إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
وفي هذه الليلة وجدت نفسي مضطراً إلى أن أقف وقفة أطول عند حديث أبي هريرة وحديث عائشة رضي الله عنهما؛ وذلك لأن في هذين الحديثين أحكاماً كثيرة، وربما تكون متداخلة أيضاً، فرأيت أن من المصلحة أن نقف عندها ونناقش هذه الأحكام، على أننا بانتهائنا من هذين الحديثين لا يكون بقي عندنا مما يتعلق بالمواقيت من الأحاديث التي فعلاً لم تشرح -أو ستأخذ بعض الوقت تقريباً- إلا أحاديث أوقات النهي وحكم هذه الأوقات وما يجوز فعله فيها وما لا يجوز، أما بقية الأحاديث فمعظمها مر معنا؛ فلذلك لا بأس أن نقف عند ذينك الحديثين؛ لما يتضمنان من أحكام ربما يكون هذا هو الموضع المناسب لهما.
وحديث أبي هريرة وعائشة سبق في الأسبوع الماضي: ( من أدرك من العصر ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح )، وحديث عائشة فيه: (سجدة) بدل: (ركعة).
وقد بدأت في هذين الحديثين لكن لا بأس أيضاً أن أعيد باختصار ما سبق، ثم نستأنف المسائل الفقهية من أولها.
فأهم نقطتين ذكرتهما في هذين الحديثين:
أولاً: أن ذكر العصر وذكر الفجر في هذين الحديثين إنما هو على سبيل المثال، وإلا فما يقال فيهما يقال في جميع الأوقات: من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يخرج وقتها فقد أدرك الصلاة، فلو أدرك ركعة من الظهر قبل خروج وقت الظهر يكون أدرك الظهر، وهكذا العصر وهكذا العشاء، هذه نقطة أشرت إليها.
النقطة الثانية أشك إن كنت أشرت إليها، وإن كانت أيضاً بدهية وظاهرة قد لا تحتاج إلى ذكر عند الكثيرين، وهي: أن معنى قوله عليه السلام: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ) فيه حذف تقديره: من أدرك ركعة ثم أتم صلاته؛ ولذلك في صحيح البخاري قال: ( من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته )، ولم يقل أحد من أهل العلم قط: إن الركعة التي صلاها تجزئه، وإنما المعني: فقد أدرك الصلاة فيتم الصلاة التي شرع بها، وهذه القضية وإن كانت ظاهرة -كما ذكرت- إلا أن كثيراً من أهل العلم وشراح الأحاديث ينبهون ويشيرون إليها لدفع الالتباس الذي يخشى.
أما فيما يتعلق بتخريج الأحاديث ومواضعها فقد أشرت إليه ولا أرى حاجة لتكراره.
أما أولى هذه المسائل فهي مسألة: هل ما وقع من الصلاة بعد خروج الوقت يعتبر أداءً أم قضاءً؟
فإذا صلى العصر -مثلاً- قبل غروب الشمس، صلى ركعة ثم غربت الشمس، الركعات الثلاث من صلاة العصر هل تعتبر قضاء أم أداء؟
وقلت لكم عن هذه المسألة: إنها كثيرة العناء قليلة الغناء، يعني: فائدتها قليلة وتعبها أكثر من فائدتها.
على أي حال: الشافعية والحنابلة في المذهب المرجح عندهم يقولون: تعتبر الصلاة كلها أداء، سواء ما وقع منها في الوقت أو ما وقع منها بعد خروج الوقت، تعتبر الصلاة كلها أداء، الركعة التي وقعت في الوقت والركعات التي وقعت بعد خروجه؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( فقد أدرك الصلاة )، والمعنى: أدرك جميع الصلاة. وإلا فإدراكه للركعة أمر مفروغ منه.
وأما الحنفية -وهو أيضاً قول عند الحنابلة والشافعية- فإنهم يقولون: ما وقع في الوقت فهو أداء وما وقع خارج الوقت فهو قضاء.
وهذه صورة يمكن تعمل على شكل لغز يعايا به كما يقال، صلاة بعضها أداء وبعضها قضاء، هذا عند الحنفية، وقول في مذهب الشافعي وأحمد في الصلاة التي وقع بعضها في آخر الوقت وبعضها بعد خروج الوقت، فما وقع خارج الوقت فهو قضاء وما وقع في الوقت فهو أداء، هذا عند أبي حنيفة كما ذكرت.
وما هي الفائدة من هذا الخلاف؟
الفائدة -كما ذكرت لكم- قليلة، ويمكن أن نلخص الفائدة التي وقفت عليها في هذه المسألة في نقطتين:
النقطة الأولى: أن الأحناف يقولون -كما سيأتي-: إذا قلنا: إن الركعة قضاء التي وقعت بعد طلوع الشمس -مثلاً- من صلاة الفجر؛ فبناء على ذلك يجب عليه أن لا يتم صلاة الفجر، بل يقطعها ويستأنفها من جديد؛ لأن قضاء الفوائت في وقت النهي عند الحنفية لا يجوز، وهذه المسألة ستأتي، المهم هي مرتبة على مسألة: هل هي أداء أم قضاء؟
فهم قالوا: هي قضاء، وبناء على ذلك قالوا: لا يجوز أن يصلي ركعة من الفجر بعد طلوع الشمس؛ لأن قضاء الفوائت لا يجوز.
الأمر الآخر الذي يبنى على مسألة: (هل هي أداء أو قضاء) أن هناك وجهاً عند الشافعية: أن المسافر إذا قضى صلاة السفر ولو كان في سفر فإنه يتمها، بمعنى: أنه لو فاتته صلاة السفر وقضاها في سفر فإن عليه إتمامها، وهذا وجه عن الشافعية، فبناء على ذلك يقول بعض الشافعية: إذا قلنا: إنها قضاء فإنه لا يجوز له أن يقصر الصلاة، فلو فرض أن مسافراً -هذا مثال- فاتته صلاة العصر في هذا اليوم ولم يستطع أن يصليها إلا قبل غروب الشمس بوقت يسير، فلما صلى ركعة من العصر وهو مسافر غربت الشمس، الآن الركعة التي مضت نقول عنها: إنها أداء أو قضاء؟ أداء عند جميع العلماء، لكن الركعات الباقية -إذا قلنا: إنها قضاء- قال بعض الشافعية: إذاً يجب عليه أن يصلي ثلاثاً مع الواحدة، بحيث تكون صلاة العصر في السفر أربعاً؛ لأن الصلاة المقضية عندهم يجب إتمامها ولو كان يقضيها في سفر.
على كل حال نحن نرجح: أن الصلاة كلها أداء: ما وقع منها في الوقت وما وقع منها بعد خروج الوقت، كما أن هذين الأمرين المبنيين على كونها قضاء مرجوحان. كما سيأتي الإشارة إلى ذلك أيضاً.
هذه هي المسألة الأولى، ونلخصها كما اقترح الإخوة سابقاً في أن القول الراجح: أن الصلاة التي أدرك منها ركعة في الوقت تعتبر كلها أداء، سواء ما وقع منها في داخل الوقت أو ما وقع منها بعد خروج الوقت. هذه هي المسألة الأولى.
وظاهر الحديث يدل على أن من أدرك من الصلاة قدر ركعة -يعني: فأكثر- فقد أدرك الصلاة، أن من أدرك من الصلاة قدر ركعة فأكثر فقد أدرك الصلاة، وهذا قول كافة أهل العلم، أن من أدرك من الصلاة ركعة فأكثر يعتبر مدركاً للصلاة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: ( فقد أدرك الصلاة )، ولكن ماذا يقصدون بالركعة؟
يقولون: هي الركعة الكاملة بقراءة الفاتحة والركوع والسجدتين بشروطهما، فمن أدرك هذه الركعة التامة يكون مدركاً للصلاة عند جميع أهل العلم، لكن ليس من حقه أن يؤخر الصلاة إلى هذا الوقت، فلا يجوز لأحد أن يؤخر صلاة الظهر -مثلاً- بحيث لا يبقى على خروج الوقت إلا قدر ركعة واحدة، وحكاه بعضهم إجماعاً أنه لا يجوز تأخير الصلاة حتى لا يبقى من وقتها إلا قدر ركعة واحدة، بل يجب على المصلي أن يوقع صلاته كلها في الوقت قبل خروجه.
ولكن ليس في هذه المسألة إجماع كما حكاه بعضهم، فقد ذكر الإمام ابن عبد البر في التمهيد : أن ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ) يوجب أنه قد أدرك الوقت والحكم والفضل -إن شاء الله- إذا صلى تمام صلاته، هذا كلام ابن عبد البر، يقول: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ) يوجب إدراك الحكم والوقت والفضل -إن شاء الله- إذا صلى تمام الصلاة.
وكذلك ذهب بعض فقهاء الشافعية إلى أن له أن يؤخر الصلاة حتى لا يبقى من وقتها إلا قدر ركعة.
وهذا القول ليس بصحيح، بل الصحيح من أقوال أهل العلم: أنه يجب أن يوقع الإنسان غير المعذور الصلاة كلها في داخل الوقت.
هذا فيمن أدرك ركعة كاملة فأكثر، لكن من أدرك أقل من ركعة ما حكمه؟
ظاهر الحديث يدل على أن من أدرك أقل من ركعة فإنه لم يدرك وقت الصلاة؛ لقوله عليه السلام: ( من أدرك من الصلاة ركعة )، فمفهوم الحديث: أن من أدرك دون الركعة لم يدرك الصلاة. وهذا مذهب مالك، ورواية عند الشافعية وقول عند الحنابلة، وهو القول الراجح؛ لظاهر هذا الحديث الذي لم يوجد ما يعارضه من حديث آخر أو قاعدة أو غيرها، أن من أدرك أقل من ركعة فقد فاته الوقت ولم يدرك الصلاة في وقتها.
أما القول الآخر في المسألة فهو المشهور من مذهب الحنابلة، ولعله المذهب عندهم، وهو أيضاً قول عند الشافعية ومذهب أبي حنيفة : أنه يدرك الصلاة بإدراكه تكبيرة الإحرام قبل خروج وقتها، فمن استطاع أن يتوضأ -مثلاً- ثم يكبر تكبيرة الإحرام قبل خروج الوقت فإنه يكون مدركاً للصلاة.
وقد استدل هؤلاء بأدلة:
منها: أن الجزء الذي أوقع فيه تكبيرة الإحرام يعتبر من وقت الصلاة، فما دام أحرم في وقتها فإنه يعد مدركاً لهذا الوقت.
والقول الراجح في هذه المسألة: هو أن من أدرك أقل من ركعة لا يعتبر مدركاً للوقت، فلو صلى ركوعاً -مثلاً- ثم غربت الشمس لا يعتبر مدركاً لصلاة العصر، وكذلك لو ركع قبل أن يتم السجدتين ثم طلعت الشمس فإنه لا يعتبر مدركاً لصلاة الفجر؛ لمفهوم هذا الحديث.
هذه هي المسألة الثانية وخلاصتها: أن الوقت يدرك بإدراك ركعة فأكثر، أما ما دونها فالراجح أنه لو أدرك قدر تكبيرة الإحرام أو أكثر من ذلك لكن دون الركعة لا يعتبر مدركاً للوقت.
ويستدلون بأدلة:
منها: حديث الباب: (من أدرك ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته)، وهو نص في هذه المسألة.
ومما يستدلون به أيضاً: ما رواه الشافعي والبيهقي وابن حزم في المحلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه: [أن أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه صلى بالناس صلاة الفجر، ثم قرأ بهم سورة البقرة، فلما انصرف من صلاته قال له بعض الناس: كادت الشمس أن تطلع، فقال رضي الله عنه وأرضاه: لو طلعت لم تجدنا غافلين]، وهذا الأثر -كما قلت- رواه الشافعي والبيهقي وابن حبان، وصححه ابن حزم في المحلى.
وكذلك يستدلون بأثر مشابه رواه الشافعي والبيهقي وابن حزم عن عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي: (أنه صلى مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاة الفجر، فانصرف والرجال ذووا العقول يقولون: كادت الشمس أن تطلع، فقال قائل منهم: يا أمير المؤمنين! كادت الشمس أن تطلع، قال: فتكلم عمر بكلام لم أفهمه، فقلت: ماذا يقول؟ قيل: يقول: لو طلعت لم تجدنا غافلين)، والأثر عن عمر أيضاً صححه ابن حزم.
فدل على أن من صلى بعض صلاته قبل طلوع الشمس في وقت الفجر ثم طلعت عليه الشمس أنه يتم صلاته، سواء ما صلاه ركعة أو أقل أو أكثر.
وهل يقول الأحناف ذلك في صلاة العصر أيضاً؟
لا يقولون ذلك بالنسبة لصلاة العصر؛ لأن غروب الشمس ليس بعدها وقت نهي بخلاف طلوعها؛ فإن بعد طلوعها وقت نهي حتى ترتفع كما ذكرت، أما في العصر فإن غروبها لا يتبعه وقت نهي.
ومع ذلك فقد ذكر ابن العراقي في طرح التثريب قولاً أو وجهاً للحنفية في منع إيقاع صلاة العصر بعد غروب الشمس، والنووي رحمه الله حكى الإجماع على أنه إذا صلى جزءاً من صلاة العصر قبل غروب الشمس ثم غربت الشمس أنه يتمها، فهذا الوجه الذي ذكره العراقي عن بعض الحنفية يعتبر مخالفاً لما ذكره النووي من الإجماع، وإن كان في هذا الإجماع الذي حكاه النووي نظر لهذا القول، فحكاية الإجماع القطعي المؤكدة لا تكون مع وجود مخالف ولو كان قليلاً، هذا مذهب الأحناف.
وربما احتج بعض الأحناف بحديث أبي قتادة الذي رواه مسلم ضمن قصة طويلة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فصار هوياً من الليل حتى ابهار الليل، قال: فنعس النبي صلى الله عليه وسلم فجاء
الشاهد منها: أنهم قد يستدلون بكون النبي صلى الله عليه وسلم لما فاتته صلاة الفجر لم يقضها في الوقت حالاً، بل قضاها بعدما ارتفعت الشمس.
وهذا الاستدلال فيه نظر؛ لأن أبا قتادة يقول: ( لم يوقظنا إلا حر الشمس في ظهر الرسول صلى الله عليه وسلم )، وحر الشمس لا يكون إلا بعد ارتفاعها، وإنما قوله: ( حتى ارتفعت الشمس ) يعني: ارتفعت ارتفاعاً كثيراً، فلا حجة لهم في هذا الحديث.
ولا أعلم دليلاً على استحباب الإعادة، اللهم إلا حديث أبي قتادة نفسه، فإن في آخر الحديث أن الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما كفارة ما صنعنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى، فمن فعل ذلك فليصل الصلاة، فإذا كان من الغد فليصلها لوقتها)، وهذا هو الشاهد: ( فإذا كان من الغد فليصلها لوقتها )، فقوله: (فإذا كان من الغد فليصلها لوقتها) قد يفهم منه بعضهم أن المعنى: إذا كان من الغد استحب له أن يعيد الصلاة التي صلاها بالأمس، وهذا غير صحيح، بل المعنى الصحيح للحديث: أنه إذا كان من الغد فعليه أن يحرص على أن لا تفوته الصلاة مرة أخرى، بل على أن يوقعها في وقتها قبل خروج الوقت، هذا هو المعنى الصحيح للحديث، وهو الذي يدل عليه مجموع الروايات.
وهذه هي أيضاً خلاصة المسألة الثالثة: أن من أحرم بصلاة الفجر ثم طلعت عليه الشمس عليه أن يتمها وتجزئه صلاته، وهذا مذهب الجمهور خلافاً لـأبي حنيفة .
المسألة الرابعة لها ثلاث صور أو ثلاث حالات، المسألة لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: إذا زال العذر في آخر الوقت، كأن تطهر الحائض -مثلاً- في آخر الوقت أو يفيق المجنون في آخر الوقت أو يسلم الكافر في آخر الوقت.. أو ما شابه ذلك، يعني: إنسان معذور، هذا العذر استمر معه لكن في آخر الوقت زال العذر، نفترض مثلاً: امرأة حائض لما بقي على وقت الفجر جزء يسير طهرت هذه الحائض، فما هو المقدار الذي نقول: إن أدركته وجبت عليها صلاة الفجر فتصليها، أو نقول: قد سقطت عنها الصلاة فلا صلاة عليها؟
ما أدري هل وضحت الصورة الأولى أم لم تتضح؟ أعيدها مرة أخرى:
الصورة الأولى أو الحالة الأولى: إذا زال العذر في آخر الوقت، إذا زال عذر المعذور في آخر الوقت، مثاله: امرأة حائض أو نفساء طهرت في آخر وقت صلاة الفجر قبل طلوع الشمس، أو إنسان مجنون أفاق من جنونه قبل غروب الشمس أيضاً، فهل نلزم الحائض بصلاة الفجر ونلزم المجنون بصلاة العصر أم لا؟
القول الأول: أنه إن أدرك مقدار ركعة قبل خروج الوقت؛ فإنها تلزمه تلك الصلاة، فنقول للحائض مثلاً: إن كان ما أدركته من صلاة الفجر قدر ركعة فيجب عليك أن تصلي صلاة الفجر التي طهرت في آخرها، وإن كان أقل من ذلك فلا قضاء عليك.
هذا هو القول الأول، وهو ما يقتضيه ظاهر حديث الباب وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة )، وهذه رواية البخاري : ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ) يعني: يدخل في ذلك إدراك الوقت وإدراك الحكم وغير ذلك.
هذا هو القول الأول، وهو مذهب الإمام مالك ورواية في مذهب الإمام أحمد، وحكي عن جماعة من السلف، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات : أنها إن أدركت قدر ركعة قضت الصلاة، وإن أدركت دون ذلك فلا قضاء عليها. هذا هو القول الأول.
ومما يستدلون به على ذلك الرواية الأخرى في حديث الباب، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة سجدة فقد أدرك الصلاة )، (من أدرك من الصلاة سجدة) وهذه جاءت في حديث عائشة كما أشار إليه المصنف، وجاءت في حديث أبي هريرة عند البخاري : ( من أدرك من صلاة الفجر سجدة قبل أن تطلع الشمس فليتم صلاته )، فقالوا: إن المقصود بالسجدة مقدار السجدة كما أشار إليه ابن رجب في شرحه للبخاري المسمى فتح الباري وهو مخطوط، أن المقصود مقدار السجدة، وكذلك ذكره الصنعاني في سبل السلام احتمالاً أن يكون الرسول عليه السلام أخبر بأن من أدرك قدر ركعة أدرك الصلاة، ثم أخبر بعد ذلك أن من أدرك سجدة أدرك الصلاة، وقال الصنعاني : إن قوله: (والسجدة إنما هي الركعة) من تفسير الراوي، وهو صحيح أغلبي وليس مطلقاً أن تفسير الراوي أصح من غيره، وعلى كل حال فتفسير السجدة بأن المقصود قدر سجدة تفسير ضعيف، والصحيح أن السجدة معناها الركعة، كما جاء مصرحاً به في الروايات الأخرى.
ومما يؤكد أن معنى السجدة الركعة أنه جاء في بعض راويات الحديث: ( من أدرك من صلاة أول سجدة فليتم صلاته )، ومن المعلوم أن إدراك أول سجدة لا قيمة له إلا بإدراك الركعة، فالمقصود أول ركعة، وكذلك جاء في رواية عند البيهقي : ( من أدرك السجدة الأولى من الصلاة )، ومن المعلوم أن إدراك السجدة المقصود به إدراك الركعة بلا إشكال.
هذا هو القول الثاني -إذاً- في المسألة: أن المعتبر إدراك قدر تكبيرة الإحرام.
هذه ثلاثة أقوال لمن زال عذره في آخر الوقت، وأنا مثَّلت بالحائض لكن الكلام نفسه يجري على أصحاب الأعذار الآخرين: كالمجنون يفيق مثلاً، والكافر يسلم ونحوه، والمغمى عليه إذا أفاق، على خلاف سيأتي بعد قليل إن شاء الله.
هذه ثلاثة أقوال فيمن زال عذره في آخر الوقت، والصحيح أو الراجح -لا أقول: الصحيح، بل أقول: الراجح من هذه الأقوال- أنه إذا أدرك صاحب العذر مقدار ركعة وجبت عليه الصلاة، إذا أدرك صاحب العذر من الوقت قدر ركعة وجبت عليه الصلاة؛ لمفهوم حديث الباب الذي لا أعلم شيئاً يعارضه.
ويمكن أن يُعترض على الأقوال الأخرى بأن قول الأوزاعي يلزم عليه أن من أدرك ركعة لا يكون مدركاً للصلاة، فلا بد أن يدرك الصلاة بكاملها، وهذا خلاف ظاهر الحديث الذي معنا، كما أن القول الأول الذي يكتفي بإدراك قدر تكبيرة الإحرام كأنه يلزم المعذور بقضاء الصلاة، يلزم الحائض -مثلاً- بقضاء الصلاة، جاء وقتها وهي في حيض لم تدرك من الوقت إلا قدر التكبيرة فقط، ومن المعلوم أن قدر التكبيرة يستحيل أن توقع المرأة فيه الصلاة كاملة، فكأنها ستقضي صلاة أدركتها وهي حائض. هذه هي الصورة الأولى، وهي: من زال عذره في آخر الوقت.
إضافة إلى أن من الفروق أيضاً بين أول الوقت وآخره أن الإنسان له أن يؤخر الصلاة عن أول الوقت، لكن ليس له أن يؤخرها عن آخر الوقت، فمن حق الإنسان -مثلاً- أن لا يصلي في أول الوقت وإن كان أول الوقت أفضل، لكن لو أخرها لم يأثم، إنما في آخر الوقت يأثم لو أخرها بحيث لم يبق إلا قدر ركعة واحدة، فقياس أول الوقت على آخره غلط يعتبر.
بمعنى: أن من فهم من مفهوم حديث الباب: أن من أدرك قد ركعة من أول الوقت ثم طرأ عليه العذر يلزمه أن يقضي تلك الصلاة؛ فقد فهم من الحديث ما لا يدل عليه. هذا المذهب الأول، وهو مذهب أبي يحيى البلخي وبعض فقهاء الشافعية، وهو مذهب ضعيف.
ونفس الأمثلة السابقة، مثلاً: لو أن حائضاً حاضت بعد صلاة العصر، بقيت طاهرة بعد دخول الوقت ولم تصل، حتى إذا بقي على غروب الشمس -مثلاً- دقائق لا تتسع لصلاة العصر -أربع دقائق مثلاً أو خمس دقائق لا تتسع لأن تصلي صلاة العصر كلها فيها- حاضت في هذا الوقت، فهنا يقولون: يجب عليها أن تقضي صلاة العصر، وهذا هو مذهب أبي حنيفة كما حكاه زفر عنه، يعني: رواية عن أبي حنيفة حكاها زفر عنه، وهو مذهب مالك فيما حكاه شيخ الإسلام ابن تيمية، ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية كما في الاختيارات أيضاً.
وفي تقديري: أن هذا القول أقرب من غيره، لكن لابد أن نفقه هذا القول وهو القول الرابع، أنه متى نلزم الحائض التي أصابها الحيض أثناء الوقت، متى نلزمها بالقضاء؟ نلزمها إذا أخرت الصلاة بحيث لم يبق وقت يتسع لإيقاع الصلاة فيه، لماذا نلزمها حينئذ بالقضاء؟ لأن هذا التأخير الذي أخرته تفريط هي غير معذورة فيه، يعتبر تفريطاً هي غير معذورة فيه، هذا أمر.
الأمر الثاني: لمفهوم حديث الباب، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة ).
ولذلك نقول -والله أعلم- إن من أخر الصلاة حتى ضاق الوقت عن فعلها ثم طرأ عليه العذر أن عليه أن يقضي تلك الصلاة، سواء كان ما بقي من الوقت قدر ركعة أو ركعتين أو ثلاث ركعات، المهم أن يكون أقل من مقدار الصلاة كلها.
ولعلي أضرب مثالاً أيضاً حتى تتضح المسألة: إذا كانت صلاة العصر تستغرق من الحائض عشر دقائق، فلما بقي على غروب الشمس سبع دقائق قامت الحائض لتصلي وقد بقي على الغروب سبع دقائق، فلما قامت شعرت بخروج الحيض منها، على هذا القول الرابع الذي ذكرت أنه أقرب في نظري هل نلزمها بقضاء تلك الصلاة أو لا نلزمها؟ نعم نلزمها؛ لأن الوقت قد تضايق عن إيقاع الصلاة.
إذاً: أعيد الحالة الثانية أو الصورة الثانية للمعذور: وهو من طرأ عليه العذر بعد دخول الوقت وقبل أداء الصلاة، من طرأ عليه العذر بعد دخول وقت الصلاة وقبل أدائها، كالطاهر تحيض بعد دخول الوقت وقبل أن تصلي، فهذا فيه خمسة أقوال، الراجح فيما يظهر منها: أنه إن تضايق الوقت ولم يبق منه ما يتسع لأداء الصلاة ثم حاضت وجب عليها القضاء وإلا لم يجب، هذه الصورة الثانية.
أريد أن أسألك سؤالاً: الحائض الآن لو جاءها وقت الصلاة كاملاً ولم تصل هل يجب عليها قضاء؟
الحائض دخل وقت الصلاة وخرج وهي حائض هل يجب عليها قضاء؟
لا يجب عليها القضاء إجماعاً، كذلك النفساء، طيب. الكافر إذا خرج وقت الصلاة ولم يصل ثم أسلم بعد خروج وقت الصلاة هل نلزمه بما مضى؟ لا، وهذه أيضاً بلا خلاف بين أهل العلم، الصبي إذا بلغ بعد خروج الوقت هل نلزمه بالصلاة التي مضت؟ لا، لا نلزمه، وهذا أيضاً ينبغي أن يكون إجماعاً؛ لأن الصبي أصلاً لا تجب عليه الصلاة وإنما يجب على وليه أن يأمره بها ويعوده عليها، على خلاف في هذه المسالة، فكيف نوجب عليه قضاء صلاة أدركها في زمن الصغر وقبل البلوغ؟!
إذاً: هذه الحالات لا إشكال فيها، المجنون لو عقل بعدما خرج وقت الصلاة هل نلزمه بقضاء ما مضى؟ أيضاً لا نلزمه، وهذا أيضاً لا خلاف فيه.
القول الأول: أن المغمى عليه إذا خرج الوقت قبل أن يفيق فلا قضاء عليه، فلو أن إنساناً في حادث سيارة -مثلاً- أغمي عليه وظل طريح الفراش في المستشفى لمدة ثلاثة أيام ثم أفاق لا نلزمه بقضاء الأيام الثلاثة التي أغمي عليه فيها، وهذا مذهب الشافعي ومالك وابن سيرين.
ولهم في ذلك حجج أرى أنها قوية، منها: حديث الباب، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك من الصلاة ركعة فقد أدرك الصلاة )، فهذا المغمى عليه هل أدرك من الصلاة ركعة؟ لا، هو ظل مغمى عليه حتى بعد خروج الوقت، فلم يدرك من الصلاة ركعة، فمفهوم حديث الباب يدل على أنه لا قضاء عليه، ومن أدلتهم على عدم القضاء ما رواه السبعة والدارمي وغيرهم عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن صلاة أو نسيها -وفي لفظ: من نسي الصلاة- فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك، ثم تلا قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14] )، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم النائم والناسي وأنه يصلي إذا استيقظ وإذا ذكر؛ علم أن غيرهم ليس عليه قضاء؛ ولذلك أخذ جماعة من أهل العلم -كـابن تيمية والشوكاني وغيرهما وكثير من السلف- أخذوا من هذا الحديث: أن من ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها أنه لا يقضيها.
يعني: واحد جالس يلعب الورقة -مثلاً- ودخل عليه وقت صلاة المغرب وخرج ولم يصل، ثم بعدما خرج الوقت قام وقال: الآن أريد أن أصلي، هؤلاء يقولون له: جرمك وذنبك أعظم من أن يكفَّر بالصلاة، فتلقى الله تعالى بها إثماً تحمله إلا أن يتوب عليك، ولا تقضي هذه الصلاة التي تركتها عمداً؛ لماذا لا يقضي المتعمد عند هؤلاء؟ لأنه لم يُذكر في الحديث، فالحديث يقول: ( من نام عن صلاة أو نسيها )، لكن ما قال: أو تركها متعمداً ( فليصلها إذا ذكرها ).
فيمكن أن يؤخذ من ذلك أيضاً: أن من أغمي عليه في وقت الصلاة حتى خرج وقتها لا قضاء عليه؛ لأنه لم يُذكر في الحديث.
ومما يرجح هذا القول: أننا نعلم -كما سبق- أن المجنون ليس عليه شيء، وكذلك الصبي، وقد جاء في الحديث الصحيح: ( رفع القلم عن ثلاثة: النائم حتى يستيقظ، والمجنون حتى يفيق، والصبي حتى يبلغ )، وهذا الحديث رواه أصحاب السنن عن علي وعائشة، ورواه الطبراني في مسند الشاميين عن جماعة من الصحابة، وروي عن أبي هريرة عند البزار وغيرهم، هذا هو القول الأول.
ونقول: إن المغمى عليه أشبه بالمجنون منه بالنائم؛ لأن النائم ينام باختياره، ويمكن أن يوقظ، لكن المغمى عليه هل هو باختياره؟ لا، وهل يمكن إيقاظه؟ أيضاً لا، فهو أشبه بالمجنون منه بالنائم.
القول الثاني في المسألة قول الإمام أحمد : أنه يقضي ما فاته قلَّ أم كثر.
والقول الثالث هو قول أبي حنيفة : إن كان الإغماء لمدة يوم وليلة فأقل قضى، وإن كان أكثر من ذلك لم يقض.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر