أما اليوم فعندنا أربعة أحاديث، الحديث الأول عندنا في هذه الأحاديث هو حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يغتسل من أربع: من الجنابة، ويوم الجمعة، ومن الحجامة، ومن غسل الميت ).
وفي إسناد هذا الحديث: مصعب بن شيبة، وقد ضعفه الإمام أحمد، وأبو زرعة، والبخاري، والدارقطني، والنسائي .. وغيرهم، ووثقه آخرون كـيحيى بن معين والعجلي، وروى له الإمام مسلم في صحيحه، فهو من رجال مسلم، ولكنه ضعيف، ولذلك فإن خلاصة القول فيه: أنه ضعيف، كما لخصه الحافظ ابن حجر في التقريب حيث قال: لين الحديث. وقال الذهبي في الكاشف : فيه ضعف . ومدار هذا الحديث عليه، ولذلك فإنه حديث ضعيف، وهكذا حكم عليه الأئمة؛ فإن أبا داود رحمه الله روى الحديث هذا في موضعين من سننه : الموضع الأول: في كتاب الطهارة، والموضع الثاني: في كتاب الجنائز، وقال في الموضع الثاني عقب الحديث: وحديث مصعب ضعيف، فيه خصال ليس العمل عليها. هذا كلام أبي داود .
وذكر الإمام ابن القيم في تهذيب سنن أبي داود : أن أبا داود نقل عن الإمام أحمد تضعيف هذا الحديث.
إذاً: يكون الإمام أحمد أيضاً ضعف هذا الحديث.
وكذلك نقل عن البخاري تضعيفه، وكذلك الدارقطني أعله بـمصعب بن شيبة هذا، وكذلك ابن المنذر ضعف جميع الأحاديث الواردة في غسل الميت، ومنها هذا الحديث، ومثله النووي .
فالحديث ضعيف عند جمهور أهل العلم، وعلته وجود مصعب بن شيبة فيه، وقد ضعفه أكثرهم كما سبق، وأما تصحيح ابن خزيمة له لما هو معروف من تساهله رحمه الله في تصحيح الأحاديث.
والصحيح: أن الاغتسال للحجامة لا يستحب؛ لعدم ثبوت هذا الحديث فيه، ولذلك كان رأي الجمهور، وهو الصحيح من مذهب الإمام أحمد : عدم استحباب الغسل من الحجامة، وقد سبق في هذه الدروس حديث أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وصلى ولم يتوضأ، ولم يزد على غسل محاجمه )، وهذا الحديث كما سلف: رواه الدارقطني ولينه، ورواه البيهقي وغيره، وفيه صالح بن مقاتل وهو ضعيف، لكن يكفي في عدم ثبوت مشروعية الاغتسال للحجامة أنه لم يرد فيها حديث صحيح، لم يرد فيها إلا هذا الحديث، وفيه مصعب بن شيبة كما علمتم وهو ضعيف.
القول الأول: أنه يجب على من غسل ميتاً أن يغتسل، وهذا روي عن أبي هريرة وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: (من غسل ميتاً فليغتسل)، وروي عن سعيد بن المسيب والحسن البصري والزهري، وهو قول الظاهرية كما صرح به ابن حزم في المحلى : القول بوجوب الغسل من غسل الميت.
وما حجة من قالوا بهذا القول؟
وحجتهم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة : ( من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ )، قالوا: والأمر هاهنا في قوله: (فليغتسل) للوجوب، وهذا الحديث رواه الخمسة، وهذا حديث حسن فيه كلام كثير سبق في موضعه في باب الوضوء، ولكن خلاصة الكلام فيه: أن حديث: ( من غسل ميتاً فليغتسل ) حسن.
القول الثاني في المسألة: أن الغسل من غسل الميت مستحب وليس بواجب، وهذا مذهب جماهير العلماء، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الثلاثة: أحمد والشافعي ومالك، وحجتهم في الاستحباب:
أولاً: أن الحديث السابق: ( من غسل ميتاً فليغتسل ) جاء ما يصرفه عن الوجوب.
وهو حديث ابن عباس عند الحاكم والبيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس عليكم في غُسل ميتكم غسل، أو في غَسل ميتكم غسل، إنه مسلم مؤمن طاهر، وإن المسلم ليس بنجس، وإن بحسبكم أن تغسلوا أيديكم )، وهذا الحديث حديث حسن، وهو صريح في عدم إيجاب الغسل من غسل الميت، ( ليس عليكم في غسل ميتكم غسل )، فهو صارف للحديث السابق.
ومما يرجح قول الجمهور: ما رواه الدارقطني وغيره عن ابن عمر رضي الله عنهما بسند صحيح أنه قال: ( كنا نغسل الميت فمنا من يغتسل ومنا من لا يغتسل )، يعني: الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك فإن القول الثاني، وهو مذهب الجمهور: استحباب الغسل من غسل الميت وعدم وجوبه هو الراجح.
والمذهب الثالث في هذه المسألة هو مذهب أبي حنيفة والليث، قالوا: لا يستحب الغسل من غسل الميت، واستدلوا بحديث ابن عباس السابق: ( ليس عليكم في غَسل ميتكم غسل )، وبذلك تعلمون أن مذهب الجمهور في هذه المسألة جمع بين النصوص؛ فأعمل جميع النصوص وقال باستحباب الغسل من غسل الميت لا بإيجابه ولا بعدم استحبابه، فهو وسط، وهو الراجح.
هذه الأغسال الأربعة المذكورة في حديث عائشة رضي الله عنها.
فهو -والله أعلم- ضعفه لتفرد مصعب به، ولكنه أشار مع ذلك إلى أنه من حيث المتن فيه خصال ليس العمل عليها، ولعله يومئ إلى موضوع الغسل من الحجامة مثلاً، فإنه ليس بمشروع.
ثمامة بن أثال الحنفي
سيد بني حنيفة فأخذوه، فربطه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سارية المسجد، فمر عليه في اليوم الأول، وقال له: ياثمامة
ما عندك! فقال: عندي يا محمد خير، إن تقتل تقتل ذا دم )، يعني: إن تقتلني فورائي من يأخذ بثأري، وقيل: إن المعنى: إنني مستحق للقتل؛ لأنه قد يكون آذى المسلمين أو قتل منهم.وفي رواية: (تقتل ذا ذم) بالذال المعجمة، يعني: أن له ذمة، ولكن الصحيح الأول: (ذا دم).
هذه رواية الشيخين، وقد ورد أنه: ( لما ذهب إلى اليمامة منع الحنطة والميرة عن أهل مكة حتى جاعوا وأصابهم الضر، فأرسلوا من يشفع لهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول: إنك تأمر بصلة الرحم، فكيف تمنع عنا الميرة والحنطة؟ فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى ثمامة
هذه القصة -وكما هو ظاهر فإن القصة في الصحيحين- ليس فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالاغتسال، بل فيها أنه هو اغتسل، أما رواية عبد الرزاق -كما هي في المصنف في الجزء السادس في صفحة تسعة-، فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اذهبوا به إلى حائط أبي طلحة
وفي المسألة أقوال:
أولها: أن الغسل واجب على الكافر إذا أسلم مطلقاً، وحين نقول: مطلقاً، فالمقصود سواء كان عليه جنابة في حال كفره أو ليس عليه جنابة، وسواء كان يغتسل من الجنابة في حال كفره أو لا يغتسل، فكل من أسلم وجب عليه الاغتسال حتى ولو كان لم يجنب في حال كفره، هذا هو القول الأول، وهو مذهب الإمام أحمد ومالك، واختاره ابن المنذر والخطابي .. وغيرهما.
واستدل أصحاب هذا القول أولاً: بحديث الباب وقصة ثمامة ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل.
واستدلوا ثانياً: بحديث قيس بن عاصم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره لما أسلم أن يغتسل بماء وسدر )، وحديث قيس هذا أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد وغيرهم، وهو حديث حسن؛ حسنه الترمذي والنووي وسواهما.
ووجه الدلالة منه: وجوب الغسل على الكافر؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم لـقيس بن عاصم بذلك، هذا هو القول الأول.
واستدلوا من جهة النظر بأن الكافر غالباً لا يخلو مما يوجب الغسل عليه في حال كفره، فأقيمت هذه المظنة مقام المئنة، كما أن النوم ناقض للوضوء؛ لأنه مظنة خروج الحدث.
أما القول الثاني في المسالة: فهو أن الغسل واجب على الكافر إذا أجنب في حال كفره، يعني: إذا أجنب الكافر قبل أن يسلم ثم اغتسل في حال كفره، أو أجنب قبل أن يسلم ولم يغتسل، فحينئذ يجب عليه الغسل إذا كان أجنب في حال كفره، وهذا مذهب الشافعي، وحينئذ يقول الإمام الشافعي : إن الغسل لمن لم يجنب سنة.
والقول الثالث: هو أن الغسل لا يجب على الكافر إذا أسلم مطلقاً، يعني: حتى ولو أجنب في حال كفره لا يجب عليه الغسل، وهذا مذهب أبي حنيفة : أنه لا يجب عليه الغسل مطلقاً، بل يستحب له.
إذاً: الشافعي وأبو حنيفة متفقان على استحباب الغسل، لكن اختلفا في إيجابه، فـأبو حنيفة يستحبه مطلقاً، وأما الشافعي فإنه يوجبه في حال، وهي إذا كان الكافر قد أجنب، فأما من قال: بوجوب الغسل على الكافر إذا كان أجنب، وهو مذهب الشافعي، فلعل حجتهم ظاهرة، وهي أنه جنب، والجنابة توجب الغسل على المسلم وغيره، وأما كونه اغتسل في الشرك فهذا لا ينفعه؛ لأنه لابد من النية والقصد في هذه الأعمال، أما حجة أبي حنيفة في عدم إيجاب الغسل مطلقاً، فهي قول الله عز وجل: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]، فقال: إنه غُفر له ما مضى بما في ذلك الجنابة التي كانت عليه.
ومن حجته أيضاً ما رواه مسلم عن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في قصته الطويلة .. قصة إسلامه: ( إن الإسلام يجب ما قبله )، قال: فهذا دليل على أن الإسلام يجب ما سبق مما كان على الإنسان من جنابة وغيرها، واستدلال أبي حنيفة بهذين الدليلين فيه نظر؛ لأن المقصود بالمغفرة والجَب هو إزالة الذنوب التي على الإنسان، ولذلك قال في الآية: إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ [الأنفال:38] والمغفرة هي للذنوب.
وكذلك في حديث عمرو بن العاص، قصة الحديث تدل على المقصود: ( فإن
والدليل الثالث من أدلة الأحناف: أن الذين كانوا يسلمون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كثير كثير، ولم ينقل أنه صلى الله عليه وسلم كان يأمرهم بالغسل إلا في حالات نادرة، كما في قصة قيس بن عاصم وقصة ثمامة بن أثال، وإلا فجماهير الصحابة الذين أسلموا في مكة والأنصار وغيرهم وغيرهم؛ لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أحداً منهم بالاغتسال، ولو كان هذا الأمر من الأمور الواجبة في عنق كل إنسان حين يسلم؛ لكان يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بها، ولكان هذا ينتشر ويستفيض، خاصة وأن الكافر من الطبعي أنه لا يفهم في أمور الدين شيئاً، فهو الآن أسلم، ويحتاج إلى أن تعلمه كل شيء، فلو كان الغسل واجباً على كل كافر أسلم للقنه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يغتسل بعد أن يلقنه الشهادتين، وهذا لم يحصل، ولو حصل لنقل لنا نقلاً متواتراً.
وكذلك لما بعث الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا يصلح أن يعد دليلاً رابعاً، وأن كان تابعاً للثالث، لكن لا بأس بإفراده-: ( لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم
هذا ما يتعلق بحديث أبي هريرة وقصة ثمامة بن أثال.
وقد روى الحديث البخاري ومسلم بزيادة: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم والسواك، وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه )، فزاد الشيخان في روايتهما السواك والطيب: ( والسواك وأن يمس من الطيب ما يقدر عليه ).
فالحديث يدل على وجوب الغسل يوم الجمعة، ومثله أحاديث أخرى كثيرة، منها حديث ابن عمر رضي الله عنه الذي رواه الجماعة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل )، والأمر هاهنا ظاهره الوجوب، الأمر الأصل فيه أنه للوجوب: ( إذا أتى أحدكم الجمعة فليغتسل ).
ومن الأدلة أيضاً على وجوب الغسل حديث أبي هريرة المتفق عليه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حق على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً؛ يغسل فيه رأسه وجسده ).
فهذه ثلاثة أحاديث من أصح ما استدل به على وجوب غسل يوم الجمعة: حديث أبي سعيد، حديث ابن عمر، حديث أبي هريرة، وقد ذهب إلى وجوب الغسل يوم الجمعة جماعة من الصحابة منهم: أبو هريرة وعمر رضي الله عنهما، وطائفة من السلف كـالحسن البصري، وهو مذهب الظاهرية، وهو رواية عن الإمام مالك والشافعي : أن الغسل يوم الجمعة واجب على من أتى الجمعة، وحجتهم ما سبق.
والقول الثاني في المسألة: أن الغسل يوم الجمعة مستحب ومندوب وليس بواجب، وهذا مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين والسلف والخلف، وهو المشهور من مذاهب الأئمة الأربعة: أن غسل يوم الجمعة مستحب وليس بواجب، ولا تكاد تختلف في ذلك الرواية عن الإمام أحمد ؛ إلا قولاً ضعيفاً في المذهب.
وحجة من قالوا بالاستحباب أحاديث: منها حديث عائشة رضي الله عنها -المتفق عليه- قالت: ( كان الناس مهنة أنفسهم أو مهان أنفسهم -يعني: كانوا يعملون بأيديهم وبأنفسهم في حروثهم وزروعهم وغيرها- فإذا راحوا إلى الجمعة راحوا في هيئتهم، فقيل لهم: لو اغتسلتم )، ووجه الدلالة من الحديث:
أولاً: أنها بينت العلة في الأمر بالغسل وهي: التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي تكون على الناس بسبب كثرة أعمالهم خلال الأسبوع.
وثانياً: قولها: ( فقيل لهم: لو اغتسلتم )؛ لأن (لو اغتسلتم) هذه للعرض والحث لا للإيجاب.
ومن أدلة من قالوا بالاستحباب: حديث عائشة أيضاً -المتفق عليه- أنها رضي الله عنها قالت: ( كان الناس ينتابون الجمعة من بيوتهم ومن العوالي -والعوالي ضواحي على بعد أميال من المدينة المنورة - وعليهم العباءة من الصوف فتخرج منهم الريح، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم إنسان منهم وهو عندي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنكم اغتسلتم ليومكم هذا )، وهذا الحديث كسابقه يدل على ما دل عليه من استحباب الغسل ويوضح ما وضحه من بيان العلة، وهذا المعنى الذي جاء عن عائشة جاء عن ابن عباس أيضاً كما رواه عنه أبو داود وغيره في استحباب الغسل وبيان العلة فيه.
وحديثا عائشة متفق عليهما، أما حديث ابن عباس فهو عند أبي داود .
الدليل الثالث: عن ابن عباس بمعنى حديث عائشة عند أبي داود .
الدليل الرابع: حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة ثم جاء إلى الصلاة واستمع وأنصت، غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وزيادة ثلاثة أيام )، وهذا الحديث كما ذكرت رواه مسلم .
فحديث أبي هريرة هذا ذكر فيه الوضوء: ( من توضأ يوم الجمعة )، ولم يذكر الغسل في هذه الرواية، وهذا الحديث من أقوى ما استدلوا به -كما قال الحافظ ابن حجر - لكن قد يشكل عليه أن الغسل جاء في رواية أخرى في الصحيح.
إذاً: يستدل من حديث سمرة بوجهين:
أولاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت)؛ لأن كل من يعرف لغة العرب يفهم أن قوله: (فبها ونعمت) هل هي مدح أو ذم؟ مدح لهذا المتوضئ، وإشارة إلى أنه قام بما يلزمه.
ثم نستدل ثانياً بقوله: (فالغسل أفضل) على أن الغسل أفضل، ولكنه ليس بواجب، وابن حزم يرد الاستدلال الثاني؛ لأنه يقول: إن الله تعالى يقول: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:110]، فهل عدم إيمان أهل الكتاب جائز؟ لا، ومع ذلك قال: وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ [آل عمران:110] كأنه يشير إلى أن أفعل التفضيل لا تدل على جواز الوجهين، لكن نقول: إن ظاهر الحديث في قوله: (من اغتسل فبها ونعمت)، يوحي بأن قوله أفضل يعني: وليس بواجب، وهذا المعنى ظاهر من الحديث.
حديث سمرة هذا هو من رواية الحسن البصري عن سمرة، وفي سماع الحسن من سمرة اختلاف، فإن بعضهم أثبتوا سماع الحسن من سمرة مطلقاً، وهذا رأي علي بن المديني والبخاري فيما حكاه عنه الترمذي، فـعلي بن المديني والبخاري يقولون: إن الحسن البصري سمع من سمرة.
وآخرون من أهل العلم كـالبزار يقولون: لم يسمع الحسن من سمرة.
وبعضهم يقولون: سمع منه حديث العقيقة فقط، وسماعه منه حديث العقيقة ثابت في صحيح البخاري، فإن كان الحسن سمع من سمرة، فمعنى ذلك: أن هذا الحديث صحيح، وهذه طريقة من يقولون: إنه سمع منه كما ذكره الحافظ ابن دقيق العيد، ومن يقولون: إنه لم يسمع منه، فإنهم يضعفون هذا الحديث للانقطاع، فإن كان الحديث حسناً أو صحيحاً فبها.
وإن كان ضعيفاً للانقطاع فإن للحديث شواهد عديدة وإن كانت ضعيفة إلا أنه يشد بعضها بعضاً.
إذاً: للحديث ثلاثة شواهد: حديث جابر عند البيهقي، وحديث ابن عباس عند البيهقي وحديث أنس عند ابن ماجه والطبراني في معجمه الأوسط.
فهذا الحديث أقل أحواله مع هذه الشواهد أن يكون حسناً، وقد حسنه المحدث الشيخ الألباني في صحيح الجامع وفي صحيح أبي داود وفي غيرهما، وأقل أحواله أن يكون حسناً.
أما الترجيح بين هذه الأقوال فالأقرب للصواب -والله أعلم- أن يقال: إن غسل الجمعة مستحب وليس بواجب إلا لمن يكثر منه العمل والكد في النهار وتظهر منه الروائح الكريهة، أو يكون فيه رائحة كريهة ملازمة لا تزول إلا بالغسل، فمثل هذا يجب عليه أن يغتسل، كالعمال الذين يمضون سحابة نهارهم في العمل والكد، ويخرج منهم العرق ومن شابههم، فمثل هؤلاء يجب عليهم الغسل؛ لأن العلة ظاهرة كما سبق في حديث عائشة وابن عباس، أما سواهم فإنه يطلب منهم الغسل ندباً واستحباباً، ولكنه استحباب مؤكد؛ لأن قوله: (حق) في حديث أبي هريرة، وقوله: (واجب) في حديث أبي سعيد يجعل الإنسان في حرج من ترك هذا الغسل، فلا ينبغي لمسلم أن يتركه كما ورد عن جمع من الصحابة كـابن مسعود وغيرهم أنهم قالوا: (ما كنت أحسب مسلماً يترك غسل الجمعة) ..
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر