ننتقل بعد ذلك إلى أحاديث الليلة، وهي أربعة أحاديث سنشرحها -إن شاء الله- بدءاً بحديث جابر فـأبي موسى وطرف حديث عائشة .
حديث جابر رضي الله عنه يقول المصنف رحمه الله: وعندهما من حديث جابر ( والعشاء أحياناً يقدمها وأحياناً يؤخرها، إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس ).
فقوله: (متفق عليه) أي: رواه البخاري ومسلم، (وعندهما) أي: البخاري ومسلم من حديث جابر .
وهذا الحديث رواه البخاري في كتاب المواقيت، باب وقت صلاة المغرب، ورواه مسلم أيضاً في المواقيت في باب بيان وقت صلاة الفجر.
وقوله رضي الله عنه: (والعشاء) ليس هذا أول حديث، بل ورد في المصدرين المذكورين في البخاري ومسلم زيادة في أول الحديث، وهي أن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي جاء إلى جابر بن عبد الله زمن الحجاج فسأله عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال جابر : ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس نقية، والمغرب إذا وجبت، والعشاء أحياناً وأحياناً، إذا رآهم اجتمعوا عجل وإذا رآهم أبطئوا أخر، والصبح -كانوا أو كان- النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس ).
إذاً: فحديث جابر شامل لمواقيت الصلوات الخمس كلها، ولهذا الحديث سبب أشار إليه في قوله: (زمن الحجاج )، وهو أن الحجاج لما بعثه عبد الملك بن مروان أميراً على المدينة سنة أربع وسبعين للهجرة كان يؤخر الصلاة، ففزع الناس إلى الصحابة يسألونهم، ومن ذلك أن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي جاء إلى جابر يسأله عن المواقيت، فقال له هذا الحديث، فهذا سببه.
(والعصر والشمس نقية)، معنى (نقية) أي: بيضاء خالصة لم تخالطها صفرة ولا حمرة.
(والمغرب إذا وجبت) معنى (وجبت) يعني: سقطت أو غابت، والضمير يعود إلى الشمس مع أنها غير مذكورة، لكن بالعلم بها، كقوله تعالى: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [ص:32] يعني الشمس أيضاً.
(الشمس نقية) يعني: هذا في وقت العصر، لكن (والمغرب إذا وجبت) لم يقل: إذا وجبت الشمس، فليست مذكورة في نفس الموضع الذي هو موضع صلاة المغرب، وإن كانت مذكورة في الحديث قبل ذلك.
(والعشاء أحياناً وأحياناً) الأحيان جمع حين، وهو قدر من الوقت مبهم قد يقل أو يكثر كما هو المشهور عند العلماء، وهو المعتمد؛ ولذلك قوله هنا: (أحياناً وأحياناً) يدل على أنه وقت غير محدد، بل أحياناً هكذا وأحياناً هكذا.
(والصبح كانوا أو كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها بغلس)، أما قوله: (كانوا) فالضمير يعود إلى الصحابة، وعلى رواية (كانوا) فخبرها محذوف، والتقدير (كانوا يصلونها بغلس)، فخبر (كانوا) محذوف.
(أو كان) (أو) هاهنا للشك، والشك من الراوي، فيحتمل أنه من محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، والدليل على أنه للشك أنه قال في رواية مسلم : ( والصبح كانوا -أو قال: كان- ) دل على أنه شك من الراوي،كان النبي صلى الله عليه وسلم.
وهما متلازمان، فتأخير الصحابة رضي الله عنهم للصلاة إنما هو من تأخير النبي عليه السلام؛ لأنه إمامهم وهم الجماعة المصلون وراءه.
وقوله: (يصليها بغلس) الغلس هو ظلمة آخر الليل.
وقد اختلف العلماء في الأفضل من وقت العشاء: فذهب الشافعي في مذهبه القديم إلى أن المستحب تقديمها في أول الوقت، قال: لأن هذا هو الذي كان يداوم عليه النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يداوم عليه إلا لأنه الأفضل، ولعلهم يقولون: ما كان يراعى فيه الرفق بالصحابة فمراعاة الرفق فيمن بعدهم أولى، هذا مذهب الشافعي في القديم.
والقول الثاني: أنه يستحب تأخير العشاء إلى ما قبل ثلث الليل، وهذا نقله ابن المنذر في الأوسط عن بعض السلف.
والقول الثالث: أنه يستحب تأخيرها إلى ثلث الليل، وهذا مذهب الجمهور، مذهب الشافعي في الجديد ومالك وأحمد وأبي حنيفة، ونسبه الترمذي لأكثر الصحابة والتابعين، أنه يستحب تأخير العشاء إلى ثلث الليل.
ولعل من أصرح وأقوى أدلتهم في ذلك ما رواه أبو داود والترمذي -وقال: حديث حسن صحيح- عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، ولأخرت العشاء إلى ثلث الليل ).
هذه ثلاثة أقوال في المسألة، وقد مر في خاطري قول وجدت أنه هو الأقرب لظواهر النصوص، وهو أن وقت الفضيلة في صلاة العشاء هو ما بين ثلث الليل إلى نصفه، يعني: إيقاع الصلاة بعد الثلث وقبل النصف، أن هذا هو الأفضل؛ وذلك لأدلة:
منها: أنه هو آخر وقت العشاء، فإذا قلنا باستحباب تأخير العشاء فمعناه تأخيرها إلى آخر وقتها الذي يصح إيقاعها فيه.
ومنها: أنه هو الملائم لظواهر النصوص وهي كثيرة، كحديث أبي موسى وابن عباس وابن عمر وعائشة، وفي هذه الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العشاء، في بعضها: ( حتى ذهب عامة الليل ) كما في حديث عائشة في مسلم، وفي حديث أبي موسى ( حتى ابهار الليل )، وفي الحديث الآخر: ( حتى نام الناس ثم استيقظوا )، إلى غير ذلك من النصوص التي تدل على أنه بالغ صلى الله عليه وسلم في تأخيرها.
ثم وجدت أن أبا العباس بن فريك من فقهاء الشافعية قال بأن الأفضل في تأخيرها يبدأ بثلث الليل وينتهي بنصفه، يبدأ وقت الفضيلة بثلث الليل وينتهي بنصفه، ووافقه على ذلك النووي في شرحه لـصحيح مسلم، وقال: إن هذا هو الذي تدل عليه ظواهر ألفاظ الأحاديث، وتجتمع عليه النصوص.
فلذلك أقول -والله تعالى أعلم-: إن الأقرب أن الأفضل أن يؤخر صلاة العشاء إلى ما بين ثلث الليل إلى نصفه، ما بين الثلث إلى انتصاف الليل، فهو وقت فضيلة بالنسبة لصلاة العشاء ما لم يكن في ذلك مشقة أو حرج على الناس.
منها: استحباب تقديم أوقات الصلوات؛ لأنه عليه السلام صلى الظهر بالهاجرة، والعصر والشمس بيضاء نقية، والمغرب حين وجبت الشمس، والفجر بغلس، فدل على أن المستحب تقديم الصلوات كلها في أول وقتها، إلا العشاء، وإلا الظهر إذا اشتد الحر، فحينئذ يشرع الإبراد كما سيأتي.
وفي الحديث من الفوائد: مشروعية مراعاة حال المأمومين في التقدم والتأخر.
وفي الحديث أيضاً: أنه يشرع للإنسان أن يؤخر الصلاة عن أول وقتها انتظاراً لفضيلة الجماعة، حيث أخرها النبي صلى الله عليه وسلم ليجتمع الناس، ولو كان غير العشاء إذا كان في تأخيرها انتظار للجماعة، فالأولى أن ينتظر الجماعة أفضل من أن يصليها بمفرده إن جاز له أن يصليها بمفرده.
بل ويؤخذ من الحديث فائدة، وهي أنه يشرع تأخير الصلاة انتظاراً لتكثير الجماعة، ولكن لعلنا نقول: هذا خاص بصلاة العشاء؛ لأن غير ذلك من الصلوات المشروع صلاتها في أول وقتها، ومن المعروف أن الناس إذا صار الإمام يؤخر في انتظارهم فإنهم يتأخرون هم أيضاً، فيترتب على ذلك تأخير الصلاة عن أول وقتها.
ومن فوائد الحديث: مشروعية تأخير صلاة العشاء -كما سبق- ما لم يشق على الناس، فمثلاً: من كان في سفر وهم جماعة فيما بينهم ليسوا مرتبطين بمسجد، يعني: في البرية مثلاً؛ فإنه يشرع لهم أن يؤخروا صلاة العشاء إلى آخر وقتها.
وكذلك المرأة في بيتها يشرع لها أن تؤخر صلاة العشاء إلى آخر وقتها المختار، ما لم يكن في ذلك تفويت للصلاة؛ لأن بعض النساء -كما سمعت- إذا كانت ستذهب إلى مناسبة زواج أو وليمة أو ما أشبه ذلك تقول: سوف أصلي إذا رجعت، وقد تذهب إلى تلك الوليمة أو إلى هذا العرس ولا تعود إلى بيتها إلا بعد منتصف الليل وبعدما يكون خرج وقت الجواز، وهذه آثمة بلا شك؛ لأنها فرطت في تأخير الصلاة، وكان يجب عليها أن تصلي قبل أن تذهب أو أن تصلي في المكان الذي هي فيه.
ومن فوائد حديث جابر رضي الله عنه: مشروعية الرفق بالناس، وتجنب ما يشق عليهم ما لم يكن في ذلك ارتكاب محرم أو ترك واجب؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يترك الأمر الفاضل إلى المفضول رفقاً بالرعية ورفقاً بالناس، وهكذا من كان والياً على أمر من الأمور -كأن يكون رأس دائرة حكومية، أو إمام مسجد، أو أستاذاً مع طلابه، أو أباً في بيته أو ما أشبه ذلك من أصحاب الولايات العامة أو الخاصة- فإنه يجب عليهم أن يراعوا الرفق بالناس ولو ترتب على هذا الرفق تفويت بعض السنن ... ما لم يؤد ذلك إلى فعل محرم أو ترك واجب، وفي الحديث فوائد أخرى غير هذه.
وهذا الحديث سبق طرف منه، فقد ذكره المصنف برقم (165) قبل ذلك، وأعاد جزءاً منه في هذا المكان، وقد سبق أن ذكره المصنف في أول باب المواقيت، وذلك قوله: وله من حديث أبي موسى : ( والشمس مرتفعة )، فهذا طرف من ذاك الحديث.
وقد سبق بيان أن هذا الحديث جواب لسؤال الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم عند مواقيت الصلوات، والذي يظهر لي -والله أعلم- أن المصنف أورد الحديث مستدلاً به على مشروعية التبكير لصلاة الفجر.
فهل يستقيم للمصنف هذا الاستدلال أو لا يستقيم؟ أورده ليستدل به على مشروعية التبكير لصلاة الفجر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( صلى الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف بعضهم بعضاً ).
هل يستقيم الاستدلال بهذا الحديث على مشروعية التبكير للفجر؟
لا يستقيم؛ لأنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك لبيان أول وقت صلاة الفجر، وليس الاستدلال بهذا القدر من الحديث على استحباب التبكير بأولى من الاستدلال على الشق الآخر؛ لأنه في اليوم الثاني ( أخر النبي صلى الله عليه وسلم الفجر حتى انصرف منها والقائل يقول: قد طلعت الشمس أو كادت أن تطلع ).
فهل يستفاد من ذلك استحباب تأخير صلاة الفجر إلى قبيل طلوع الشمس؟ كلا، لا يستفاد، وإنما فعل ذلك عليه الصلاة والسلام ليبين أول الوقت وآخره.
فالاستدلال به على مشروعية التبكير غير مسلم، اللهم إلا على وجه ضعيف، وهو أن يقال: قد ثبت بالنصوص مشروعية إيقاع الصلاة الفجر في أول وقتها، والمصنف أراد بهذا الحديث أن يبين أول وقتها، وهو الذي يشرع إيقاعها فيه.
على كل حال الأحاديث على مشروعية التبكير بصلاة الفجر وإيقاعها في أول وقتها كثيرة ليست مقصورة على هذا الحديث، فيشرع التغليس في صلاة الفجر، كما سبق في قوله: ( يصليها بغلس )، وكما في حديث عائشة في النساء اللاتي ( ينصرفن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغلس )، وفي حديث أبي برزة : ( حين يعرف الرجل جليسه )، وسوف يأتي مزيد بسط لهذه المسألة في حديث رافع بن خديج، وقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الخمسة: ( أسفروا بالصبح، فإنه أعظم لأجوركم )، ففي شرح هذا الحديث نزيد مسألة التغليس بالفجر بسطاً وبياناً إن شاء الله تعالى.
فهو صريح بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي المغرب في أول وقتها، بحيث إنه ينتهي منها وينصرف الناس والجو مسفر، حتى يصلوا إلى دورهم وبيوتهم وهم يرون مواقع السهام حين يرمونها.
هذا دليل على أنه كان يصلي المغرب في أول وقتها، وقد سبق ما يدل على ذلك، وهذه المسألة إجماع؛ أنه يستحب صلاة المغرب في أول وقتها لم يخالف في ذلك أحد إلا من سبق أن ذكرنا ممن شذوا في ذلك، أما الرافضة فلا يستحقون الذكر، لكن فقط للعلم والفائدة، فإنهم يرون تأخير المغرب إلى أن تشتبك النجوم محادة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخروا المغرب إلى أن تشتبك النجوم ).
والحديث -كما ذكر المصنف- رواه مسلم في وقت صلاة العشاء.
( أعتم ذات ليلة بالعشاء حتى ذهب عامة الليل )، قولها: (عامة الليل)، ظاهر الحديث يدل على أن الذي ذهب أكثر أو الذي بقي أكثر؟ أيهما أكثر؟
الذي ذهب أكثر، فقولها: (عامة الليل) ظاهره يدل على أنه ذهب أكثر الليل، ولكن هذا الظاهر غير مراد باتفاق أهل العلم؛ لأنهم متفقون على أنه ينتهي وقت الفضيلة بانتصاف الليل، ولم يقل أحد من أهل العلم: إن صلاة العشاء بعد نصف الليل أفضل، مع أنه صلى الله عليه وسلم قال في هذا الحديث: (إنه لوقتها)، يعني: وقتها الفاضل المختار، فقولها: (حتى ذهب عامة الليل) يعني: ذهب كثير منه، ومما يؤكد هذا أن المسألة مسألة تقديرية من عائشة رضي الله عنها، والتقدير قد يختلف من إنسان لآخر، فليس في الأمر ضابط محدود، ولكن من المؤكد أنه ليس المقصود أنه ذهب نصف الليل أو أكثر من نصفه، بل ذهب ثلثه أو يزيد عن ذلك قليلاً.
(ثم خرج فصلى وقال: إنه لوقتها)، أي: لوقتها المختار أو وقتها الفاضل.
(لولا أن أشق على أمتي) أي: لولا أن أشق على أمتي لصليتها في هذا الوقت دائماً.
وعامة الليل، ظاهر اللفظ أنه عامة الليل، يعني أكثر الليل.
وفي صحيح مسلم ألفاظ أخرى لهذا الحديث، في بعض هذه الألفاظ -وكلها من حديث عائشة - ( أنه صلى الله عليه وسلم تأخر حتى صاح عمر
وأشير في هذا الموضع إلى نقطتين:
أولاهما: ما السبب في كون تأخير العشاء أفضل؟ هذا يعود إلى ثلاثة أسباب:
أولاً: أن فيه انتظار الصلاة، وكما ورد في الأحاديث الصحيحة: ( ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة )، فهذا جانب من الفضيلة.
الأمر الثاني: أن تأخيرها إلى ثلث الليل وما بعده يوافق سكون الناس وهدأتهم، وهذا أدعى إلى الخشوع وحضور القلب.
الأمر الثالث: أنه يوافق وقت التنزل الإلهي حسب ما ورد في بعض الروايات: ( أن الله تعالى ينزل في ثلث الليل الأوسط )، والرواية المشهورة أنه ينزل حين يبقى ثلث الليل الآخر.
أما سبب مراعاته صلى الله عليه وسلم لحال الناس فيما يتعلق بصلاة العشاء، وكونه يصليها إذا رآهم اجتمعوا في أول الوقت، سبب ذلك يعود إلى أمور:
منها: أولاً لتجنب المشقة على الناس، خاصة النساء والصبيان، وكذلك الكبار الذين يشتغلون في النهار في حروثهم وزروعهم وتجاراتهم فإذا جاء الليل احتاجوا إلى النوم، ففي تأخير الصلاة عليهم تأخير للنوم، وهذا يشق عليهم.
والأمر الآخر: لعله صلى الله عليه وسلم خشي أن تفرض عليهم في هذا الوقت، فيشق على الأمة الالتزام بذلك، كما أنه صلى الله عليه وسلم ترك صلاة التراويح بعدما صلاها ثلاث ليال أو أربع ليال خشية أن تفرض على الأمة، فهذا من رأفته ورحمته وشفقته صلى الله عليه وسلم بأمته.
هذه أهم الفوائد الموجودة في هذه الأحاديث الأربعة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر