إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اليوم نبدأ في شرح الأحاديث المطلوبة.
حديث رافع بن خديج رضي الله عنه يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسفروا بالصبح فإنه أعظم لأجوركم )، والحديث نسبه المصنف إلى الخمسة.
ويستدلون لذلك بأدلة:
منها أولاً: حديث رافع هذا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بيَّن أن الإسفار بالفجر أعظم للأجر، ولا يكون أعظم للأجر إلا لأنه أفضل من التبكير، والحديث صحيح كما سبق.
الدليل الثاني: استدلوا بما رواه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين: جمع بين المغرب والعشاء بـجمع -يعني: مزدلفة - وصلى الفجر يومئذ لغير ميقاتها ).
وجه الدلالة من هذا الحديث المتفق عليه أن ابن مسعود بيَّن أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الفجر يوم مزدلفة لغير ميقاتها، طبعاً بمعنى: أنه بكَّر بها، غلَّس بها، فإذا قطعنا بأنه يستحيل أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام صلى الفجر قبل طلوع الفجر؛ لأنه ما دخل وقتها حينئذ، وإنما مقصوده: لغير ميقاتها المعتاد الذي اعتاد أن يصليها فيه، فلما علمنا يقيناً أنه لم يصلها قبل طلوع الفجر علمنا أنه صلاها بعد طلوع الفجر مباشرة، هذا بـمزدلفة، بكَّر بها من أجل أن يطول وقت الوقوف عند المشعر الحرام، بكَّر بها جداً، فقالوا: هذا دليل على أن العادة أن الرسول عليه السلام لا يبكر بها؛ ولذلك ابن مسعود استغرب أنه في تلك الليلة بكر بها فذكر هذا في حديثه، فدل على أن العادة من النبي صلى الله عليه وسلم أنه يصلي الفجر مسفراً، فلما صلاها ذلك اليوم في ليلة مزدلفة بغلس نقل ذلك ابن مسعود وبيَّن أنه: (لغير ميقاتها)، يعني: الذي اعتاد النبي صلى الله عليه وسلم أن يوقعها فيه، هذا وجه الدلالة من الحديث.
أعيده مرة أخرى: ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا مرتين، وذكر: الجمع بين المغرب والعشاء بـمزدلفة، وذكر: صلاة الفجر ليلة مزدلفة، فإنه صلاها لغير ميقاتها )، يعني: بكَّر بها جداً، هذا مقصود ابن مسعود، ونعلم يقيناً أنه ليس معنى: (أنه صلاها لغير ميقاتها) أنه صلاها قبل وقتها؛ لأنه لا يمكن أن يوقع الفجر قبل الوقت، فلو وقعت قبل طلوع الفجر لكانت باطلة، وهذا لا يمكن أن يحدث من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما معنى قوله: (لغير ميقاتها)؟ يعني: لغير وقتها المعتاد، بكر بها جداً، فهذا دليل على أن العادة من الرسول عليه السلام أنه يسفر بالفجر، أما في ليلة مزدلفة فبكر بها وغلس؛ حتى يطول وقت الوقوف عند المشعر الحرام، هذا وجه الدلالة من حديث ابن مسعود، وفي الاستدلال بهذا الحديث على هذه الصورة نظر لعله يأتي الإشارة إليه.
الدليل الثالث: ما رواه أبو نعيم وبقي بن مخلد والبغوي في شرح السنة عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له حين بعثه إلى اليمن : ( إذا كان في الشتاء فبكر وغلس بالفجر، وأطل القراءة قدر ما يطيق الناس، ولا تملهم، وإذا كان في الصيف فأخر الصلاة فإن الناس حينئذ ينامون فأمهلهم حتى يدركوا ) يعني: أخر صلاة الفجر وأسفر بها حتى يستطيع الناس أن يدركوها معك، وهذا الحديث لا يصح، بل هو ضعيف جداً، في إسناده المنهال بن الجراح أو الجراح بن المنهال اختلف في اسمه، ضعفه البخاري ومسلم وأحمد وعلي بن المديني، وقال النسائي والدارقطني : ضعيف جداً، بل قال ابن حبان : كان يضع الحديث، الجراح بن المنهال أو المنهال بن الجراح هو علة حديث معاذ بن جبل هذا، فلا يصح الحديث، وعلى فرض صحته فإنه ليس فيه دلالة صريحة على أن المستحب هو تأخير الفجر والإسفار بها، لكن لا يصح، فلا نشتغل به.
هذه من أدلتهم على استحباب الإسفار بالفجر.
واستدل هؤلاء بأدلة كثيرة جداً، منها:
ما رواه الشيخان عن عائشة رضي الله عنها: ( أن نساء المؤمنات كن يشهدن صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم متلفعات بمروطهن، ثم ينصرفن ما يعرفهن أحد من الغلس )، فإذا كانت المرأة تنصرف ما يعرفها أحد من الغلس -يعني: بعد انقضاء الصلاة- فمعناه: أن ابتداء الصلاة كان بغلس شديد أيضاً.
الدليل الثاني: حديث جابر المتفق عليه أيضاً قال: ( والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس )، وظاهر الحديث يدل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يوقع صلاة الفجر كلها بغلس وينصرف منها بغلس، هذا ظاهر الحديث.
الدليل الثالث: حديث أبي موسى : ( فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً )، وهو في صحيح مسلم.
الدليل الرابع: حديث أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وهو متفق عليه، وفيه قوله: ( وكان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه )، هذا حديث أبي برزة المتفق عليه: ( وكان ينصرف من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ فيها بالستين إلى المائة )، فإذا كان عليه السلام يقرأ بصلاة الفجر أحياناً ستين آية وأحياناً مائة آية وينصرف منها حين يعرف الرجل جليسه فقط، يعني: لا يعرف إلا الذي بجانبه، ولم يكن في المساجد يومئذ مصابيح يستضاء بها.
هذه من أدلتهم التي سبقت، ويضاف إلى هذه الأدلة: ما رواه البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: ( كنت أتسحر مع أهلي ثم يكون بي سرعة أن أدرك صلاة الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم )، والحديث في البخاري، فدل على أنه عليه السلام يبادر بها حتى إن المتسحر عند أهله يستعجل ليدرك الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم.
الدليل السادس -وهو من الأدلة المهمة-: حديث أبي مسعود الأنصاري البدري رضي الله عنه قال: ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر مرة بغلس، ثم أسفر بها مرة أخرى، ثم كانت صلاته بعد التغليس حتى مات )، والحديث رواه أبو داود، وقال الخطابي : إسناده صحيح، وقال الشوكاني : رجاله عند أبي داود رجال الصحيحين، وأصله في البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه، هذا كلام الشوكاني، وقال النووي : إسناده حسن، وكذلك قال ابن سيد الناس في شرح الترمذي : سنده حسن، وقال المنذري : رجاله عن آخرهم ثقات.
إذاً: حديث أبي مسعود الأنصاري حديث صحيح.
ولنتأمل هذا الحديث: ( صلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر مرة بغلس، ثم أسفر بها مرة أخرى، ثم كانت صلاته بعد التغليس حتى مات )، فهذا يدل على أن الأمر المستقر المستمر من الرسول صلى الله عليه وسلم هو التغليس بصلاة الفجر والتبكير بها.
وهذا القول الثاني هو القول الراجح: أن المستحب في صلاة الفجر هو التبكير بها وصلاتها بغلس؛ لهذه الأدلة الصريحة الصحيحة.
الجواب الأول: ما نقله الترمذي عن الشافعي وأحمد وإسحاق: أن مقصود النبي صلى الله عليه وسلم بالإسفار هو أن يصليها بعد أن يستيقن طلوع الفجر، يعني: لا يصليها إلا بعد أن يطمئن إلى أن الفجر قد خرج فعلاً، وهذا وجه حسن، خاصة أن الفجر قد لا يتضح ظهوره في بعض الليالي المقمرة، فيحتاج الإنسان إلى أن يؤخر الصلاة بقدر ما يطمئن معه إلى دخول الوقت.
ولكن قد يستشكل بعضكم على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: ( فإنه أعظم للأجر )، أو: ( فإنه أعظم لأجوركم )، هل يجوز للإنسان أن يصلي الفجر قبل أن يتأكد من دخول الوقت؟
أولاً: يمكن أن يقال: إنه إذا غلب على ظن الإنسان دخول الوقت جاز له أن يصلي، ولكن الأفضل في حقه أن يؤخر الصلاة حتى يطمئن إلى دخول الوقت. هذا جواب.
وبناء عليه يكون قوله: (فإنه أعظم للأجر) على بابه ولا إشكال، إن صلى فله أجر، وإن أخر حتى يطمئن فأجره أعظم.
الوجه الثاني في قوله: (فإنه أعظم للأجر): أن تكون (أعظم) هاهنا ليست على بابها، يعني: ليست للتفضيل، فهي مثل قوله تعالى: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24]، (وأحسن) يعني: هل أهل النار في حسن وأهل الجنة أحسن؟
كذلك قوله تعالى: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:110] يعني: أفضل لهم، فهل عدم إيمانهم فيه خير؟ كلا، فتكون (أعظم) هاهنا ليست على بابها، وهذا الذي اختاره ابن حزم في المحلى . هذا الوجه الأول أن يكون المعني بالإسفار: تأخيرها حتى يطمئن إلى دخول الوقت.
الوجه الثاني -وذهب إليه الطحاوي وأبو حفص البرمكي من الحنابلة-: أن معنى الإسفار بالفجر: هو أن يطيل القراءة فيها حتى ينصرف منها وقد أسفر، وهذا لا شك أنه أعظم للأجر بالنسبة للإطالة، وإن لم يكن هو المتبادر من لفظ الحديث.
الوجه الثالث: أن حديث رافع بن خديج -وإن كان صحيحاً من حيث الإسناد- إلا أنه معارض للأحاديث المستفيضة المشهورة في الصحيحين وغيرهما كما سبق، كحديث عائشة وجابر وأبي برزة وأبي موسى وابن مسعود .. وغيرهم، فيكون حينئذ شاذاً، وهذا الوجه أشار إليه الإمام شيخ الإسلام ابن تيمية رضي الله عنه في الفتاوى.
الوجه الرابع: أن هذا الحديث منسوخ، ومما يرجح القول بنسخه ما جاء في حديث أبي مسعود من: أن صلاة النبي عليه السلام بعد كانت التغليس حتى مات، وهذا القول أيضاً بالنسخ أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية .
أياً كان الوجه المختار من هذه الوجوه الأربعة فكلها أجوبة تدل على رد الاستدلال بحديث رافع بن خديج على الإسفار بالفجر.
هذا فيما يتعلق بحديث رافع بن خديج.
أما حديث عائشة رضي الله عنها فإن مسلماً رواه في الباب نفسه وفي الكتاب نفسه: ( من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك الصلاة، ومن أدرك سجدة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصلاة، قال: والسجدة إنما هي الركعة ).
وقد اختلف في هذه الكلمة: ( والسجدة إنما هي الركعة ) من الذي قالها؟
قيل: إنها من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إنها من كلام أحد الرواة. وهذا هو الأرجح، أنها من كلام أحد الرواة؛ لبيان مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أدرك سجدة) أنه في منزلة قوله: (من أدرك ركعة).
وحديث أبي هريرة وعائشة فيهما النص على صلاة الفجر وعلى صلاة العصر، فهل تختلف هاتان الصلاتان عن غيرهما من الصلوات في الحكم؟
لا، بل ذكر الفجر والعصر هاهنا لا يعدو أن يكون مثالاً فقط، وإلا فالحكم نفسه جار في صلاة الظهر والعصر والعشاء: من أدرك منها ركعة قبل أن يخرج وقتها فقد أدركها. قال ابن قدامة في المغني : لا أعلم فيه خلافاً، يعني: أن حكم الظهر والعصر والعشاء هو حكم الفجر وهو حكم المغرب، من أدرك منها ركعة قبل أن يخرج الوقت فقد أدركها.
فمن المسائل الظاهرة في حديث أبي هريرة وعائشة: أن وقت العصر ووقت الفجر الضروري يُدرك بإدراك ركعة منه قبل خروجه، فإذا استطاع أن يصلي ركعة من الفجر قبل طلوع الشمس أو ركعة من العصر قبل غروب الشمس يكون قد أدرك وقت الصلاة حينئذ.
والمقصود بالركعة هي الركعة التامة بالتكبير وقراءة الفاتحة والركوع والسجدتين، وبشروط ذلك جميعه، هذا هو المقصود بالركعة كما ذكره الحافظ ابن حجر والنووي والشوكاني وغيرهم من أهل العلم، هذا معنى إدراك الركعة.
ولكن هل يجوز للإنسان أن يؤخر صلاة الفجر أو العصر أو غيرهما من الصلوات حتى لا يبقى على خروج الوقت إلا قدر ركعة؟
لا يجوز للإنسان أن يؤخر الصلاة حتى لا يبقى من وقتها إلا هذا المقدار، وعدم الجواز نقل بعض الفقهاء الإجماع عليه.
وإن كان الواقع في الحقيقة أنه ليس في المسألة إجماع:
فقد ذهب ابن عبد البر رحمه الله -كما في التمهيد - إلى أن من أدرك ركعة من الوقت فقد أدرك الصلاة، وأن ظاهر ذلك أنه أدرك الوقت والفضيلة إن شاء الله، هكذا يقول.
وكذلك ذهب بعض فقهاء الشافعية -كما ذكره النووي في المجموع - إلى أنه لا يحرم عليه ذلك.
لكن الصحيح الذي عليه جماهير أهل العلم -بل حكاه بعضهم إجماعاً- أنه لا يحق لأحد أن يؤخر الصلاة حتى لا يبقى من وقتها إلا مقدار ركعة. هذه نقطة.
فنقول: إن القول الراجح عند الشافعية والحنابلة وغيرهم: أن الصلاة تعتبر حينئذٍ أداء، يعني: كأنه صلاها كلها في الوقت، وهذا هو ظاهر الحديث؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فقد أدرك الصلاة ) يعني: أدرك وقت الصلاة، وهذا هو الراجح.
ومذهب الحنفية -وهو قول عند الشافعية وغيرهم-: أن ما وقع في الوقت فهو أداء، وما وقع خارج الوقت فهو قضاء، بمعنى: أن الركعة التي أدركها في الوقت أو أكثر من ركعة تعتبر أداء، والركعة أو أكثر مما فعله خارج الوقت تعتبر قضاء، وهذا -كما أسلفت وألمحت- قول مرجوح.
وهذه المسألة فيها رأيان للعلماء:
وهذا القول يعتمد أولاً على حديث الباب، فإن فيه: ( من أدرك ركعة من الصلاة ) فقالوا: دل على أن الركعة هي مقدار ما يتم به الإدراك:
ومما يؤيد الاستدلال بهذا الحديث ما جاء في الصحيحين من حديث أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة )، لم يذكر أنه أدركها من الوقت لا من صلاة الفجر ولا من صلاة العصر، ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة ) فهذا يشمل جميع الإدراكات، بما في ذلك إدراك الركعة مع الإمام.
ومما يؤيد الاستدلال ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة من حديث الباب بلفظ: ( من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام فقد أدرك الصلاة)، (مع الإمام)، وإن كانت هذه اللفظة يخشى -كما يقول الشيخ الألباني في إرواء الغليل - أن تكون شاذة؛ لأن أكثر الرواة على خلافها: ( من أدرك ركعة من الصلاة مع الإمام )، لكن دلالتها ظاهرة لا إشكال فيها؛ لأن حديث أبي هريرة الذي قبلها: ( من أدرك ركعة فقد أدرك الصلاة )، بل حديث الباب أيضاً يدل على صحة معناها.
فهذه ثلاثة أدلة تدل على أن الجماعة تدرك بإدراك ركعة مع الإمام، وهذا مذهب كثير من الشافعية، ورجحه منهم الإمام الغزالي، وهو مذهب عطاء ومالك وبعض الحنابلة.
واستدل هؤلاء بأدلة:
منها: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي قتادة المتفق عليه، وفي حديث أبي هريرة المتفق عليه أيضاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا )، فقالوا: إن قوله عليه السلام: (فما أدركتم فصلوا) يشمل إدراك ولو جزء يسير من الصلاة بقدر تكبيرة الإحرام، هذا دليل لهم.
وقال بعضهم: إن حديث: (فما أدركتم فصلوا) يعتبر أقوى في الدلالة من حديث: (من أدرك ركعة مع الإمام)؛ لأن حديث: (من أدرك ركعة مع الإمام) يدل بمفهومه على أن من أدرك أقل من ركعة فإنه لم يدرك الجماعة، لكن حديث: (فما أدركتم فصلوا) يدل بمنطوقه على أنه قد أدرك ولو شيئاً مع الإمام. هذا وجه استدلالهم بالحديث.
كذلك من أدلتهم: حديث عائشة : ( من أدرك سجدة )، وكذلك جاء في الصحيح في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة : ( من أدرك سجدة ) بدل قوله: (ركعة)، قال بعض الحنابلة: المقصود بقوله: (من أدرك سجدة) يعني: من أدرك مقدار السجدة، وهكذا ذكر الصنعاني في سبل السلام احتمالاً: أن المقصود: من أدرك مقدار السجدة، فكأنه قال: إن الرسول عليه الصلاة والسلام أول الأمر قال: ( من أدرك ركعة ) فكان لا يكفي الإنسان إلا أن يدرك ركعة فأكثر، ثم أعلم صلى الله عليه وسلم بعد ذلك بأنه يدرك الإنسان ولو أدرك أقل من ذلك، فقال عليه السلام: ( من أدرك سجدة )، فكأنه تجدد له صلى الله عليه وسلم علم بإدراك ولو قدر سجدة، وهذا الاستدلال الأخير ضعيف في نظري جداً:
أولاً: لأن أكثر روايات الحديث: (من أدرك ركعة)، وهذا قد يدل على أن التعبير بـ(سجدة) من الرواية بالمعنى، خاصة في حديث أبي هريرة، فإن أكثر طرقه على أنها: (من أدرك ركعة) فمن قال: (سجدة) فكأنه روى الحديث بالمعنى.
ثانياً: أن المقصود بالسجدة الركعة، كما في حديث عائشة عند مسلم : (والسجدة إنما هي الركعة)؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة في صحيح البخاري : ( من أدرك سجدة من العصر قبل أن تغرب الشمس فليتم صلاته )، فدل على أن المقصود بالسجدة هاهنا الركعة، وجاء في سنن البيهقي : ( من أدرك السجدة الأولى )، وهل يمكن إدراك السجدة الأولى بدون إدراك الركعة؟ لا يمكن.
فمجموع روايات الحديث تدل على أن المراد بالسجدة الركعة، وكأن هذا الأمر واضح؛ لأنه من إطلاق الجزء وإرادة الكل.
ولذلك فإن القول الراجح في هذه المسألة -والله تعالى أعلم- ما رجحه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وجماعة من علمائنا المعاصرين -كالشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ محمد بن عثيمين وغيرهما- أن إدراك الجماعة يكون بإدراك ركعة فأكثر مع الإمام.
بقية مسائل الحديث سنكملها -إن شاء الله- لاحقاً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر