إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.
أما في هذه الليلة فعندنا بإذن الله تعالى نهاية الأحاديث المتعلقة بنواقض الوضوء, ونرجو الله ونسأله سبحانه أن يعيننا على اغتنام الوقت والاستفادة منه, وإنجاز ما نحن بصدده؛ لئلا يتبقى شيء من هذا الباب.
وعندنا حديث عبد الله بن أبي بكر في الوضوء لمس القرآن, أظن أنكم قرأتموه في الأسبوع الماضي, ثم عندنا بعده.. بقي عندنا في الباب حديثان:
عن عبد الله بن أبي بكر رحمه الله أن في الكتاب الذي أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم لـعمرو بن حزم، فـعمرو بن حزم هذا من يكون؟ ما علاقته براوي الحديث عبد الله؟
هو جد عبد الله وهو صحابي عمرو بن حزم هذا صحابي, ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم على نجران أميراً عليها, وبعث إليه كتاباً كما في هذه الرواية, فيه أشياء كثيرة من مقادير الزكاة والديات والأحكام وغيرها, وفي هذا الكتاب: ( ألا يمس القرآن إلا طاهر ).
قالوا: ووصله النسائي وابن حبان وهو معلول, النسائي وابن حبان والحاكم في مستدركه وغيرهم وصلوا هذا الحديث, يعني: ذكروا له إسناداً متصلاً, فقالوا: عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم, وبناءً على ذلك يكون الإسناد متصلاً؛ لأن راوي الحديث حينئذ هو عمرو بن حزم الذي بعث إليه الكتاب, ولكن هذا الإسناد المتصل عند النسائي وابن حبان والحاكم وغيرهم معلول كما ذكر المصنف, يعني: فيه علة, وذلك أن في إسناده سليمان بن أرقم وهو ضعيف جداً , ولذلك حكم عدد من أهل العلم بالحديث بضعف هذا الحديث, فضعفه أبو داود صاحب السنن , وأبو زرعة الدمشقي، وصالح بن محمد المعروف بـصالح جزرة، وأبو الحسن الهروي، ضعفوه؛ لأن فيه سليمان بن أرقم وهو متروك أو وهو ضعيف جداً كما ذكرت.
وضعفه آخرون وهم ابن حزم وعبد الحق الإشبيلي مع أن أسم الراوي عندهم ليس سليمان بن أرقم ولكن سليمان بن داود وهذا وهم, يعني: بعضهم سمى الراوي سليمان بن داود , والصواب أنه سليمان بن أرقم , ومع أنه سليمان بن داود كما عند ابن حزم فقد ضعفه هو وعبد الحق الإشبيلي .
وصحح آخرون هذا الحديث, فممن صححه ابن حبان حيث رواه في صحيحه، والحاكم حيث رواه في مستدركه وصححه, والبيهقي , وكذلك نقل البيهقي عن الإمام أحمد أنه سئل عن هذا الحديث أو هذا الكتاب فقال: أرجو أن يكون صحيحاً.
وقد صححه آخرون لا من جهة الإسناد ولكن من جهة شهرة الحديث وشهرة الكتاب, فقال الإمام الشافعي : لم يأخذ العلماء بهذا الحديث إلا لأنه ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن عبد البر : هذا كتاب مشهور عند أهل السير, معروف ما فيه عند أهل العلم معرفة يستغنى بها عن الإسناد, فإنه أشبه المتواتر في نقله لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة.
فاعتمد ابن عبد البر في تصحيح هذا الكتاب على شهرته وتلقي الناس له بالقبول, وهذا مأخذ حسن.
وكذلك قال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في الكتب المنقولة كتاباً أصح منه, فإن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين كانوا يأخذون بالكتاب ويدعون رأيهم.
وقال الحاكم: شهد عمر بن عبد العزيز وإمام عصره الزهري لهذا الكتاب بالصحة، ثم ساق الحاكم روايتين عنهما بإسناده في إثبات هذا الكتاب.
وبالنظر إلى إسناد الحديث فإننا نجد أن القواعد الحديثية المتبعة لدى العلماء تقتضي ضعفه لوجود سليمان بن أرقم هذا فيه, وهو ضعيف جداً، لكن يمكن أن يلتمس له وجه قوة بشهرته عند العلماء، وتلقي الناس له بالقبول كما ذكر الشافعي وابن عبد البر وغيرهما من أهل العلم.
حديث حكيم بن حزام عند الدارقطني والحاكم وغيرهما قال: (لما بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قال لي: لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر), وحديث حكيم بن حزام هذا -كما قلت- رواه الحاكم , وكذلك رواه الدارقطني , صحح حديث حكيم الحاكم، وحسنه الحازمي، وضعفه النووي، يعني ثلاث مراتب: الحاكم صححه, الحازمي حسنه, النووي ضعفه, ولعل القول بتضعيفه بمفرده أولى؛ لأن فيه راويين ضعيفين, لكن ربما يقال: بأن حديث حكيم هذا على ضعفه ينجبر بحديث عمرو بن حزم , وبما سيأتي من الأحاديث فيكون حسناً لغيره.
الشاهد الثاني: هو حديث عثمان بن أبي العاص , وقد رواه الطبراني في معجمه الكبير .
والشاهد الثالث: هو حديث ابن عمر عند ابن ماجه وغيره, وفي إسناده سعيد بن محمد، وفيه أيضاً ابن جريج وهو مدلس وقد عنعن , فيكون ضعيفاً أيضاً.
ومما يمكن أن يعد شاهداً للحديث: ما رواه مالك في الموطأ بسند صحيح عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص قال: [ كنت أمسك المصحف لـسعد فاحتككت, فقال لي: لعلك مسست ذكرك قلت: نعم, قال: قم فتوضأ, فقمت فتوضأت ثم رجعت ]، هذا حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص وهو في الموطأ وسنده صحيح.
فمجموع هذه الأحاديث يشهد لحديث الباب, وبذلك يعلم أن الحديث لا ينزل عن رتبة الحسن بشواهده إن شاء الله تعالى, ولذلك قال الإمام أحمد : أرجو أن يكون صحيحاً, وصححه من سمعتم من أهل العلم, هذا فيما يتعلق بثبوت الحديث.
يجوز له ذلك نعم, إذاً: هذه مسألة من مسائل الإجماع يقدم بها أن قراءة القرآن للمحدث حدثاً أصغر عن ظهر قلب جائزة بالاتفاق.. بالإجماع, ولم يخالف في ذلك أحد, ونقل الإجماع عليه النووي في المجموع، وكذلك في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن .
يعني: من باب الأولى أن المحدث حدثاً أكبر لا يجوز، يعني: إذا منع المحدث حدثاً أصغر, فالمحدث حدثاً أكبر من باب الأولى, لكن تظهر ثمرة التقييد في القول الثاني.
إذاً: القول الأول: مذهب الجماهير؛ الأئمة الأربعة وأصحابهم: أنه لا يجوز لمن عليه حدث أصغر أن يمس القرآن الكريم, واستدل أصحاب هذا القول بما سبق من الأحاديث؛ حديث عمرو بن حزم .. حديث حكيم بن حزام .. حديث ابن عمر .. حديث عثمان بن أبي العاص .. حديث مصعب بن سعد بن أبي وقاص .
واستدلوا أيضاً: بقوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ [الواقعة:79] على أحد التفسيرين أنه خبر يقصد به النهي, (ألا يمس القرآن إلا متطهر) .
ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر, لأن فيه النهي عن مس القرآن إلا لطاهر, لكن يشكل على هذه الأدلة إشكالاً كثيراً ما يورده أهل العلم, أورده الشوكاني في مواضع, وتابعه عليه الألباني في كتابه تمام المنة، وأورده من قبلهم من أهل العلم, قالوا: إن الطهارة قد تكون بكونه مسلماً غير كافر؛ لأن ( المسلم لا ينجس ) كما في حديث أبي هريرة وسبق, وقد تكون طهارة من الحدث الأكبر, وقد تكون طهارة من الحدث الأصغر, فما هو الذي يميز لنا أن المقصود بهذه الأحاديث الطهارة من الحدث الأصغر؟
هذا أمر يورد على استدلال من استدل بهذه الأحاديث على أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أصغر أن يمس القرآن, يقولون: قوله: ( لا يمس القرآن إلا طاهر) طاهر هل معناها مسلم؟ أو معناها طاهر من الحدث الأكبر؟ أو معناها طاهر من الحدث الأصغر؟ هذا يحتاج إلى نص يميز أحد الأشياء الثلاثة, وأنها هي المقصودة.
ولا شك أن الجمهور يقولون بأن المقصود من هذه الأشياء الثلاثة الأمر الثالث، وهو الطهارة من الحدث الأصغر, ومما يرجح هذا القول القرائن التالية:
أولاً: أن الله عز وجل سمى التطهر من الحدث الأصغر طهارة في القرآن الكريم, فقال بعدما ذكر الوضوء والتيمم: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [المائدة:6], فدل على أن الطهارة تطلق في لسان الشارع على الطهارة من الحدث الأصغر, وهذه القرينة ليست صريحة بلا شك.
القرينة الثانية: أنه لا يعرف في الشرع تسمية المؤمن بالطاهر, إنما ورد وصفه بذلك, وفرق بين الوصف والتسمية, فالآن في حديث عمرو بن حزم وابن عمر -وحديث ابن عمر هو نفسه حديث عمرو - أليس الرسول صلى الله عليه وسلم على قولهم وصف المؤمن بأنه طاهر, لأنه قال: ( لا يمس القرآن إلا طاهر), قالوا: المقصود بالطاهر من المؤمن أو المسلم؟ فسموا المسلم طاهراً.
فيجاب بأنه لا يعلم في الشرع تسمية المؤمن بالطاهر, وإن كان ورد وصف المؤمن بكونه طاهراً, لكن لم يرد إطلاق اسم الطاهر عليه, يعني: مثلاً في القرآن والسنة تجد الله عز وجل قد يسمي المسلم مؤمناً أو مسلماً, وكذلك الحال في السنة قد يسمى عبداً, لكن تسميته طاهراً ما جاءت في الشرع , وهذا في نظري إذا تأملت من القرائن القوية على أن المقصود بالطهارة هاهنا الطهارة من الحدث الأصغر.
القرينة الثالثة: حديث حكيم بن حزام، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـحكيم كما سبق: ( لا تمس القرآن ) بصيغة النهي، ( لا تمس القرآن إلا وأنت طاهر ) هكذا لفظ الحديث.
و حكيم بن حزام حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ألم يكن مسلماً؟ لا شك أنه مسلم, ولذلك فإن قوله: (إلا وأنت طاهر) لا يمكن أن يحمل هاهنا على قوله: إلا وأنت مسلم؛ لأنه هو مسلم, وإنما يحمل على إلا وأنت متوضئ.
وحديث حكيم فيه ضعف كما أسلفت ولكنه ضعف منجبر؛ لأن فيه راويان ضعيفان ضعفهما منجبر, أحدهما مطر الوراق والثاني سويد أبو حاتم كلاهما ضعيف, ولكنه منجبر بحديث الباب حديث عمرو بن حزم وحديث ابن عمر وحديث عثمان بن أبي العاص فيكون صالحاً للاحتجاج, وهو قرينة ظاهرة على أن المراد بالطهارة الطهارة من الحدث الأصغر.
والقرينة الرابعة: الأثر الذي رواه مالك عن مصعب بن سعد عن أبيه [لأنه كان يمسك له في المصحف وهو يقرأ القرآن فلما مس ذكره قال: قم فتوضأ] فعلم أن الطهارة المطلوبة لقراءة القرآن هي الطهارة من الحدث الأصغر, هذا هو القول الأول.
أولاً: ضعف الحديث عندهم, فقد ضعفوا دليل الجمهور, وسبق أن ذكرت عن ابن حزم أنه يرى ضعفه, فكأنه لم يثبت عندهم دليل على المنع.
ثم استدلوا بالكتاب الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل وفيه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ [آل عمران:64]إلى آخر الآية, ومن المعلوم أن هرقل كان نصرانياً مشركاً, فيكون مسه لهذه الآية دليلاً عندهم على جواز ذلك.
وعلى كل حال فالقول الصحيح هو ما عليه الجمهور من أنه لا يجوز للمحدث حدثاً أصغر أن يمس القرآن إلا بعد أن يتوضأ, وذلك لأن الأدلة التي استدلوا بها تصلح للاحتجاج بمجموعها, ولأنه تبين من القرائن أن المقصود بالطهارة في هذه الأحاديث الطهارة من الحدث الأصغر.
سيأتي الإجابة على استدلال ابن حزم بهذا الحديث, يأتي ذكره في مسألة تالية, وبكل حال فهو ليس مصحفاً، ومس آية في ورقة تكون مع غيرها من الكلام ليس كمس المصحف ذاته، المشتمل على كتاب الله وكلام الله عز وجل, إضافة إلى أن هذا أمر يقصد من ورائه البلاغ, ونشر الدعوة, وهذا الأمر يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره, هذه المسألة البارزة في حديث عمرو بن حزم.
ولكن مما لا شك فيه أن الأولى للإنسان أن يتوضأ لذكر الله عز وجل , ولذلك لما ذهب النبي صلى الله عليه وسلم نحو بئر جمل, كما في حديث أبي الجهم بن الحارث بن الصمة في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل, فلقيه رجل فسلم عليه, فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام حتى جاء إلى الجدار فمسح وجهه ويديه ثم رد عليه السلام ), وفي رواية عند أبي داود : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني كرهت أن أذكر الله على غير طهر, أو قال: على غير طهارة ), وكذلك روى الستة إلا البخاري عن ابن عمر : ( أن رجلاً مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبول فسلم عليه فلم يرد النبي صلى الله عليه وسلم عليه السلام ), هذا دليل على أنه يستثنى من هذا الحكم العام حالات منها: ما إذا كان الإنسان على حاجته من البول أو الغائط, ومنها: في حال الجماع, فإنه يكره له أن يذكر الله تعالى على هذه الأحوال, وقال بعضهم: بل يحرم.
وكذلك يقال: إنه وإن كان جائزاً فيما سوى ذلك من الأحوال إلا أن الأولى بالإنسان أن يتوضأ, يعني: إن كان محدثاً حدثاً أصغر يتوضأ, وإن كان محدثاً حدثاً أكبر يغتسل لذكر الله عز وجل, للحديث السابق حديث أبي الجهم بن الحارث بن الصمة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يذكر الله على غير طهارة, كره أن يرد عليه السلام وهو غير متوضئ, فتيمم ثم رد عليه السلام.
هذا فيما يتعلق بالإجماع الذي ذكره النووي عن جواز ذكر الله تعالى من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير على غير طهارة, وأنه جائز بالإجماع.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: أولاً: حديث عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) وهذا الحديث لو صح لكان نصاً في المسألة, لكنه لا يصح, فإنه رواه الترمذي وقال عقبه: لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن عياش عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر , ومن المعلوم أن هذه من رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين, وقد سبق القول بأن رواية إسماعيل بن عياش عن الحجازيين ضعيفة.
والحديث رواه أيضاً غير الترمذي ابن ماجه والبيهقي وغيرهم, وقد سأل عبد الله بن أحمد بن حنبل أباه عن هذا الحديث, فقال: هذا باطل, وكذلك ذكر ابن أبي حاتم عن أبيه أنه قال: هذا خطأ, وإنما هو عن ابن عمر من قوله, فالإمام أحمد حكم ببطلانه, وأبو حاتم حكم بأنه خطأ, وأن الصواب أنه موقوف عن ابن عمر من قوله لا من قول النبي صلى الله عليه وسلم.
وبكل حال يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: هذا الحديث ضعيف باتفاق أهل المعرفة بالحديث, وقد التمس له بعضهم متابعات لإسناده, منها رواية عند الدارقطني لكن فيها عبد الملك بن مسلمة وهو ضعيف , وإسناد آخر فيه أبو معشر وهو ضعيف أيضاً, ولذلك فالخلاصة أن هذا الحديث لا يصح: ( لا تقرأ الحائض ولا الجنب شيئاً من القرآن ) فلا حجة فيه.
الدليل الثاني: ما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخرج من الخلاء فيأكل معنا اللحم, ويقرئنا القرآن, ولم يكن يمنعه من قراءة القرآن, أو يحجزه من قراءة القرآن شيء ليس الجنابة ) يعني: إلا الجنابة, وهذا الحديث رواه أصحاب السنن: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، والإمام أحمد، وابن حبان، والحاكم، وابن خزيمة وغيرهم, هذا الحديث رواه هؤلاء, وصححه جمع من أهل العلم أو حسنوه, فمن صححه الترمذي فإنه رواه وقال: هذا حديث حسن صحيح, وكذلك ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم قال: صحيح على شرطهما, وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: والحق أنه من قبيل الحسن يصلح للحجة, فـابن حجر رأى أنه حسن.
وبالمقابل ضعفه كثير من أهل العلم, فممن ضعفه شعبة قال عن عبد الله بن سلمة أحد رواة الحديث: نعرف منه وننكر, وكذلك الإمام أحمد ضعف هذا الحديث كما نقله عنه الخطابي , وضعفه أيضاً الشافعي فقال: أهل الحديث لا يثبتونه, وضعفه أيضاً البيهقي قال: وإنما توقف الشافعي في صحة هذا الحديث؛ لأن في إسناده عبد الله بن سلمة بفتح السين وكسر اللام, وهو قد كبر فتغير عقله وحفظه لما كبر , يعني: اختلط بآخره أو بأخرة كما يقال, ومثلما اختلف القدماء اختلف المتأخرون, فنجد من المحققين المعاصرين من صححوه كـأحمد شاكر في تعليقه على الترمذي , ومن ضعفوه كـالألباني في مواضع منها في إرواء الغليل وتمام المنة وغيرهما.
وبكل حال فهذا الحديث إما أن يكون حسناً كما قال الحافظ ابن حجر , وإما أن يكون ضعيفاً ولعله الأقرب؛ لأن عبد الله بن سلمة قد كبر وتغير, وهذا الحديث مما روي عنه بعد تغيره وكبر سنه, ولكن لو صح الحديث فإنه لا دلالة فيه على ما يريدون؛ لأن الحديث ليس فيه إلا أنه ( لم يكن يمنعه من قراءة القرآن شيء ليس الجنابة )، وكون الرسول صلى الله عليه وسلم يمتنع عن قراءة القرآن بسبب الجنابة, ليس دليلاً على تحريم ذلك, ألم تروا قبل قليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم كره رد السلام وهو على غير وضوء؟ فهل يقول أحد بأنه لا يجوز رد السلام لغير المتوضئ؟ لم يقل بذلك أحد, وهو عليه الصلاة والسلام كما في رواية أبي داود كره أن يذكر الله على غير طهر, مع أن ذكر الله على غير طهر للمحدث حدثاً أصغر جائز إجماعاً, يعني: القرآن وغيره كما سبق, فامتناع الرسول صلى الله عليه وسلم وانحجازه عن قراءة القرآن بسبب الجنابة لا يدل على تحريم ذلك, بل قد يدل على كراهته فقط, فيكون الحديث لا دلالة فيه ولو صح.
الدليل الثالث: هو ما رواه أبو الغريف الهمداني واسمه عبيد الله بن خليفة : ( أن
من أدلتهم على أنه لا يجوز للحائض ولا للجنب قراءة القرآن: أنه نقل منعه عن جمع من الصحابة.
إذاً: القول الأول أنه لا يجوز للحائض ولا للجنب قراءة شيء من القرآن الكريم, وسبقت أدلته.
واستدل هؤلاء بأدلة, منها: عدم ثبوت دليل على منعهما, لأنهم لم يثبتوا ما سبق من الأدلة, فقالوا: الأصل الجواز, وهذه قربة مطلوبة من كل أحد.
الدليل الثاني: حديث ابن عباس : [ أن أبا سفيان أخبره أن هرقل دعا بكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فقرأه وفيه يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران:64]إلى آخر الآية ], والحديث في صحيح البخاري كما سبق بطوله في كتاب العلم, ووجه الدلالة منه ظاهرة أن الكافر شر من الجنب, ومع ذلك فهو يقرأ هذه الآية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرسل له هذا الكتاب إلا ليقرأه ويطلع عليه, فدل على الجواز.
ويمكن أن يجاب عن هذا الاستدلال بأجوبة, منها: أن هذا بقصد البلاغ كما أسلفت, وقد نقل عن الإمام أحمد وغيره: أنه لا بأس أن يقرأ على الكافر، أو أن يقرئ الكافر آية من القرآن الكريم لعل الله أن يهديه.
ومنها: أن المنع هو فيما إذا قرأ الإنسان شيئاً يعتقد ويعلم أنه من القرآن الكريم, أما إذا قرأ شيئاً لا يدري أنه من القرآن فلا حرج عليه في ذلك.
ومنها: أنها واقعة عين, كما ذكر الحافظ ابن حجر في الفتح , هذه ردود أو أجوبة على الاستدلال بهذه الآية أو بهذا الحديث.
من أدلتهم على جواز قراءة القرآن للحائض والجنب: أنه ثبت أن النساء كن يحضن والرجال يجنبون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل أنهم كانوا يمتنعون من قراءة القرآن, ولا يمنعون من ذلك, ومن الأدلة أنه نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان يقرأ سورة البقرة وهو جنب، نقله ابن حزم في المحلى .
ومن الأدلة: ما رواه البخاري ومسلم وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: في حجته- لا نعرف إلا الحج, فلما كنت بـسرف حضت, فدخل علي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي, فقال لي: ما يبكيك لعلك نفست -يعني: حضت- قالت: قلت: نعم, قال: هذا أمر كتبه الله على بنات آدم, فافعلي ما يفعل الحاج غير ألا تطوفي بالبيت حتى تطهري)، قالوا: فهذا إذن عام (افعلي ما يفعل الحاج)، والحاج يقرأ القرآن فيكون لها أن تفعل ما يفعله الحاج, ويمكن أيضاً أن يجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن قوله: (افعلي ما يفعل الحاج) يعني: أعمال الحاج من المناسك, وهذا ظاهر في المقصود، والله أعلم.
وحجة أصحاب هذا القول أولاً: أن الدليل ثبت في الحائض ولم يثبت في الجنب, يعني: عندهم أثبتوا الدليل في الجنب ولم يثبتوه في الحائض, كما سبق في حديث علي : ( ولم يكن يمنعه من قراءة القرآن شيء ليس الجنابة )، فإذا قلنا بصحة هذا الحديث أو حسنه, فهو دليل على منع الجنب يعني: عندهم, لكن لا يوجد دليل صريح صحيح على منع الحائض من قراءة القرآن.
الأمر الثاني: حديث عائشة -وسبق- دليل على أنه يجوز لها أن تقرأ القرآن.
الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أم عطية في الصحيح في البخاري وغيره: ( أمر أن تخرج الحيض إلى العيد فيشهدن الخير ودعوة المسلمين، يكبرن بتكبيرهم ويدعين )، فدل على جواز التكبير والدعاء للحائض.
وكذلك جواز التلبية لها في الحج كما هو معروف, ولم يعهد من الشارع مثل هذا التخفيف في شأن الجنب, فإن الجنب لم يؤمر بالذهاب إلى العيد ولا بالتكبير ولا التهليل، ولا بقضاء المناسك كلها إلا الطواف بالبيت, فدل على أن الشارع يخفف في شأن الحائض ما لا يخفف في شأن الجنب؛ وذلك لأن الجنابة وقتها قصير, بخلاف الحيض فوقته يطول, والجنابة يمكن إزالتها بالغسل, أما الحيض فهو أمر لا يد للمرأة في مجيئه ولا في رفعه , ولذلك قد يطول الوقت بالحائض وقد تنسى القرآن, ويقسو قلبها، حتى قال ابن تيمية في الاختيارات الفقهية : وإن خشيت نسيانه -يعني: نسيان القرآن- وجب عليها قراءته, يعني: الحائض, وكذلك لهذه الأشياء ولغيرها خفف عن الحائض ما لا يخفف عن الجنب.
وكذلك علم أن الصحابيات رضي الله عنهن كن يحضن, وهذا أمر مشهور، فلو أمر النبي صلى الله عليه وسلم أحداً من الصحابيات بالكف عن القرآن بسبب الحيض، لكان مثل هذا الأمر مما ينقل بالتواتر, فكيف ولم يثبت فيه حديث واحد صحيح.
لهذه الأدلة كلها رجح هؤلاء أنه يجوز للحائض أن تقرأ القرآن بخلاف الجنب.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر