وحجة أصحاب هذا القول: أولاً: ما رواه البيهقي والحاكم وصححاه عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماءً غير الذي أخذ لرأسه). والحديث ظاهر الدلالة على ما ذهبوا إليه, فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماءً جديداً غير الذي مسح به رأسه.
ودليلهم الثاني: هو ما رواه مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر : [ أنه كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه]. عن ابن عمر , يعني: من فعله هو رضي الله عنه [ أنه كان يأخذ الماء بإصبعيه لأذنيه]. والحديث أو الأثر صحيح الإسناد بلا شك ؛ لأنه من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر , وهذا إسناد يعبر عنه بأنه سلسلة الذهب , سلسلة ذهبية, فإسناده صحيح, هذه عمدة أصحاب هذا القول.
وأصحاب هذا القول يحتجون بعدة أدلة, منها قولهم: إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ لأذنيه ماءً جديداً, كما قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد، قال: لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخذ لأذنيه ماءً جديداً غير ماء رأسه.
والذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وضبطوه كـعلي بن أبي طالب وعبد الله بن زيد وعثمان والربيع وعبد الله بن عمرو والمقداد بن معدي كرب وغيرهم، كلهم لم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماءً جديداً, إلا ما ورد في الروايات السابقة.
وبين قوسين أسأل الإخوة أيضاً: ذكرت في درس سابق عدداً تقريبياً للصحابة الذين رووا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, فكم عددهم تقريباً؟
الذي أذكر أنني قلت: إن عددهم يزيد على اثنين وعشرين صحابياً, كل هؤلاء لم يذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماءً جديداً, إلا ما ورد في رواية عبد الله بن زيد عند البيهقي والحاكم , وسبق ذكرها قبل قليل. هذا دليلهم الأول.
دليلهم الثاني: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( الأذنان من الرأس). وهذا الحديث ذكرت في أحد الدروس السابقة أيضاً أنه وإن كان معظم طرق هذا الحديث لا تخلو من مقال، إلا أنه ورد من طرق كثيرة, عن عشرة من الصحابة أو أكثر, وذكرت أسماء هؤلاء الصحابة الذين رووا الحديث: منهم: أبو أمامة رضي الله عنه، وأبو هريرة، وأبو موسى الأشعري، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن زيد، وأنس بن مالك، وسمرة بن جندب، وأنس، وعائشة، وغيرهم. ولذلك فهذا الحديث في مجموع طرقه صحيح وثابت, بل إن من العلماء من صحح إحدى روايات هذا الحديث, وهي رواية ابن عباس , حيث صححها جمع من أهل العلم, كـابن الجوزي وابن القطان وعبد الحق الإشبيلي وغيرهم, فما بالك بعشر روايات عن عشرة من الصحابة، يظهر منها أن الحديث إن شاء الله ثابت, وإذا ثبت الحديث فما دلالته؟ ما وجه دلالته على عدم مشروعية أخذ ماء جديد للأذنين؟ كيف استدلوا به على هذا الحكم؟ ( الأذنان من الرأس).
كما سبق أن المشروع في مسح الرأس مرة واحدة، القول الراجح أنه يشرع مسحه مرة واحدة, يدبر بيديه ويقبل، والحديث يفيد أن الأذنين من الرأس فحكمهما حكمه, فكما لا يشرع مثلاً أن يأخذ لرأسه مرتين، كذلك لا يشرع أن يأخذ لرأسه ثم يأخذ مرة أخرى لأذنيه, فحكمهما حكم الرأس, ويكفي مسحهما بالماء الذي مسح به رأسه, فدلالة الحديث على ذلك ظاهره.
إذاً: إذا كانت شاذة فتقابلها رواية محفوظة, يعني: أثبت منها, ما هذه الرواية المحفوظة؟ هي ما في صحيح مسلم عن عبد الله بن زيد أيضاً رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه بماء غير فضل يديه), يعني: بعدما غسل يده اليمنى ثم اليسرى أخذ لرأسه ماءً جديداً, للرأس وليس للأذنين, أخذ للرأس ماءً جديداً ومنه الأذنان, لكن ليس في الرواية المحفوظة أنه أخذ للأذنين أيضاً ماءً جديداً غير الذي مسح به رأسه. فبناء على ذلك تكون هذه الرواية شاذة, وتقدم عليها الروايات الأخرى, تقدم عليها الرواية الأخرى الصحيحة, وتقدم أيضاً الأحاديث الكثيرة التي لم تذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لأذنيه ماء جديداً.
أما رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنه ( أنه أخذ الماء بإصبعيه لأذنيه). فيقال: هذا فعل صحابي, وحجية فعل الصحابي وقوله فيها كلام, ويقال أيضاً: إن هذا قد يحمل على الحاجة, ولذلك فإن القول الراجح والله أعلم في هذه المسألة: أنه لا يشرع للإنسان أن يأخذ لأذنيه ماءً جديداً غير الذي مسح به رأسه إلا إذا احتاج إلى ذلك, متى يحتاج إلى ذلك؟ يحتاج إلى ذلك فيما إذا كان البلل الذي في يديه قليلاً وشعر رأسه كثيفاً، وزال البلل من إصبعيه فاحتاج إلى أن يبللها من جديد ليمسح بهما أذنيه, فحينئذ يكون هذا العمل مشروعاً كما ورد في رواية ابن عمر رضي الله عنه, أما المحافظة على ذلك بدون داع فالراجح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يفعل ذلك.
هذه هي المسألة الأخيرة في الدرس الماضي, وهي المسألة الأولى في هذا الدرس, وكنت اختصرتها لضيق الوقت, فلم أذكر أدلة القول، ولا الأقوال ومن قال بها.
المسألة الأولى أو الثانية: هي مسألة الترتيب في الوضوء وحكمه, ما حكم الترتيب في الوضوء؟ هل يجب على الإنسان أن يتوضأ وضوءاً مرتباً كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فيبدأ بالمضمضة والاستنشاق وغسل الوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم القدمين؟ أم يجوز له الإخلال بهذا الترتيب بأي شكل من الأشكال, فقد يبدأ بقدميه قبل يديه، أو يبدأ بيديه قبل وجهه, أو يبدأ برأسه قبل يديه, أو ما أشبه ذلك؟
هذه المسألة -مسألة الترتيب في الوضوء- لو سألنا عن الظاهر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث السابقة, ومنها الحديث الذي مر, والذي رواه حمران عن عثمان رضي الله عنه في وضوئه وقوله: ( أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مثل أو نحو وضوئه هذا ). فهل كان النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوضوء مرتباً للأعضاء أم مخالفاً بينها؟ ماذا تذكرون؟ كان مرتباً للأعضاء. ولذلك فإن ترتيب الأعضاء سُنة, أو بالأصح مشروع, ترتيب الأعضاء مشروع بلا خلاف في مشروعيته, لكن الخلاف هل هو واجب أو سنة, أما القول بمشروعيته ففيما أعتقد أنه لا خلاف فيه, إنما اختلفوا هل يجب الوضوء مرتباً أو يستحب؟
واستدلوا لذلك بأدلة, منها قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]. فهذه الآية -آية الوضوء- تدل على وجوب الترتيب, كيف تدل على وجوب الترتيب؟ ما وجه دلالتها؟ يستدل بها على وجوب الترتيب من أكثر من وجه.
فأولاً: ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر عند مسلم أنه قال في الحج: ( أبدأ بما بدأ الله به). أبدأ بصيغة الخبر, ورواه النسائي في صفة الحج بصيغة الأمر, يعني: ( ابدءوا بما بدأ لله به ). إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]. فيجب على الإنسان أن يبدأ بأيهما؟ بالصفا؛ لأن الله بدأ به, لكن لو بدأ بالمروة؟ فما الشأن؟ ما شأنه؟ الشوط الأول لا يعتد به, ويلزم أن يبدأ من الصفا؛ لقوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158]. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبدأ بما بدأ الله به), وفي لفظ: ( ابدءوا بما بدأ الله به). وإن كان بعضهم حكم على لفظ الأمر (ابدءوا) بالشذوذ، لكن لفظ الأمر ولفظ الفعل معناهما متقارب, فإذا نظرنا في الآية وجدنا أن الله تبارك وتعالى قد رتب أعضاء الوضوء, فبدأ بغسل الوجه, فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6], وثنى بغسل اليدين, وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6], وثلث بمسح الرأس, وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6], وربع بغسل الرجلين, وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]. طيب أين المضمضة والاستنشاق؟
داخله في الوجه. وأين مسح الأذنين؟
داخل في مسح الرأس؛ لحديث: ( الأذنان من الرأس). إذاً: هذه الأعضاء جاءت في الآية مرتبة, والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أبدأ بما بدأ الله به), أو (ابدءوا)، فدل على أنه يجب التزام الترتيب الوارد في الآية. هذا وجه من أوجه دلالتها على وجوب الترتيب.
الوجه الثاني: قالوا: إن الله تبارك وتعالى أدخل في الآية ممسوحاً بين مغسولات, فإن الوجه واليدين والرجلين حكمها الغسل, أما الرأس فحكمه المسح, فكون الله عز وجل أدخل الرأس بين هذه المغسولات دليل على أن الترتيب مراد, وإلا لكانت البلاغة تقتضي سرد المغسولات أولاً, ثم ذكر الممسوح, فلما أدخل الله عز وجل الممسوح -وهو الرأس- بين الأعضاء المغسولة -بين غسل اليدين وبين غسل الرجلين- دل على أن مراعاة هذا الترتيب واجب. هذا استدلالهم بالآية, هذان وجهان في طريقة استدلالهم بالآية.
الدليل الثاني على وجوب الترتيب: قالوا: إنه لم يثبت من وجه صريح صحيح إخلال النبي صلى الله عليه وسلم بهذا الترتيب, بل ثبت محافظته عليه في كل أو معظم الروايات الواردة في صفة الوضوء.
الوجه الثالث للاستدلال على وجوب الترتيب: أن الوضوء أمر تعبدنا بفعله, ونحن لم نعرف أصل مشروعية الوضوء إلا عن طريق الوحي والشرع, عن طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسُنة, فكذلك لا نعرف هيئة الوضوء وصفته, والأعضاء التي تغسل والأعضاء التي تمسح, وكيف يكون ذلك، إلا عن طريق الوحي: القرآن والسُنة, فلا بد من التزام الهيئة والصفة الواردة في القرآن والسُنة في ذلك, فهو أمر تعبدنا بفعله بصفة وهيئة مخصوصة.
هذه ثلاثة أدلة لهم في وجوب الترتيب, وهي أدلة قوية.
احتجوا ببعض الأحاديث الواردة في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم, من أهمها: حديث المقداد بن معدي كرب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بوضوء فغسل يديه قبل أن يدخلهما في الإناء, ثم غسل وجهه ثلاثاً, ثم غسل ذراعيه ثلاثاً, ثم تمضمض واستنشق). هكذا, غسل كفيه أو يديه, ثم غسل وجهه ثلاثاً ثم ذراعيه ثلاثاً, ثم تمضمض واستنشق.
والحديث رواه أبو داود وأحمد في المسند والضياء المقدسي في الأحاديث المختارة , وقال الإمام الشوكاني في نيل الأوطار : إسناده صالح. وكذلك الضياء المقدسي لابد أن يكون صححه؛ لأنه ذكره في الأحاديث المختارة أو حسنه. ما وجه الدلالة من هذا الحديث على عدم وجوب الترتيب؟
هو تأخير المضمضة والاستنشاق إلى ما بعد غسل اليدين, إلى ما بعد غسل الذراعين, مع أن المضمضة والاستنشاق في الأصل هي أول ما يبدأ به, فهي قبل الوجه أو مع الوجه, فتأخير المضمضة والاستنشاق إلى ما بعد غسل الذراعين دليل عندهم على عدم وجوب الترتيب.
وبقية الحديث قال: ( غسل ذراعيه, ثم تمضمض واستنشق, ثم مسح برأسه وأذنيه ظاهرهما وباطنهما، ثم غسل رجليه ). هذه بقية الحديث إنما ذكرت موضع الشاهد، وهو تأخير المضمضة والاستنشاق إلى ما بعد غسل الذراعين.
ووجه الاستدلال بالحديث واضح كما سبق.
الجواب على هذا الحديث يكون من طرق من قبل الأولين, إما أن يقال: إن هذا الحديث وإن كان إسناده صالحاً إلا أنه معارض للأحاديث الكثيرة الثابتة في ترتيب الوضوء, وبناءً عليه فهو حديث شاذ, مخالف للأحاديث الكثيرة الصحيحة. ولعل هذا من الردود القوية على هذه الرواية.
وإما أن يقال: إن (ثم) في الحديث لا تقتضي الترتيب على طريقة بعض النحويين.
وإما أن يقال: إن المضمضة والاستنشاق سنة على رأي بعض الفقهاء, كما سبق ذكر ذلك, وإذا كانت سنة على القول بأنها سنة فحتى لو تركها فوضوءه صحيح, فلو فعلها في نهاية الوضوء فمن باب الأولى أن هذا جائز, هذا على القول بأن المضمضة والاستنشاق سنة, لكن الذي ترجح من خلال هذه الدروس أن المضمضة والاستنشاق واجبان في الوضوء وفي الغسل, الطهارة الكبرى والصغرى, هذا الذي ترجح, إنما هذا جواب من قالوا بأنها سنة, لا إشكال في هذا الحديث عندهم.
وقد يجاب بما أجاب به الإمام ابن قدامة المقدسي في المغني , بأنه يحمل على أن النبي صلى الله عليه وسلم نسي المضمضة والاستنشاق حتى غسل ذراعيه, فتمضمض واستنشق. وعلى هذا الجواب فلو نسيهما ثم ذكرهما بعدما غسل ذراعيه أو مسح برأسه فإنه يتمضمض ويستنشق, على هذا الجواب الذي اختاره ابن قدامة في المغني .
وكما سبق فالذي تطمئن إليه النفس من هذه الأجوبة, أو أقوى هذه الأجوبة فيما يظهر هو القول بإن هذا الحديث وإن كان إسناده صالحاً إلا أنه شاذ لمخالفته للأحاديث الكثيرة الصحيحة التي روعي فيها الترتيب.
أحمد، مرة ثانية؟ حديث الربيع في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه يبدأ فيغسل كفيه, ثم يتوضأ فيغسل وجهه, ثم يتمضمض ويستنشق). على فرض صحة الحديث فما وجه الدلالة منه أولاً؟ ما وجه الدلالة من الحديث على عدم وجوب الترتيب؟
أنه قدم غسل الوجه على المضمضة والاستنشاق, لأنها قالت: ( ثم يتوضأ فيغسل وجهه, ثم يتمضمض ويستنشق). فقدم غسل الوجه على المضمضة والاستنشاق.
والجواب على هذا الحديث يسير، وهو أن نقول: إن المضمضة والاستنشاق داخلتان في غسل الوجه, فهما جزء منه، فلا يجب ترتيبها معه, بل يسن, يسن أن يبدأ بالمضمضة والاستنشاق قبل الوجه, لكن لو غسل وجهه ثم تمضمض واستنشق جاز؛ لأن المضمضة والاستنشاق داخلتان في غسل الوجه. وهذا ما أجاب به ابن قدامة في المغني.
هذان الدليلان من أقوى ما استدلوا به من الأحاديث المرفوعة.
وجه الدلالة من هذا الأثر عندهم: أن علياً رضي الله عنه بين أنه لا يبالي بأي عضو من أعضاء الوضوء بدأ, فهو دليل لهم على عدم وجوب الترتيب.
ويجاب عن هذا الأثر: بأن مقصود علي رضي الله عنه يحتمل أن يكون: (ما أبالي هل بدأت باليمين أو بدأت بالشمال), يعني: هل بدأ بيده اليمين أو بالشمال أو برجله اليمين أو بالشمال, فإن من المعلوم أن البداية باليمين ما حكمها؟ سنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله). كما سيمر إن شاء الله. فالبداءة باليمين سنة, فقول علي يحتمل أن يكون: (ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي), وليس المقصود أنه لا يبالي مطلقاً؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا أحرص الناس على السنة واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم, لكنه يقصد أن هذا لو حدث منه فإنه لا يخل بالوضوء, فوضوءه صحيح, وإلا فهم كانوا حريصين على البداءة باليمين, وهذا كان معروفاً عنهم.
هذه أهم أدلتهم. وبذلك تبين أن هذه الأدلة لا تسلم من معارضة, إما بتضعيفها كما هو الحال في رواية الربيع في وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وأثر ابن مسعود , أو بتضعيف دلالتها على ما أرادوا, كما هو الحال في حديث المقداد بن معدي كرب وأثر علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وبناء على ذلك فإن القول الأقوى هو وجوب مراعاة الترتيب في الوضوء, وأن الترتيب واجب وفرض من فروض الوضوء, وقد وقفت على كتاب أو رسالة صغيرة اسمها صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم , كتبها أحد طلبة العلم المعاصرين, وطبعت أكثر من طبعة, وقد مال فيها مؤلفها إلى عدم وجوب الترتيب, وأنه سنة فقط, وعمدته في ذلك حديث المقداد بن معدي كرب كما سبق. والذي يظهر كما رأيتم أن أحاديث القائلين بعدم الوجوب لا تنهض على معارضة أحاديث القائلين بالوجوب, كما هو ظاهر الآية، والمتواتر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم, وخاصة أن هذا الأمر كما أسلفت عبادة, والعبادات الأصل فيها التوقيف , الوقوف عند النص الوارد عن المشرع صلى الله عليه وسلم, وعدم تعديه؛ لأن أصل معرفتنا لهذه العبادة إنما هو عن طريقه, فنحن نأخذ عنه العبادة كاملة بصفتها وهيئتها وما يفعل فيها، وبدايتها ونهايتها وزمنها، وسببها وغير ذلك.
ولذلك فإن الموالاة بين الأعضاء مشروعة, ولا أظن أن في هذا خلافاً في مشروعيتها, وإنما الخلاف هل تجب أو تسن ...
القول الأول: وجوب الموالاة، وهو مذهب الإمام أحمد والشافعي في أحد قوليه، ومالك والأوزاعي وغيرهم .. الشافعي في أحد قوليه، ومالك أيضاً في رواية عنه, أما الأوزاعي فهو سبق لسان, فأضربوا عليه, ذهب هؤلاء إلى أن الموالاة واجبة.
واستدلوا بأدلة, منها: ظاهر الآية، وظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تدل على تتابع هذه الأعمال وعدم الفصل بينها.
ومنها: ما رواه مسلم في صحيحه عن عمر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أبصر رجلاً توضأ وعلى قدمه مثل الظفر -يعني: لم يصبها الماء- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فأحسن وضوءك, فرجع فتوضأ ثم صلى ). والحديث رواه مسلم وأحمد . ودلالته ظاهرة على وجوب الموالاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعود فيحسن وضوءه, فرجع فتوضأ, فلو كان يكفيه أن يمسح هذا الموضع اليسير الذي هو بمقدار الظفر على ظهر القدم لمسحه, ولم يعد الوضوء, فدل على أنه يجب الموالاة في أعضاء الوضوء.
الدليل الثاني: هو ما رواه أبو داود والنسائي عن أنس بن مالك رضي الله عنه, وهو بمعنى حديث عمر مختصراً, ( أن رجلاً توضأ فأبصر النبي صلى الله عليه وسلم على قدمه مثل الظفر, فأمره أن يرجع ويحسن وضوءه).
والدليل الثالث: هو ما رواه خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً توضأ وعلى ظهر قدمه لمعة بقدر الدرهم لم يصبها الماء, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء). والحديث رواه أحمد وأبو داود. وسئل الإمام أحمد عنه فقال: إسناده جيد, وصححه الحاكم وابن القيم رحمهما الله وغيرهم. وهو حديث خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ضعفه آخرون من العلماء كـابن حزم والبيهقي والنووي وسواهم, وإذا نظرت في إسناد الحديث وجدت فيه رجلاً يقال له: بقية بن الوليد , وبقية هذا يدلس تدليس التسوية.
بقي من أنواع التدليس نوعان: نوع يسمى تدليس الشيوخ, وهو: أن يسمي الراوي شيخه بغير ما اشتهر به، فيذكر كنيته, أو ينسبه إلى بلد أو حرفة, أو ينسبه إلى جده حتى يلتبس أمره أحياناً على من لا يعرفه . ولذلك يقولون: بعض الرواة الكذابين عرف لهم أكثر من ستين اسماً, يتشكلون بأشكال كثيرة, حتى إن من العلماء والرواة من قد يروي عنهم اغتراراً بحالهم, وذلك كـمحمد بن سعيد المصلوب على الزندقة, له أسماء كثيرة جداً. هذا يسمى ماذا؟ تدليس الشيوخ.
والنوع الثالث من أنواع التدليس هو: تدليس الإسناد, وهو: أن يحذف الراوي شيخه ويروي عمن فوقه.
أو تقول في تعريفه: أن يروي عمن لقي ما لم يسمعه من قوله أو يره من فعله بلفظ يوهم أنه رآه أو سمعه, مثل لفظ أن وعن وقال وما أشبه ذلك . أما لو روى عنه بلفظ (حدثنا) فماذا يكون هذا؟ هل يكون تدليساً؟ لا, يكون كذباً, إنما التدليس هو أن يروي عنه وهو يحتمل أن يكون روى عنه فعلاً, يروي عنه بلفظ يحتمل السماع وعدمه, مثل عن فلان، أو قال فلان، أو أن فلاناً قال كذا, أو قد يحذف أحياناً صيغة التحديث فيقول: فلاناً, ثم يسوق الإسناد.
فهذه ثلاثة أنواع هي أنواع التدليس المشهورة, هذا الاستطراد في أنواع التدليس بناءً على ما سبق أن ذكرته أكثر من مرة أنه إذا جاء فرصة للكلام على بعض قضايا المصطلح المهمة خلال الدروس أذكرها, وهو بمناسبة الكلام عن من؟ عن بقية بن الوليد , فإنه من المشهورين بتدليس التسوية, ولذلك قال العلماء: أحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية . هذه الكلمة تحفظ حتى تذكرك باسم بقية , وبهذا النوع من التدليس, أحاديث بقية ليست نقية فكن منها على تقية. وبقية موجود في أي حديث الآن؟ في حديث خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. وفي ذكر الرجل الذي توضأ وبقي على ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء, ولكن هذا الحديث ورد ما يدل على صحة معناه من حديث عمر في صحيح مسلم , ومن حديث أنس عند أبي داود والنسائي كما سبق.
فهذه الأدلة الثلاثة تدل على ماذا؟ الأدلة الثلاثة: حديث خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم, حديث عمر , حديث أنس , كلها تدل على أن الموالاة بين الأعضاء في الوضوء ما حكمها؟ واجبة, والأحاديث وجه الدلالة منها جميعاً ظاهرة. هذا هو القول الأول.
أولاً: لعدم الدليل على وجوبها. قالوا: لا تجب لعدم الدليل على الوجوب, وهذا غير صحيح، بل نقول: ورد الدليل على وجوبها, وهو ما سبق في أدلة أصحاب القول الأول.
واستدلوا أيضاً على عدم وجوب الموالاة بما رواه مالك في الموطأ بسند صحيح, روى مالك في الموطأ عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه: (أنه بال في السوق ثم توضأ, فغسل وجهه فتمضمض واستنشق, وغسل وجهه, ثم ذراعيه, ثم مسح برأسه, ثم دخل المسجد, فدعي إلى جنازة ليصلي عليها, فمسح على خفيه ثم صلى). هذا الأثر عن ابن عمر استدلوا به على عدم وجوب الموالاة, وكيف يستدل بهذا الأثر على عدم وجوب الموالاة؟
وجه الدلالة من الأثر ظاهرة، أن ابن عمر بعدما غسل أعضاء الوضوء ومسح برأسه دخل المسجد, ثم دعي إلى جنازة فمسح على خفيه، فهناك فاصل في ظاهر الرواية بين مسح الرأس وبين المسح على الخفين, هناك فاصل, والأثر صحيح كما سبق.
الجواب على هذا الاستدلال من عدة وجوه, أولاً: يقال بأن الرواية لا تدل على أن الفاصل طويل, فالفاصل بين كونه مسح برأسه ثم دخل المسجد قد يكون وضوءه في مكان قريب من المسجد, فالفاصل بين وضوئه وبين دخوله للمسجد ثم مسحه على الخفين قد يكون قصيراً لا يخل بموالاة الأعضاء, ولا يعتبر فاصلاً طويلاً. هذا جواب.
الجواب الثاني: أن يقال: إن هذا لعله لحاجة, كخشية فوات صلاة الجنازة وقد ذكر بعض أهل العلم. كالإمام ابن تيمية في الاختيارات الفقهية أن من خشي فوات الجنازة ونحوها، فإنه له أن يتيمم ويصلي عليها, فلعل ابن عمر ترك الموالاة خشية فوات صلاة الجنازة. ثم يقال: هذا فعله.
هذا وأسأل الله لي ولكم التوفيق والسداد في الدنيا والآخرة, وأن يصلح أقوالنا وأعمالنا, إنه على كل شيء قدير.
سبحانك اللهم وبحمدك, نشهد أن لا إله إلا أنت, نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر