بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم صلّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
ننتقل إلى موضوع الصلاة والوارد فيها:
فأقول: ذكرنا في الأسبوع الماضي بعض الأحاديث الواردة في الصلاة والتعريف.. وما أشبه ذلك، وذكرت بعض الأحكام المتعلقة بوجوب الصلاة، فمن ذلك أولاً: حكم جاحدها، وتبين أن جاحد الصلاة كافر إجماعًا، وهل يستثنى من ذلك شيء؟ الجاهل الذي يعذر مثله، مثلما إذا كان جديد الإسلام أو نشأ في بادية بعيدة أو مناطق لا يوجد فيها علم ولا علماء، وقد اندرس الإسلام، فمثله يجهل، فهذا يعذر ويعلم وتقام عليه الحجة.
المسألة الثانية: من ترك الصلاة لعذر، فهذا يصليها إذا ذكرها، كما في الحديث: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك. ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:
وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي
[طه:14] ).
المسألة الثالثة: من ترك الصلاة مستخفًا بها أو من استخف بالصلاة، فهذا أيضًا حكمه أنه كافر كفرًا اعتقاديًا حتى ولو صلى، فهو كمن صلاها وهو لا يقر بوجوبها.
من تركها مستخفاً مستهيناً بها فهو يكفر، وينبغي أن يكون هذا إجماعاً، حتى ولو صلى فحكمه حكم من أنكر وجوب الصلاة، لأن الاستخفاف والاستهانة لا يصدر إلا من إنسان لا يقول بوجوبها.
عقوبة تارك الصلاة تهاوناً وأقوال العلماء فيها
النقطة الرابعة: من ترك الصلاة غير جاحد لها ولا مستخف، لكن تركها تهاونًا وكسلاً، فهذا يتعلق به حكمان:
الحكم الأول: تارك الصلاة تهاونًا وكسلاً هل يقتل أو لا يقتل؟
في المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول: وجوب قتله
القول الثاني: وجوب حبسه حتى يصلي أو يموت
حكم من أصر على ترك الصلاة حتى قتل
ولكن قبل أن أغادر مسألة قتل تارك الصلاة أشير إلى مسألة افترضها الفقهاء افتراضًا، وينبغي أن ينتبه إليها، وهي: أنهم تنازعوا فيما إذا قتل تارك الصلاة هل يقتل كفرًا أو يقتل حدًا؟
إذا قتل تارك الصلاة هل يكون قتله كفرًا أو حدًا، وهذه مما ينبغي أن لا يكون فيها نزاع: أنه يقتل كفرًا، بمعنى: أن الإنسان الذي يحبس ويستتاب ويصر على ترك الصلاة ثم يعرض على السيف ويظل مصرًا على ترك الصلاة هل يتصور من مسلم هذا؟ ما يمكن أن يتصور من مسلم أبدًا، يعني: إنسان يفضل الموت شر ميتة على أن يصلي، هل يتصور أن هذا مسلم؟ لا يتصور، ولا ينبغي أن يكون في هذه المسألة خلاف بين العلماء، وهي في الواقع مسألة افتراضية جدلية.
وعلى الصعيد العلمي: لا نتصور إنساناً يصر على ترك الصلاة حتى الموت ويعرض على السيف ويصر على الترك إلا إنساناً كافراً كفرًا اعتقاديًا أصليًا، بمعنى: أنه مثل أن يكون صاحب معتقد شيوعي أو ملحد يريد أن يثبت للناس أنه على دين وعلى مبدأ، ويريد أن يدعو الناس إلى دينه ومبدئه من خلال الإصرار عليه، فيصر على ترك الصلاة، أما جمهور الناس الذين يتركون الصلاة ويصرون على تركها، فإذا عرضوا على السيف فإنهم يصلون، بل منهم من إذا هدد برزقه أو بتوبيخه أو بإشهاره فإنه يصلي، ويصلي مع الجماعة أيضًا.
فـ لا ينبغي أن يكون هناك خلاف في أن من أصر على ترك الصلاة حتى قتل فإنه يقتل كافرًا؛ وحينئذ حكمه حكم الكافر في أنه لا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين.
حكم تارك الصلاة وأقوال العلماء فيه
أما المسألة الثانية: فهي مسألة الاختلاف في كفر تارك الصلاة، وهي الأخرى فيها قولان:
القول الأول: عدم كفر تارك الصلاة تهاوناً
القول الثاني: كفر تارك الصلاة تهاوناً
الراجح في حكم تارك الصلاة تهاوناً
الراجح: أن تارك الصلاة كافر لقوة الأدلة. ولأن أدلة الآخرين يمكن الإجابة عليها، فمثلاً: حديث
حذيفة يقال بأن هؤلاء قوم جهال، ما بلغهم أمر الصلاة؛ ولذلك قال: لا يدرون، والجاهل -كما سبق- يعذر بجهله إذا كان مثله يجهل، ولم يتسنّ له سبيل العلم.
أما أحاديث الرجاء فهي أحاديث عامة، ولابد من التوفيق بينها وبين غيرها من النصوص الأخرى، وكذلك حديث أبي هريرة : (إلا بحقها)، فمن حق الشهادة: أن يلتزم بمقتضياتها والتي منها: إقام الصلاة.
ومما يؤكد أن تارك الصلاة كافر: إطلاق لفظ الكفر عليه كما في حديث جابر، ووصفه بأنه كفر كما في حديث بريدة، وأن هذا من سيماء المكذبين، كما قال:
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
[المرسلات:48-49] .. إلى غير ذلك من الأدلة، فالصحيح أن تارك الصلاة كافر كفرًا أكبر مخرجًا من الملة.
معنى ترك الصلاة
لكن في هذا المقام لابد من تنبيه مهم جدًا أرجو الانتباه إليه: وهو ما معنى ترك الصلاة؟ هل المعنى أنه إن ترك وقتاً واحداً يكفر؟ أو من ترك الصلاة وما يجمع إليها: كأن يترك الصلاة -مثلاً- حتى يخرج وقت العصر، أو يترك صلاة المغرب حتى يخرج وقت العشاء؟ أو يترك وقتين أو أربعة أوقات أو حتى يتضايق وقت الرابعة؟ أو يترك صلاة يوم كامل؟ أو يترك الصلاة بمعنى: أنه يعتاد تركها حتى يُعلم منه الاستنان بها؟ كل هذه أقوال.
لكن الراجح منها: أنه لا يكفر إلا بترك الصلاة بالكلية، بمعنى: أنه لا يصلي لا ليلاً ولا نهارًا، لا جمعة ولا جماعة لا في رمضان ولا في غيره، بل يترك الصلاة ويصر على تركها، فهذا الذي نقول عنه: إنه كافر.
أما من كان يصلي حينًا ويترك حينًا ويصلي وقتًا ويترك وقتًا، ويصلي الجمعة ويصلي في رمضان ويصلي بعض الأوقات؛ فهذا لا يكفر؛ لأنه لا يقال عنه: إنه تارك للصلاة بالكلية، إنما هو تارك صلاة أو صلوات، لكن ليس تاركًا للصلاة المعرفة بـ (أل) تركًا كليًا، وقد أفتى شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بهذا في مواضع عديدة من الفتاوى، منها: في الجزء الثاني والعشرين (ص:49)، ومنها: في الجزء الرابع والعشرين (ص: 287)، ومنها: في الجزء السابع (ص: 617) ومواضع أخرى كثيرة.
وخلاصة كلمة شيخ الإسلام -رحمه الله- في هذا: أنه سئل عمن يترك الصلاة أحياناً هل يصلى عليه؟
فقال: إن مثل هذا -من يصلي حيناً ويترك حيناً- ما زال المسلمون يصلون عليه، لكن إن رأى أهل العلم والدين أن يتركوا الصلاة عليه من باب الهجر والتأديب لغيره، وحتى يرتدع من ترك الصلاة فيقبل عليها؛ فإن هذا حسن، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة على الغال، والصلاة على قاتل نفسه، والصلاة على من عليه دين، وهذا شر منهم، يعني: الذي يترك الصلاة أحيانًا.
وقال: إن كثيرًا من الناس -بل أكثرهم- في كثير من الأمصار لا يحافظون على الصلاة، بل يصلون أحيانًا ويتركون أحيانًا، ومثل هؤلاء يعتبرون مسلمين، وما زال المسلمون يجرون بين هؤلاء أحكام الإسلام من التوارث والصلاة وغيرها، ويعتبرون مسلمين، وهم داخلون تحت الوعيد الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة في السنن: ( خمس صلوات كتبهن الله، من حافظ عليهن وأقام وضوءهن وركوعهن وسجودهن كان له عهد عند الله، ومن لم يفعل لم يكن له عهد عند الله )، فالذي لم يفعل هو الذي يصلي حينًا ويترك حينًا، وإلا فهؤلاء الذين يصلون حينًا ويتركون حينًا داخلون عمومًا في مسمى المسلمين، ويعاملون معاملة المسلم في الزواج والتوارث والصلاة عليهم وغيرها، هذا خلاصة الفتاوى المتعددة التي ذكرها شيخ الإسلام رحمه الله في هذا المواضع.
شروط تكفير تارك الصلاة
بقي أن أشير أيضًا إلى قضية مهمة: وهي أنه لا يحكم بكفر شخص معين -كتارك الصلاة بالكلية- إلا بشرطين، شخص تارك الصلاة بالكلية لا يحكم بتكفيره إلا بشرطين:
الشرط الأول: وجود المقتضي، بمعنى: أن نعلم ونجزم ونقطع بأن هذا الإنسان تارك للصلاة تركًا كليًا لا جمعة ولا جماعة، لا يصلي ليلاً ولا نهارًا في وقت من الأوقات، فهذا وجد فيه السبب الموجب لكفره، فلابد من الشرط الثاني أيضًا، وهو زوال المانع: أن نعلم أنه لا يوجد مانع يمنع هذا الإنسان من الصلاة.
وزوال المانع يقتضي: أن نقيم عليه الحجة ونناقشه، فإذا علمنا: أنه يعرف وجوب الصلاة، وأن تاركها كافر كفرًا أكبر مخرجًا من الملة، ومع ذلك يصر على تركها؛ فحينئذٍ يحكم بكفره، أما ما دام هناك شبهة توجب التوقف فيه فيجب أن نتوقف، وأن نخطئ في العفو خير من أن نخطئ في العقوبة، يترتب على الحكم على شخص بأنه تارك للصلاة بأنه كافر، جعلني الله وإياكم من المصلين الذين هم على صلاتهم دائمون، والذين هم على صلواتهم يحافظون، والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.