ونبدأ هذا الدرس بإنهاء الحديث الأخير، من أحاديث الحيض، وهو حديث أم سلمة في موضوع النفاس، ثم ننتقل بعد ذلك إلى المناقشة.
وحديث أم سلمة رضي الله عنها هو في قدر النفاس، وفيه ( أن النفساء كانت تقعد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم بعد نفاسها أربعين يوماً )، واللفظ الآخر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمرها بقضاء صلاة النفاس ).
أولها: ما يتعلق بالكلام على الحديث.
الحديث رواه الخمسة إلا النسائي كما ذكر المصنف، ورواه أيضاً البغوي، والدارمي، وابن أبي شيبة، وابن حبان في كتاب المجروحين له، والدارقطني، والبيهقي، والحاكم .. وغيرهم.
وقال الترمذي عقب روايته: حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي سهل عن مسة الأزدية، ومن المعلوم أن الترمذي إذا أطلق كلمة (غريب) على الحديث فالمعنى أنه ضعيف، فـالترمذي ضعف الحديث بـمسة الأزدية هذه، وكذلك ضعفه ابن حزم في المحلى بـمسة نفسها، وذلك أن مسة غير معروفة، قال عنها الدارقطني : لا تقوم بها حجة، وقال ابن القطان : لا يعرف حالها. وقال ابن حجر في التقريب : مقبولة. ومعنى (مقبولة) أي: حيث تتابع، وإلا فهي لينة الحديث؛ وذلك لأنها مجهولة الحال، لم يذكرها أحد بعدالة ولا جرح، ولم تثبت رواية عدد من الرواة عنها.
الثابت رواية أبي سهل وهو كثير بن زياد عنها، وروى عنها غيره أيضاً.
على كل حال! على فرض ارتفاع جهالة عينها فحالها مجهولة، وهي علة ضعف هذا الحديث.
وقد ذهب علماء آخرون إلى تحسينه، فممن نقل عنه تحسينه أو تصحيحه الحاكم والذهبي، وكذلك النووي نص في عديد من المواضع على أنه حديث حسن، وحسنه من المعاصرين الألباني، كما في إرواء الغليل، وفيما يتعلق باللفظ الآخر من الحديث، فإنه رواية أخرى بنفس الإسناد عن أبي سهل عن مسة الأزدية، وقد رواه أبو داود كما أشار المصنف، ورواه أيضاً الترمذي وابن ماجه، والترمذي أعل الرواية الثانية وهي قوله: ( ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس ) أعله الترمذي كما في العلل الكبير له بأنه منكر المتن، قال: هذا الحديث منكر المتن؛ وذلك لأن الحديث في أوله: ( كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم )، لاحظوا! (كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم تقعد في النفاس أربعين ليلة، فلم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس)، فقال الترمذي : إن الحديث منكر المتن؛ لأنه لم يقع نفاس لأحد من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إلا خديجة، وكان زواج النبي صلى الله عليه وسلم بها في مكة، وماتت كما هو معروف في مكة أيضاً.
فأنكر الحديث لقوله: (من نساء النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي هذا الإنكار نظر من جهة أن قولها: (من نساء النبي) تشمل بناته وإماءه وقريباته من النساء، فليست نصاً في زوجاته فحسب، كما ذكر الترمذي رحمه الله، فإنكاره لمتن الحديث ليس بقوي.
رواية أم سلمة الثانية المصنف ما ساقها بأكملها، بل ساق آخرها، وهو قوله: ( ولم يأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بقضاء صلاة النفاس ). فقلت: إن أول الرواية أول الحديث النص الثاني: ( كانت المرأة من نساء النبي صلى الله عليه وسلم )، وهذا الذي أنكره الترمذي، وأنكر الحديث لأجله.
والنفاس في الشرع: هو دم يرخيه الرحم بسبب الولادة، ويكون مصحوباً بطلق، ويخرج غالباً بعد الولادة، وقد يخرج معها أو قبلها أحياناً.
والمقصود بالولادة والنفاس الذي يكون بسببها: هو خروج ما فيه شيء من التخليق، وأما إذا أسقطت المرأة قطعة لحم، ليس فيها شيء من التخليق، ولا بان فيها شبه الإنسان، فإن هذا لا يعد نفاساً، والغالب أن الطفل إذا سقط، أو أن السقط إذا سقط بعد تسعين يوماً، فإنه يكون فيه شبه الإنسان، بل قد يكون ذلك بعد ثمانين يوماً؛ لأنه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، فيبدأ التخليق بعدها، فهذا هو النفاس.
مسألة: أقل النفاس، ما أقل النفاس؟ اختلف العلماء في ذلك، فالجمهور على أن أقل النفاس دفعة واحدة، يعني دفعة واحدة من الدم، وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد والأوزاعي ورواية عن أبي حنيفة، فهو مذهب الجمهور.
ولـأبي حنيفة رواية أخرى في المسألة: وهي أن أقله أحد عشر يوماً، فهذا قول ثانٍ، وله رواية ثالثة: أن أقل النفاس خمسة وعشرون يوماً، وقيل: ثلاثة أيام، وقيل: أربعة، وقيل: يوم.
والصحيح أن النفاس لا حد لأقله، فقد يكون دفعة، ثم تطهر المرأة فتغتسل وتصلى وتصوم، بل قد لا يقع لها دم أصلاً، يعني: قد يحدث وإن كان نادراً أن تلد المرأة، ثم لا يخرج منها دم أصلاً، لا مع الولادة ولا بعدها ولا قبلها.
وقد ورد في حديث غريب: ( أن امرأة ولدت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل معها دم، فسميت ذات الجفوف)، والجفوف هو الجفاف.
فعلى كل حال! لو فرض أن امرأة ولدت ولم ينزل معها دم مطلقاً مع الولادة كم تقعد في النفاس؟
لا تقعد شيئاً، بل اختلف العلماء: هل يجب عليها غسل أم لا يجب؟ والأظهر -والله تعالى أعلم- أنه لا يجب عليها غسل، إذا ثبت عدم خروج الدم منها؛ لأن الظاهر أن موجب الغسل هو خروج الدم منها.
على كل حال! مسألة وجوب الغسل عليها فيها خلاف، لكن مسألة القعود لا تقعد ما دامت لم تر دماً.
هذا ما يتعلق بأقل النفاس.
والقول الثاني: أنها تقعد خمسين يوماً، وهذا مذهب الحسن البصري .
والقول الثالث: أنها تقعد ستين يوماً، وهذا هو مذهب الشافعي الصحيح المذكور في كتب الشافعية، وإن كان الترمذي رحمه الله نقل عن الشافعي مثل رأي الجمهور، لكن هذا غريب، بل المعروف من مذهب الشافعية أنه ستون يوماً، وهو رواية عن مالك وداود الظاهري وأبي ثور .
وقيل: سبعون يوماً، وهذه أيضاً رواية عن مالك، وقيل غير ذلك، وابن حزم يقول: سبعة أيام، يعتبر أن حكم النفاس حكم الحيض، فيقول: تجلس سبعة أيام ويحتج بحديث حمنة : ( تحيضي في علم الله ستة أيام أو سبعة أيام ) .
وقيل: أربعة عشر يوماً. وقيل: إنه للذكر ثلاثون يوماً، وللأنثى أربعون، وهذا ذكره الأوزاعي عن أهل الشام .
وقيل: لا حد لأكثره، بل ما دامت ترى الدم متصلاً ثم انقطع فهو دم نفاس، أما إذا اتصل ولم ينقطع فهو حينئذ دم استحاضة وفساد.
وحجة القائلين بأربعين يوماً هو حديث الباب، حديث أم سلمة وشواهده التي سقت رواتها، وأنه هو الغالب على النساء، وكذلك دليل ابن حزم ذكرته، أما ما عدا ذلك من الأقوال، فهي اجتهادات بحسب ما يلحظ الفقيه، أو العالم من حال النساء في عصره، وفي بلده، وليس عليها أدلة قوية، بل هي أقوال متقابلة، ولذلك أقول فيما يتعلق بأكثر النفاس: إن من أخذ بالأربعين، ووقف عندها، وقال: ما زاد عليها فهو دم استحاضة وفساد، تصلي فيه المرأة وتصوم بعد اغتسالها، فلا تثريب عليه ولا حرج؛ لأنه أخذ بقول ذهب إليه جمهور أهل العلم، كما رأيتم، ودل عليه حديث أم سلمة وشواهده، وإن كانت ضعيفة، لكن يوجد من حسن الحديث، أو صححه، فمن أخذ بالأربعين فلا حرج عليه، ولا تثريب ولا بأس.
أما إذا أردت أن تحرر المسألة، وتقف عند الأدلة، وتأخذ بالقول الذي لا يوجد عليه مناقشة تضعفه فالأقرب عدم التحديد، كما أننا لم نحدد في أقله، كذلك لا نحدد في أكثره، وكما أنه لم يحدد في أقل الحيض وأكثره، لا يحدد في أقل النفاس وأكثره، بل يقال: ما تراه النفساء من دم مع الطلق قبل الولادة أو أثناءها أو بعدها فهو نفاس، حتى ينقطع، ولو وصل إلى خمسين يوماً أو ستين، أو تجاوز ذلك، فإذا استمر معها ولم ينقطع فحينئذ ما هو الحل؟ هذا السؤال موجه إليكم لأنه مر معنا أيضاً في باب الحيض، إذا استمر الدم معها ولم ينقطع، فماذا تصنع؟
إذا استمر الدم ولم ينقطع، رجعنا إلى العلامات السابقة في تمييز الاستحاضة عن الحيض، وهنا ثلاث حالات: إن كان للمرأة عادة فإنها ترد إلى عادتها، وإن كان لها تمييز، فإنها ترد إلى تميزها، وإن لم يكن لها عادة ولا تمييز، فإنها ترد إلى ماذا؟ إلى عادة غالب النساء.
وهذا الكلام كررناه مراراً في موضوع الحيض، فنطبقه الآن في باب النفاس، فنقول: إذا استمر الدم مع المرأة وطال ولم ينقطع، عُلِمَ بأنه حينئذ ليس نفاس، بل هو استحاضة، فتقول المرأة: ما حكمي؟ ماذا أصنع حينئذ؟ نقول: هل لكِ عادة معروفة؟ يعني: سبق أن ولدتِ ونفستِ؟ قالت: نعم، وكنت أجلس أربعين يوماً في نفاسي السابق، نقول: إذاً تعودي إلى ماذا؟ إلى أربعين، فما زاد على الأربعين فهو استحاضة. قالت: والله لا، هذا أول مولود، فليس لي عادة سابقة، فما هو الحكم حينئذ؟
ترد إلى التمييز، فنقول: تمييز الدم، إذا تميز الدم بحيث قالت: إن الدم بعد الأربعين أو بعد خمس وأربعين تميز واختلف عن لون الدم المعروف، فحينئذ نقول: ما بعد هذا التمييز، فهو استحاضة، وما كان قبله وهو الدم المعروف، فهو دم نفاس.
وإذا لم يتميز معها الدم، بل استمر معها دم كدم النفاس المعروف طيلة أيامها وأوقاتها، فحينئذ نقول لها بأن ترجع إلى عادة غالب النساء في النفاس وهي أربعون يوماً، هذا أمر معروف تاريخاً وواقعاً، فهذا ما يتعلق بأكثر النفاس.
الأول: أنه قد يتبادر إلى ذهن البعض أن الشارع لم يأمر الحائض بقضاء الصلاة؛ نظراً لأن الحيض يتكرر ويعتاد، فيشق عليها قضاء الصلاة، ولذلك أمرت بقضاء الصوم؛ لأن الصوم لا يتكرر، فلما كانت الصلاة تتكرر، والحيض يعتاد المرأة كل شهر، كان في أمرها بقضاء الصلاة مشقة عليها، فقد يتوهم البعض أن النفاس يختلف عن الحيض، باعتبار أنه لا يتكرر ويعتاد المرأة كل شهر، فبين أن حكم النفاس كحكم الحيض في ذلك.
السبب الثاني: هو أنه نقل بعض المصنفين وجهاً للشافعية، في أن المرأة لو تسببت في إسقاط الجنين ميتاً، أنها لا تقعد؛ لأنها عاصية، يعني: لو امرأة استخدمت دواء ليسقط الجنين من بطنها ميتاً، ففعلت وسقط الجنين ميتاً، فهنا وجه لبعض فقهاء الشافعية، أو وجه ذكره بعض فقهاء الشافعية، أنها لا تقعد حينئذ، بل تصوم وتصلي؛ لأنها عاصية، وهذا الوجه لا شك أنه مردود مطرح، لكن قد يكون هو السبب في سياق الرواية الثانية التي ساقها المصنف.
وعلى كل حال! فحكم النفاس كحكم الحيض، في أن المرأة فيه لا تصوم ولا تصلي وهذا إجماع ذكره ابن جريج والنووي والشوكاني وغيره من أهل العلم: أن النفساء والحائض لا تصوم ولا تصلي، وفي سائر الأحكام، إلا ما استثني وهي أحكام معدودة، من أبرزها: أن النفاس لا يثبت به البلوغ، ليس من علامات البلوغ، بخلاف الحيض فإنه من علامات البلوغ؛ لأن المرأة قد تبلغ قبل الحيض، لكن الحيض هو أحد العلامات، وأما بالنسبة للنفاس فإنه علامة على بلوغ المرأة قبل نفاسها بإنزالها وحملها.
وكذلك ذكر الفقهاء فروقاً أخرى، غالبها مختلف فيه.
هذا ما يتعلق بحديث أم سلمة، وبالانتهاء منه نكون انتهينا بحمد الله من كتاب الطهارة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر