إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة! اليوم نبدأ بحديث علي رضي الله عنه وهو حديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم القرآن ما لم يكن جنباً ) .
والحديث رواه أيضاً غير الخمسة: ابن خزيمة، وابن حبان، والبيهقي، والحاكم، والبزار، والدارقطني وغيرهم، وصححه جمع من أهل العلم، فممن صححه الترمذي، قال: هذا حديث حسن صحيح، كما أشار إليه المصنف. وممن صححه أيضاً الحاكم، فإنه رواه في مستدركه وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، وكذلك صححه ابن خزيمة، وابن حبان، والبغوي في شرح السنة، وابن السكن، وعبد الحق الإشبيلي.
وحسنه آخرون، فممن حسنه ابن حبان، يعني صححه أو حسنه؛ لأنه ساق في صحيحه الصحيح والحسن، والأولى أن نقتصر على ما ذكر المصنف أنه حسنه، وكذلك حسنه الحافظ ابن حجر في فتح الباري، فإنه قال بعدما ذكر الكلام فيه: والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة.
وكذلك صححه من المعاصرين الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على الترمذي، وذكر ابن خزيمة عن شعبة أنه قال: هذا الحديث ثلث رأس ماله. وهذا يحتمل أن يكون من شعبة توثيقاً أو تصحيحاً لهذا الحديث، ويحتمل غير ذلك، فليس نصاً في تصحيحه.
وبالمقابل ضعفه آخرون، فممن ضعف الحديث الشافعي، فإنه قال: لا يثبت أهل الحديث مثله، أو قال: لم يكن أهل الحديث يثبتونه. وقد نقل كلمته هذه (لم يكن أهل الحديث يثبتونه) البيهقي في سننه، وبين أن سبب تضعيف الشافعي للحديث: أن مداره على عبد الله بن سلمة بكسر اللام الكوفي، وقد كبر وأُنكر من حديثه وعقله بعض النكرة، وقد حدث بهذا الحديث بعدما كبر، قاله شعبة .
إذاً: البيهقي هو الآخر يوافق الشافعي على تضعيف هذا الحديث.
وممن ضعفه أيضاً النووي، بل نسب النووي تضعيف هذا الحديث للأكثرين، قال: الأكثرون خالفوا الترمذي في تصحيح هذا الحديث، فهو يرى أن أكثر أهل العلم قد ضعفوه. وكذلك ممن ضعفه من المعاصرين الشيخ الألباني .
وحجة من ضعفوا هذا الحديث كما ذكرت: أن في إسناده عبد الله بن سلمة وهو قد كبر وتغير، تغير بأخرة وأصبح ينكر بعض حديثه، وهذا من الأحاديث التي رواها بعدما كبر، يدل على ذلك قول شعبة السابق الذي نقله البيهقي أنه قد حدث بهذا الحديث بعدما كبر.
وكذلك يدل عليه أن راوي هذا الحديث عنه -وهو عمر بن مرة -قال- كما ذكر البخاري -: كان عبد الله بن سلمة يحدثنا فنعرف وننكر، يعني: نعرف بعض الحديث وننكر بعضه. فهذا يبين أنه روى هذا الحديث بعدما كبر، وبذلك يتبين أن الحجة مع من ضعف هذا الحديث، ولم يصب الإمام الشوكاني حين استدرك على من ضعفوه وصححه وقواه.
هذا فيما يتعلق بعلة الحديث.
وهذا الحديث دليل لمن قالوا بتحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأنهم قالوا: إن امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن مع حرصه على ذلك، وأنه موكل بتبليغه، دليل على أنه لا يجوز له أن يقرأ وهو جنب. وهذا الاستدلال يمكن أن يناقش من جانبين:
أولاً: ضعف الحديث كما سبق؛ لأننا نقول: أثبت الحجر ثم انقش، وما دام لم يثبت الحديث فلا يثبت الاستدلال به على حكم شرعي.
ثانياً: على فرض ثبوت الحديث فإنه لا يدل على تحريم قراءة القرآن على الجنب؛ لأنه مجرد فعل من النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يمتنع عن قراءة القرآن بسبب الجنابة، أما كون هذا الأمر محرماً أو مكروهاً فالحديث ليس فيه نص على ذلك، وقد ثبت من حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا البخاري : ( أن رجلاً سلم على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول، فلم يرد عليه السلام ).
وفي صحيح مسلم أيضاً من حديث أبي الجهم أو أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل فسلم عليه رجل، فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام، حتى أتى الحائط فتيمم ثم رد عليه السلام ) .
وجاء في رواية أنه قال: ( كرهت أن أذكر الله وأنا على غير طهارة )، فكون النبي صلى الله عليه وسلم ترك الذكر مطلقاً في هذه الأحاديث لأنه على غير طهارة، لم يأخذ منه أحد من أهل العلم أنه يحرم ذكر الله لغير المتوضئ، بل أجمعوا على أنه يجوز للإنسان أن يذكر الله، بل وأن يقرأ القرآن عن ظهر قلب إذا لم يكن عليه حدث أكبر.
فيمكن أن يقال في حديث علي هذا: إن امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن قراءة القرآن على سبيل الكراهية لذلك لا على سبيل التحريم، وبذلك يتبين أن الاستدلال بهذا الحديث على تحريم قراءة القرآن على الجنب ليس بقوي، لكن لم ينفرد هذا الحديث بهذه الدلالة، بل استدل القائلون بتحريم قراءة القرآن على الجنب وهم جماهير أهل العلم كما سلف في حديث عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يذكر الله في كل أحيانه )، في باب نواقض الوضوء، أن هذا رأي الجماهير من أهل العلم أقول: لم ينفرد هذا الحديث بهذه الدلالة، بل استدلوا بأحاديث أخرى غيره تدل على منع الجنب من قراءة القرآن.
من الأدلة حديث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه الذي رواه الدارقطني وغيره، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : رويناه من وجوه صحاح: ( أن امرأته وجدته مع جاريته فهمت به وذهبت وأتت بالسكين كأنها تريد أن تضربه بها، فقال لها: لا تعجلي، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نقرأ القرآن ونحن جنب، وإنني سأقرأ عليكِ شيئاً من القرآن، فقرأ عليها شيئاً من القرآن، هذه رواية، وفي رواية أخرى: أنه قرأ عليها أبياتاً من الشعر: شهدت بأن وعد الله حق وأن النار مثوى الكافرينا وأن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا وتحمله ملائكة شداد ملائكة الإله مسومينا فألقت بالسكين وسكتت عنه، فأخبر
أولاً: أن الحديث يدل على أن هذا الأمر كان مشتهراً عندهم ومعروف في مجتمعهم، فكان يعرفه هو، وتعرفه زوجته، ويعرفه غيرهم.
وثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك ولم ينكر عليه، ولم يقل له: لا يجوز لك أن تقرأ القرآن وأنت جنب. وهذا الحديث فيه ضعف وانقطاع.
وهناك أدلة أخرى أيضاً لهم غير حديث عبد الله بن رواحة، منها: حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، والحديث رواه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، وهو من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين، وروايته عن الحجازيين ضعيفة، فهذا الحديث أيضاً ضعيف.
ومن أدلتهم أيضاً ما رواه الإمام أحمد، وأبو يعلى عن أبي الغريف الهمداني بالغين وآخره الفاء، عن علي رضي الله عنه أنه قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، أما الجنب فلا ولا آية ) يعني: لا يقرأ ولا آية. والحديث كما ذكرت رواه أحمد وأبو يعلى، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجاله موثقون. ولعله والله أعلم حين يقول: موثقون يعني: وثقهم أبو حاتم بن حبان، وابن حبان من المشهورين بالتسامح في التوثيق، فإنه وثق جماعة من المجهولين الذين انفرد هو بتوثيقهم، وأبو الغريف هذا الذي في إسناد الحديث لم يوثقه إلا ابن حبان، وضعفه غيره كـأبي حاتم الرازي، وبناء عليه فالحديث ضعيف.
وقد رواه الدارقطني موقوفاً على علي: (أن علياً رضي الله عنه خرج فقرأ عليهم شيئاً من القرآن، ثم قال: هكذا لمن ليس بجنب، فأما الجنب فلا ولا آية)، وصحح الدارقطني الموقوف على علي .
فهذه أربعة أدلة تدل على أن الجنب لا يجوز له أن يقرأ شيئاً من القرآن، وإذا نظرنا في هذه الأدلة نلاحظ أنها كلها ضعيفة، وإذا كانت جميع الأدلة ضعيفة فهل يثبت الحكم المبني عليها وهو تحريم قراءة القرآن على الجنب؟ هل يثبت الحكم أو لا يثبت؟
الأحاديث الأربعة كلها اشتركت في الدلالة على أمر، وهو أن الجنب لا يقرأ القرآن على تفاوت في الدلالة، فمثلاً حديث ابن عمر صريح في أنه لا يجوز: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن )، وكذلك حديث علي الأخير حديث أبي الغريف عن علي، ومثله حديث ابن رواحة، أما حديث الباب فدلالته محتملة كما ذكرت، ليس صريحاً في الدلالة على المنع، فنقول: إن مجموع هذه الأدلة الأربعة يدل على قضية مشتركة وهي منع الجنب من قراءة القرآن، وهذا القدر اتفقت هذه الأدلة عليه، فيمكن أن يقال بثبوته، وإن كان كل دليل على انفراده ضعيفاً إلا أن مجموع هذه الأدلة يثبت هذه القضية، لكن الأمور الأخرى الموجودة في هذه الأحاديث لا تثبت إلا بدليل آخر.
مثلاً تحريم قراءة القرآن على الحائض نقول: نحتاج إلى أدلة أخرى تقوي الحديث الوارد فيه؛ لأنه ضعيف، ولم يأت أدلة أخرى، فيبقى الأصل على عدم المنع منه، لكن بالنسبة للجنب جاءت أدلة كثيرة تدل على المنع، فذهب جماهير أهل العلم إلى ذلك، وهو الذي رجحته حين بحثت هذه المسألة في الموضع الذي سبق أن أشرت إليه في الحديث رقم أربع وثمانين.
فالذي أراه أن قراءة القرآن للجنب محرم، فلا يجوز للجنب أن يقرأ القرآن؛ لأن هذه الأدلة الأربعة بمجموعها تدل على ثبوت هذا الحكم، وإن كان كل دليل منها على انفراد ضعيفاً، وقد ذكرت هذا في الموضع السابق، ولا نقول: إنها تعتضد؛ لأن الاعتضاد يلزم أن يكون الحديثان يشتركان في كل شيء، يعني: نحن إذا قلنا مثلاً: إن هذا الحديث اعتضد بذاك، معناه: أن كل المسائل الموجودة في الحديث أصبحت مقبولة، يعني: مثلاً لو قلنا: حديث ابن عمر : ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) ضعيف بنفسه؛ لكنه حسن لغيره، في الأحاديث الأخرى يعترض علينا بأن حديث ابن عمر انفرد بمسألة، وهي أن الحائض لا تقرأ القرآن، وأنتم رجحتم فيما سبق أنه يجوز لها أن تقرأ، فنحتاج لأن نقول بمنع الحائض من قراءة القرآن لأحاديث أخرى أيضاً تشهد لهم، إنما المسألة المشتركة هي منع الجنب من قراءة القرآن موجودة في الأحاديث الأربعة كلها.
زاد الحاكم : ( فإنه أنشط للعود ).
وأما الرواية الثانية وهى رواية الحاكم التي فيها: ( فإنه أنشط للعود ) فإنه قد رواها أيضاً البيهقي في سننه، والبغوي في شرح السنة، وابن خزيمة، وابن حبان في صحيحه، كما في كتاب الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان، وإسناده هذه الزيادة صحيح، فالحديث صحيح بروايتيه.
والحديث دليل على استحباب الوضوء للإنسان إذا أراد أن يعود إلى الجماع، سواء أراد أن يعود إلى جماع امرأته الأولى أو إلى غيرها، وهذه المسألة فيها خلاف يسير، فإن الجمهور من أهل العلم كالأئمة الأربعة وغيرهم قالوا بالاستحباب فحسب دون إيجاب، وحجتهم في الاستحباب هذا الحديث، فإنه أمر عليه الصلاة والسلام بأن يتوضأ الإنسان بينهما، وأما حجتهم في صرف الأمر في الحديث عن الوجوب إلى الاستحباب، فلهم في ذلك حجج، منها:
أولاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل بقوله: ( فإنه أنشط للعود )، وهذا التعليل يشعر بأن القضية تتعلق بأمر يخص نشاط الرجل في الجماع، وليس يتعلق بأمر شرعي، فهو أمر إرشاد وتوجيه لا أمر حتم وإلزام، فالعلة مشعرة بعدم الوجوب.
وكذلك مما قد يستدل به على عدم الوجوب ما ورد في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه في غسل واحد )، يعنى: جامع نساءه التسع كلهن ولم يغتسل إلا في آخر ذلك، ولم يذكر أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بين كل جماع وآخر، وهذا لا شك ليس صريحاً في عدم وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، فيحتمل أنه توضأ ولم ينقل ذلك أنس رضي الله عنه، لكنه مما استأنسوا به في صرف الأمر عن الوجوب إلى الاستحباب.
إن القول باستحباب ذلك فقط هو الصحيح، وهو ظاهر إن شاء الله تعالى، بل إنه يستحب للإنسان أن يغتسل بين الجماعين لا أن يتوضأ فحسب، والدليل على استحباب ذلك ما رواه أصحاب السنن وأحمد وغيرهم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه وكان يغتسل عند كل واحدة منهن، فقال له أحد الصحابة وهو من موالى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
فالسنة والأفضل للإنسان أن يغتسل بين الجماعين، فإن اقتصر على الوضوء فهو أيضاً مسنون، فإن لم يغتسل ولم يتوضأ فهو جائز ولا شيء في ذلك.
وفيما يتعلق بحديث أبي رافع هذا: (أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل عند كل امرأة من نسائه)، فإنه يظهر فيه التعارض مع حديث أنس، أو قد يظن فيه التعارض مع حديث أنس الذي قبله، حديث أبي رافع عند أصحاب السنن وأحمد : أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل عند كل امرأة من نسائه التسع، أما حديث أنس في الصحيحين ففيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف عليهن جميعاً في غسل واحد، فمن العلماء من رجح حديث أنس، وهذا الذي صنعه أبو داود في سننه، فإنه بعد أن روى حديث أبي رافع رجح عليه حديث أنس، وحديث أبي رافع حديث حسن قواه ابن حجر وغيره، وقواه من المعاصرين الألباني، حسنه كما في تمام المنة في التعليق على فقه السنة .
وبناء على ذلك فكلا الحديثين صحيح ولا تعارض بينهما، فإننا نقول: إن الغسل سنة، وما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي رافع هو لبيان الأفضل، وما فعله في حديث أنس فهو لبيان الجواز.
ومثل ذلك فيما يتعلق بمشروعية الوضوء بين الجماعين، الغسل كما ذكرت، فأما الغسل فهو إجماع أنه مستحب وليس بواجب، كما ذكر ذلك الشوكاني في نيل الأوطار : أن الغسل مستحب بين الجماعين وليس بواجب، أما الوضوء فقد ذكرت أن رأي الجماهير أنه مستحب، وذهب الظاهرية وابن حبيب من المالكية إلى أنه واجب، وتمسكوا بحديث الباب في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليتوضأ بينهما -في رواية- وضوءه للصلاة ) يعني: كوضوء الصلاة، والراجح هو القول الأول.
إذاً: نخلص إلى أن الوضوء بين الجماعين مستحب عند الجمهور وهو الصحيح، وأن الظاهرية وابن حبيب قالوا بوجوبه وهو رأي مرجوح، وأما الغسل فهو مستحب عند جميع العلماء وليس بواجب عند أحد منهم، هذا بين الجماعين. هذه مسألة.
ومثل ذلك ما سيأتي في الحديث الذي بعده وهو حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينام وهو جنب من غير أن يمس ماء ).
والحديث أيضاً رواه أحمد ولذلك يصح أن نقول: رواه الخمسة؛ لأن الإمام أحمد رواه في مسنده.
وهذا الحديث ضعفه الحفاظ وأكثر أهل العلم، قال الإمام أحمد : لا يصح. وقال أبو داود : هو وهم. وقال يزيد بن هارون : هو خطأ. وقال الترمذي : إن أهل الحديث يعتبرون أبا إسحاق السبيعي أخطأ في هذا الحديث. وكذلك الإمام مسلم روى الحديث في صحيحه ولم يذكر زيادة: (من غير أن يمس ماء)، ولعله لم يذكرها لأنها معلولة عنده، فإنه قد أعلها في كتابه التمييز وبين علتها، وكذلك قال أحمد بن صالح : لا تحل رواية هذا الحديث، بل قال ابن المفوز : أجمع أهل الحديث على أنه وهم وخطأ، هكذا قال، والمصنف كما رأيتم قال: وهو معلول. فهذه نحو عشرة أقوال لعشرة أئمة كلها على تضعيف هذه الرواية عن عائشة رضي الله عنها.
وبالمقابل هناك من قوى هذه الرواية، فممن قواها البيهقي في السنن، فإنه بعد أن ساق الحديث ذكر أن الحفاظ يضعفون رواية: (من غير أن يمس ماء)، وكأنهم توهموا -هذا معنى كلام البيهقي - أنها دخلت على أبي إسحاق فدلسها؛ لأنه مدلس رحمه الله، ثم ذكر أن الرواية واللفظ نفسه روي عن أبي إسحاق مصرحاً فيه بالسماع عن الأسود، وساق رواية زهير عن أبي إسحاق عن الأسود وفيها التصريح بسماع أبي إسحاق منه، فانتفت تهمة التدليس، ولذلك عقب البيهقي بعد ذلك بقوله: فالحديث صحيح من جهة الرواية، وكذلك الدارقطني قال: يشبه أن يكون الحديثان صحيحين، وكذلك صححه بعض المتأخرين.
والمترجح -والله تعالى أعلم- أن هذه الرواية فيها ضعف؛ وذلك لأن هناك من رواها عن الأسود كـعبد الرحمن بن الأسود وغيره من الرواة الثقات، ولم يذكروا هذا اللفظ.
وبالمقابل فإن أبا إسحاق -كما ذكر ابن العربي- اختصر هذا الحديث فالتبس عليه معناه، فإن في أول الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان له حاجة قضاها ثم نام من غير أن يمس ماء، فظن أبو إسحاق أن معنى قوله: (إن كان له حاجة) يعني: حاجة إلى أهله، والمعنى الصحيح في حاجة، يعني في قضاء الحاجة المعتادة؛ لأن في آخر الحديث ذكرت عائشة رضي الله عنها أنه يغتسل ثم ينام.
فعلى كل حال: الراجح أن رواية: (من غير أن يمس ماء) رواية شاذة أخطأ أبو إسحاق السبيعي في روايتها عن الأسود، وأن العلماء رووها عن الأسود من دون ذكر قوله: (من غير أن يمس ماء)، وممن رواها كذلك كما ذكرت عبد الرحمن بن الأسود، يعني: رواها عن أبيه، وكذلك إبراهيم النخعي وغيرهم.
هذا فيما يتعلق بإسناد الحديث وروايته.
واستدلوا بأدلة منها: حديث الباب، واستدلالهم بحديث الباب بينته الآن في أن (ماء) نكرة في سياق النفي فتعم ماء الغسل وماء الوضوء، لكن استدلالهم بحديث الباب يمكن أن يجاب عنه بأجوبة، ما هذه الأجوبة:
الجواب الأول: أنها شاذة وضعيفة كما سلف، فلا يستدل بها.
ثانياً: أنه يمكن أن يقال: إن المقصود بالماء هاهنا ماء الغسل، وعلى هذا حمله جمع من أهل العلم كـالبيهقي نفسه؛ فإنه روى الحديث وذكر أنه يحمل على أن المقصود ماء الغسل، وربما اعتبروا أن هناك قرائن في سياق الحديث في القصة الطويلة تدل على أن المقصود ماء الغسل وليس ماء الوضوء، وإن كان هذا خلاف المتبادر من ظاهر الحديث.
على كل حال: لهم أدلة أخرى، منها: ما رواه أصحاب السنن عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة ) والحديث صححه ابن خزيمة وأبو عوانة وغيرهما، وهو دليل على أن الوضوء لا يجب إلا للصلاة، فلا يجب لأي أمر آخر وإنما يستحب، ودلالته على هذا ظاهرة إن شاء الله؛ لأن فيه الحصر، أنه إنما أمر بالوضوء إذا قام إلى الصلاة، فهو يدل على عدم وجوب الوضوء في غير هذا الحال، ولو فرض ثبوت وجوب الوضوء في حال أخرى بدليل فإنه يقال به للدليل.
أيضاً من أدلتهم ما ورد عن ابن عمر رضي الله عنه: ( عن
وهذا الحديث بهذا اللفظ -يعني بزيادة: (إن شاء)- رواه ابن حبان وأحمد والطحاوي وابن خزيمة وغيرهم، وإسناده صحيح، وهو أقوى حجة للجمهور في عدم وجوب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قيد ذلك بالمشيئة، ومما لا شك فيه أن الوضوء مستحب لكل إنسان يريد أن ينام، فإنه ثبت في حديث البراء كما في البخاري وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إذا أويت إلى فراشك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم نم على جنبك الأيمن، ثم قل: اللهم وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وأسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى لي منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت -وذكر أنه إن مات تلك الليلة مات على الفطرة- قال: واجعلهن آخر ما تقول ).
فمسألة استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام لا خلاف فيها، يعني: القدر أنه مشروع، بل مشروع لكل من يريد النوم إن لم يكن متوضئاً أو متطهراً أن يتوضأ، لكن قد يقال: إن الجنب أولى بذلك من غيره؛ لأن الوضوء يخفف الحدث الأكبر، وإذا توضأ الجنب أصبح في برزخ ومرحلة أحسن حالة من الجنب الذي لم يتوضأ، ولكنه أقل من الجنب الذي اغتسل، فالأكمل أن يغتسل، يلي ذلك أن يتوضأ، فإن نام دون غسل ولا وضوء فهو جائز عند الجماهير، وهو الصحيح لهذه الأدلة.
قبل أن أغادر الحديث أو أبين دلالته أريد ذكر فروق واضحة بين الرواية هذه وبين الرواية السابقة التي استدل بها من قالوا بعدم وجوب الوضوء وهي:
أنه في الرواية الأولى قال: ( ويتوضأ إن شاء )، هذا دليل الأولين الذين قالوا بالاستحباب، قالوا: يتوضأ إن شاء. أما في الرواية الثانية التي قلت إنه رواها الستة قال: ( نعم إذا توضأ ) فجعل الوضوء شرطاً لجواز النوم للجنب، ( قال: نعم، إذا توضأ ). هذا فرق، ويوجد فرق آخر من حيث الإسناد وهو فرق ينبغي أن ينتبه له، الأول عن ابن عمر عن عمر، فالصواب أن الأول في مسند عمر ؛ لأنه عن ابن عمر عن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو وضعنا هذا الحديث في مسند لكان يجب أن يوضع في مسند عمر ؛ لأن ابن عمر يرويه عن أبيه.
أما الحديث الثاني فهو من رواية ابن عمر نفسه وهو في مسنده، وإن كانت القصة متعلقة بـعمر ؛ لكنه ما قال عن عمر، عن ابن عمر أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو قال: عن عمر ؛ لكانت روايته عن أبيه، لكنه الآن قد يكون حاضراً القصة وما رواها عن أبيه لكن حضرها بنفسه، فيكون من مسند عبد الله بن عمر نفسه رضي الله عنه.
على كل حال هذا الحديث -حديث: ( أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ )- استدل به من قال بالوجوب؛ لأنهم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الوضوء شرطاً لجواز النوم للجنب، والحديث صحيح كما رأيتم، وهذا قوي الاستدلال لولا أدلة الأولين التي بينت أنه يستحب له الوضوء ولا يجب عليه أو يتحتم.
وكذلك مما يستدلون به حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وغسل فرجه )، والحديث أيضاً رواه الستة، ومثله حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان جنباً فأراد أن ينام أو يأكل توضأ )، فهذه ثلاثة أدلة، وهناك أدلة كثيرة جداً تدل على ذلك، لكن كل هذه الأدلة مصروفة بأدلة الأولين عن القول بالوجوب إلى القول بالاستحباب.
وإنني أعجب كيف لم يذكر المصنف رحمه الله حديث ابن عمر في هذا الباب، فقد كان ينبغي أن يذكر: ( أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ )؛ لأن المصنف الآن حسب ما يظهر لي لم يذكر في باب الغسل وحكم الجنب حديثاً يدل على استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام أو يأكل أو يشرب، فكان ينبغي أن يذكر حديث ابن عمر : ( أينام أحدنا وهو جنب؟ قال: نعم إذا توضأ )، ولا يكفي حديث عائشة ؛ لأنه لا يدل على السنية بمفرده، وكذلك هو حديث معلول.
على كل حال: ذكرت هذا الحديث الآن، هذه هي الأقوال في المسألة: أن الجمهور يرون استحباب الوضوء للجنب إذا أراد أن ينام، وأما ابن حبيب والظاهرية فيرون وجوب الوضوء، والصحيح ما ذهب إليه الجمهور من الاستحباب.
هذه أبرز المسائل المتعلقة بحديث عائشة رضي الله عنها.
إذا قيل الوضوء فالمقصود به الحقيقة الشرعية، فحمله على غسل اليدين خلاف الظاهر، ولكن حتى القول باستحباب غسل اليدين فيه نظر.
فالمقصود ألا يقرأ القرآن بقصد القراءة، أما لو قرأ آية على أنها ذكر وارد في مناسبة معينة أو تكلم بكلام موافق للقرآن فهذا جائز، وهذا هو المصحح عند الشافعية والحنابلة وغيرهم، فتضاف هذه المسألة إلى مبحث حكم قراءة القرآن للجنب.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر