إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. سلمان العودة
  5. شرح بلوغ المرام
  6. شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 49-53

شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 49-53للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من خصائص أمة محمد صلى الله عليه وسلم الغرة والتحجيل، وقد جاءت الآثار أن هذه الأمة يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء، ومن مستحباب الوضوء وسننه التيمن بالطهور كما كان في هدي رسول الله ووضوئه في جميع أعضاء الوضوء، كما جاءت الآثار الصحاح في المسح على العمامة وبينت السنة النبوية شروطها وأحكامها.

    1.   

    شرح حديث: (إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء ...)

    بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أيها الإخوة! بقي عندنا من أحاديث الجلسة الماضية ثلاثة أحاديث تقريباً نبدأ بها الآن.

    فالحديث الأول منها: هو حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل ).

    معاني ألفاظ الحديث

    ونبدأ بهذا الحديث من أوله نظراً لأنني ما تمكنت في الجلسة الماضية من ذكر شيء كافٍ فيه، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً ).

    (الغر): جمع، ومفرده أغر، من الغرة، والغرة: هي البياض في جبهة الفرس أو في جبينه.

    وقوله: (محجلين): جمع محجل، والتحجيل: هو البياض في قوائم الفرس، في يديه ورجليه.

    قال العلماء: التحجيل الممدوح الذي يتمدح به العرب ويصفون به الخيل هو الذي يكون في ثلاث قوائم، وقد استعار النبي صلى الله عليه وسلم البياض والتحجيل الذي يكون في الفرس لما يكون عليه المتوضئ يوم القيامة من البياض والنور في جبهته، وفي يديه وفي رجليه، وأن هذا يكون من أثر الوضوء.

    اختصاص أمة محمد بالغرة والتحجيل

    هذه الميزة أو الخصيصة هي خاصية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال: ( إن أمتي يأتون يوم القيامة )، وبماذا يعرفهم الرسول صلى الله عليه وسلم إذا وردوا عليه الحوض كما ورد في الأحاديث الصحاح، (لما ذكر أنه بعقر حوضه، وأن الناس يردون عليه. فقالوا: يا رسول الله! كيف تعرف من لم يأت من أمتك؟ قال: إنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء)، فيعرفهم بذلك صلى الله عليه وسلم، لكن هل الخصيصة لهذه الأمة هي الوضوء الذي ترتب عليه الغرة أو التحجيل، أم السيما والعلامة في يوم القيامة؟ أيهما الخاصية لهذه الأمة هل الوضوء أم الغرة والتحجيل؟

    ذكر بعض أهل العلم أن الخاصية هي الوضوء، وأخذوا من هذا الحديث أن الوضوء خاصية من خصائص هذه الأمة، وهذا ليس بصحيح؛ لأنه ورد في أحاديث كثيرة صحيحة ذكر الوضوء للأنبياء السابقين وأتباعهم، كما في حديث زوجة إبراهيم عليه السلام، لما أخذها الجبار بـمصر فمد يده إليها فذهبت تتوضأ وتصلي، والحديث في الصحيحين.

    وكما في حديث جريج أنه توضأ وصلى وهو في الصحيحين أيضاً.

    ولذلك فإن الصواب: أن الوضوء ليس بخاصية لهذه الأمة، وإنما الخاصية هي الغرة والتحجيل.

    أما من استدل بقوله صلى الله عليه وسلم لما توضأ ثلاثاً ثلاثاً: ( هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي )، فهذا لا يصلح الاستدلال به؛ لأنه حديث ضعيف انفرد به ابن ماجه في سننه، وضعفه أهل العلم بالحديث، ضعفه ابن تيمية وابن حجر والنووي وغيرهم، وفي إسناده عبد الرحيم العمي وهو متروك، فلا يصلح الاستدلال بهذا الحديث على أن الوضوء سنة لجميع الأنبياء، لكن يستدل بغيره كما سبق.

    إذاً: فالخاصية لهذه الأمة هي الغرة والتحجيل وليست أصل الوضوء.

    الاختلاف في زيادة: (فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل)

    ( إن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين )، عرفنا معنى الغرة، وعرفنا معني التحجيل، لكن قال في آخر الحديث: ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، زاد مسلم في رواية: ( فمن استطاع منكم فليطل غرته وتحجيله )، فدل الحديث بظاهره على مشروعية إطالة الغرة والتحجيل، وهذا يقودنا إلى هذه المسألة المهمة:

    أولاً: قوله: (فمن استطاع منكم)، هل هو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أو هو من كلام أبي هريرة ؟

    ذكر جمع من العلماء المحققين أن هذا مدرج من كلام أبي هريرة، ممن ذكر هذا: الإمام ابن تيمية رحمه الله، فإنه قال: هذا لا يمكن أن يكون من كلام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الغرة لا تتصور، فمن المعلوم أن الوجه يجب غسله إلى منابت شعر الرأس المعتادة، فإذا زاد الإنسان في أعلى الجبهة غسلاً ماذا يكون؟ انتقل إلى فرض آخر حقه المسح وليس الغسل وهو الرأس، فالإنسان الذي يزيد من غسل أعلى الجبهة أو الجبين فيغسل بعض الشعر، يكون قد غسل عضواً آخر مع الوجه، ويكون قد غسل عضواً حقه المسح كما هو معروف؛ ولذلك نفى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يكون هذا من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك ذكر ابن القيم في حادي الأرواح: أن هذا مدرج من كلام أبي هريرة وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح، والمنذري، وغيرهم. قالوا: إنه مدرج من كلام أبي هريرة وليس من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم.

    ومما يقوي ما ذهبوا إليه من أنه مدرج: أن الحديث ورد عن عشرة من الصحابة غير أبي هريرة، لم يذكر منهم أحد هذه الجملة إلا أبو هريرة رضي الله عنه.

    وكذلك الحديث ورد عن أبي هريرة من طريق جماعة من التابعين لم يذكر منهم أحد هذه العبارة إلا نعيم بن عبد الله المجمر وحده، لم يذكر أحد ممن روى هذا الحديث عن أبي هريرة هذه الزيادة بسند صحيح إلا نعيم بن عبد الله المجمر، ونعيم نفسه قال -كما في رواية الإمام أحمد في المسند - بعد رواية الحديث: لا أدري، قوله: (فمن استطاع منكم) من كلام أبي هريرة أو من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    لذلك ذهب هؤلاء العلماء إلى أن قوله: (فمن استطاع منكم) هو مدرج، والمدرج قسم من أقسام الحديث كما هو معروف في علم المصطلح، صنف فيه بعض الحفاظ كتباً خاصة، ذكروا فيها الألفاظ المدرجة، ومعنى الإدراج: أن يدرج الراوي الصحابي أو غيره كلاماً من عنده مع المتن المرفوع، إما قبل الحديث أو في أثنائه أو بعده، فأما قبله فكما في الحديث الآخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار )، فقد حكم أهل العلم بأن قوله: ( أسبغوا الوضوء ) مدرج من كلام أبي هريرة، بدليل أنه ورد في رواية أخرى أنه قال: ( أسبغوا الوضوء فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار ).

    وأما المدرج في وسط الحديث: فكما في حديث بدء الوحي في الصحيحين.. حديث عائشة لما ذكرت: ( أنه عليه الصلاة والسلام كان يخلو بغار حراء الليالي ذوات العدد يتحنث. قال: وهو التعبد )، فقوله: وهو التعبد، مدرج من كلام الزهري تفسيراً لكلمة وهي قولها: (يتحنث).

    وأما المدرج في آخر الحديث فمثل حديث الباب.

    حكم إطالة الغرة والتحجيل

    ( فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل )، حكم كثير من المحققين على هذه الزيادة أنها مدرجة.

    ويترتب عليها الكلام في إطالة الغرة ما حكمه؟ هل يشرع للإنسان أن يطيل غرته فيغسل جزءاً من الرأس مثلاً أو جزءاً من صفحتي العنق، كما فسر بعضهم الغرة بأنها: أن يغسل مع الوجه جزءاً من صفحتي العنق، اليمنى واليسرى، ويغسل العضد مع الذراع، ويغسل الساق مع القدم، هل يشرع هذا أم لا يشرع؟

    اختلف أهل العلم في ذلك:

    فذهب الإمام الشافعي، أو نقول: ذهب الشافعية وأكثر الحنفية إلى أن إطالة الغرة مشروع، على خلاف بينهم في مقدار الإطالة، فبعضهم قال: تطيل إلى نصف العضد ونصف الساق. وبعضهم قال: إلى الركبة والكتف. وبعضهم قال: تغسل مع اليد ولو شيئاً من العضد، ومع القدم ولو شيئاً من الساق.

    المهم: أنهم ذهبوا إلى مشروعية إطالة التحجيل، لا أقول: الغرة، يعني: مشروعية إطالة الغرة والتحجيل بغسل شيء من صفحتي العنق، وشيء من العضد، وشيء من الساق، هذا مذهب الشافعية وكثير من الحنفية.

    وحجتهم:

    أولاً: هذا الحديث.

    وثانياً: قالوا: ما زعمتموه من أن هذا من فعل أبي هريرة وقوله فهو مردود، هكذا يقولون، كما قال الإمام النووي وابن حجر وغيرهم، ليس مردوداً من حيث الدراية والفن، فقد يكون هذا اللفظ مدرجاً، لكن قالوا: ثبت أن أبا هريرة رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك في الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( أنه غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، واليسرى مثل ذلك، ثم غسل رجله اليمنى حتى أشرع في الساق، واليسرى مثل ذلك، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ )، روى هذا عنه نعيم بن عبد الله المجمر في صحيح مسلم .

    ورواه أيضاً عنه أبو حازم قال: ( كان أبو هريرة

    رضي الله عنه يتوضأ في المسجد أو يتوضأ في سطح المسجد فغسل يده وعضده وغسل رجله وساقه. فقلت: ما هذا الوضوء يا أبا هريرة

    ؟ قال: فالتفت إلي وقال: أنتم هاهنا يا بني فروخ! -فروخ: بفتح الفاء وتشديد الراء، وبنو فروخ هم العجم، يعني: أن المتكلم كان من الموالي- لو علمت أنكم هاهنا ما توضأت هذا الوضوء
    )، ثم ساق الحديث -حديث الباب- قالوا: فكون أبي هريرة فعل هذا ورفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه هكذا توضأ، دليل على أنه يشرع إطالة التحجيل والغرة، وأنه ثابت عن الرسول عليه الصلاة والسلام.

    والدليل الثاني عندهم: فعل أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما، فأما فعل أبي هريرة فقد ثبت عنه في الصحيح كما ذكرته آنفاً، وأما فعل ابن عمر أنه كان يغسل العضدين والساقين، فقد رواه عنه أبو عبيد وغيره بإسناد حسن، كما يقول الحافظ ابن حجر ؛ ولذلك قال الشافعية وكثير من الحنفية: بأنه يشرع إطالة الغرة والتحجيل. وذهب الإمام مالك والإمام أحمد في الرواية المنصوصة عنه، والتي اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم، ورجح هذا القول ابن بطال الإمام الفقيه المالكي، وعدد من أهل العلم: إلى أنه لا يشرع الزيادة على المحل المفروض، فلا يشرع إطالة الغرة ولا إطالة التحجيل بغسل العضد كله أو الساق كلها أو نصفها؛ لأن هذا لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فهو زيادة ليست بمشروعة، وإنما لا بأس أن يغسل الإنسان شيئاً يسيراً من العضد يطمئن به إلى أنه غسل المرفق، وشيئاً يسيراً من الساق يطمئن به إلى أنه غسل الكعبين أو الكعب، أما أن يطيل إلى نصف الساق، أو إلى نصف العضد، أو إلى الكتف، أو إلى الركبة فهذا غير مشروع.

    وهذا القول الثاني أقرب وأقوى لما سبق، من أن الزيادة مدرجة من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، وأن الثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رفعه إليه أبو هريرة ليس هو غسل العضد والساق، وإنما غسل يده حتى أشرع في العضد، وهذا يدل على أنه غسل جزءاً يسيراً، وغسل رجله حتى أشرع في الساق وهذا التحجيل، أما في الغرة: فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ألبتة، يعني: ما ثبت أنه يغسل شيئاً من رأسه ولا شيئاً من صفحتي العنق بسند صحيح ولا حسن، ولذلك فإنه يقال: إن الراجح أنه لا يشرع إطالة الغرة، ولا التحجيل إلا أن يغسل شيئاً يسيراً من العضد يطمئن به على استيعاب غسل الذراع كلها بما فيها المرفق، وغسل شيء يسير من الساق يطمئن به على غسل القدم كلها بما فيها الكعب، هذا هو القول الراجح في هذه المسألة .

    فوائد الحديث

    حديث أبي هريرة رضي عنه الله عنه فيه فوائد أخرى غير ما سبق منها:

    فضل الوضوء، وأن المتوضئ يأتي يوم القيامة عليه نور في جبهته من أثر غسل الوجه، ونور في يديه ورجليه من أثر غسلهما، وهكذا كل عبادة يجهد فيها الإنسان ويتعب عليها يجازى عليها بالنور في يوم القيامة؛ ولذلك قال: صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح لما ذكر الأشياء التي يرفع بها الدرجات ويكفر بها الخطايا، قال: ( إسباغ الوضوء على المكاره )، يعني: في الحالات التي يكرهها الإنسان، كما في شدة البرد حيث يتوضأ بماء بارد، لا يتسنى له ماء فاتر -مثلاً- فيتوضأ ببارد، وقل مثل ذلك في إسباغ الوضوء بماء قد يكون حاراً في شدة الحر بما يلقاه الإنسان من التعب فيجازى على ذلك كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.

    وفيه من الفوائد: جواز الوضوء في المسجد لما سبق في الرواية الأخرى عن أبي هريرة : (أنه توضأ في سطح المسجد)، ففيها جواز الوضوء في المسجد؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات : ولا يكره الوضوء في المسجد إذا لم يخرج من المتوضئ بصاق ولا مخاط ولا غيره مما يصان عنه المسجد، فإن المسجد يصان عما هو دون ذلك.. يصان عن القذاة تكون في العيش أو في غيره، فإذا توضأ الإنسان في المسجد دون أن يخرج منه مخاط أو بصاق يتأذى به المسجد أو من في المسجد فإن هذا جائز.

    ومن فوائد الحديث: أن الغرة والتحجيل من خصائص هذه الأمة وقد سبق هذا.

    هذه أهم المباحث في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    الجمع بين حديث أبي هريرة في الغرة والتحجيل وبين قول النبي: (فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم)

    كيف نجمع بين حديث مشروعية إطالة الغرة والتحجيل وبين: ( فمن زاد فقد أساء وظلم )، كما سبق؟

    أولاً: تبين من خلال البحث أنه لا يشرع إطالة الغرة والتحجيل، وإنما ما ورد هو من فعل ابن عمر وأبي هريرة فهو اجتهاد خاص بهم، وإنما المشروع غسل اليدين مع المرفقين، وغسل القدمين مع الكعبين، ويحتاج المتوضئ إلى غسل شيء يسير من الساق أو العضد للاطمئنان على استيعاب المحل المغسول، أما إطالة الغرة إلى نصف العضد، أو إلى الكتف، أو إلى نصف الساق، أو إلى الركبة، فهذا -والله أعلم- الراجح عدم مشروعيته.

    ثم إن حديث: (فمن زاد)، على رأي الشراح الذين وقفت على كلامهم هو في عدد الغسلات، ولذلك فإن الرواية الصحيحة: ( فمن زاد فقد أساء وظلم )، أما رواية: ( من نقص )، فقد حكم العلماء بشذوذها، حتى قال مسلم: إن الحفاظ على خلافها، بدليل أن النقص هاهنا فهموا منه النقص في العدد، وليس النقص في المحل المغسول، وإلا فإن النقص في المحل المغسول أيضاً ظلم ولا يجوز، بل لابد من استيعاب المحل المغسول.

    1.   

    شرح حديث: (كان رسول الله يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره ...)

    ننتقل بعد ذلك إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله، وترجله، وطهوره، وفي شأنه كله )، والحديث متفق عليه.

    معاني ألفاظ الحديث

    قولها رضي الله عنها: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن )، المقصود (بالتيمن): تقديم اليمين.

    وأرى أن قولنا: (تقديم اليمين) أحسن من قول: (البداءة باليمين)، التيمن نقول: هو تقديم اليمين، وأظن أن قول: (تقديم اليمين) أفضل من قول: (البداءة باليمين)؛ وذلكم لأن الأفعال التي يزاولها الإنسان نوعان: أفعال مشتركة يعني: تشترك فيها اليمين والشمال، سواء الأيدي أو الأرجل، وذلك مثل المشي، فالإنسان إذا مشى يحرك رجليه كلتيهما، وإذا لبس مثلاً يدخل يديه الثنتين في ثوبه أو ردائه، فهذه الأشياء التي تشترك فيها اليدان نقول: السنة فيها تقديم اليمين أو نقول: البداءة باليمين، يعني مثلاً: لو أردت أن تلبس الثوب يستحب ويشرع أن تدخل الكم الأيمن قبل الكم الأيسر، وقل مثل ذلك في أنواع الثياب أو غيرها، ولو أردت مثلاً أن تلبس النعلين يشرع أن تبدأ بالنعل اليمنى في الرجل اليمنى ثم بالرجل اليسرى، ولو أردت أن تدخل المسجد شرع أيضاً أن تبدأ برجلك اليمنى قبل اليسرى، وهكذا.

    فالأشياء المشتركة تبدأ فيها باليمين هذا هو النوع الأول.

    لكن النوع الثاني: أشياء خاصة، مثل الأشياء التي تخص يداً واحدة، مثال الأكل، فمثل هذا هل نقول: السنة فيه البداءة باليمين؟ الأكل هل نقول يسن البداءة باليمين؟ لو قلنا ذلك، لكان ما عليك أن الإنسان يبدأ باليمين، ثم يشرك معها الشمال، وهذا غير وارد ولا مقصود، وقول مثل ذلك بالنسبة للتناول والإعطاء وغيرها، فهذه الأشياء الخاصة التي تزاول أصلاً باليد اليمين نقول: السنة فيها استعمال اليمين، أو تقديم اليمين؛ ليس بمعنى تقديمها على الشمال، لكن بمعنى: استعمالها.

    فقولها رضي الله عنها: (يعجبه التيمن)، يعني: تقديم اليمين، سواءً كان ذلك بالبداءة بها قبل الشمال، أو باستعمالها دون الشمال.

    (يعجبه التيمن في تنعله)، التنعل: هو لبس النعل .

    (وترجله)، الترجل: هو تسريح الشعر، هو تسريح الشعر وترجيله.

    (وطهوره)، الطهور: هاهنا بضم الطاء (وطُهوره)؛ لأن المقصود فعل التطهر، يعني: يغسل اليمنى قبل اليسرى.

    وقولها: (وفي شأنه كله)، يعني: في جميع أموره صلى الله عليه وسلم، هذا الحديث يدل على مشروعية تقديم اليمين والبداءة بها، واستعمالها فيما كان من باب التكريم والفضل .

    فأما تقديمها فمثل لبس النعل يشرع البداءة باليمين، ولبس الثوب يشرع البداءة باليمين، والوضوء يشرع البداءة باليمين، ودخول المسجد يشرع البداءة باليمين، وكل ما كان من هذا النوع وإن لم يرد فيه نص، مثلاً: دخول البيت يقدم فيه الإنسان رجله اليمنى لأن دخول البيت أولى من البقاء في السوق، حيث إن السوق يكون فيها من المنكرات، أو وجود الشياطين أو غيرها ما لا يكون في البيت، وهكذا الأماكن الفاضلة يشرع فيها البداءة باليمين، وكل عمل فاضل فالمشروع البداءة فيه باليمين.

    ولذلك روى الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة أن النبي صلى عليه وسلم قال: ( إذا انتعل أحدكم فليبدأ باليمين، وإذا نزع فليبدأ بالشمال؛ لتكون اليمنى أولهما تنعل وآخرهما تنزع ).

    يعني: هذا فيه إشارة إلى العلة، إلى أن الانتعال الأولى أن يبدأ فيه الإنسان بالرجل اليمنى إذا أراد أن يلبس، ثم اليسرى، فإذا أراد أن يخلع فإنه يبدأ بخلع النعل اليسرى من الرجل اليسرى، ثم اليمنى، فتكون اليمنى مكثت فيها النعل أكثر من اليسرى قبلها وبعدها، والحديث متفق عليه.

    ومثل ما رواه الحاكم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ( من السنة إذا دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى، وإذا خرج أن يبدأ برجله اليسرى )، والحديث رواه الحاكم كما ذكرت، وصححه ووافقه الذهبي، فأشار إلى أن السنة في دخول المسجد البداءة بالرجل اليمنى، وفي الخروج البداءة بإخراج الرجل اليسرى، ويقاس على هذا غيره.

    ومن ذلك أيضاً: ما رواه الشيخان عن أم عطية رضي الله عنها في قصة غسل ابنته أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها )، (ابدأن بميامنها).

    ومما يدل على ذلك حديث الباب -حديث عائشة رضي الله عنها- فهذا في الأشياء التي فيها بداءة باليمين، يعني: أشياء مشتركة، من الأشياء الفاضلة.

    أما الأشياء الخاصة التي فيها تقديم لليمين فهي كثيرة أيضاً، يعني: مثل الأكل، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه؛ فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ) .

    وروت عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت يده اليمنى لطعامه وطهوره، ويده اليسرى لوضوئه )، أو لما كان من الأذى، كالاستنجاء ونحوه، والحديث رواه أبو داود، وقال النووي إسناده صحيح .

    وروت أيضاً حفصة رضي الله عنها: ( أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى كانت لطعامه ولباسه، وأن يده اليسرى كانت لما سوى ذلك )، والحديث أيضاً رواه أبو داود، وقال فيه النووي : سنده حسن، والأحاديث في هذا الباب كثيرة جداً.

    المقصود: أن الأشياء الفاضلة يشرع أن يقدم الإنسان فيها اليمين، فإن كانت خاصة شرع أن يتعاطاها الإنسان باليمين، أما ما كان ضد ذلك فإن المشروع فيه تقديم اليسار، وذلك كالخروج من المسجد كما سبق، أو الخروج من البيت، أو دخول الخلاء أو ما شابه ذلك، ولعله يقاس على ذلك الأماكن السيئة، كالأماكن التي يكون فيها معصية أو فسق أو شر وفساد. وقد يقول قائل: ما الدليل؟

    فنقول: هذه، يعني: إذا كان الخلاء يشرع تقديم اليسار فيه، يعني: بناءً على القاعدة العامة وإن لم يرد فيه نص خاص به؛ لأن فيه قاذورات حسية تجتمع إليها الشياطين كما ثبت في الأحاديث، فما كان فيه قاذورات معنوية كالفساد والغناء وأكل الحرام، وغيره من ألوان المحاربة لله ورسوله والربا، فإن تقديم اليسار من باب أولى، والشياطين إلى هذه الأمور أسرع وهي عليها أحرص، وإن كان الأولى بالمسلم أصلاً ألا يأتي إلى هذه الأماكن، لكن نفترض أنه جاء لإنكار منكر أو أمر بمعروف أو مصلحة شرعية من هذا الباب، فلعله يصلح أن تقاس على الخلاء ونحوه بتقديم اليسار، والله أعلم.

    ولذلك تعلمون أن قولها رضي الله عنها: ( يعجبه التيمن في تنعله وترجله وفي طهوره وفي شأنه كله )، أن قولها: (وفي شأنه كله)، هل هو على عمومه أم لا؟ قولها: (وفي شأنه كله)، هل هو على عمومه أو يستثنى من ذلك شيء؟

    قولها: (وفي شأنه كله): هو في ما كان من باب التطييب والتزيين والتحسين والتكريم. أما ما كان بضد ذلك فالمشروع فيه تقديم الشمال.

    والمصنف رحمه الله ساق حديث عائشة هذا للدلالة على مشروعية غسل اليد اليمنى قبل اليسرى، والرجل اليمنى قبل اليسرى، وهذا لا خلاف في أنه مشروع، ويأتي مزيد بسط لهذه المسألة في الحديث الذي يليه.

    مشروعية التيمن في سائر أعضاء الوضوء

    هل التيمن مشروع في جميع أعضاء الوضوء أم في بعضها؟

    التيمن، يعني: البداءة باليمين في أعضاء الوضوء هو مشروع في اليدين وفي الرجلين.

    أما غسل الوجه ومسح الرأس ومسح الأذنين، فإن المشروع أن يبدأ بهما الإنسان معاً، فإن هذا هو المعروف من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يغسل وجهه بيديه، وكذلك يمسح رأسه، وكذلك الحال في أذنيه، وقد سبق ذكر صفة مسح الرأس، ومسح الأذنين، وأنه يبدأ بهما، ولم يرد أنه يبدأ باليمين ثم ينتهي منها ثم يبدأ بالشمال؛ وذلك لأنه يغسلهما معاً، يغسل اليمنى باليمنى واليسرى باليسرى، وكذلك صفحة الوجه اليمنى تغسل باليمنى واليسرى تغسل باليسرى، وهذا هو المشروع، إلا لو أخذ الإنسان غرفة من الماء ليغسل بها وجهه، فإن المشروع أن يأخذها بيده اليمنى، وهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يضيف إليها اليسرى ثم يغسل بها وجهه، وكذلك لو كان الإنسان لا يستطيع أن يغسل بكلتا يديه، يعني: لو افترض أن إنساناً في يده اليسرى مانع يمنعه من استعمالها في الوضوء، فصار يريد أن يستعمل اليمنى في غسل الوجه، هنا نقول: المشروع أن يبدأ بشقه الأيمن ثم الأيسر، وكذلك الرأس، وكذلك الأذنان يبدأ باليمنى ثم باليسرى.

    1.   

    شرح حديث: (إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم)

    أما الحديث الذي يليه فهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم ).

    تخريج الحديث

    والحديث أخرجه الأربعة وصححه ابن خزيمة .

    قوله: ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم )، يعني: البداءة باليمين كما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها.

    والحديث رواه -غير من ذكر المصنف- ابن حبان والبيهقي والطبراني، وابن خزيمة كما يفهم من قول المصنف: وصححه ابن خزيمة يعني: رواه ابن خزيمة في صحيحه .

    فإذاً: الحديث رواه أيضاً ابن خزيمة وابن حبان والطبراني والبيهقي وأحمد وغيرهم.

    وفيه زيادة مهمة ذكرها ابن حبان والبيهقي والطبراني زيادة: ( إذا لبستم ) أو ( وإذا لبستم )، يعني: ( إذا توضأتم وإذا لبستم فابدءوا بيمينكم ).

    الحديث قال فيه الإمام ابن دقيق العيد : هو حقيق بأن يصحح.

    وقال الإمام النووي في المجموع : هو حديث حسن رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بإسناد جيد.

    البداءة بالميامن في الوضوء

    الحديث يدل على ما دل عليه حديث عائشة رضي الله عنها؛ من مشروعية التيمن في الأشياء الفاضلة، مشروعية البداءة باليمين في الوضوء وفي اللبس.. لبس الثوب، ولبس النعل وغيرها.

    بقي سؤال: قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم)، ابدءوا: فعل أمر وهو يدل على الوجوب، فهل نقول: بأن البداءة باليد اليمنى قبل اليسرى، والرجل اليمنى قبل اليسرى في الوضوء واجب بناءً على أن هذا الأمر للوجوب، أم يوجد صارف يصرفه عن ذلك؟

    قول عائشة رضي الله عنها في الحديث الذي قبله: (كان يعجبه)، قد يستفاد منه عدم الوجوب، يعني: كأنه يستحب ذلك أو يستحسنه، وهذا قد يصلح، أقول: قد يصلح أن يكون صارفاً لهذا الأمر عن الوجوب، لكن هناك أشياء أخرى أيضاً تصرفه عن الوجوب.

    ورد: (أن علياً رضي الله عنه توضأ فبدأ بالشمال قبل اليمين)، وهذا صح عن علي من طرق كثيرة أنه: (توضأ فبدأ بالشمال قبل اليمين وقال: ما أبالي بأي أعضائي بدأت)، وهذا سبق في مبحث الترتيب، سبق ذكر الحديث ومن رواه، وورد نحو ذلك عن ابن مسعود .

    فهذا يدل على أن هذا الأمر ليس للوجوب بل للاستحباب.

    ومن القرائن أيضاً: قرينة ثالثة تصرف الأمر عن الوجوب، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأتم وإذا لبستم فابدءوا بيمينكم )، فهل قال أحد بأنه أيضاً في اللبس يجب البداءة باليمين؟ كلا. فدل على أن الوضوء مثله أيضاً؛ لأنهما معاً سيقا مساقاً واحداً، والأمر يشملهما معاً، فقرن الوضوء مع اللبس دليل على أن الأمر للاستحباب.

    والقرينة الرابعة الصارفة عن الوجوب: هي ما نقله النووي من اتفاق العلماء على عدم الوجوب، ومثله قال ابن قدامة : لا نعلم أحداً قال بوجوبه، ونقل ابن المنذر الإجماع؛ على أن من توضأ فبدأ بالشمال قبل اليمين ليس عليه أن يعيد الوضوء، ذكر ذلك في الأوسط وغيره، أن من توضأ فبدأ بالشمال قبل اليمين ليس عليه أن يعيد الوضوء.

    فهذه الأشياء تدل على أن قوله: ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم )، هو للاستحباب وليس للوجوب، وكذلك الشأن في اللبس.

    هذان الحديثان ينبغي أن لا نغادرهما قبل تنبيه يسير: أن المسلم ينبغي أن تكون أفعاله مقصودة، يعني: كثير منا يلبس نعله وثوبه ويدخل ويخرج ويفعل أشياء كثيرة من أمور الحياة دون قصد ولا انتباه، ولو سألته: هل هو يقدم اليمين أو الشمال؟ ما يتذكر شيئاً، وهذا من الغفلة عن هدي الرسول عليه الصلاة والسلام، ونحن أولى من غيرنا بالحرص على معرفة السنة وتطبيقها والدعوة إليها، ولذلك فإن الذي يجدر بكل طالب علم أن يحرص على أن تكون أفعاله مقصودة بنية، وأن يتحرى فيها هدي النبي صلى الله عليه وسلم، في الدخول والخروج.. دخول الخلاء والخروج منه، دخول المسجد، في اللبس، في لبس النعل، في الترجل، في حلق الرأس، وفي كل أمر يكون فيه مجال لتقديم اليمين، أو لمعالجته باليمين إن كان من الأمور الفاضلة، وضد ذلك فيما كان من الأمور المكروهة المستقبحة، فلا ينبغي أن يغفل الإنسان عن هذه الأشياء.

    1.   

    شرح حديث: (أن النبي توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين)

    فعندنا حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة والخفين )، أخرجه مسلم.

    تخريج الحديث وشواهده

    حديث المغيرة هذا أخرجه الجماعة إلا البخاري، وقد وهم من نسبه إلى البخاري، وهم المنذري وغيره في نسبته إلى البخاري، بل هو من رواية مسلم دون البخاري .

    وللحديث شواهد كثيرة منها: حديث بلال عند مسلم أيضاً، (أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخمار والخفين ).

    والمقصود بالخمار: مأخوذ من التخمير، والتخمير: هو التغطية، ومنه سميت الخمر؛ لأنها تغطي العقل، ومنه سمي: خمار المرأة؛ لأنها تغطي به رأسها ووجهها.

    فقوله رضي الله عنه: ( مسح على الخمار )، يعني به العمامة؛ لأنه يخمر بها الرأس ويغطى.

    ومن شواهد الحديث أيضاً ما رواه البخاري وغيره عن عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح على العمامة والخفين ).

    وأحاديث المسح على العمامة وردت من طرق كثيرة: عن أنس، والمغيرة، وعمرو بن أمية، وثوبان : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين)، والعصائب: جمع عصابة وهي العمامة، والحديث في إسناده انقطاع.

    ووردت الأحاديث أيضاً عن أبي موسى الأشعري وأبي أمامة وغيرهم.

    قال الإمام أحمد : المسح على العمامة جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من خمسة أوجه، فهذه الأحاديث وغيرها هي شواهد لحديث المغيرة .. شواهد لقوله: (فمسح بناصيته وعلى العمامة )، يعني: شواهد في المسح على العمامة.

    صفة المسح على العمامة

    قوله رضي الله عنه: ( فمسح بناصيته وعلى العمامة )، معروف أن الناصية كما سبق: هي مقدم شعر الرأس، وهذا الحديث فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بعض شعر الرأس، ثم أكمل المسح على العمامة، وهذه إحدى الطرق التي ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم في مسح الرأس، أن يمسح جزءاً من الرأس ويكمل بقية المسح على العمامة، وقد وردت عنه صفة أخرى وهي أنه يمسح برأسه كله، وهذا سبقت أحاديثه وهي كثيرة معروفة.

    والصيغة أو الصفة الثالثة التي ثبتت عنه صلى الله عليه وسلم: هي المسح على العمامة فحسب، وهذا ورد أيضاً كما في حديث بلال : ( مسح على الخمار والخفين )، وكما في حديث عمرو بن أمية وغيرهم؛ ولذلك قال الإمام ابن القيم وابن تيمية والشوكاني وغيرهم: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم المسح على بعض الشعر والتكميل على العمامة، وثبت عنه المسح على الرأس كله، وثبت عنه المسح على العمامة دون الرأس، وكله ثابت وحسن وجائز.

    فوائد الحديث

    الحديث -حديث المغيرة - أخذ منه بعض الفقهاء جواز الاقتصار على مسح بعض الرأس لقوله: ( ومسح بناصيته )، وهذا سبق أنه مذهب الشافعي وأبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد ومالك، وهذا الحديث من حججهم، ولكن الصحيح أنه لا يستقيم الاحتجاج بهذا الحديث؛ لأن فيه أنه أكمل على العمامة، والمسح على العمامة مذهب عدد كبير من أهل العلم فلا يستقيم الاستدلال به على جواز الاقتصار على مسح بعض الرأس.

    وفيه: جواز أو مشروعية المسح على الخفين إذا لبسهما الإنسان، يعني: لم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتعمد لبس الخفين من أجل المسح، ولا أن يتعمد خلعهما من أجل الغسل، بل على الحال التي كان عليها صلى الله عليه وسلم، إن أراد الوضوء وعليه خف مسحه ولم يخلعه إلا إذا انتهت مدته، وإن أراد الوضوء ورجله ليس عليها خف غسلها ولم يتعمد لبس الخف من أجل المسح عليها.

    وأحاديث المسح على الخفين متواترة وردت عن أكثر من سبعين صحابياً، وسيأتي الكلام عليها في باب خاص في المستقبل إن شاء الله تعالى.

    ومن فوائد الحديث: جواز المسح على العمامة، وهذا هو الغرض الذي ساقه المصنف من أجله.

    أقوال أهل العلم في المسح على العمامة

    القول الأول: جواز المسح على العمامة، وهو مذهب أبي بكر وعمر وأنس وأبي موسى الأشعري وسعد بن أبي وقاص، وجمع من الصحابة ذكرهم الإمام الترمذي في جامعه، وذكرهم ابن المنذر في الأوسط وغيرهم، وهو مذهب جماعة من السلف من التابعين، ومذهب فقهاء أهل الحديث، مذهب الإمام أحمد وإسحاق بن راهويه وأبي ثور وداود الظاهري وابن المنذر ... الأئمة، وكذلك الثوري والأوزاعي وغيرهم: جواز المسح على العمامة، وحجتهم ما سبق من الأحاديث كحديث المغيرة، وحديث بلال، وحديث عمرو بن أمية الضمري، وحديث ثوبان، وغيرها من الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأفعال الصحابة كذلك، فقد ثبت عن أبي بكر وعمر وغيرهم، حتى إن عمر رضي الله عنه قال: (من لم يطهره المسح على العمامة فلا طهره الله).

    القول الثاني: مذهب الأئمة الثلاثة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة، قالوا: لا يجزئ المسح على العمامة وحدها، فلو مسح الإنسان على العمامة وحدها لم يجزئه ذلك، بل لابد أن يمسح على جزء من الرأس، ومن المعلوم أن مسح جزء من الرأس يجزي أصلاً عند معظم هؤلاء الأئمة، فيكون مسح العمامة معه حينئذٍ على سبيل الاستحباب، إذا مسح جزءاً من الرأس.

    وحجة هؤلاء الأئمة: أن مسح الرأس فرض ثبت بالكتاب، وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6].

    وأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة، فلا يعدل عنه لأدلة قابلة للتأويل، بحيث إنهم يؤولون الأدلة على أن مسح جزء من الرأس يكفي، وأن الإكمال على العمامة هو على سبيل الاستحباب كما سبق، أو غير ذلك من التأويلات.

    وقد يجاب عن هذا: بأن مسح شعر الرأس أصلاً هو بدل عن غسل الرأس، فمن باب التيسير على الناس أن الله تعالى أوجب عليهم مسح الرأس في الوضوء بدلاً عن غسله للمشقة في غسله، فلا يمنع.. وذلك لأن الشعر نابت على الجلد، فلا يمنع أن يكون ما غطى هذا الشعر يقوم مقامه كما قام الشعر مكان الجلد، يعني: كما قام الشعر مقام الجلد لا يمنع أن تقوم العمامة مقام الشعر، وكذلك كما قام الخف مقام القدم في جواز مسحه بدلاً من غسل القدم.

    حجتهم الثانية: بعض أقوال عن الصحابة في منع ذلك، كما ورد عن ابن عمر وجابر وغيرهما.

    مثلاً: روى الترمذي في سننه عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال: [ سألت جابراً عن المسح على العمامة: فقال : يا ابن أخي! أمس الماء شعرك ]، والحديث أو الأثر إسناده صحيح، فهو يدل على أن جابراً رضي الله عنه يرى أنه لابد أن يصل الماء إلى شيء من شعر الرأس، ولا يكفي المسح على العمامة، لكن هذه الأقوال عن الصحابة تقابلها أقوال غيرهم ممن أجازوا ذلك.

    والقول الأول بالجواز قوي، وأدلته صريحة وصحيحة.

    شروط المسح على العمامة

    لكن بعض الفقهاء اشترطوا شروطاً:

    منها: أن يشق نزع العمامة، وذلك كما إذا كانت محنكة، والعمامة المحنكة: هي التي يمر كور منها من تحت الحنك إلى الجهة الأخرى فتكون مربوطة، ومثله إذا كانت مربوطة بكلاب أو غيره من الأشياء التي يشق نزعها، فلا يلزم نزعها حينئذٍ.

    وبعضهم قال: إن لم تكن محنكة فليكن فيها ذؤابة، والذؤابة: هي ما يكون في خلف العمامة، ينزل أربع أصابع أو أكثر من ذلك، وقد: ( أرخى النبي صلى الله عليه وسلم ذؤابة وراء عمامته )، قالوا: لأن العمامة الصماء - الصماء: هي العمامة التي ليست محنكة ولا فيها ذؤابة - ليست من شأن المسلمين، بل العادة أنه يلبسها أهل الكتاب وغيرهم ففيها تشبه.

    ولذلك قال بعض الفقهاء: ينبغي أن تكون العمامة مما يشق نزعه، وخالف في ذلك آخرون، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية : يجوز المسح على العمامة الصماء، وما ورد عن الإمام أحمد أنه كرهه فإن هذه كراهة لا ترتقي إلى التحريم.

    وقد نقل القول بجواز المسح على العمامة عن أبي موسى الأشعري وعمر وغيرهم من الصحابة.

    ولابد أن تكون العمامة تغطي معظم المحل أو تغطي المحل الذي جرت العادة بتغطيته، ويعفى عن اليسير من الشعر الذي يظهر عادة من مقدم شعر الرأس أو الأذنين أو ما شابه ذلك.

    بعضهم بل القليل منهم كـأبي ثور اشترطوا أن يلبسها على طهارة، وجعلوا لها توقيتاً كالخف تنتهي بانتهائه، خلافاً لأكثر من أجازوا المسح على العمامة، فإنهم لم يشترطوا لبسها على طهارة، ولم يحددوا لها وقتاً تنتهي فيه.

    هذا فيما يتعلق بالعمامة، وهل يقاس على العمامة خمار المرأة؟ المرأة قد تخمر رأسها بغطاء أو خمار فهل يجوز لها أن تمسح عليها؟

    يقال في ذلك ما يقال في العمامة: أنه إذا شق عليها نزع واحتاجت إلى ذلك -كما إذا كان هناك برد شديد- فإنه يجوز لها أن تمسح عليه وهذا هو المذهب، وقد (صح عن أم سلمة -نقله ابن المنذر - أنها مسحت على الخمار)، وكذلك نقله عن الحسن البصري، وهو مذهب بعض السلف أنها تمسح على الخمار إن كانت تحتاج إلى ذلك كما إذا كانت في شدة برد ونحوه، ويشق عليها نزعة، وهذه رخصة تشبه الرخصة في المسح على العمامة؛ لأن المقصود ظاهر في الرخصة والتيسير على الأئمة بذلك.

    1.   

    شرح حديث: (ابدءوا بما بدأ الله به)

    الحديث الأخير هو حديث جابر : ( ابدءوا بما بدأ الله به )، هكذا بلفظ الأمر.

    ورواه مسلم بلفظ الخبر: (نبدأ بما بدأ الله به).

    والحديث ساقه المصنف للدلالة على مشروعية الترتيب في الوضوء على حسب ما ورد في الآية، بدءاً بغسل الوجه ثم اليدين ثم مسح الرأس ثم القدمين.

    ويشكل على هذا الاستدلال أن الرواية الثابتة هي بلفظ الخبر (أبدأ)، والخبر قد لا يكون فيه دلالة قوية على الوجوب فيما يتعلق بالوضوء.

    أما فيما يتعلق بالحج، يعني البداءة بـالصفا فالدلالة في الحالين واحدة، يعني: أبدأ أو ابدءوا؛ لأنه صلى الله عليه وسلم، إن كان قال: (ابدءوا)، فهو أمر يدل على الوجوب، وإن كان قال: (أبدأ) يعني : أنا ( بما بدأ الله به)، فهو فعل منه صلى الله عيه وسلم لبيان المناسك.

    وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث جابر عند مسلم : ( خذوا عني مناسككم )، فهو يدل بكل حال -كما ذكر ابن دقيق العيد في الإمام وغيره- على وجوب البداءة بـالصفا قبل المروة .

    وقد يستدل به على وجوب البداءة بالوجه قبل اليدين، وباليدين قبل الرأس، وبالرأس قبل القدمين، وقد سبق تقرير هذه المسألة في مبحث الترتيب في الوضوء.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    768033749