إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
هذا هو المجلس الستون -فيما أحسب- ينعقد في يوم الثلاثاء 12 من شهر صفر لعام 1410هـ.
انتهينا سابقاً من صلاة الظهر بدءاً وانتهاء لوقتها وبدأنا بصلاة العصر، وذكرت أن صلاة العصر هي الصلاة الوسطى المذكورة في قوله تعالى: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى [البقرة:238]، وهذا مذهب جمع من الصحابة كـعمر وابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعلي بن أبي طالب وابن عباس وأبي سعيد الخدري وأبي بن كعب وسمرة بن جندب وعائشة وحفصة وأم سلمة، وهو مذهب عبيدة السلماني من التابعين والحسن البصري وقتادة والكلبي ومقاتل والضحاك وغيرهم، وإليه ذهب من الأئمة أحمد وأبو حنيفة وداود وغيرهم، وهو الصحيح أنها صلاة العصر، أن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر للأدلة التي سبق بيانها.
أولهما: اختلاف النصوص الواردة في هذا الباب، كما سيتضح من الشرح إن شاء الله تعالى.
والثاني: أن أوقات الصلوات الأخرى ترتبط بمواضع محددة معلومة لا يختلف عليها، فمثلاً صلاة الفجر تبدأ بطلوع الفجر وهو أمر واضح لا إشكال فيه، وتنتهي بطلوع الشمس وهو أيضاً أمر واضح لا إشكال فيه، صلاة الظهر تبدأ بالزوال وهو أمر واضح محدد لا يختلف فيه، صلاة المغرب تبدأ بغروب الشمس وهو أمر واضح لا يختلف فيه، وكذلك غياب الشفق وانتصاف الليل أمور واضحة.
أما العصر فليس في قرب وقتها أمر من ذلك تحدد به، ولذلك وجد الاختلاف.
فالاختلاف أولاً في وقت دخول صلاة العصر.
وحجة أصحاب هذا القول حديث جبريل حين أم النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى به العصر في اليوم الأول حين صار ظل الشيء مثله, وصلى به الظهر في اليوم الثاني حين صار ظل الشيء مثله.
فقالوا: دل على أن وقت العصر ووقت الظهر فيه قدر مشترك، وهذا الخلاف نفسه يجري في آخر وقت صلاة الظهر، ولذلك مرت الإشارة إلى شيء منه.
وهذا الاستدلال بحديث جبريل غير مسلم، ويجاب عن استدلالهم بحديث جبريل بأحد جوابين:
إما أن يقال: إن المقصود أن جبريل صلى الظهر في اليوم الأول حين صار ظل الشيء مثله، يعني: انتهى من الظهر حين صار ظل الشيء مثله، وصلى العصر حين صار ظل الشيء مثله، يعني: بدأ بالعصر حين صار ظل الشيء مثله.
وهذا التأويل يقول النووي : لابد منه للتوفيق بين الأحاديث، فأنا أقول: إنه بدأ بالعصر حين صار ظل الشيء مثله وانتهى من الظهر حين صار ظل الشيء مثله، وليس المعنى أنه صلى العصر في الظهر أو صلى الظهر في وقت العصر.
الجواب الثاني: أن يقال: إن الراوي تجوز في العبارة لقرب ما بين الوقتين، فلا يدل ذلك على ما ذهبوا إليه.
وأدلة هذا القول كثيرة: من أصرحها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في قوله صلى الله عليه وسلم في وقت الظهر: ( ووقت الظهر إذا زالت الشمس وكان ظل الرجل كطوله ما لم يحضر وقت العصر )، فدل على أنه إذا حضر وقت العصر خرج وقت الظهر، وهذا صريح في ذلك، والحديث في صحيح مسلم .
ومن أدلتهم أيضاً: حديث أبي قتادة عند مسلم وأبي داود وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ضمن حديث طويل وفيه قصة، قال عليه الصلاة والسلام: ( ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى )، ودلالة الحديث على ذلك واضحة، فهو يدل على أن وقت كل صلاة ينتهي بدخول وقت الصلاة التي بعدها، ولا يوجد فاصل بينهما ولا وقت مشترك بينهما، الحديث صريح في ذلك، ولا يستثنى من ذلك إلا ما دل الدليل القاطع الصريح الواضح عليه.
فمثلاً: دل الدليل على أن وقت صلاة الفجر ووقت صلاة الظهر منفصلان، فينتهي الفجر بطلوع الشمس ولا يبدأ الظهر إلا بالزوال، وكذلك وقت صلاة العشاء الآخرة مع وقت صلاة الفجر هل هما متصلان أم منفصلان؟
المشهور أنهما منفصلان، فينتهي وقت صلاة العشاء بنصف الليل، ولا يبدأ وقت الفجر إلا بطلوع الفجر، وسيأتي ذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا وجه دلالة حديث أبي قتادة على ما ذهبوا إليه.
ومثله في الدلالة أيضاً حديث بريدة وغيره في أن وقت صلاة العصر يبدأ بانتهاء وقت صلاة الظهر.
وهذا القول هو الراجح لوضوح أدلته وعدم وجود ما يعارضها.
بماذا استدل أبو حنيفة على هذا القول؟
ليس له دليل واضح إلا ما رواه البخاري وغيره في صحيحه عن ابن عمر وأبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوما إلى نصف النهار، ثم تركوا العمل وقالوا: لا نريد أجرك، فاستأجر آخرين فعملوا إلى وقت صلاة العصر ثم تركوا العمل وقالوا: لا نريد أجرك، ثم استأجر قوماً فعملوا إلى المغرب فأعطاهم الأجر كاملاً ) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
الأولون هم اليهود، يعني: الذين عملوا إلى نصف النهار، والذين عملوا إلى العصر هم النصارى، والذين عملوا من العصر إلى الغروب هم المسلمون.
فاستدل بعض الأحناف بهذا الدليل على أن وقت صلاة العصر يبدأ حين يصير الظل مثليه، قالوا: لأنه لو كان يبدأ من مصير الظل مثله لكان ما بين الظهر والعصر وما بين العصر والمغرب متساوياً، والحديث يريد أن يبين أن ما بين العصر إلى المغرب أقل.
ولا شك أن هذا الاستدلال واهٍ وضعيف، والحديث مهما يكن فهناك اعتراضات كثيرة على هذا الاستدلال، لا أعتقد أن هناك داعياً لذكرها والوقت يتضايق معنا، فإن دلالة الحديث على ما أرادوا غير مسلمة، ولا يلزم أن يكون ما بين الظهر والعصر وما بين العصر والمغرب أحدهما أطول من الآخر، هذا ليس بلازم.
على أي حال هذا مذهب أبي حنيفة في المشهور عنه.
يقول ابن المنذر رحمه الله في الأوسط -وكذلك ابن عبد البر القرطبي - يقول: وقائل هذا القول قد خالف الأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر لا يدل عليه، ولا أعلم أحداً قال بهذه المقالة قبله، وقد خالفه في ذلك أصحابه، فبقي هذا القول منفرداً لا معنى له.
إذاً: في المسألة ثلاثة أقوال أصحها قول الجمهور أن وقت صلاة العصر يبدأ حين ينتهي وقت صلاة الظهر بمصير ظل الشيء مثله.
واستدلالهم بهذا الحديث غير مسلم، بدليل أن جبريل أم النبي صلى الله عليه وسلم في المغرب في اليوم الثاني لوقتها الأول، وفي لفظ: ( أمه بالمغرب حين أفطر الصائم )، فهل وقت المغرب ينتهي حين يفطر الصائم، وليس للمغرب إلا وقت واحد؟! الأمر ليس كذلك، بل وقت المغرب ينتهي حين يغيب الشفق، وكذلك أم جبريل النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الثاني لصلاة العشاء حين مضى ثلث الليل، فهل وقت العشاء ينتهي بثلث الليل؟
لا، إنما ينتهي وقت العشاء.
بنصف الليل، وكذلك أمه بصلاة الفجر حين أسفر الفجر.
إذاً: إمامة جبريل في اليوم الثاني هل هي دليل على تحديد آخر الوقت؟
لا؛ لأنها ما حددت آخر الوقت بالنسبة للمغرب ولا بالنسبة للعشاء، وكذلك الفجر فيه نظر؛ لأنه ينتهي بطلوع الشمس، فكذلك العصر لا نقول: إنه أمه في آخر الوقت، بل يحتمل أن يكون هذا آخر وقت الفضيلة فقط، أو آخر وقت الاختيار عند من يقولون بوجود تفريق بين الفضيلة والاختيار كبعض الشافعية، هذا استدلالهم.
وكذلك هذا مذهب جماعة من أهل العلم كـأبي يوسف ومحمد بن الحسن والثوري وغيرهم.
وأدلة هذا القول كثيرة: منها: أولاً حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس ).
ومنها حديث أبي موسى الأشعري حيث قال: ( وصلى العصر والقائل يقول: قد احمرت الشمس ).
والحديثان في صحيح مسلم وسبقا، وكذلك حديث بريدة حيث قال: ( وصلى العصر والشمس بيضاء نقية لم تخالطها صفرة ) وهو في صحيح مسلم أيضاً، ومثل حديث أبي هريرة عند الترمذي -وإن كان فيه مقال-: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( للوقت أول وآخر، وآخر وقت العصر إلى اصفرار الشمس )، هذا حديث أبي هريرة عند الترمذي، وقد رجح الترمذي المرسل عليه .
هذه بعض أدلتهم، وهي أدلة قوية غير مدفوعة تدل على أن الصحيح أن وقت صلاة العصر يمتد إلى اصفرار الشمس.
سيأتي بعدما أذكر القول الثالث، وهو قول ابن حزم وذكر عن إسحاق بن راهويه : أن وقت صلاة العصر يمتد إلى ما قبل غروب الشمس بركعة، يعني: وقت الاختيار إلى ما قبل غروب الشمس بركعة، وإن كان ابن حزم صرح في المحلى بأنه يكره تأخير العصر إلى اصفرار الشمس، يكرهه، يعني: مجرد كراهية فقط.
وأدلة هؤلاء ما رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر )، واستدلالهم بهذا واضح، وفي المسألة أقوال أخرى غير هذه، حتى إن ابن المنذر في الأوسط ذكر في المسألة ستة أقوال.
والخلاصة: أن القول الراجح هو أن وقت العصر يمتد إلى اصفرار الشمس أو احمرارها، ومعنى اصفرار الشمس أو احمرارها أن يرى الإنسان الصفرة أو الحمرة على الأرض وعلى الأبنية، وليس معناه اصفرار القرص كما ذكر ذلك ابن المنذر عن الأوزاعي، وكما قال ابن المنير في تفسير قوله: (والشمس حية) (والشمس بيضاء مرتفعة) قال: معنى قوله: (والشمس حية) أي: بقاء أثرها من القوة والإنارة والحرارة والإشعاع، وهذا لا يكون حين يصير الظل مثليه، نقله عنه الحافظ ابن حجر، هذا معنى قولنا: حين تصفر الشمس.
المشهور عند أهل العلم: نعم هناك فرق، فالشمس لا تصفر إلا بعدما يصير الظل مثليه بوقت، يعني: كون الظل مثليه يأتي قبل الاصفرار، وهذا هو المشهور عن الأئمة، بل إن من الأئمة من قال: يدخل وقت العصر بمصير الظل مثليه ويخرج بالاصفرار، وهذا ظاهر جداً أن هناك فرقاً كبيراً بينهما، وهو المشهور أيضاً عن الإمام أحمد وأكثر الأئمة، لكن قال بعض الفقهاء: إن مصير الظل مثليه هو وقت الاصفرار، يعني: الذي يجمع بين الأحاديث، وهذا ذكره ابن قدامة في المغني، قال: ولعلهما متقاربان، يكون أحدهما قريباً من الآخر، يعني: الاصفرار وكون الظل مثليه، وكذلك نقله الشنقيطي عن بعض المالكية كما في أضواء البيان، وهو مؤدى كلام ابن المنير، فإنه قال: وهذا -يعني: قوة الشمس وحياتها- لا يكون إذا صار الظل مثليه. فهؤلاء ثلاثة من الأئمة نقلوا احتمال التقارب.
ولكن من خلال ملاحظتي -وهي لاشك ملاحظة قاصرة، لكن حاولت أن أنظر- فظهر لي أن مصير الظل مثليه يكون قبل الاصفرار بوقت ليس بالقصير، ولذلك فإن هناك فرقاً بين هذين القولين ظاهراً، هناك فرق ظاهر بين هذين القولين.
هذا وقت الاختيار، أما المضطر كمريض يبرأ، أو صغير يبلغ، أو حائض تطهر، أو كافر يسلم، أو نائم يستيقظ، أو مجنون يفيق ومن في حكمهم، فهؤلاء يمتد وقت العصر بالنسبة لهم إلى ما قبل غروب الشمس بركعة كما سبق، بل قد يمتد أكثر من ذلك إذا احتاجوا إليه، كما إذا احتاج أحدهم في تحصيل ماء أو وضوء أو غسل أو غير ذلك، فهؤلاء حكمهم ليس حكم غيرهم.
هذا ما يتعلق ببدء وقت العصر وانتهائه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر