إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بقي عندنا من حصة الحلقة الماضية حديث واحد، وهو حديث عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ).
وفي بعض طرقه أنها رضي الله عنها قالت ذلك ثم ضحكت، إشارة إلى أن المرأة التي حدثت معها هذه القصة هي نفسها رضي الله عنها وأرضاها.
وقد اختلف أهل العلم في هذا الحديث تصحيحاً أو تضعيفاً، فقد رواه الترمذي كما أسلفت، وأشار إلى ضعفه، وأنه لا يصح في هذا الباب حديث عن النبي صلي الله عليه وسلم، يعني: حديث القبلة وأنها لا تنقض الوضوء، وقبل أن أسترسل في ذكر بعض من ضعفوه، أسأل الإخوة: لو أردنا أن نقف على مزيد من الكلام عن هذا الحديث الذي قال فيه الترمذي : لا يصح فيه شيء عن النبي صلي الله عليه وسلم، أين نجد مظنة ذلك فيما مضى معنا من الإشارة إلى بعض الكتب والمصنفات؟ أشرت سابقاً إلى كتاب قد يتوقع الطالب أنه يوجد فيه بحث في هذا الموضوع، ما دام الترمذي قال: لا يصح فيه شيء.
نعم، المغني عن الحفظ والكتاب، ومن ثم كتاب فصل الخطاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب، وأشرت في أحد الدروس السابقة إلى أنه صدر أخيراً كتاب اسمه: جنة المرتاب بنقد المغني عن الحفظ والكتاب لأحد طلاب العلم المعاصرين، حقق في هذه النصوص وتعقب بعضها، فما قيل فيه: لا يصح فيه شيء .. لا يصح في هذا الباب شيء، فمن مظان وجوده هذا الكتاب.
فـالترمذي قال: لا يصح فيه شيء من النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قبل الترمذي ضعفه البخاري رحمه الله، ويحيى بن معين، بل قال يحيى بن معين : احك عني أنه شبه لا شيء، وضعف الدارقطني أيضاً جميع طرقه، وضعفه البيهقي وابن حجر وغيرهم من أهل العلم، بل أكثر أهل الحديث على تضعيفه، ونصوصهم في ذلك كثيرة.
وذهب آخرون إلى ثبوت هذا الحديث، وذلك لأنه ورد من طرق كثيرة، حتى ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في كتاب تلخيص الحبير أن البيهقي أورده في كتاب الخلافيات من عشر طرق، وضعفها كلها، وساق الزيلعي في نصب الراية له عشر طرق، ولعلها هي الطرق التي أشار إليها ابن حجر، وساق الدارقطني أيضاً في سننه طرقاً عديدة للحديث.
وذكر بعضهم له شواهد، ولكنها شواهد أشد ضعفاً منه، فلا ينتهض الحديث بها؛ ولذلك قوى هذا الحديث بعض أهل العلم، فقواه ابن عبد البر، وعبد الحق الإشبيلي ساق إحدى روايات الحديث التي رواها البزار، وقال: وهذا إسناد لا أعلم له علة، هذا كلام عبد الحق الإشبيلي في أحكامه .
وممن قوى الحديث الزيلعي فقد جود بعض أسانيده، كرواية ابن ماجه قال: هذا إسناد جيد، والنسائي في سننه لا أقول أنه قوى الحديث، بل ساق بعض طرقه، وقال: وهذا وإن كان مرسلاً فهو أصح شيء في الباب، أو كما قال رحمه الله.
وممن قواه الشوكاني والصنعاني، فإنه يفهم من كلام الشوكاني في نيل الأوطار، ومن كلام الصنعاني في سبل السلام أنهما يريان أن كثرة طرق الحديث تقويه، ومن المتأخرين أو المعاصرين قواه الشيخ أحمد محمد شاكر في تعليقه على سنن الترمذي، وعلق تعليقات طوال على هذا الحديث، خلاصتها: أنه يرى تصحيحه واتصال إسناده ويثبته، ومن ثم يحتج به رحمه الله.
والواقع أن الحديث كما سبق جميع طرقه ضعيفة، وهي طرق كثيرة، فإذا نظرت إلى ضعف الطرق واحتمال الاضطراب فيها قلت: إنه ضعيف، وإذا نظرت إلى كثرة الطرق وتعددها فقد تميل إلى تصحيحه أو تحسينه، وإذا نظرت إلى من ضعفوه، وجدت أنهم أرسخ قدماً في العلم ممن صححوه، وحسبك بـالبخاري، أو يحيى بن معين، أو الترمذي، أو ابن حجر، أو البيهقي، أو غيرهم ممن ذكرت.
وعلى أي حال فإن المسألة التي ساق المصنف الحديث لها لا تتوقف عليه وحده، سواء صح أو لم يصح، وإن كان لو صح لاعتبر نصاً في الباب، لكن الأدلة موجودة من غيره.
ولذلك أخرج من الكلام على الحديث، وإن كنت أميل الآن إلى ضعفه.
وهذه المسألة فيها أقوال: حتى ذكر ابن المنذر في كتابه الأوسط في الجزء الأول أن في المسألة خمسة أقوال: لكن المشهور من الأقوال ثلاثة، وهي التي ذكرها أكثر أهل العلم والمصنفون في الخلافيات:
وهذا مذهب الإمام الشافعي، وحجته في ذلك قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].
قرأ حمزة وخلف والكسائي من العشرة قرءوها أو لامستم ، بدون مد، وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43].
وقرأها الباقون: أو لامستم ، فقال هؤلاء: إن المقصود بقوله: أو لامستم هو اللمس، بدليل القراءة الثانية وهي قوله: أو لمستم ، فاللمس يطلق حقيقة في اللغة العربية على اللمس باليد، ولذلك جاء في الحديث: ( العين تزني وزناها النظر، واليد تزني وزناها اللمس ) وهو اللمس.
ونهى عن بيع الملامسة مثلاً، فهي تستعمل في اللمس باليد، وقالوا: إن هذا هو المقصود بالآية: أنها محمولة على اللمس باليد، فإذا لمس الإنسان امرأته بيده فعليه الوضوء، وهذا القول ثابت عن بعض الصحابة أيضاً، كـابن عمر، وابن مسعود، أنهم فسروا الآية بما دون الجماع كاللمس باليد.
وهذه أقوى حجة لهم في إيجاب الوضوء مطلقاً، إنما يجب أن يعلم أن قولهم أن لمس المرأة أو لمسها ينقض الوضوء، هل تدخل فيه كل امرأة أم أن المقصود شيئاً خاصاً؟
أذكر بالمناسبة أنني لقيت يوماً من الأيام أحد الطلاب من عمان، فكان يذكر حال أهله وأنهم شافعية ليسوا إباضية، بل هم من أهل السنة في بعض مناطق عمان لكنهم شافعية، فيقول: إنهم يجدون حرجاً شديداً في لمس المرأة؛ لأن لمس المرأة عندهم ناقض مطلقاً، فيقول: يأتي أبي فيتوضأ ثم يريد أن يخرج للصلاة فتقابله أمي لتعطيه العقال ليلبسه مثلاً أو العمامة، فإذا أخذه منها مس طرف يده طرف يدها فأعاد الوضوء، ثم تناوله أحياناً في أيام الأعياد والمناسبات ما يلبسونه من سلاح وغيره، فتلمس يده فيعيد الوضوء، فيقول: إنه قد يعيد الوضوء في الوقت الواحد أربع أو خمس مرات فيتبرم من ذلك.
فهل هذا الحكم يشمل مثلاً الأخت والأم والبنت، بحيث يجب الوضوء منها عند الشافعي، أم أنه خاص بالزوجة؟
هي التي ينتقض الوضوء بلمسها أو العكس؟ يعني: لو مس الإنسان أمه بيده هل الكلام هو في مس من لا يحرم نكاحها، أما ذوات المحارم فلا تدخل في الحكم، فلو لمس أمه أو أخته بيده فإنه لا ينتقض وضوءه.
وهذا حكاه ابن المنذر إجماعاً إلا ما يذكر من مذهب جديد للشافعي قال: ولا أظنه يثبت عنه.
إذاً: هم يقولون: إن مس المرأة كتقبيل الزوجة مثلاً أو لمسها باليد أنه ينقض الوضوء؛ بدليل هذه الآية أو لمستم ، أو لامستم وهذا حقيقة في لمسها باليد.
ربما يكون المعتمد في ذلك الإجماع والله أعلم، أو كونهم يعتبرون أن هذه الملامسة هي مظنة الشهوة غالباً، كما سبق في النوم أنه مظنة الحدث.
أولاً: احتجوا بحديث الباب إن صح، ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ )، وهو دليل على أن مجرد اللمس أو التقبيل أو ما أشبه ذلك لا ينقض الوضوء بمجرده، ودلالته على ذلك ظاهرة.
الدليل الثاني: ما رواه الشيخان في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي في قبلته، فإذا سجد غمزها فقبضت رجلها، وإذا قام بسطت رجلها، قالت: والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح ).
فالنبي صلى الله عليه وسلم لمس عائشة بيده وهو يصلي لتكف رجليها، فيسجد في الموضع نفسه ولم ينتقض وضوءه، بل فعله وهو في صلب الصلاة، وهذا دليل واضح على أن لمس المرأة بمجرده لا ينقض الوضوء.
وأما ما تكلفه بعض الشراح كالحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره من دعوى خصوصيته، أو أنه كان من وراء حائل، فقد تعقبه أهل العلم بأن هذه دعوى مجردة لا دليل عليها.
أما دعوى الخصوصية فلا تثبت إلا بدليل، وأما كونه من وراء حائل فلابد أن يثبت ذلك، وإلا فالأصل أن يكون الأمر مستوياً سواء بحائل أو بغير حائل.
والدليل الثالث: هو ما رواه مسلم في صحيحه أيضاً عن عائشة رضي الله عنها: ( أنها فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فخرجت تلتمسه )، وكانت رضي الله عنها شديدة الحب له، وفيها ما في النساء من الغيرة، فلما فقدته قالت: آه لعله ذهب إلى بعض نسائه، أو إلى بعض إمائه .. إلى مارية أو غيرها، ( فذهبت تلتمسه فوجدته في المسجد يصلي وهو ساجد وقدماه منصوبتان، قالت: فوقعت يدي على قدمه أو على قدميه وهو ساجد وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك ).
فقد لامست يدها قدمي النبي صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، ومع ذلك لم ينتقض وضوءه بهذا.
والدليل الرابع: ما رواه النسائي عنها رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهي معترضة بينه وبين القبلة اعتراض الجنازة، فإذا أراد أن يوتر مسها برجله )، وهذا دليل أيضاً على أن لمس المرأة باليد أو الرجل أو نحوها لا ينقض الوضوء.
الدليل الخامس: البراءة الأصلية، فإن الأصل أن مس المرأة لا ينقض الوضوء، هذا هو الأصل، ولا يمكن الانتقال عن هذا الأصل إلى ضده من القول بأن مسها ناقض للوضوء إلا إذا ورد دليل شرعي صريح صحيح على ذلك، هذه أدلتهم.
ولعلهم يلحقون هذا بنظائره من الأفعال التي إذا فعلها الإنسان بشهوة نقضت، باعتبار أن الشهوة نوع من الحرارة التي في النفس فيطفئها الوضوء، ولذلك يقول بعضهم أيضاً في مس الذكر كما سيأتي إن شاء الله في الجلسة القادمة: أنه إن كان بشهوة كان ناقضاً للوضوء، فيجعلون لهذا نظائر كثيرة في الشريعة كما فصله شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى، فيفصل هؤلاء بين المس بشهوة وبغير شهوة.
وذلك -أولاً- لقوة أدلة هذا القول كما سبق، فهي أدلة صحيحة؛ بعضها في الصحيحين، وبعضها خارج الصحيحين كحديث النسائي، ولكن قال فيه ابن حجر : إسناده صحيح كما في التلخيص، وحديثه الثالث في مسلم، وهي واضحة في الدلالة على المقصود، فأدلة هذا القول قوية.
الوجه الثاني: أنه معترض بالبراءة الأصلية كما سبق، ولنفترض أنه لم يثبت لدينا الآن أي حديث يدل على أن لمس المرأة لا ينقض، ولا حديث يدل على أن لمسها ينقض، فلو لم يرد حديث في هذا الباب ولا في ذاك، فماذا نقول في لمس المرأة هل ينقض الوضوء؟
لا ينقض؛ لأن الأصل عدم النقض، ولا يمكن أن نجعل شيئاً من الأشياء ناقضاً للوضوء مبطلاً لحكمه الثابت في الشرع إلا بدليل، فإن الإنسان إذا توضأ وضوءاً شرعياً كما سبق تفصيله، حينئذ نقول: إنه أصبح متوضئاً، له أن يصلي ويفعل الأشياء التي تحتاج إلى وضوء، ولا يبطل هذا الحكم إلا بدليل شرعي.
فمثلاً: ثبت بالدليل الشرعي أنه إذا تبول أو تغوط أو أمذى مثلاً انتقض الوضوء، فإذا فعل هذه الأشياء قلنا: بطل الوضوء بالدليل الشرعي، لكن لو فعل أمراً آخر لم يجدوا دليلاً على أنه ينقض الوضوء، فحينئذ لا يمكن أن يقول أحد: انتقض وضوءك من باب التحكم، وهذا المقصود بالبراءة الأصلية، وهي مأخذ قوي في هذا الباب إضافة إلى الأدلة.
والوجه الثالث في تقوية القول بعدم النقض هو: ضعف أدلة الآخرين، فإنه لا يتبين لمن قال بالتفريق بين الشهوة وغيرها وجه قوي أو دليل صحيح، وكذلك من قالوا بأنه ينقض مطلقاً لا يصح استدلالهم، فإن غاية ما استدلوا به الآية كما سبق، وهي قوله: أو لامستم في قراءة، وقوله: (أو لمستم) في القراءة الأخرى.
والجواب على استدلالهم بهذه الآية من وجوه:
الوجه الأول: أن هذه الآية فسرها حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس كما جاء عنه بسند صحيح أن المقصود فيها الجماع، وكذلك ثبت هذا التفسير عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما في كتاب الأوسط لـابن المنذر والطبري وابن أبي شيبة وغيرهم، فالمقصود باللمس أو الملامسة الجماع.
الوجه الثاني الذي يجاب عنه: أن الملامسة جاءت في القرآن الكريم في مواضع عديدة، كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [الأحزاب:49].
وقوله: وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ [البقرة:237].
وقوله: لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [البقرة:236].
ففي هذه الآيات ورد المس، من قبل أن تمسوهن ، ومن المعلوم أن إنساناً لو عقد على امرأة مثلاً ثم لمسها بيده في حضرة أناس آخرين، ثم طلقها دون أن يخلو بها، فإنه إن كان قد فرض لها مهراً فلها نصفه؛ لقوله: فنصف ما فرضتم ، وإن لم يكن فرض لها مهراً متعها؛ لقوله: ومتعوهن .
وقد ذكر ابن المنذر الإجماع على هذا، وهذا مصير إلى أن المقصود بقوله: ما لم تمسوهن وما أشبهه في الآيات الأخر: أن المقصود فيه الجماع وليس اللمس باليد، أو نقول أنه ليس المقصود فيه اللمس باليد، فهذا يدفع استدلالهم بهذه الآية على ما ذكروا.
وهناك وجه ثالث قوي في بيان معنى الآية، ذكره أيضاً ابن المنذر في الأوسط، وذكره الصنعاني في سبل السلام، وهو أنك لو تأملت سياق الآية لوجدتها تدل على أن المقصود بالملامسة الجماع؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول في أول الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6].
فذكر أولاً الوضوء، والوضوء يكون من الحدث الأصغر، ثم ذكر ثانياً الجنابة وأن منها الغسل، فقال: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، ثم قال: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6]، فكما أنه في أول الآية ذكر الطهارة الصغرى ثم الطهارة الكبرى، كذلك ثنَّى بذكر الطهارة الصغرى ثم الطهارة الكبرى.
فقوله: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [المائدة:6] قوله: أو جاء أحد منكم من الغائط ، هذا إيماء إلى الطهارة الصغرى.
ثم قال: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6] هذا إيماء إلى الطهارة الكبرى.
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6] ولذلك يكون التيمم من الأحداث صغيرها وكبيرها، على ما هو مبسوط في موضعه، وبذلك ينسجم سياق الآية أولها مع آخرها، وأنها ذكرت في أول الآية الطهارة الصغرى ثم الكبرى، ثم ثنى بذكر الطهارة الصغرى ثم الكبرى أيضاً، فيكون معنى: أو لامستم الجماع.
وبذلك يتبين أن لا دلالة في الآية على وجوب الوضوء من لمس المرأة، هذا ما يتعلق بحديث عائشة رضي الله عنها.
فذكر في آخر الباب حديث ابن عباس، ورقمه في النسخة تسعة وثمانون، قوله: ( يأتي أحدكم الشيطان فينفخ في مقعدته فيخيل إليه أنه أحدث ولم يحدث، فإذا وجد ذلك فلا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ).
وقد عزاه المصنف رحمه الله للبزار كما في هذا الموضع، وأشار في تلخيص الحبير إلى أن في إسناده أبا أويس، وأبو أويس قال عنه الحافظ ابن حجر في التقريب : صدوق يهم، وهو عبد الله بن أويس الأصبحي المدني، ولكن تابعه الدراوردي كما في رواية البيهقي، والدراوردي أيضاً قال عنه المصنف في التقريب : يخطئ، أو قريباً من ذلك.
ويتلخص أن مجموع الطريقين حسن كل واحد منهما ضعيف ضعفاً منجبراً فمجموعهما حسن، وبذلك يثبت الحديث، وهو بمعنى حديث أبي هريرة السابق، ولذلك يكون الكلام عنهما معاً.
ثم قال المصنف رحمه الله عقب ذلك: وأصله في الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد، فأشار إلى رواية عبد الله بن زيد في الصحيحين، وقد روى الشيخان عن عبد الله بن زيد بن عاصم : ( أنه شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ).
ثم عاد المصنف رحمه الله وذكر حديث أبي هريرة فقال: ولـمسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه نحوه، وهو حديث الباب الذي قرأتموه، ثم ختم هذه الأحاديث بحديث أبي سعيد الخدري الذي رواه الحاكم مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يأتي الشيطان أحدكم فيقول: إنك أحدثت، فليقل: كذبت )، وزاد ابن حبان : ( فليقل في نفسه: كذبت ).
ورواية الحاكم في مستدركه ذكر في أولها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا شك أحدكم في صلاته فليسجد سجدتين -إذا شك أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى، فليسجد سجدتين- وإذا جاء أحدكم الشيطان فقال: إنك أحدثت، فليقل: كذبت )، وقال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين.
ورواه ابن حبان في صحيحه كما أشار المصنف، وزاد فيه: ( فليقل في نفسه: كذبت )، ورواه الإمام أحمد في المسند بلفظ قريب.
فمن آحاد هذه القاعدة الحكم الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وهو أن الإنسان إذا توضأ ثم شك هل ينتقض وضوءه أو لا ينتقض؟ فحينئذ الأصل بقاء الطهارة سواء كان في الصلاة أم في غيرها، ولذلك ذهب جماهير أهل العلم من الأئمة الثلاثة أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم إلى أن الإنسان إذا توضأ ثم طرأ عليه الشك، أنه يدفع هذا الشك ولا يلتفت إليه، ووضوءه باق على حاله، سواء كان في صلب الصلاة أو في خارجها.
وأما الإمام مالك فنقل عنه في ذلك ثلاث روايات:
الأولى: أنه ينتقض وضوءه بذلك، وهذا لاشك قول ضعيف مخالف للأحاديث الصحيحة الثابتة.
الثانية: كرواية الجمهور أنه لا ينتقض بذلك وضوءه مطلقاً لا في الصلاة ولا في غيرها، وهذا هو اللائق بهذا الإمام الجليل المتبع للسنة، المطلع عليها، العالم بها.
الرواية الثالثة: أنه يفرق بين ما إذا كان في صلب الصلاة أو في خارجها، فإن كان الشك طرأ على المتوضئ في الصلاة فإنه لا يضره بل يستمر في صلاته ولا ينصرف، وإن كان الشك خارج الصلاة فإن عليه الوضوء.
وقد قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: أن رواية التفصيل لا تثبت عن مالك بل هي لأصحابه، رواية التفصيل يعني: التفريق بين ما إذا كان في صلب الصلاة أو كان في خارجها، لا تثبت عن الإمام مالك بل هي لأصحابه.
فالصحيح الذي لا إشكال فيه: أن الإنسان إذا توضأ ثم شك هل انتقض وضوءه؟ فإنه باق على أصل طهارته، وهذا الشك لا قيمة له حتى يستيقن، وهذا له صور كثيرة جداً منها:
أن يتوضأ ثم يخيل إليه أنه خرج منه شيء، سواء ريح أو بول أو غيره ولا يستيقن، كما هو في الحديث: ( يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة )، لا يخرج حتى يستيقن، وقد بلغ من وسوسة الشيطان وكيده لابن آدم أنه ينفخ في مقعدته حتى يخيل إليه أنه خرج منه شيء، ويوسوس للإنسان كما رأيتم في هذا الحديث، فهذه صورة.
والصورة الثانية: أنه يتذكر أنه متوضئ فعلاً؛ لكن شك هل نقض الوضوء أم لم ينقضه؟ هل أحدث أم لا؟
فنقول: الأصل بقاء الوضوء، وما دمت لم تستيقن أنك قد نقضت الوضوء فالوضوء باق على حاله، ويدخل في ذلك ما لو شك في أمر من الأمور هل هو ناقض للوضوء أم لا، مثل أن يكون توضأ ثم لمس امرأته وهو لا علم عنده بأن اللمس ينقض الوضوء كما أسلفت قبل قليل، أو توضأ ثم نام نوماً شك هل ينقض الوضوء أم لا، ففي هذه الحال نقول: لا يجب عليه الوضوء أيضاً؛ لأنه توضأ فوضوءه الأصل أنه باق، ولا يقال بانتقاض وضوئه ووجوب الإعادة عليه إلا بيقين، اللهم قد يقال: إنه إذا قوي الشك عند الإنسان لقوة الأدلة، نظر في مسألة فوجد أدلة الخصوم قوية بعض الشيء لكنها ما وصلت إلى حد القناعة الكاملة، وأراد أن يخرج مما يريبه إلى ما لا يريبه فتوضأ فهذا لا بأس به، لكن القول بإلزامه بالوضوء هذا الذي لا يقال، لا يقال بإلزامه بالوضوء، إلى غير ذلك من الصور التي تدخل تحت هذه المسألة.
مثله الشك في الماء: عندك ماء طاهر شككت هل طرأت عليه نجاسة أم لا، فنقول: الأصل بقاء طهارته، أيضاً هذا الماء وقعت عليه نجاسة لكنها قليلة فصار عندك شك، هل هذه النجاسة غيرت الماء بحيث يتحول إلى نجس أم لم تغيره، فنقول: الأصل بقاء الماء أيضاً على طهارته وأنه لم يتحول إلى نجس.
ومثله الثياب مثلاً والأرض والطعام وغيرها، إذا شك فيها فالأصل بقاؤها على حالها، فالأصل طهارتها .. الأصل حلها، عندك طعام قدم لك فشككت أن هذا الطعام قد يكون محرماً، أو قد يكون اشتراه صاحبه بمال حرام، فهذا شك مندفع، والأصل أنه مباح يجوز لك أكله، ولا تنتقل من هذا الأصل إلى غيره إلا بيقين يدفعه، فاليقين لا يدفع إلا بيقين مثله.
وهذا الباب أو هذه الأحاديث وهذا الحكم فيه سد لباب الوسوسة التي تعتري كثيراً من الناس، وكثيراً ما تسمع الأسئلة والإشكالات الطويلة العريضة من قبل بعض الجهلة في شكوكهم في أبواب الطهارات في ثيابهم، ووضوئهم، وأوانيهم، وطعامهم، وشرابهم، ومعاملتهم، وغير ذلك، فقد أغلق الشارع باب الوسوسة بهذا الحكم، لكن المصيبة أن الشيطان لا يقف كيده عند حد، فهو قد يقلب هذا الحديث إلى حجة لبعض الموسوسين، فمثلاً يقول لك الموسوس: نعم، أنا معك أن اليقين لا يدفع بالشك، فإذا صف في الصلاة قرأ الفاتحة، وقد يقرؤها بصوت جهوري فيؤذي من بجواره، ثم إذا انتهى من قراءتها طرأ عنده شك: هل قرأت الفاتحة؟ فجاءه الشيطان وضحك عليه وقال له: يا أخي أنت سمعت أن اليقين لا يزول بالشك، وأنت الآن الأصل عندك أنك ما قرأت، هذا هو الأصل، فلا تنتقل من هذا الأصل إلا بيقين، وما دام طرأ عندك شك بأنك ما قرأت الفاتحة إذاً فأعدها، فيعيد القراءة، ويعيد الركعة، ويعيد الصلاة، ويعيد الوضوء، وقد يدفع قيمة السلعة التي اشتراها عدة مرات، وقد يقع له من الإحراجات في ذلك شيء عظيم وهو يعتمد على هذه القاعدة، لكنه قلبها أو بالأصح قلبها له الشيطان فصار يستعملها بصورة مقلوبة، وكيد الشيطان لا يقف عند حد.
فهذه القاعدة العظيمة قررها النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وبين أن الإنسان لا ينتقض وضوءه إلا بيقين، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )، من المجمع عليه أنه ليس المقصود سماع الصوت فقط أو وجود الريح فقط، إنما معنى قوله: ( حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )، معناه: حتى يعلم ويقطع ويستيقن بأنه أحدث، سواء بسماع صوت أو وجدان ريح أو بغير ذلك من وسائل العلم اليقينية وهي كثيرة.
الجواب: الاستدلال بقصة الرجل الذي قبل المرأة على أن القبلة تنقض الوضوء ضعيف من عدة وجوه:
منها: أن الروايات التي في الصحيحين وغيرها أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم نزلت الآية، فقال له: ( أصليت معنا؟ قال: نعم، فقرأ عليه الآية، قال: ألي خاصة؟ قال: بل لأمتي عامة )، ولا أظنه يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالوضوء من هذه القبلة، مع أن الرجل لم يكتف بالقبلة؛ لأنه ورد في روايات صحيحة أنه عالج منها ما دون الجماع، وليس فقط التقبيل، لم يترك شيئاً إلا فعله إلا الجماع.
اليقين لا يزول بالشك، اليقين هو الأصل، يعني الحل بالنسبة للحم مثلاً، الطعام الأصل الحل، فلا يزول هذا اليقين الذي هو الأصل الذي هو الحل بطروء الشك في النفس، هذا المعنى، يعني: لا يزول شرعاً.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، اللهم وفقنا للخير، اللهم يسرنا لليسرى وجنبنا العسرى، وكن لنا في الآخرة والأولى، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر