل أن يصلي الإنسان الصلاة في أول وقتها، يعني: أول ما يدخل وقتها، هذا سبب.
ولذلك روى الدارقطني والحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لوقتها الآخر حتى قبضه الله )، والحديث رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ورواه الدارقطني أيضاً.
فهذا من ضمن الأدلة على الصلاة في أول وقتها, ومحافظة النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.
إذاً: ما يدل عليه الحديث من فضل الصلاة في أول وقتها ثابت في غير هذا الحديث.
يحتمل أن يكون معنى اللام هو للاستقبال, كما في قوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطلاق:1] أي: في قبل عدتهن، فتكون اللام للاستقبال، يعني: في أول الوقت, ومن المعلوم أنه لن يصلي قبل دخول الوقت، وإنما بدخول الوقت.
وقيل: إن اللام هاهنا كاللام في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الإسراء:78] يعني: لابتداء الوقت، فيكون معنى قوله: (الصلاة لوقتها) يعني: لابتداء وقتها، لأول وقتها، والمعنى والمؤدى واحد.
أما قوله: (الصلاة على وقتها) فقيل: إن (على) هنا بمعنى: اللام، كما سبق، وهاهنا لا إشكال أيضاً، وقيل: إن (على) تدل على التمكن والاستعلاء والاستقرار، وهذا لا يكون إلا إذا صلى الإنسان في أول الوقت بحيث يكون متمكناً من الوقت، صلى في أوله، بخلاف من صلى -مثلاً- في آخر الوقت، فكأنه يكون في طرف الوقت لم يتمكن منه، وعلى هذا فإن الظاهر -والله تعالى أعلم- أن عدداً من رواة الحديث عن أبي عمرو الشيباني عن ابن مسعود، عدد منهم ظنوا أو فهموا أن قول (الصلاة في أول وقتها) أو (لوقتها) أو (على وقتها) أن المعنى واحد؛ ولذلك اختلفوا في لفظ هذا الحديث اختلافاً بيناً، والذي رجحه الشيخان -كما ذكرت- (الصلاة على وقتها) أو (لوقتها).
فأحياناً يقول: الصلاة على وقتها، وأحياناً يذكر ذكر الله تعالى, الذكر وأنه أفضل الأعمال، وأحياناً الجهاد، إلى غير ذلك من الأحاديث، فما هي الطريقة للجمع بين هذه الأحاديث التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها أفضل الأعمال، واختلفت الأعمال التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم؟
ويمكن أن ألخص النقاط التي تجمع بين هذه الأحاديث في أربعة أمور:
الأمر الأول: مراعاة أحكام هذه الأعمال؛ فإن العمل يختلف فضله بحسب حكمه، فأفضل الأعمال هي الفرائض، ثم النوافل مطلقاً؛ ولذلك كان أفضل الأعمال على الإطلاق هو الإيمان بالله تعالى؛ وذلك لأن الإيمان بالله تعالى هو أصل الأعمال وشرطها، فلا يقبل من العبد عمل إلا بالإيمان بالله ورسوله، فكان الإيمان بالله هو أفضل الأعمال؛ لأنه أوجب الأعمال وألزمها على كل مخلوق، ولا يعذر به أحد مطلقاً في حال من الأحوال، لا أحد يعجز عن الإيمان بالله تعالى، قد يعجز عن بعض العمل، لكنه لا يعجز عن الإيمان.
ولذلك أيضاً قال النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث البخاري -: ( أن الله جل وعلا يقول: وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ مما افترضته عليه, ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به, وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها, ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه, ولئن استعاذني لأعيذنه ) .
فقوله: (وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه) يدل على أن أول أمر يراعى في تفضيل الأعمال تقديم الفرض على النفل، فمثلاً: فرض الصوم -مع أن الصوم هو الركن الخامس من أركان الإسلام- أفضل -قطعاً وبلا خلاف- من نفل الحج، أليس كذلك؟ لا شك في هذا.
فرض الصوم أفضل من نفل الحج، بل فرض ما هو دون الصوم بمراحل من الأعمال التي يقال: إنها واجبة -ولو كان دليل وجوبها غير ظاهر- أفضل من نفل أعمال أخرى أقوى منها، فهذا الأمر الأول الذي يراعى، تقديم الفرض على النفل.
الأمر الثاني الذي يراعى هو: اختلاف الأحوال، فإن حاجة الناس تختلف من وقت لآخر, حاجة الأمة تختلف من وقت لآخر, ففي بعض الأوقات يكون إنفاق المال -مثلاً- أفضل من كثير من الأعمال, لماذا؟
لأن الناس في حالة قحط وجدب وفقر ومجاعة، فإنفاق الأموال في هذا الحال من أفضل الأعمال.
أحياناً أخرى يكون نشر العلم أفضل من إنفاق المال، وذلك حين يعم الجهل, ويرفع العلم، ويخبط الناس في عشواء مظلمة مدلهمة لا يعرفون الحلال ولا الحرام، ولا تفصيل الأحكام، فيكون حينئذ نشر العلم أفضل -مثلاً- من الصدقة.
وفي حالة ثالثة يكون الجهاد في سبيل الله أفضل، وذلك حينما يداهم الأعداء بلاد الإسلام, ويستبيحون الحرمات, وينهبون الأموال, وينتهكون الأعراض, فيكون الجهاد أفضل من كثير من الأعمال، وهكذا -إذاً- يختلف الفضل باختلاف الأحوال التي تمر بها الأمة.
وأحياناً أخرى يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل حين يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يوجد من يقوم به، فيحتاج الناس إلى من يتصدى لهذا الواجب العظيم والشعيرة الكبيرة.
الأمر الثالث الذي يراعى في التفضيل: هو اختلاف الأشخاص، فإن الإنسان الذي يكون غنياً بالمال -مثلاً- قد يقال: إن الصدقة في حقه أفضل؛ لأنه أقدر عليها، وآخر يكون لديه علم فيكون نشر العلم بالنسبة له أفضل، وثالث يكون قوي الجسم فيكون اشتغاله بالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أفضل وأولى.. وهكذا، فيختلف بحسب الأشخاص.
ولذلك قد يتعين الأمر غير الواجب، قد يتعين ويصبح واجباً على أفراد معينين؛ لأنه لا يمكن أن يقوم به غيرهم، وهذا اليوم موجود في حياة المسلمين في مجالات كثيرة جداً؛ لأن هناك أموراً قلّ من يقوم بها.
نشر العلم الشرعي مثلاً، تصحيح عقائد الناس، تربية الناس على الكتاب والسنة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الرد على أهل البدع .. إلى غير ذلك من الأمور، هذه أشياء قل من يقوم بها، حتى لقد تعينت على من يستطيع القيام بها، وأصبحت فرضاً عينياً عليه؛ لأنه لم يقم بها إلا القليل، لم يقم بها من يكفي.
إذاً: فالقول بتفضيل الأعمال يختلف بحسب الأحوال وبحسب الأشخاص.
الأمر الرابع: أنه يختلف بحسب الأجناس، فمثلاً: العبادات قد يقال: أفضلها -مثلاً- الصلاة، وخاصة الصلاة المفروضة، الذكر أفضله قراءة القرآن، أعمال البر أفضلها بر الوالدين وصلة الرحم .. وهكذا، كل جنس من الأعمال فيه فاضل وأفضل.
فهذه الدوائر الأربع يمكن أن تراعى عند مرور الإنسان بالأحاديث التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها تفضيل بعض الأعمال على بعض.
وفي حديث ابن مسعود فضل الصلاة على أول وقتها كما سبق.
والدارقطني أخرج هذا الحديث في باب النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، وهذا الباب ليس مظنة له، فلينتبه إليه.
وكذلك أخرجه البيهقي في سننه وقال عقب إخراجه: قال البيهقي : فيه إبراهيم بن زكريا حدث عن الثقات بالبواطيل، يعني: بالأحاديث الباطلة التي لا تصح، وهو علة هذا الحديث؛ فإنه فيه إبراهيم بن زكريا قال فيه البيهقي ما سمعتم، وقال فيه ابن عدي كذلك، وقال أبو حاتم : حديثه منكر.
إذاً: علة هذا الحديث إبراهيم بن زكريا، وهذه انتبهوا لها, فالحديث ضعيف جداً كما ذكر المصنف.
والمعلق الذي هو الشيخ محمد حامد الفقي -حسب النسخة التي معي- علق في هذه الصفحة -وهي صفحة خمس وثلاثين- على الحديثين كليهما بتعليق واحد يحمل رقم ثلاثة، حيث قال: لأنهما -يعني الحديثين- من رواية يعقوب بن الوليد المدني .
وهذا الكلام الذي عقب به الشيخ محمد حامد الفقي غير سديد؛ فإن علة الحديث الأول -كما ذكرت لكم- ليس يعقوب بن الوليد وإنما إبراهيم بن زكريا، وقد قال فيه البيهقي وابن عدي وأبو حاتم ما سمعتم، هذا علة الحديث الأول.
أما يعقوب بن الوليد هذا فهو علة الحديث الثاني، حديث الترمذي الذي رواه ابن عمر ؛ فإن فيه يعقوب بن الوليد المدني، وحديث الترمذي هذا رواه أيضاً الدارقطني والحاكم والبيهقي وابن حبان في كتاب المجروحين .. وغيرهم.
ويعقوب بن الوليد هذا قال فيه الإمام أحمد : مزقنا حديثه، كان من الكذابين الكبار يضع الحديث. هذا كلام الإمام أحمد في يعقوب، وكذلك كذبه أبو حاتم الرازي ويحيى بن معين، وقال فيه أبو داود : غير ثقة.
ومن غرائب يعقوب هذا -كما ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ؛ لأن من عادته في الميزان أن يذكر أحياناً حديثاً أو أكثر للرواة الذين لهم غرائب وعجائب- فمن غرائب ما ذكر الذهبي عن يعقوب هذا في الميزان أنه روى عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو تمت البقرة ثلاثمائة آية لتكلمت البقرة مع الناس!! ) هذا من أكاذيبه -قبحه الله- هذا حديث موضوع، لكنه اختلقه -عامله الله بما يستحق- ونسبه كذباً وزوراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم, فهذا من موضوعاته.
إذاً: حديث ابن عمر أسوأ حالاً من حديث أبي محذورة، فلا يشهد أحدهما للآخر.
ولهما شاهد ثالث من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه لم يشر إليه المصنف, وقد رواه الدارقطني , وفيه أيضاً كذابان: أحدهما عبيد بن القاسم وهو متروك، كذبه ابن معين وغيره، والآخر: الحسين بن حميد، قال فيه مطين : الحسين بن حميد كذاب ابن كذاب. هو كذاب وأبوه كذاب أيضاً.
ويمكن لو أن بعض العوام يسمعون (كذاب ابن كذاب) يقولون: هؤلاء جالسون يغتابون الناس، لكن هذا من أجل معرفة هذا الحديث لئلا يغتر به أحد.
مع الأسف بعض الوعاظ قد يستشهدون بهذه الأحاديث دون أن يعرفوا أنها أحاديث مكذوبة لا تجوز حكايتها عن الرسول عليه السلام، ولذلك لما ذكر للإمام أحمد هذا الحديث: ( أول الوقت رضوان الله، وأوسطه رحمة الله، وآخره عفو الله )، لما ذكر له قال: من روى هذا؟! ليس هذا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم. فأنكره الإمام أحمد , والأحاديث الواردة فيه ما بين موضوع, وضعيف جداً, فلا حجة فيها.
وأما دلالة الأحاديث فنحن في غنى عنها؛ لأن فضيلة أول الوقت سبقت، وكون آخر الوقت وقتاً للصلاة أيضاً سبق بيانه.
أولاً: قوله: (غريب) هذا فيه نظر؛ لأن الزيلعي في نصب الراية تعقب الترمذي وبين أن الطبراني روى الحديث من طريقين ليس فيهما قدامة هذا, إذاً: فالحديث ليس بغريب, هذه واحدة، بل إن قدامة بن موسى قد توبع في هذا الحديث.
الأمر الثاني: أن قدامة بن موسى هذا من رجال مسلم، وقال فيه ابن حجر في التقريب : ثقة، فليس هو علة في الحديث، وإنما علة الحديث شيخه أيوب أو محمد بن حصين، اختلف في اسمه: قيل: أيوب بن حصين وقيل: محمد بن حصين، وهو مجهول.
إذاً: حديث ابن عمر رضي الله عنه ضعيف، وعلته من ابن حصين هذا محمد أو أيوب، فإنه مجهول كما ذكرت.
وفي رواية عبد الرزاق : ( لا صلاة بعد طلوع الفجر ) ما هناك إشكال، لكن الذي بعده: (ومثله للدارقطني عن عمرو بن العاص) هكذا عندكم؟
هذا أيضاً خطأ، لا أدري، أظنه خطأ مطبعياً، فإن الصواب: (عن ابن عمرو بن العاص )، والحديث في الدارقطني عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقد راجعت مخطوطة بلوغ المرام فوجدت أن المصنف رحمه الله قال: عن ابن عمرو بن العاص، لكن يبدو أن (ابن) سقطت من الطباعة، والله تعالى أعلم.
فالصواب: أن الحديث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وهو أيضاً حديث ضعيف، فيه: عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وعبد الرحمن بن زياد هذا اختلف العلماء فيه كثيراً ما بين مجرح ومعدل، لكن أوسط الأقوال فيه: أنه رجل علم وزهد وتقوى وعبادة، لكنه ضعيف في حفظه، هذا هو القول المتوسط فيه، وإن كان بعض المتأخرين المحققين المعاصرين يميلون إلى قبول حديثه، لكن الصواب: أنه ضعيف في حفظه.
فحديث عبد الله بن عمرو بن العاص أيضاً ضعيف، ولكن لهما -حديث ابن عمر وعبد الله بن عمرو - شاهد ثالث, وهو حديث أبي هريرة، وقد رواه الطبراني في معجمه الأوسط وهو أيضاً ضعيف، فيه إسماعيل بن قيس وهو ضعيف، وفيه أحمد بن عبد الصمد وهو لا يعرف، مجهول.
إذاً: عندنا في هذا الموضوع: (لا صلاة بعد طلوع الفجر) ثلاثة أحاديث:
حديث ابن عمر وهو ضعيف، وحديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو ضعيف أيضاً، وحديث أبي هريرة وهو ضعيف، مجموع الأحاديث الثلاثة، وليس فيها شديد الضعف، فيمكن أن نحكم على مجموع الأحاديث الثلاثة بأنها من الحديث الحسن لغيره، هذا قريب جداً، ولذلك حسنه أو صححه جماعة من أهل العلم من المتقدمين والمتأخرين.
وهذه المسألة سبق أن تكلمت فيها وبينت ما يترجح لي وهو أن النهي يبدأ بعد صلاة الفجر، وذلك لقوة الأدلة التي سقتها سابقاً، ولعل من أصرحها وأقواها حديث عمرو بن عبسة -وروايته في سنن أبي داود - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إذا كان آخر الليل فصلّ؛ فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي الفجر، ثم أقصر عن الصلاة )، وهذا نص في أنه يصلي من آخر الليل إلى أن يصلي الفجر.
ومثله حديث عمر : ( لا صلاة بعد صلاة الفجر )، وغيرها من الأحاديث التي سبقت في حينها، فرجحت تلك الأحاديث على حديث الباب: ( لا صلاة بعد طلوع الفجر ) ؛ وذلك لأن تلك الأحاديث أقوى وأكثر، فهي في الصحيحين، وبعضها -وإن لم يكن في الصحيحين- فإن إسناده قوي وهي كثيرة.
وهذا الحديث الذي استدل به من قالوا: إن النهي يبدأ بطلوع الفجر أولاً: ليس له إسناد واحد يصح، وإنما نقول: هو حسن لغيره، والحسن لغيره ليست قوته في قوة الحديث الصحيح، لا يقاومه عند التعارض, هذه واحدة.
الثانية: أن معنى الحديث محتمل؛ لأن قوله عليه السلام: ( لا صلاة بعد الفجر إلا السجدتين ) .
يحتمل أن قوله: ( لا صلاة بعد الفجر ) يعني: لا صلاة بعد صلاة الفجر.
فبناءً على ذلك: دلالة الحديث ليست صريحة إلا في بعض رواياته، وهو معارض بما هو أصح منه وأكثر.
لكن مما ينبغي أن يعلم أن ما بعد طلوع الفجر إلى صلاة الفجر لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي فيه إلا ركعتي الفجر السنة فقط؛ ولذلك جاء في البخاري ومسلم من حديث حفصة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا طلع الفجر كان لا يصلي إلا ركعتين خفيفتين ).
وإنما ثبت عن جماعة كبيرة من الصحابة والتابعين أنهم يصلون الوتر إذا فاتهم بعد طلوع الفجر كما سلف، وقد أطال محمد بن نصر المروزي في كتاب قيام الليل الذي طبع مختصره في سياق هذه الآثار، وكذلك ذكرها الطحاوي وأطال فيها.
فنقول: الأفضل للإنسان ألا يصلي بعد طلوع الفجر إلا ركعتي الفجر، لكن لو صلى أحد هل ننكر عليه ونقول: هذا وقت نهي؟ لا، افترض أن إنساناً جاء إلى المسجد فصلى ركعتين نوى بهما تحية المسجد فقط، ثم قام ليصلي وقال: أنا ما نويت بالركعتين السابقتين الراتبة، نويت تحية المسجد فقط, وأريد الآن أن أصلي الراتبة, هل عليه من حرج في ذلك مثلاً؟ لا حرج عليه في ذلك.
وهذا الحديث ينبغي أن تعرفوا أننا نتكلم عن هذا الحديث الآن بهذه الزيادة الموجودة فيه، وهي قول أم سلمة رضي الله عنها: ( يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا )، وإلا فأصل الحديث متفق عليه من حديث أم سلمة ومن حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( جاءه وفد عبد القيس بالإسلام، فشغلوه عن راتبة الظهر، فقضاها بعد صلاة العصر في بيته، ثم حافظ عليها بعد ذلك حتى قبضه الله تعالى ) .
أصل الحديث متفق عليه، وإنما نحن نتكلم على عين الحديث بهذه الزيادة, وهي قوله: ( قالت: أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا ) .
فالحديث بهذه الزيادة رواه الإمام أحمد والطحاوي وابن حبان وغيرهم من طريق حماد بن سلمة عن الأزرق بن قيس عن ذكوان عن أم سلمة رضي الله عنها، وهذا الإسناد ظاهره الصحة، رجاله ثقات، فظاهر الإسناد أنه سليم وصحيح، ولذلك صححه جماعة من أهل العلم، ومن متقدمي المحدثين الذين صححوا هذا الحديث ابن حبان حيث رواه في صحيحه، وكذلك صححه أو جوده الحافظ ابن رجب كما في شرحه للبخاري فتح الباري، قال: إسناده جيد، ثم انتقد ابن رجب البيهقي على أنه أعل الحديث، وقد ضعفه البيهقي في المعرفة من غير علة، وكذلك ممن قوى هذا الحديث من المعاصرين شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فإنه قال في تعليقه على فتح الباري، قال: حديث حسن رواه الإمام أحمد بسند جيد، وهو دليل على أن الركعتين بعد العصر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأن ظاهر الحديث -كما ذكرت- السلامة من العلل, رجاله ثقات.
لكن أكثر أهل الحديث على تضعيف هذا الحديث، ولماذا ضعفوه؟ ضعفوه من أوجه عديدة:
منها: أنه منقطع، قالوا: الصواب أن هذا الحديث منقطع؛ فإن ذكوان لم يروه عن أم سلمة، ذكوان الذي هو في الإسناد الآن (عن ذكوان عن أم سلمة ) قالوا: إن ذكوان لم يروه عن أم سلمة , وإنما رواه عن عائشة عن أم سلمة، ذكوان هذا مولى عائشة رضي الله عنها، فالصواب: أن ذكوان روى الحديث عن عائشة عن أم سلمة، والآن في الإسناد الذي معنا: (عن ذكوان عن أم سلمة ) فهذا يعتبر انقطاعاً في الإسناد، فالصواب: أن إسناد الحديث -وإن كان ظاهره السلامة- إلا أنه منقطع بين ذكوان وبين أم سلمة , هذه واحدة.
الثانية: أن أكثر الرواة رووا هذا الحديث عن حماد بن سلمة بدون هذه الزيادة، ولم يذكروا فيه قضية: ( أنقضيهما إذا فاتتا؟ )، والحديث في السنن -بل في البخاري ومسلم من حديث عائشة وأم سلمة كما ذكرت- وليس فيه: ( أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا ) .
ولذلك ضعف الحديث بهاتين العلتين -علة الانقطاع وعلة الشذوذ- ضعفه ابن حزم وابن حجر في فتح الباري , وضعفه أيضاً الألباني في الإرواء وفي غيره من الكتب، كذلك ضعفه الإمام البيهقي كما أسلفت، إذاً: ضعفه البيهقي، ابن حزم، ابن حجر، الألباني .. وغيرهم.
و الصواب في نظري أو الأرجح: قول من ضعفوا الحديث بهذه الزيادة، وأن الزيادة شاذة غير مقبولة، منقطعة، ذكوان لم يروه عن أم سلمة إنما رواه عن عائشة، وعن عائشة ليس فيه زيادة.
الأقوى أنه صدوق بشرط أن يصرح بالسماع؛ لأنه مدلس، فإذا قال: (حدثني) فحديثه حسن، إذا قال (عن) فحديثه ضعيف، وفي هذا الموضع عنعن ولم يحدث، فحديثه ضعيف لاحتمال تدليس محمد بن إسحاق.
فمن أهل العلم من قال: يشرع للإنسان أن يصلي بعد العصر في بيته ركعتين، أخذاً بظاهر الحديث, حديث عائشة وأم سلمة كما أشرت إليه مراراً، وهؤلاء رجحوا مذهبهم أيضاً بمحافظة النبي عليه السلام على ذلك حتى مات، ورجحوه بفعل جماعة من الصحابة.
فممن نقل عنهم أنهم يفعلون ذلك من الصحابة -مثلاً- زيد بن خالد الجهني كما عند عبد الرزاق وابن أبي شيبة وابن المنذر في الأوسط والطبراني وغيرهم: (أن زيد بن خالد كان يصلي ركعتين بعد العصر، فجاء إليه عمر رضي الله عنه وضربه بالدرة، فلما انصرف زيد بن خالد من صلاته قال: زد يا أمير المؤمنين! فو الله لا أزال أصليهما بعد إذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليهما، فقال له عمر: إني لست إياكم أعني, إنما أخشى أن يتمادى الناس في هذه الصلاة فيصلوا عند غروب الشمس).
وممن نقل عنه أنه يحافظ ويصلي هاتين الركعتين أيضاً: تميم بن أوس الداري (فإنه كان يصليهما فجاءه عمر فخفقه بالدرة, فأشار إليه تميم أن: اجلس. فجلس عمر، فلما سلم قال له تميم :لم ضربتني؟ قال: لم تصلّ هاتين الركعتين؟ قال: لقد رأيت من هو خير منك يصليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر : إني ليس بي إياكم أيها الرهط، إنما أخشى أن يقول أناس: قد رأينا فلاناً وفلاناً يصلونهما فيصلون عند غروب الشمس)، والحديث ذكره ابن حزم أيضاً في المحلى وغيره.
وممن كان يصليهما بعد العصر أبو الدرداء رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب وعائشة وجماعة من الصحابة، وقد احتج هؤلاء بما سبق، هذا القول الأول، قول هؤلاء الذين ذكرت، ومثله داود الظاهري -كما سبق- أنه يقول بالنسخ.
قالوا: يحمل الفعل على الخصوصية، إذا تعارض القول والفعل فيحمل الفعل على الخصوصية.
وبعضهم: احتجوا بحديث أم سلمة وله بعض الشواهد، فقالوا: قول: ( أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا ) دليل على الخصوصية، بعضهم قالوا: منسوخ هذا الحديث، صلاته صلى الله عليه وسلم بعد العصر منسوخة، وهذا مذهب ابن بطة وجماعة من فقهاء الشافعية، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه حافظ عليهما عليه السلام حتى مات، فلا معنى للقول بالنسخ.
الأمر الثالث -وهو الأقرب وعليه كثير من الفقهاء- أنهم قالوا: من فاتته راتبة الظهر فإن له أن يقضيها بعد العصر, لكن لا يداوم عليها، قالوا: فقضاء الراتبة بعد العصر ليس من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، بل من حق أي إنسان فاتته راتبة الظهر أن يصليها بعد العصر، لكن يحسن أن يصليها في بيته لئلا يثير عند الناس زوبعة وقيلاً وقالاً، أو يقتدي به الجهال.
أما المحافظة على تلك الراتبة، فقالوا: هذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة قالت: ( وكان إذا عمل عملاً أثبته )، وهذا الذي رجحه البيهقي وابن القيم وغيرهما: أن الراتبة تقضى بعد العصر لا بأس، لكن لا يداوم عليها، فالمداومة عليها من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم.
وبذلك نكون انتهينا -بحمد الله تعالى- من باب المواقيت، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر