ننتقل بعد ذلك إلى مسألة أخرى, وهي مسألة إدراك الصلاة مع الإمام, بم يدرك الإنسان الصلاة مع الجماعة؟ ظاهر الحديث يدل على أن من أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الصلاة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة).
ولذلك قال ابن تيمية والشيخ ابن سعدي وغيرهما من أهل العلم، قالوا: هذا يشمل جميع صور الإدراك. وبناءً عليه فإن من أدرك مع الإمام ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة, وهذا مذهب مالك ورواية عن الشافعي والإمام أحمد , ونقل عن جماعة من السلف, واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وكثير من العلماء المحققين المعاصرين, أن الجماعة تدرك بإدراك ركعة مع الإمام.
وحجتهم: حديث الباب.
ومن حججهم أيضاً: اللفظ الآخر: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة).
بل جاء في صحيح مسلم التصريح بذلك، فقد روى مسلم في صحيحه عن ابن وهب عن يونس عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك من الصلاة ركعة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)، وظاهر هذه الرواية صريح في أن من أدرك ركعة مع الإمام أدرك الصلاة, ومن أدرك أقل من ركعة لا يكون أدرك فضل الجماعة تاماً, وإن كانت هذه اللفظة قال الشيخ الألباني : إنه يخشى من شذوذها؛ وذلك لتفرد ابن وهب بها عن يونس ؛ فإن ابن وهب تفرد بها عن يونس , هذا هو القول الأول.
القول الثاني: أن الصلاة مع الجماعة تدرك بإدراك تكبيرة الإحرام, فإذا كبر تكبيرة الإحرام قبل أن يسلم الإمام يكون أدرك الجماعة, وهذا هو مذهب الشافعية والمشهور من مذهب الحنابلة, ونقل عن جماعة من الصحابة كـابن مسعود , ونقل عن الحسن البصري أيضاً وشقيق بن سلمة وغيرهم, أنه إن أدرك تكبيرة الإحرام مع الإمام فقد أدرك الجماعة.
واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا)، والحديث متفق عليه من حديث أبي قتادة وأبي هريرة : ( فما أدركتم فصلوا)، قالوا: إنه إذا أدرك مقدار تكبيرة الإحرام فإنه ينبغي له أن يكبرها ويصلي مع الإمام, ويكون أدرك الجماعة. وكأن ابن حزم أيضاً يذهب هذا المذهب.
والراجح هو القول الأول, أن إدراك الجماعة مع الإمام يكون بإدراك ركعة, فإذا أدركت الإمام في الركعة الأخيرة من الصلاة ولو راكعاً فركعت معه أدركت الجماعة, أما إن أدركت دون ذلك فإنك لا تكون أدركت الصلاة وفضل الجماعة كاملة.
الوارد في الأحاديث أنه يكون مع الإمام على الحال التي هو عليها, فإذا جئت والإمام راكع فاركع معه, وإذا جئت وهو ساجد فاسجد معه, وإذا جئت وهو جالس فاجلس معه, ولا أرى أن يقف الإنسان لينتظر وينظر هل الإمام في الركعة الأخيرة أو ليس في الركعة الأخيرة, بل ينضم معه على الحال التي هو عليها, كما ورد في سنن أبي داود بسند حسن من حديث ابن مسعود وغيره , فإذا جاء الإنسان والإمام على حال فإنه ينضم معه على الحال التي هو عليها, لكن لو جاء وهو في التشهد الأخير ورآه متوركاً وظن أنه يدرك جماعة في المسجد فلا بأس أن ينتظر لهذه الجماعة, وإن انضم مع الإمام فحسن أيضاً. هذه مسألة إدراك الجماعة أو إدراك الإمام.
الحديث الأول: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
رواه البخاري في كتاب المواقيت, باب النهي عن الصلاة بعد العصر, ورواه مسلم -أيضاً- في صلاة المسافرين، باب الأوقات التي ينهى عن الصلاة فيها .
ولفظ البخاري : عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: ( سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم أربع كلمات فأعجبنني وآنقنني، سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا تسافر المرأة مسيرة يومين إلا ومعها زوجها أو ذو محرم, وقال: لا صوم في يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى, وقال: لا صلاة بعد صلاتين: بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس وبعد العصر حتى تغرب الشمس, وقال: لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي ).
وفي رواية عند البخاري أيضاً: ( لا صلاة بعد الفجر حتى ترتفع الشمس). والحديث رواه أبو داود والنسائي وغيرهم, في حديث أبي سعيد هذا قوله: (لا صلاة بعد الصبح).
وقوله: (حتى تطلع الشمس) جاء مفسراً في الرواية الأخرى (حتى ترتفع الشمس), والمقصود بارتفاع الشمس أيضاً جاء مبيناً في حديث عمرو بن عبسة في النسائي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حتى ترتفع الشمس قيد رمح أو قيس رمح)، وهذا عند أبي داود والنسائي , حديث عمرو بن عبسة عند أبي داود والنسائي . (حتى ترتفع الشمس قيد رمح أو قيس رمح)، ومعنى (قيد) أو (قيس) معناه: قدر رمح, وارتفاع الشمس قدر رمح ذكر بعض أهل العلم أنه يستغرق نحو عشر دقائق إلى خمس عشرة دقيقة, يعني: بعد طلوع الشمس بربع ساعة يكون زال وقت النهي، ويجوز للإنسان أن يتنفل حينئذ، عشر دقائق إلى ربع ساعة. هذه الكلمات في حديث أبي سعيد رضي الله عنه.
وهل المقصود بالساعة يعني: الساعة الفلكية التي هي ستون دقيقة؟ قطعاً لا, ليس هذا هو المقصود, لكن للفائدة: ورد في بعض النصوص النبوية ما يدل على الساعة المحددة, ففي سنن أبي داود وغيره يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة)، ومن المعلوم الآن أن الفلكيين يقسمون النهار ثنتي عشرة ساعة, ويقسمون الليل أيضاً إلى ثنتي عشرة ساعة, وهذا بحسب الأغلب أو المتوسط, وإلا فقد يأخذ الليل من النهار أو النهار من الليل.
نريد أحد الإخوة يخرج لنا في الأسبوع القادم حديث ( يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة ), ويذكر من خرجه وطرقه, والحكم عليه وكل ما يتعلق به.
إذاً: هذا المقصود بالساعة في الحديث, وقت من الزمن غير محدد.
قوله: (نهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا) (أو أن نقبر) بضم الباء أو بكسرها, فيجوز أن نقبُر أو نقبِر, ولعل الضم أرجح, والمقصود بـ(أن نقبر فيهن موتانا) يعني: أن ندخلهم في قبورهم.
ولكن الإمام النووي رحمه الله فهم من هذا اللفظ معنى آخر, وقال: إن معنى (أن نقبر فيهن موتانا) قال: إن بعض أهل العلم حملوا هذا على صلاة الجنازة, أنها لا تصلى في هذه الأوقات. ثم قال: وهذا لا يجوز أن يحمل الحديث عليه؛ لأن العلماء أجمعوا -والكلام لا يزال للنووي - أجمعوا على جواز صلاة الجنازة في هذه الأوقات، وإنما يمنع من ذلك من تعمد تأخيرها إلى هذا الوقت.
فكأن النووي رحمه الله يقول: إن المقصود بالقبر هو القبر الحقيقي, وأن النهي هو عن تعمد تأخير الميت إلى دفنه في الوقت, وذكر إجماع العلماء على جواز صلاة الجنازة في هذه الأوقات الثلاثة.
وتعقبه الشوكاني في نيل الأوطار بأنه لا وجه لتخصيص من تعمد تأخير الدفن, إلا إذا نظرنا إلى عموم النصوص التي تدل على رفع الحرج عن غير المعتمد.
وفي كلام النووي رحمه الله عندي نظر.
أولاً : من جهة حكايته الإجماع على جواز الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة, فلعلي سأذكر لكم -إن شاء الله- في الحلقة القادمة كلام أهل العلم في هذه المسألة, صحيح أنهم أجمعوا على الصلاة على الجنائز بعد الفجر وبعد العصر, هذا إجماع كما سيأتي, أما الإجماع في هذه الأوقات الثلاثة فهناك من نهى عن ذلك في الأوقات الثلاثة, يعني: عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب.
الأمر الآخر: حمله النهي على من تعمد تأخير الدفن, وأقول: ما المانع أن يحمل النهي في الحديث على مطلق النهي عن القبر, خاصة وأن هذه الأوقات أوقات قصيرة، هي دقائق معدودة من الممكن أن يؤخر الميت, ولا يضر تأخير الميت عشر دقائق أو خمس دقائق أحياناً، لا يضر حتى تغرب الشمس أو ترتفع أو تزول.
قوله: (حين تطلع الشمس بازغة) معنى (بازغة) أي: طالعة, والمقصود: حين تظهر وتبرز, ولذلك قال: (حتى ترتفع). وقد بينت معنى ارتفاعها.
(وحين يقوم قائم الظهيرة) قال بعض أهل العلم في تفسير هذه العبارة: إن المقصود بقائم الظهيرة يعني: أن يقوم القائم في الظهيرة فلا يكون له ظل.
وقيل: بل المقصود أن الشمس كأنها تقف في نظر الرائي المتأمل وذلك عند الزوال, يخيل إليه أن الشمس واقفة لا تتحرك, وهي في الواقع تتحرك, فقالوا: هذا معنى (قائم الظهيرة)، يعني: حين تقف الشمس.
وقال بعضهم: بل المقصود بقائم الظهيرة البعير يكون على الأرض, فإذا صار وقت الزوال ووقت شدة الحر فإنه يقوم من شدة الرمضاء. وهذا المعنى الثالث فيه عندي بعض النظر؛ لأن ما بعد الزوال أشد حرارة مما قبل الزوال, وإن كان يحتمل أن البعير يكون باركاً فإذا صار وقت الزوال قام, ولا يمنع أن تزيد الحرارة بعد ذلك.
المقصود -على كل حال- بقائم الظهيرة هو لحظة الزوال التي لا يكون للأشياء فيها ظل يتحرك, يعني: يزيد لحظة وقوف الظل أو انعدام الظل في بعض البلاد, كما ذكرنا سابقاً عند وقت الظهر أن الظل ينعدم في مكة في بعض الأوقات, فهذا وقت الزوال.
وقد قدر العلماء وقت زوال الشمس بما بين خمس إلى عشر دقائق, الوقت الذي تحرم فيه الصلاة عند الزوال هو ما بين خمس إلى عشر دقائق.
(حتى تزول الشمس), يعني: تتجه جهة المغرب ويبدأ الظل يزداد.
(وحين تتضيف الشمس للغروب) قوله: (تتضيف) بفتح التاءين والضاد والياء, تتضيف, والمقصود (تتضيف) أي: تميل, والمعنى: أنها تقرب من الغروب أو تكاد أن تغرب, ولذلك جاء في حديث ابن عمر المتفق عليه قال: ( وإذا غاب حاجب الشمس فأمسك عن الصلاة حتى تغرب)، فدل على أن قوله: (وحين تتضيف للغروب) يعني: تقرب من الغروب أو يغرب أولها وحاجبها وهو أعلاها.
والحديث رواه مسلم -كما ذكر المصنف- في الموضع السابق المشار إليه, باب الأوقات التي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة فيها, وفيه ذكر الأوقات الثلاثة غير الوقتين اللذين ذكرا في حديث أبي سعيد .
فيه حكمان, الأول: (نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن), والثاني: ( وأن نقبر فيهن موتانا)، فحديث عقبة فيه حكمان, النهي عن الصلاة، والنهي عن القبر، وأيهما الثاني؟
القبر, (أن نصلي فيهن وأن نقبر فيهن موتانا)، فقد يفهم من كلام المصنف أنه الحكم الثاني هو النهي عن قبر الموتى, وليس الأمر كذلك, بل لقد فهم منه الحسين بن محمد المغربي صاحب البدر التمام، فهم من قوله: (والحكم الثاني) أن المقصود النهي عن الصلاة, وهذا ليس بجيد؛ لأن الحديث عند الشافعي رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تصلوا عند الزوال إلا يوم الجمعة), يعني: نهى عن الصلاة عند زوال الشمس إلا يوم الجمعة, ولذلك فإن ما فهمه الحسين المغربي أن الحكم الثاني هو النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة غير جيد, أولاً: لأنه خلاف ما رواه الشافعي .
وثانياً: لأنه يلزم منه أن يكون قوله: (إلا يوم الجمعة) استثناء في الأوقات الثلاثة كلها, فمعناه: أنه يوم الجمعة ليس هناك وقت نهي لا عند طلوع الشمس ولا عند غروبها ولا عند الزوال,, هذا يفهم, وهذا -لا شك- غلط .
الصحيح أن الحكم الثاني يقصد به المصنف الوقت الثاني؛ لأن حديث عقبة في ثلاثة أوقات, عند طلوع الشمس وعند الزوال وعند الغروب, فيقصد الوقت الثاني محل الحكم, وهو وقت زوال الشمس, فهو الذي رواه الشافعي من حديث أبي هريرة بسند ضعيف, وزاد: ( إلا يوم الجمعة )، ( أنه نهى عن الصلاة عند زوال الشمس إلا يوم الجمعة).
وهذا الإسناد تسامح المصنف رحمه الله كثيراً بقوله (بسند ضعيف)؛ فإن فيه إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى وهو متروك , حتى قال فيه الإمام أحمد : جهمي رافضي قدري, كل بلاء فيه. يعني: كل آفة من الآفات فيه, كذاب ومبتدع وحشف وسوء كيلة. هذا إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى , وهو شيخ الشافعي , وكذلك إسحاق بن أبي فروة متروك أيضاً, أو ضعيف جداً, حتى روي أن الزهري قال له: قاتلك الله يا ابن أبي فروة ! ما أجرأك على الله, تروي أحاديثك بدون أسانيد, وتأتي بأحاديث ليس لها خطم ولا أزمة, يعني: تذكر الحديث بلا زمام ولا خطام, ليس له أصل, كما يقولون: يختلق ما يقول, وكما قيل: (من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه قليلة).
إذاً: الحديث أقل ما يقال فيه: إنه ضعيف جداً, وله شواهد عديدة, لكن هذه الشواهد كلها ضعيفة جداً, فلا يقوى بها, خلافاً لما حاوله بعض الشافعية غفر الله لنا ولهم.
والحديث دلالته ظاهرة في أن يوم الجمعة لا تكره الصلاة فيه وقت الزوال, هذا لو صح الحديث.
أما حديث أبي قتادة عند أبي داود فهو شاهد لحديث أبي هريرة , لكنه أيضاً ضعيف؛ فإن في حديث أبي قتادة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة وقت الزوال إلا يوم الجمعة)، والحديث رواه أبو داود , وقال أبو داود : مرسل, أبو الخليل لم يسمع من أبي قتادة شيئاً, فـأبو داود أعله بالإرسال, وأن أبا الخليل وأبو الخليل هو صالح بن أبي مريم , وهو ثقة, ضبعي بصري ثقة, احتج به البخاري ومسلم , لكنه لم يسمع من أبي قتادة , فالحديث منقطع بين أبي الخليل هذا صالح بن أبي مريم وبين أبي قتادة , هذه علة .
العلة الثانية: أن في الحديث ليث بن أبي سليم , وهو ضعيف, فالحديث مرسل ضعيف, ولا يوجد ما يشهد له ويقويه, وإن كان الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في زاد المعاد حاول أن يقوي الحديث, فلما ساق حديث أبي قتادة هذا قال: والمرسل إذا اعتضد بمجيئه من وجه آخر أو بعمل أو بقول صحابي، أو عرف أن مرسله يتحرى الرواية عن الثقات أو نحو ذلك مما يقويه عمل به, هكذا يقول ابن القيم، فكأن ابن القيم مال إلى الأخذ بهذا المرسل, يعني: المنقطع من حديث أبي الخليل عن أبي قتادة ؛ لأنه وجد ما يقويه من عمل الصحابة رضي الله عنهم كما سيأتي.
فالحديث يحتمل أمرين, يحتمل أن المقصود بقوله: (لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى) مطلق الصلاة, فعلى هذا تكون مكة ليس فيها أوقات نهي على ظاهر الحديث.
ويحتمل أن يكون المقصود بقوله: (وصلى) أن يكون المقصود بالصلاة هاهنا ركعتي الطواف فقط. قال البيهقي رحمه الله: وهو الأشبه بالآثار. يعني: الأقرب إلى الدليل أن المقصود بالصلاة هاهنا ركعتا الطواف فقط, وأنه ليس لـمكة حكم يخصها من بين سائر البلاد.
هذه الأحاديث الخمسة قبل أن نغادرها أذكركم أننا في الأسبوع القادم سنكمل مبحث أحاديث أوقات النهي, والأحاديث الباقية كلها -تقريباً- سبقت خلال الشرح.
الأول منها: من طلوع الفجر إلى بزوغ الشمس .
الثاني: من بزوغها إلى أن ترتفع قدر رمح, ومقداره -كما أسلفت- عشر إلى خمس عشرة دقيقة.
الثالث: هو وقت الزوال حتى تميل جهة الغروب, قدره خمس إلى عشر دقائق .
الرابع: بعد صلاة العصر حتى تتضيف الشمس للغروب, أو تبدأ بالغروب .
الخامس: من بداية غروب الشمس إلى أن يتكامل مغيب القرص .
هذه خمسة أوقات, وفي تحديد هذه الأوقات عدة مواضع تحتاج إلى بيان.
فـمالك يرى أن يوم الجمعة ليس فيه وقت نهي عند الزوال, تصلي عند الزوال، لا يوجد مانع يوم الجمعة, وهذا المذهب نقله ابن عبد البر في التمهيد عن جماعة من التابعين كـالحسن وطاوس وغيرهما.
وحجة الإمام مالك في ذلك ظاهرة, وهي أنه يقول: إنه لم يسمع بهذا, وإن الصالحين الذين أدركهم لم يكونوا يتجنبون الصلاة هذا الوقت.
أقول: مالك رحمه الله -عدلوا رأي مالك - لا يرى وقت الزوال مطلقاً أنه وقت نهي, مالك يقول: ليس وقت الزوال وقت نهي مطلقاً, لا يوم جمعة ولا غير يوم جمعة, ولذلك لا فرق عند الإمام مالك بين الجمعة وغيره.
إذاً: أوقات النهي عند مالك كم هي في الحقيقة؟
أربعة, لماذا؟ لأن وقت الزوال ليس وقت نهي عنده, ويقول: إنه لم يسمع نهياً عن ذلك, ولم يدرك الصالحين إلا وهم يصلون عند الزوال, هذا رأي الإمام مالك ومن نقلت, كـالحسن وطاوس وغيرهم فيما ذكره ابن عبد البر . وهذه حجتهم .
وحجة الإمام الشافعي ومن وافقه في ذلك -وهذا القول هو الذي رجحه ابن تيمية رحمه الله, ورجحه الإمام ابن القيم أيضاً كما في زاد المعاد في خصائص يوم الجمعة- احتجوا بأدلة.
منها حديث أبي هريرة الذي رواه الشافعي -كما ذكر المصنف- وسنده ضعيف, وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إلا يوم الجمعة)، ( فإن جهنم تسجر إلا يوم الجمعة) . ومعنى قوله: (تسجر) أي: يوقد عليها إيقاداً شديداً، فعدوا من خصائص يوم الجمعة أن جهنم لا يوقد عليها عند وقت الزوال, ولذلك لا تكره الصلاة عند الزوال، والحديث -كما ذكرنا- أقل أحواله أن يكون ضعيفاً جداً، ولكن احتجوا أيضاً بحديث أبي قتادة , وهو مرسل ضعيف كما أسلفت.
واحتجوا أيضاً بما رواه ثعلبة بن أبي مالك القرظي: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم الجمعة يصلون إلى أن يدخل عمر , فإذا دخل عمر وبدأ المؤذن يؤذن كانوا يتحدثون, فإذا قام الإمام يخطب سكتوا فلم يتكلم أحد)، وهذا الأثر رواه مالك في الموطأ وغيره, وهو قوي , فقالوا: إن الصحابة لم يكونوا يتقون الصلاة وقت الزوال يوم الجمعة, ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (دخول الإمام يمنع الصلاة وخطبته تمنع الكلام). وهكذا قال الإمام أحمد , فقالوا: إن الذي يمنع الصلاة ليس الزوال, وإنما دخول الإمام, وعمر رضي الله عنه إنما كان يدخل بعد الزوال, كما ورد في آثار عديدة أنه كان يدخل للخطبة يوم الجمعة بعد الزوال, فقالوا: فعلم يقيناً أن الصحابة كانوا يصلون وقت الزوال, ولم ينكر ذلك أحد.
كما أن ابن القيم أضاف إلى ذلك دليلاً, وهو أن الناس كانوا تحت السقوف في المسجد يوم الجمعة, وكان الخروج من المسجد للنظر هل زالت الشمس أو لم تزل أمراً شاقاً أو متعذراً, وفيه تخط للرقاب، وليسوا مأمورين به, فكانوا يصلون وقت الزوال وغيره. هذه حجتهم.
واحتجوا أيضاً بما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من اغتسل يوم الجمعة ثم مس من طيبه, ثم غدا إلى المسجد فصلى ما كتب له )، فقوله: (فصلى ما كتب له) إلى آخر الحديث دليل على أن الصلاة مطلقة يوم الجمعة, صل ما شئت حتى يدخل الإمام, كما قال عمر: (دخول الإمام يمنع الصلاة). هذا هو القول الثاني.
واحتج هؤلاء بنحو خمسة أدلة, أولها: حديث عقبة بن عامر : ( حين يقوم قائم الظهيرة)، فهو صريح في النهي عن الصلاة وقت الزوال, ( وحين يقوم قائم الظهيرة)، ولم يستثن.
الثاني: حديث أبي هريرة عند ابن ماجه قال: ( إذا كانت الشمس ), الحديث طويل, في قصة صفوان وأنه سأل الرسول عليه السلام: ( هل تكره الصلاة في ساعة؟ قال: نعم, وذكر إذا كانت الشمس فوق رأسك كالرمح فأقصر عن الصلاة)، هذا حديث أبي هريرة عند ابن ماجه , وقال في الزوائد : إسناده حسن.
الدليل الثالث: حديث عمرو بن عبسة , وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه عند الزوال لا يصلي حتى تزول .
الدليل الرابع : حديث الصنابحي -واسمه عبد الرحمن بن عسيلة الصنابحي أبو عبد الله - عند مالك والنسائي وابن ماجه أيضاً, وفيه: ( أن الشمس إذا طلعت قارنها الشيطان حتى ترتفع, فإذا ارتفعت فارقها, فإذا توسطت قارنها الشيطان حتى تزول, فإذا زالت فارقها, فإذا غربت قارنها الشيطان حتى تغيب, فإذا غابت فارقها, ونهى عن الصلاة في هذه الأوقات).
والدليل الخامس: عن أبي أمامة , وفيه النهي عن الصلاة وقت الزوال, وإن كان الحديث ذكره ابن عبد البر مسنداً في التمهيد ولم يتيسر لي تخريج هذا الحديث .
قالوا: فهذه الأدلة كلها تدل على أن وقت الزوال وقت نهي, يوم الجمعة وغير يوم الجمعة.
أولاً: أنه قد ورد أن عمر كان ينهى عن ذلك, وقال ابن مسعود: (كنا ننهى عن ذلك). وقال سعيد بن العاص: (إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يتحرون، فإذا زالت الشمس قاموا فصلوا).
إذاً: نقل عن الصحابة أنهم كانوا ينهون عن الصلاة عند الزوال حتى يوم الجمعة. هذه واحدة .
الأمر الثاني: أننا نقول: الناس الذين يجلسون في المسجد وتحت السقوف ولا يدرون وقت الزوال لهم أن يصلوا ما داموا ما تيقنوا وقت الزوال, فلا يمنع الإنسان من الصلاة إلا إذا علم بالزوال.
فمثلاً: إذا علم الإنسان من خلال الساعة -اليوم الساعة موجودة ولو كان في أقصى المسجد- فعلم أن هذه لحظة زوال يمنع, لكن لو كان ما يدري عن الزوال, يقول: والله ما أدري متى تزول الشمس, وما أدري هل زالت أو ما زالت, نقول له: صل -إذاً- حتى تعلم أن هذا الوقت وقت زوال, فتمنع من الصلاة حينئذ.
ولذلك فإن القول الثالث عندي هو الراجح, أن وقت الزوال وقت نهي، سواء كان يوم جمعة أو غيرها؛ لقوة أدلته, وسلامتها من المعارضة, وإمكانية الإجابة عن أدلة الآخرين.
من الملاحظات أن بعض الناس -خاصة في الحرم المكي والمدني- بعد دخول الإمام وأثناء الأذان وبعد الأذان وقبل الأذان الأخير يقومون ويتنفلون بشكل جماعي, وهذا يصادف وقت الزوال في كثير من الأحيان, وهو وقت نهي كما ذكرت لكم.
ولذلك على القول الثالث -وهو الراجح في نظري- أن هذه السنة غير مشروعة, ولا ينكر الإنسان فيها أيضاً؛ لأن المسألة فيها خلاف كما ذكرت, لكن لا يفعلها, من اقتنع فعلاً بأنها غير مشروعة لا يفعلها, أما من رأى القول الثاني -وهو قول الشافعي ومن وافقه- أن يوم الجمعة لا نهي فيه عند الزوال, أو القول الأول -قول مالك - أنه لا نهي عند الزوال مطلقاً فله أن يصليها.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر