الخفان: تثنية خف، والخف: هو نعل يصنع من أدم، يعني: من جلد يستر القدم حتى الكعبين، وكان أكثر الخفاف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تصنع من الأدم من الجلود.
وأما الجوربان: فهما تثنية جورب، وهو لفافة يستر بها القدم أيضاً، وهي كلمة فارسية معربة، وأصلها: كورب بالكاف، ثم عربت فقيل: جورب.
والمسح على الخفين هو من الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ولذلك قبل أن أدخل في شرح حديث المغيرة، أو حديثي المغيرة رضي الله عنه، أشير إلى ثبوت المسح على الخفين وما ورد فيه؛ وذلك لأن من أهل البدع من خالف في هذا الحكم.
فأقول: المسح على الخفين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.
ففي هذه الآية في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فيها ثلاث قراءات:
القراءة الأولى: شاذة، وهي قراءة الحسن بالرفع: (وأرجلُكم إلى الكعبين)، وهذه القراءة شاذة، يعني: لا يجوز القراءة بها؛ لعدم تواترها، ولا تعتبر قرآناً.
القراءة الثانية: هي قراءة الخفض: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم)، بخفض أرجل: (وأرجلِكم)، وهذه قراءة ابن كثير المكي وحمزة وأبي عمرو وغيرهم، وهي قراءة متواترة ثابتة: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين).
والقراءة الثالثة: وهي قراءة الباقين بنصب (أرجلَ): (وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين).
فأما على قراءة النصب: (وأرجلَكم) فقد سبق الكلام عن هذه القراءة، وأنها معطوفة على (فاغسلوا وجوهكم)، يعني: واغسلوا أرجلَكم، فيكون دليلاً على غسل الرجلين، وهو من أدلة من قالوا بوجوب الترتيب في الوضوء؛ لأنهم قالوا: أدخل الممسوح وهو الرأس بين المغسولات، فدل على مراعاة الترتيب في الوضوء، ولا دلالة في هذه القراءة، قراءة (وأرجلَكم).
لكن القراءة الثانية: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم). حينئذٍ ماذا يكون إعراب (وأرجلِكم)؟
يكون إعرابها أنها معطوفة على قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ )، فعلى هذه القراءة -قراءة الخفض- يكون الظاهر من الآية أن حكم القدم المسح وليس الغسل، لكن حين ننظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان للقرآن الكريم، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أنه جاءهم وهم يتوضئون وأعقابهم تلوح لم تغسل، فقال: ويل للأعقاب من النار )، ورواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة، ورواه مسلم عن عائشة، وقد ورد هذا المعنى: ( ويل للأعقاب من النار ) عن جمع من الصحابة كـعبد الله بن الحارث بن جزء وأبي أمامة ومعيقيب وجابر وغيرهم.
فكون الرسول صلى الله عليه وسلم توعد من لم يغسل قدميه وعقبيه بالنار دليل على أن الواجب في القدمين هو الغسل.
هناك دليل آخر، وهو أيضاً دليل متواتر أن جميع الذين حكوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا غسل القدمين، وقد سبق معنا أحاديث كثيرة في صفة الوضوء، منها: حديث عثمان وحديث المقداد بن معدي كرب وحديث علي وحديث عبد الله بن زيد جاره.
وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، يعني: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
ومن الأحاديث التي مرت أيضاً حديث الربيع، وحديث ابن عباس، وغيرها كثير.
جميع هذه الأحاديث التي ذكرت صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حديث منها لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح القدم، يعني: وهي مكشوفة أبداً، فدل على أن الثابت أن حكم القدم هو الغسل.
الوجه الثاني: أن يقال: إن المقصود بالمسح في قوله: (وأرجلِكم) أن يكون المقصود غسل الرجل، وعبر عنه بالمسح وإن كان المقصود الغسل.
الوجه الثالث: وهو ما ذهب إليه الطبري في تفسيره أنه قال: يجمع بين القراءتين، بين قراءة النصب وقراءة الخفض بأن المطلوب في الرجل الغسل مع المسح، بمعنى: أنه لا يكفي صب الماء عليها بل لابد من دلكها باليد، وذلك مبالغة في تنظيفها وتنقيتها؛ لأنها تتعرض لكثير من الأوساخ، بخلاف بقية الأعضاء.
الوجه الرابع: وهو المهم عندنا الآن أن يكون قوله: (وأرجلِكم) معطوف فعلاً على: (رءوسكم)، ويكون بياناً لجواز المسح على القدم إذا كانت مستورة بالخف أو الجورب أو نحوهما.
قال الإمام الصنعاني في سبل السلام : وهذا الوجه أقوى ما حملت عليه قراءة الخفض، يعني: أن يكون المقصود الإشارة إلى المسح على الخفين، وهذا وجه قوي، وبناءً عليه نقول: إن هذه الآية وهي قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم)، والقراءة الأخرى: (وأرجلَكم)، هذه القراءة دلت على وجوب غسل القدمين إذا كانتا مكشوفتين، وجواز المسح على الخفين بشروطه المعروفة، فهذا هو الدليل الأول من أدلة ثبوت المسح على الخفين، وهو قراءة الخفض في آية المائدة.
و قال الإمام ابن عبد البر في كتاب الاستذكار : ثبتت أحاديث المسح على الخفين عن نحو أربعين من الصحابة أيضاً .
وقال الحسن البصري : سمعت أحاديث المسح على الخفين عن سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، روى ذلك عن الحسن البصري ابن أبي شيبة وابن المنذر، رويا أن الحسن البصري قال: سمعت أحاديث المسح على الخفين عن سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه سلم.
و جمع الحافظ أبو القاسم بن منده في التذكرة أحاديث المسح على الخفين، فبلغت عنده ثمانين حديثاً، يعني: عن ثمانين صحابياً، ومن هؤلاء الصحابة العشرة المبشرون بالجنة ؛ ولهذا صرح عدد من الحفاظ بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة .
الإمام أحمد قال: إنها أربعون، وكذلك ابن عبد البر، الحسن البصري رواها عن سبعين، ابن منده ذكرها عن ثمانين منهم العشرة المبشرون بالجنة؛ ولهذا صرح عدد من الحفاظ بتواترها، ولا شك أن أحاديث المسح على الخفين متواترة.
وقد ذكر أسماء طائفة من هؤلاء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث الإمام الترمذي في سننه، وذكر طائفة أخرى الإمام البيهقي في سننه أيضاً، ومنهم أيضاً غير العشرة المغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعمرو بن أميه الضمري، وبلال، وابن مسعود، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو زيد الأنصاري، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وتعدادهم.
فهذه الأحاديث كلها مصرحة بمشروعية وجواز المسح على الخفين بشروطها المعروفة، ولذلك فهو ثابت في السنة ثبوتاً ظاهراً، ولهذا قال الإمام النووي : إنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلق لا يحصون كثرة.
وقال الشوكاني : إنه ثابت ثبوت الشمس في الضحى، ولا شك أن من اطلع على هذه الأحاديث يعرف أن المسح على الخفين ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه في حياته ومن بعده، وأفتوا به، فهذا دليل آخر على جواز المسح على الخفين والرخصة فيه.
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تفسير آية المائدة: الصحيح عن مالك وجل أصحابه القول بجواز المسح على الخفين حضراً وسفراً.
وما نقل عن مالك في هذا إن صح فهو محمول على أنه لا يستعمله في خاصة نفسه، وإلا فهو يفتي بجوازه، وبهذا قال الأئمة كلهم.
الجواب الأول: أن جميع ما نقل عنهم في ذلك ضعيف ولا يثبت، فمثلاً ما روي عن أبي هريرة يقول فيه الإمام أحمد : إنه باطل لا يصح، وما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو خبر منقطع. وما نقل عن عائشة ففيه راوٍ يقول عنه ابن حبان : كان يضع الحديث وهو محمد بن المهاجر .
فالجواب الأول عما نقل عن الصحابة: هو أن يقال: إن ما نقل عن الصحابة لا يثبت عنهم، هذا هو الجواب الأول.
الجواب الثاني: أن يقال: إنه إن صح عن أحد منهم فقد ثبت عنه أنه رجع عنه، كما ذكر ذلك البيهقي عن ابن عباس، وكما في صحيح مسلم عن علي وسيأتي، وكذلك عن عائشة رضي الله عنها.
الجواب الثالث: أن يقال: هب أنه ثبت عن هؤلاء الصحابة روايتان: رواية بالقول بالمسح على الخفين، وأخرى في إنكاره، فأي الروايتين أجدر بالقبول ولو كانتا صحيحتين، أيهما أجدر وأحق بالقبول؟
الرواية بالمسح؟ لماذا؟ لأنها مثبتة، وأيضاً لأنها هي الموافقة لرأي ورواية بقية الصحابة، وعلى كل حال فقد ورد عن هؤلاء الصحابة الذين نقل عنهم إنكار المسح على الخفين القول بالمسح، فقد رواه أبو هريرة كما سبق، وروايته في مسند الإمام أحمد، ورواه علي بن أبي طالب كما في صحيح مسلم عن شريح بن هانئ أنه قال: ( أتيت
وهو يدل ضمناً على أن عائشة قد ترى قريباً من ذلك؛ لأنه لو كان عند عائشة علم بإنكار المسح على الخفين لما وسعها إلا أن تبينه لهذا السائل، فلما أحالته إلى علي رضي الله عنه دل على أنه ليس عندها إنكار لأصل المسألة التي سألها عنها، وهي مسألة المسح على الخفين.
وبهذا يعلم أنه وقع الإجماع -أو شبه الإجماع- من الصحابة رضي الله عنهم على جواز المسح على الخفين، وكذلك من فقهاء السلف، ولم يخالف في هذا من أهل السنة إلا أبو بكر بن داود الظاهري . فقد نقل عنه قول بمنع ذلك، والله أعلم بثبوته عنه، ولكن خالف في موضوع المسح على الخفين بعض أهل البدع كـالرافضة والهادوية والخوارج، ولا شك أنه لا عبرة بوفاق هؤلاء القوم أو خلافهم، خاصة ونحن أمام نصوص صحيحة ثابتة بل ومتواترة، وأمام إجماع الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر.
وبذلك يظهر جلياً ثبوت المسح على الخفين بالكتاب والسنة والإجماع.
قوله: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم)، صرح الإمام البخاري في مواضع من صحيحه بأن ذلك كان في سفر في غزوة تبوك، وعند مسلم ومالك وأبي داود وغيرهم أن ذلك كان عند صلاة الفجر، والحديث في مسلم : ( أنه توضأ النبي صلى الله عليه وسلم فرجع فوجد أن الصحابة يصلون الفجر، وقد صلى بهم
وأيضاً في البخاري أنه قال: ( فأتيته بماء فغسل كفيه ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه )، وذكر غسل اليدين عند أحمد وغيره: (ومسح برأسه )، قال المغيرة : ( وكان الرسول صلى الله عليه وسلم عليه جبة شامية، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يخرج يديه من أكمامها ليغسلهما فضاق الكمان عنهما، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الجبة على كتفيه -كما في رواية
الأولى: هي أن المسح على الخفين محكم غير منسوخ. ومن أين نأخذ هذا الحكم أو هذه الفائدة؟ من أين نأخذها من الآية؟ أنه في غزوة تبوك، وهي متأخرة عن نزول الآية، فهذا دليل على أن المسح على الخفين محكم ليس بمنسوخ؛ لأن هذه القصة كما في صحيح البخاري ومسلم وغيرهما كانت في غزوة تبوك، ونزول آية الوضوء في المائدة كانت في غزوة المريسيع، وغزوة المريسيع هي في السنة السادسة أو قبل ذلك، فغزوة تبوك متأخرة عنها باتفاق أصحاب السيرة وغيرهم .
ومما يدل دلالة ظاهرة على أن المسح على الخفين أيضاً محكم وليس بمنسوخ بآية الوضوء: أن الصحابة رضي الله عنهم مسحوا على الخفين بعد وفاة الرسول صلى الله عله وسلم كما في حديث علي السابق وغيره، ومما يدل على ذلك نصوص أخرى كحديث جرير وغيره وستأتي إن شاء الله.
طيب. لو لبس الخفين وهو متيمم هل يجوز له أن يمسح عليهما؟ كلا. ولذلك قالوا: اشتراط الطهارة المائية (يعني الطهارة بالماء).
وقد خالف في مسألة اشتراط الطهارة داود الظاهري فقال: يشترط أن تكون القدم طاهرة بمعنى ليس عليها نجاسة، فعلى مذهب داود الظاهري لو لبس الخف وقدمه طاهرة ليس عليها نجاسة؛ لكنه محدث، هل يمسح عليها أو لا يمسح؟ على مذهب الظاهري داود يمسح، لكن على مذهب جماهير أهل العلم بل حكاه بعضهم إجماعاً كما سبق أنه لا يمسح، بل يشترط أن يكون على وضوء حين لبس الخف.
إذاً: لو سأل سائل: هل هناك خلاف في اشتراط الوضوء والطهارة في المسح على الخفين؟
لا خلاف في هذه المسألة إلا قول داود الظاهري .
والحقيقة أن الخطب يسير إذا وجدت أن الأمة مجمعة على حكم وخالف فيه فرد واحد، والنصوص صريحة فيما أجمعت عليه الأمة، يعني: حكاية الإجماع في مثل هذا الأمر ليس فيها إن شاء الله حرج، خاصة أنه قد يقال: إن الإجماع حاصل قبل هذا الإمام وبعده على اشتراط الطهارة.
أما المسألة الثانية: وهي اشتراط الطهارة المائية، فقد خالف فيها أصبغ بن الفرج من المالكية كما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري.
منهم: من اشترط الطهارة الكاملة.
ومنهم من قال: لا بأس أن يلبس الخفين ثم يكمل الطهارة. فقد يشكل على بعضكم معنى هذه المسألة. والذي أعلمه من مقصود المصنفين في هذه المسألة هو ما يلي: هل يشترط لبس الخفين على طهارة كاملة أو لا يشترط؟ وهناك فرق بين هذه المسألة وبين المسألة السابقة في اشتراط الطهارة.
المسألة السابقة: هل يشترط لبسهما على وضوء أو لا؟
داود الظاهري يقول: لو كان محدثاً ولبس الخفين جاز له المسح عليهما. وهذا قول شاذ انفرد به عن جماهير أهل العلم.
أما المسالة الثانية: التي بين أيدينا الآن فهي: هل يشترط كمال الطهارة، كيف تتصور هذه المسألة؟ كيف يمكن تصويرها؟ يمكن تصويرها مثلاً لو أن إنساناً توضأ، تمضمض وغسل وجهه ويديه ومسح برأسه، ثم غسل رجله اليمنى، ثم أدخل فيها الخف قبل غسل اليسرى، ثم غسل اليسرى ثم أدخل فيها الخف بعد ذلك. هذه صورة.
يوجد صورة ثانية: وهي أن يبدأ المتوضي فيغسل قدميه -فيغسل رجليه- للوضوء، ثم يدخل الخفين ثم يكمل الوضوء. والصورة الثانية هذه يمكن أن ترد على مذهب من لا يشترطون الترتيب؛ لأنه عندهم يجوز غسل القدمين قبل بقية الأعضاء، فيقول لك مثلاً: لو غسل قدميه ثم أدخل الخفين أكمل الطهارة ثم مسح عليها. هذا هو معنى المسألة، ولا بأس لو راجعها بعضكم حتى يفهمها.
هذه المسألة: وهي هل يشترط لبس الخفين على كمال الطهارة؟ فيها رأيان لأهل العلم:
الرأي الأول: هو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في الرواية الصحيحة عنه وإسحاق بن راهويه، وهو المذهب الذي مال إليه فيما يبدو الحافظ ابن حجر، والنووي، والشنقيطي، ورجحه سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز في كتاب الفتاوى الجزء الأول وفي غيره من فتاويه: أنه لابد من لبس الخفين على كمال الطهارة، بمعنى: ألا يلبس الخف إلا بعد أن ينتهي من الوضوء.
وعلى هذا القول لو غسل رجله اليمنى ثم أدخل الخف، ثم غسل اليسرى ثم أدخل الخف، هل يمسح عليهما؟ على هذا القول -وهو القول الأول- يخلع اليمنى فقط؛ لأنها هي التي لبست على غير طهارة، يخلعها ثم يلبسها فقط؛ حتى يكون لبسها بعد كمال الوضوء.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة منها: حديث المغيرة هذا في الصحيحين، فإن قوله: ( فإني أدخلتهما طاهرتين ) يفهم منه الطهارة الشرعية الكاملة، والطهارة الكاملة لا تتحقق إلا بغسل القدمين كلتيهما.
ومنها حديث أنس عند الدارقطني والحاكم وصححه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ أحدكم فلبس خفيه فليمسح عليهما وليصل فيهما إن شاء، ولا يخلعهما إلا من جنابة )، فإن قوله: (إذا توضأ أحدكم) يشعر بشرطية الوضوء قبل لبس الخفين، وقد ورد نحوه -نحو حديث أنس رضي الله عنه- كما في حديث صفوان بن عسال عند الترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم، أنه قال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نمسح على خفافنا إذا لبسناهما على طهر )، وحديث صفوان بن عسال سيأتي إن شاء الله، وقد صححه الخطابي والترمذي، وحسنه البخاري، ففيه إشارة إلى اشتراط الطهر، يعني: الطهارة الشرعية المعروفة، وقد وردت أحاديث أخر في هذا المعنى، فهذه الأحاديث استدلوا بها على اشتراط الطهارة الكاملة للمسح على الخفين.
القول الثاني: وهو قول الإمام أبي حنيفة، والثوري، ويحيى بن آدم، والمزني، وابن المنذر، وغيرهم، قالوا: لا يشترط الطهارة الكاملة، بل لو لبس أحد الخفين ثم أكمل الطهارة جاز المسح عليهما، كما في الصورة السابقة: أن يغسل الرجل اليمنى ثم يلبس الخف، ثم يغسل اليسرى ثم يلبس الخف.
وكما في الصورة الثانية عند من لا يشترط الترتيب: أن يغسل القدمين ثم يلبس الخفين ثم يكمل بقية أعضاء الوضوء.
واستدلوا بأن من لبس الخفين بعد غسل الرجل يصدق عليه أنه لبسه على طهارة وعلى طهر. ومن غسل الرجل اليمنى ثم أدخلها ثم غسل اليسرى ثم أدخلها يصدق عليه أنه أدخل كلاً من القدمين وهي على طهارة، وهو على وضوء أيضاً. وهذه المسألة قد تكون مترتبة على بعض القواعد والاختلافات الأصولية؛ ولذلك قال الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله: والقول الأول -يعني: اشتراط الطهارة الكاملة- أظهر في الدليل وهو أحوط. فأما الاحتياط فلا شك أنه أحوط، وليس بالإنسان حاجة إلى أن يفعل ذلك، خاصة وهو يجد هذا الخلاف القوي وهو يسمع اشتراط الطهارة.. اشتراط الوضوء.. اشتراط إدخال القدمين وهما طاهرتان للمسح عليهما.
لكن لو فرض أن إنساناً جاهلاً فعل ذلك دون أن يعلم بهذه الخلافات والأقوال، أو أن الاحتياط يقتضي منه هذا الأمر فسأل، فهل يقال له: إن عليه أن يعيد الوضوء مثلاً، أو أن يخلع الخف أو ما أشبه ذلك؟ لا شك أن خلع الخف ليس أمراً عسيراً عليه؛ لأن غاية ما يمكن أن يقال له: أن اخلع الخف اليمنى التي فيها الإشكال، ثم البسها مرة أخرى في الحال بدون أن تحدث شيئاً، وهذا أمر يسير، وفيه خروج من هذا الخلاف القوي، وعمل بهذه الأدلة القوية السابقة.
لكن افترض أن إنساناً فعل هذا الأمر ثم صلى وانتهت المسألة، وجاء يسألك، ففي مثل هذه الحالة إذا تأملت المسألة ووجدت -والله تعالى أعلم بالصواب- أن مطالبته بالإعادة، وأن لبسه للخف على القدم حينئذٍ ليس على طهارة فيه بعض النظر؛ لأننا نقول: هو إذا لبس الخف اليمنى على القدم اليمنى هذه الخف في حكم المعدوم، في حكم اللغو، فلا شيء، يعني: سواء لبسها أو ما لبسها لا يتعلق بها حكم، ما دام ما غسل اليسرى، فإذا غسل اليسرى ثم لبس الخف من حينئذٍ أصبح قد لبس الخفين على طهارة، بمعنى: أن خلع الخف ثم لبسها هو تحصيل حاصل، وهو قد لبس الخف في القدم اليمنى بعد أن اكتملت طهارتها.
حتى على القول بالترتيب ووجوبه كما سبق ترجيحه أنه غسل جميع أعضائه، ثم غسل الرجل اليمنى ثم لبس الخف، فالرجل اليمنى حينئذٍ يصدق عليها أنها نالها حقها من الوضوء وانتهى حكمها ووجوب غسلها، بقيت اليسرى فنقول: لا يحق للإنسان المسح مثلاً على الخف في القدم اليمنى إلا بعد اكتمال غسل الرجل اليسرى ولبس الخف عليها.
ولذلك مثلاً: لو أن إنساناً بعدما لبس الخف على القدم اليمنى أحدث، هل نقول: إنه يتوضأ ويمسح على الخف اليمنى؟ أبداً، على مذهب جميعهم -والله أعلم- أنه لا يمسح عليها؛ لأنه وإن لبسها إلا أن حكم جواز المسح عليها لا يكون إلا بعد أن يغسل الرجل اليسرى ثم يلبس الخف عليها.
ولهذا يتبين أن الأولى للإنسان في ذات نفسه وفيمن يسأله من الناس أن يبين لهم أنه ينبغي ألا يلبس الخفين إلا بعد اكتمال الطهارة والوضوء. فإذا جاءك إنسان وهو قد توضأ الآن ووقع في هذه المسألة، فلا بأس أن تأمره بأن يخلع الخف اليمنى ثم يلبسها؛ لأن هذا من جهة احتياط وإبراء للذمة، وعمل ببعض الأدلة وليس فيه كلفة، لكن لو ترتب على هذا الأمر أكثر من ذلك، فمن الصعب أن يطالب بإعادة الوضوء والصلوات لما ذكرته، وهذه مسألة من مسائل الاجتهاد -كما رأيتم- ليس فيها أدلة صريحة بل الأدلة فيها محتملة.
يعني: لو افترض أن إنساناً توضأ ثم غسل الرجل اليمنى ثم لبس الخف عليها، ثم أحدث قبل غسل الرجل اليسرى، وأراد أن يعيد الوضوء مرة ثانية، هل نقول له: يجوز أن يمسح على الخف اليمنى؟ لا، عند جميع من سبق ذكرهم والله أعلم؛ لأننا نقول: إنه وإن لبس الخف اليمنى لا يتعلق بها حكم جواز المسح إلا بعد أن يغسل اليسرى ثم يلبسها أيضاً. فمن حينئذٍ يكون قد لبس الخفين كلتيهما وعلى طهارة. بمعنى: أن الوضوء ما يكتمل إلا بعد انتهاء غسل اليسرى، لكن فيما يتعلق باليمنى هي غسلت وانتهى حكمها.
مشروعية إسباغ الوضوء حتى في حال السفر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض واستنشق ثلاثاً، وغسل وجهه ثلاثاً، وغسل يديه ثلاثاً، ومسح برأسه وأذنيه، فهو يدل على مشروعية إسباغ الوضوء حتى في حال السفر.
ومن فوائده: جواز المعاونة في الوضوء، لفعل المغيرة رضي الله عنه.
ومن فوائده: جواز الأمر على من وثق به الإنسان ويطمئن إليه أن يأمره بخدمته بما يشاء، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر المغيرة أن يحمل إليه الماء.
ومن فوائده: استحباب أن يكون الإنسان على طهارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دعا بهذا الماء فقضى حاجته ثم توضأ.
ومن فوائده: مشروعية الإبعاد حال قضاء الحاجة، يعني: الغائط؛ لأنه في صحيح البخاري أن المغيرة قال: ( ثم ذهب حتى توارى عني فقضى حاجته ).
ومن فوائده: جواز لبس الثياب التي صنعها الكفار ما لم تعلم نجاستها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عليه جبة شامية رومية، ومعلوم أن أهل الشام كانوا نصارى، فما لم يعلم الإنسان نجاسة هذا الثوب يجوز له لبسه، وهذا إجماع فيما نقله بعض أهل العلم.
ومن فوائد الحديث: مشروعية المسح على الخفين وجوازه.
ومن فوائده: بيان فضيلة عبد الرحمن بن عوف حيث اقتدى به النبي صلى الله عليه وسلم في تلك الصلاة.
وهاهنا إشارة عابرة في هذه الفائدة، من المعروف كما في البخاري وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذهب إلى بني عمرو بن سالم فتأخر عن صلاة الظهر فصلى بهم
وفي هذا الموضع أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عبد الرحمن بن عوف فبقي، فلماذا أبو بكر رجع وتقدم النبي صلى الله عليه وسلم، وعبد الرحمن بن عوف بقي حيث هو وأكمل الصلاة بالناس؟ ما هو الفرق بين القصتين؟
الفرق بين القصتين والله تعالى أعلم: أن قصة أبي بكر لم يكن أبو بكر صلى فيها شيئاً من الصلاة، يعني: كان في الركعة الأولى، ولذلك تقدم النبي عليه الصلاة والسلام وأكمل بهم الصلاة، ولم يكن فاته شيء منها.
أما في قصة عبد الرحمن بن عوف فقد فاته ركعة، ومما لا شك فيه أن الإمام الراتب أو الرجل الفاضل إذا تقدم وقد سبق بركعة أو أكثر، حصل إشكال في الصلاة من حيث أن الإمام سوف يأتي بالصلاة من أولها، والمأمومون سوف يكملون؛ لأنهم قد صلوا ركعة أو أكثر، فيحصل اختلاف على الإمام، وقد يكون بعض المأمومين مسبوقاً أيضاً، أما إذا لم يكن فات الإمام شيء من الصلاة -كما في القصة الأولى- فلا إشكال حينئذٍ.
الوجه الثاني في تضعيف الحديث أو العلة الثانية: هي أن الظاهر أن الحديث مرسل، وأن ذكر المغيرة بن شعبة فيه غلط، فهو حديث مرسل منقطع، ولذلك ذكر بعض أهل العلم أنه ضعيف أو معلول، فقد ضعفه الإمام أحمد، وقال أبو حاتم وأبو زرعة : ليس بمحفوظ.
وقال الإمام البخاري : ليس بصحيح.
وقال الترمذي : هذا حديث معلول.
إذاً: أعل الحديث وضعفه الإمام أحمد، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري، والترمذي، وغيرهم من الأئمة المتأخرين كـابن حجر وسواه. هذا من حيث الإسناد.
أما من حيث المتن فإن المغيرة أخبر في هذا الحديث لو صح: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أعلى الخف وأسفله )، فعمم الخف بالمسح، والثابت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على مسح أعلى الخف كما في حديث علي الآخر وهو الحديث الثالث: ( لو كان الدين بالرأي لكان أسفل الخف أولى بالمسح من أعلاه، وقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهر خفيه )، وإسناده حسن كما قال المصنف هنا، وقال في التلخيص: إسناده صحيح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر