إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
ففيما يتعلق بالمواقيت مر معنا سابقاً (ميقات صلاة المغرب)، وذكرت فيها: أن صلاة المغرب يدخل وقتها بغروب الشمس اتفاقاً، ويخرج بمغيب الشفق عند الجمهور، خلافاً للإمام الشافعي حيث ليس للمغرب عنده إلا وقت واحد وهو قدر خمس ركعات بعد غروب الشمس، أو أزيد أو أقل من ذلك.
ثم ننتقل بعد ذلك إلى (ميقات صلاة العشاء).
وكذلك تسمى العتمة، كما ورد في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء )، والحديث متفق عليه.
ومثله حديث أبي موسى : ( أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ابهار الليل )، وهذا الحديث -حديث أبي موسى - في صحيح البخاري .
ومثله حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتم بالعشاء حتى نام النساء والصبيان )، وهو أيضاً في صحيح البخاري .
وكذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أثقل الصلوات على المنافقين صلاة العتمة وصلاة الفجر )، فسماها النبي صلى الله عليه وسلم العتمة، فدل على أنه يجوز أن تسمى صلاة العشاء بالعتمة.
فمنهم من كرهها كـابن عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقد ذكر عنه الشافعي : أنه إذا قيل له: العتمة صاح وغضب، وكذلك ذكر ابن أبي شيبة عن ميمون بن مهران أنه سأل ابن عمر: من أول من سمى العشاء العتمة؟ قال له: أول من سماها العتمة الشيطان.
وهذا يدل على كراهية ابن عمر الشديدة -رضي الله عنه- لأن تسمى العشاء بالعتمة.
وذهب آخرون من السلف إلى أنها لا تكره، وإنما هو خلاف الأولى، تسميتها بالعتمة لا يكره، وإنما هو خلاف الأولى، وهذا هو الذي نقله ابن المنذر عن مالك والشافعي، واحتجوا على عدم كراهية ذلك بما سبق من الأحاديث التي ذكرتها.
أما ابن عمر رضي الله عنه فقد احتج على كراهية تسميتها بالعتمة بما رواه هو رضي الله عنه -كما في صحيح مسلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم؛ فإنها في كتاب الله العشاء، وإنهم يعتمون بحلاب الإبل )، يعني: الأعراب، (فإنهم يعتمون بحلاب الإبل)، يعني: لذلك يسمونها العتمة.
وكذلك روى ابن ماجه نحوه بإسناد حسن عن أبي هريرة، وروى البيهقي وأبو يعلى نحوه عن عبد الرحمن بن عوف .
هذه ثلاثة أحاديث عن ابن عمر في صحيح مسلم وعن أبي هريرة عند ابن ماجه بسند حسن، وعن عبد الرحمن بن عوف عند البيهقي وأبي يعلى كلها تدل على كراهية تسمية العشاء بالعتمة.
لكن الجمهور رأوا صرف هذه الأحاديث عن الكراهية بالأحاديث الأخرى التي دلت على أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يسمونها العتمة أحياناً، فقالوا: لا تكره، لكنه خلاف الأولى.
والسر في كراهية هذه التسمية أو في كونها خلاف الأولى أحد ثلاثة أمور:
إما كراهية تسمية العبادة الشرعية باسم عمل من الأعمال الدنيوية، وهو مسألة حلب الإبل.
وإما لأن بعض الأعراب كانوا يعتمون بحلاب الإبل، يعني: يؤخرون حلبها حتى لا يعطوا الفقير والمسكين والمحتاج شيئًا من ذلك، وكانوا يفعلون ذلك وقت الجوع والمصابة، فكراهية لعملهم كره تسمية العشاء بهذا الاسم.
وإما -وهذا هو الاحتمال الثالث وهو الأرجح-: أن يكون ذلك لكراهية التشبه بالأعراب؛ فإن الشارع ورد عنه في نصوص كثيرة كراهية التشبه بالعجم وكراهية التشبه بالأعراب -أعراب البادية- لما هم عليه من الجفاء، فكره النبي صلى الله عليه وسلم مشابهتهم.
ولا شك ولا ريب ولا أعتقد أن يقول أحد بمنع ذلك مطلقًا؛ لأن الأعراب مسلمون، ومشابهتهم في هذا الأمر ليست محرمة، ولو كان محرماً لكان حراماً عليهم أيضًا، فلا خلاف في عدم التحريم، وإنما الخلاف: هل يكره أم هو خلاف الأولى فحسب.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة:
منها: حديث جبريل في صلاته بالنبي صلى الله عليه وسلم: ( فإنه صلى به في اليوم الثاني بعدما ذهب ثلث الليل ).
ومن أدلتهم أيضًا: ما رواه مسلم عن بريدة رضي الله عنه في صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( وصلى العشاء في اليوم الثاني عند ذهاب ثلث الليل أو بعضه )، وفي كلا الاستدلالين نظر:
فأما الأول فإن صلاته كانت -فيما يظهر- بعد ذهاب ثلث الليل، فدل على أن ما بعد ثلث الليل وقت لها أيضًا، وأما حديث بريدة فإن فيه: ( عند ذهاب ثلث الليل أو بعضه )، وهذا الشك من الراوي: لا يدري هل الذي ذهب ثلث الليل أو بعض الليل، والبعض قد يكون النصف، فليس فيه دلالة صريحة على أن وقت صلاة العشاء هو إلى ثلث الليل فحسب.
منها: قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ [الإسراء:78] أي: إلى نصفه، وهو اشتداد ظلامه، فدل على أن غاية إقامة الصلاة صلاة العشاء إلى نصف الليل.
والدليل الثاني: هو حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في صحيح مسلم ومضى، وفيه التصريح من النبي صلى الله عليه وسلم بأن وقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسط كما سبق، وهو صريح ونص في هذه المسألة.
ومن أدلتهم: حديث أنس رضي الله عنه في صحيح البخاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر ليلة العشاء إلى منتصف الليل ).
ومثل حديث أنس في ذلك -أو قريباً منه في الدلالة- حديث عائشة الذي سبق، وحديث أبي موسى وحديث ابن عباس في تأخير النبي صلى الله عليه وسلم العشاء: ( أنه أعتم بها حتى نام النساء والصبيان )، وفي بعض الألفاظ: ( حتى ابهار الليل )، وإن كانت ليست هذه الأدلة صريحة كصراحة حديث أنس في أنه إلى نصف الليل، فهذه الأدلة تدل على أن وقت صلاة العشاء ينتهي بمنتصف الليل.
أولاً: حديث عائشة رضي الله عنهما ( أن النبي صلى الله عليه وسلم: أخر العشاء حتى ذهب عامة الليل )، وعامة الليل معناها أكثره أو أغلبه، فدل على أنه صلاها بعد نصف الليل.
وقد يستدل لهم بحديث أبي موسى ( حتى ابهار الليل )، يعني: ذهب غالبه.
ومن أدلتهم حديث أبي قتادة في صحيح مسلم وسبق مرارًا، وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى دخل وقت الأخرى )، فدل على أن وقت صلاة العشاء ينتهي بدخول وقت الفجر؛ لأنه يقول: ( على من لم يصلّ الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى )، فدل على أن الأصل أنه ليس بين أي صلاة والصلاة الأخرى فاصل، فقالوا: إن صلاة العشاء تمتد إلى أن يدخل الفجر، هذه طريقة استدلالهم بهذا الحديث.
أما وقت الضرورة؛ فالذي ترجح لي أن وقت الضرورة يمتد إلى وقت طلوع الفجر الثاني، فإذا أسلم الكافر أو طهرت الحائض أو أفاق المجنون أو ما أشبه ذلك قبل طلوع الفجر الثاني؛ فإنه يلزمه أن يصلي صلاة العشاء، والدليل على أن وقت الاضطرار يمتد إلى طلوع الفجر الثاني هو حديث أبي قتادة نفسه: ( إنما التفريط على من لم يصلّ الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى )، فإن هذا الحديث صريح في أنه: كل صلاتين ليس بينهما فاصل، فإذا دخل وقت الصلاة الأخرى خرج وقت الصلاة التي قبلها، هل يستثنى من ذلك شيء؟
وقت صلاة الفجر مع الظهر، فإن من المتفق عليه والمعلوم إجماعاً بيقين لا إشكال فيه ولا خلاف: أن وقت صلاة الفجر ينتهي بطلوع الشمس، ولا يدخل بذلك وقت الظهر.
إذاً: صلاة الفجر وصلاة الظهر بينهما فاصل باتفاق أهل العلم، فهو إجماع متيقن لا إشكال فيه.
أما ما عدا ذلك من الأوقات فهو متصل بعضهما ببعض، أوقات الضرورة، فوقت الظهر متصل بالعصر، ووقت العصر متصل بالمغرب، ووقت المغرب متصل بالعشاء، ووقت العشاء متصل بالفجر، وحديث أبي قتادة صريح في ذلك؛ ولذلك أرى أن الراجح أن وقت العشاء للضرورة للمعذور يمتد إلى طلوع الفجر الثاني، هذا فيما يتعلق بالمواقيت، وبناء على ذلك نكون انتهينا من المواقيت الخمسة.
وفي حديث أبي برزة رضي الله عنه: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر، ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس حية )، وفيما يتعلق بالعشاء قال: ( كان يستحب أن يؤخر من العشاء، وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها، وكان ينفتل من صلاة الغداة حين يعرف الرجل جليسه، وكان يقرأ ما بين الستين والمائة ).
وقوله: (حين تدحض) معنى (تدحض) أي: تزول، وكذلك هي في رواية مسلم : ( حين تزول الشمس ).
وقوله: (وكان يصلي العصر، ثم يذهب أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة )، الرحل يطلق على أمرين: يطلق على المنزل، وهو المقصود في هذا الحديث (إلى رحله)، يعني: إلى منزله، ومكان إقامته.
وللرحل معنى ثان، وهو اسم لما يرحل على الناقة أو الناقة نفسها، كما في قوله تعالى: اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا [يوسف:62]، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة )، فالرحل يطلق على المركوب، وعلى ما يوضع عليه، ويطلق أيضًا على المنزل، وهو المقصود بهذا الحديث: ( يرجع إلى رحله -أي: إلى منزله- في أقصى المدينة والشمس حية ).
معنى قوله: (والشمس حية) أي: بيضاء نقية قوية، كما ذكر ابن المنير في معنى كونها (حية) أو (بيضاء نقية) أن ذلك يتعلق ببقاء شعاعها وحرارتها وارتفاعها، أي: بقاء آثارها على الأبنية والمنازل والدور والشوارع.
وقوله رضي الله عنه: (وكان ينفتل من صلاة الغداة)، معنى (ينفتل) يعني: ينصرف، إما أن يكون المعنى: يسلم، وإما أن يكون المعنى: يلتفت إلى المأمومين: كلاهما محتمل، و(صلاة الغداة) هي صلاة الفجر كما هو معروف.
فمن فوائده:
ومن فوائده: استحباب تعجيل صلاة الظهر؛ لأنه يصليها: (حين تدحض الشمس) أي: حين تزول، ولا يعارض هذا ما ورد من الأمر بالإبراد: ( إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة ) كما سيأتي؛ لأننا نقول: استحباب التعجيل إما أن يكون هذا في غير وقت الإبراد، كأن يكون في وقت البرد -مثلاً- أو في غير وقت اشتداد الحر، أو أن هذا وقت الأمر بالإبراد، ولكن الأولى أن يكون هذا في غير وقت الإبراد.
ونسي الراوي ما قال في المغرب.
وقد اختلف أهل العلم في ذلك:
فذهب عمر وابن عمر وجماعة من العلماء -وهو مذهب الإمام مالك والشافعي - إلى كراهية النوم قبل صلاة العشاء لهذا الحديث.
وذهب آخرون -كـعلي وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما، وهو مذهب الكوفيين، مذهب الحنفية إلى أنه لا يكره النوم قبل صلاة العشاء إذا كان يثق باستيقاظه للصلاة، كما إذا كان من عادته أن يستيقظ أو وجد من يوقظه، قالوا: لأن العلة في كراهية النوم خشية النوم عن صلاة العشاء أو التفريط فيها وترك الجماعة، فإذا وجد من يوقظه زالت العلة.
ويستدل بما رواه البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر العشاء ليلة حتى ناداه
ولكن في الاستدلال بهذا الحديث نظر؛ لأن النوم المذكور في هذا الحديث غير النوم المنهي عنه.
ولعل الذي يذكر منكم عن النوم وهل هو ناقض الوضوء أم غير ناقض، فنقول: النوم المكروه قبل العشاء هو النوم المستغرق الطويل الذي لا يبقى معه إدراك، وهو الذي ينقض الوضوء.
أما كون القاعد ينتظر العشاء قد ينعس أو يغلبه نوم لكن معه بعض الإدراك بحيث يشعر بما حوله فلو أحدث لشعر بذلك؛ فهذا لا يدخل في الكراهية ولا ينقض الوضوء كما سبق.
وفيه: دليل على أنه لا يكره الحديث في الخير والفقه والعلم بعد صلاة العشاء.
ثم وضع البخاري -رحمه الله- باباً ثالثاً: (باب السمر مع الضيف والأهل)، وساق فيه حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه، وفيه قصة طويلة وهي قصة أهل الصفة الذين استضافهم أبو بكر، فذهبوا إلى منزله فقدم لهم عبد الرحمن العشاء، فأبوا أن يأكلوا حتى يأتي أبو بكر، وكان أبو بكر قد جلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاء أبو بكر وجدهم لم يتعشوا فغضب عليهم وعلى ابنه وقال لهم: كلوا لا هنيئاً. ثم نادى ابنه: يا غنثر! فسكت فأقسم عليه، المهم سبه سباً شديداً، ثم استغفر رضي الله عنه وأرضاه، وكان فيه شدة رضي الله عنه، المهم أن هذا يدل على أن السمر مع الأهل والضيوف أيضاً ليس بمكروه.
ولا يعارض هذا ما جاء في حديث عائشة في النساء، ما رواه جماعة عن عائشة : ( أن النساء يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينصرفن متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغلس )؛ لأن الرجل يعرف جليسه بقربه منه، لكن لا يعرف النساء لبعدهن والتفافهن، مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يطيل القراءة في صلاة الفجر، فدل على أنه كان يصليها في غلس، وينتهي منها في آخر الغلس.
ففيه استحباب التغليس لصلاة الفجر، وسيأتي مزيد بسط لهذه المسألة.
هذا والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا ورسولنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر