الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
باب الوضوء.
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل وضوء )، أخرجه مالك وأحمد والنسائي، وصححه ابن خزيمة، وذكره البخاري تعليقاً.
الوضوء: هو مأخوذ من الوضاءة: وهي الحسن والجمال؛ وذلك لما يضفيه الغسل على الوجه والأعضاء من الطيب والنظافة، وهو من فضائل هذا الدين التي أراد الله عز وجل بها تطهير المسلم ظاهراً وباطناً، قال الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ، إلى قوله: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [المائدة:6]، فذكر سبحانه في هذه الآية جانباً من فوائد مشروعية الوضوء، وأن الله عز وجل ما أراد أن يجعل على هذه الأمة بهذه الشرائع من حرج، ولكن أراد بها أن يطهر المؤمنين ظاهراً وباطناً، وأن يتم بها نعمته عليهم.
فأما الطهارة الظاهرة فلا يخفى ما للماء والوضوء المتكرر من أثر في تطهير الأعضاء، وإزالة ما يكون بها من التلوث أو الغبار أو غيره.
وأما الطهارة الباطنة فهي تكون بأمور، منها: أن امتثال أمر الله عز وجل فيه للإنسان الخير والصلاح، وقد أمر الله عز وجل بهذه الشريعة والشعيرة.
ومنها: أن الوضوء فيه تكفير للذنوب وحط للسيئات، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن العبد إذا توضأ فغسل وجهه ذهبت خطاياه من وجهه مع الماء -أو- مع آخر قطر الماء )، وكذلك الشأن في يديه ورجليه، فدل على أن في الوضوء تكفيراً للسيئات وحطاً لها ورفعاً للدرجات.
وللوضوء منافع ظاهرة وباطنة غير هذه، ولو لم يكن فيها إلا الاستسلام لأمر الله عز وجل والانصياع لحكمه وشرعه لكفى بذلك فائدة وعبادة، والوضوء: لفظ شرعي، يقصد به ما ذكره الله تعالى في كتابه من غسل أعضاء مخصوصة، بهيئة مخصوصة، وبنية مخصوصة أيضاً.
هذا الحديث خرجه المصنف بلفظ: ( مع كل وضوء )، ونسبه لهؤلاء الأربعة وهم: أحمد ومالك وابن خزيمة والنسائي، والبخاري تعليقاً، فيصح أن يكون أحيل إلى خمسة مصادر وهو كذلك، ولكن يجب أن نعلم أن الحديث ورد بلفظ آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وهذا الحديث بهذا اللفظ: (عند كل صلاة) أخرجه الجماعة أو الستة.
إذاً: الحافظ ابن حجر رحمه الله حين خرّج هذا الحديث؛ خرّجه مراعياً لفظه وهو بلفظ: (مع كل وضوء).
أما الحديث بلفظ: (عند كل صلاة) فهو عند الستة كما ذكرت، ولهذا بعض العلماء لا يراعون اختلاف اللفظ، فقد يذكرون هذا الحديث مع كل وضوء ويقولون: رواه الستة مثلاً، أو رواه البخاري أو ما أشبه ذلك، فيقع عند بعض الطلاب نوع من الحيرة والالتباس، فالجواب على ذلك أن تنتبه إلى أن كثيراً من العلماء المدققين يراعون لفظ الحديث، فإذا كان في لفظ الحديث اختلاف ظاهر، فإنهم يفرقون بين هذه الألفاظ في التخريج، ولذلك ابن حجر رحمه الله ها هنا فرق بين اللفظين بين لفظ: (مع كل وضوء)، وبين لفظ: (عند كل صلاة).
أما المواصلات: فهي الأحاديث المسندة التي رواها البخاري رحمه الله بإسناده قصداً، وهي تصدر بقوله: حدثنا فلان، فهذه الموصولات هي التي يقال: رواه البخاري، وهي الأحاديث التي يقول العلماء: إن كل ما في البخاري صحيح، يعنون هذا النوع من مرويات البخاري .
أما المعلقات: فهي جمع معلق، والحديث المعلق: هو ما سقط من أول إسناده من جهة المصنف راو فأكثر، يعني: ليس من جهة الصحابي؛ لأنه إذا سقط من جهة الصحابي ماذا يسمى الحديث؟
يسمى مرسلاً، لكن إذا سقط من طرف الإسناد من جهة المصنف، يعني من جهة البخاري مثلاً راو فأكثر فإنه يسمى معلقاً، حتى لو سقط الإسناد كله، فقول الفقهاء مثلاً: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا يسمى معلقاً.
و البخاري رحمه الله له معلقات في صحيحه، وهي كثيرة: منها المرفوع ومنها الموقوف وأظن أن عددها في حدود التسعمائة ما بين مرفوع وموقوف أو تزيد على ذلك، وهذه المعلقات كثيراً ما يسوقها البخاري في تراجم الأبواب . يعني يسوقها في عنوان الترجمة أو في أول الباب ويقول: قال فلان، أو ذكر فلان، أو روى فلان، ثم يسوق الكلمة أو الحديث أو الأثر، وقد شاع على ألسنة كثيرٍ من أهل العلم كـالمنذري والنووي وغيرهم: أن هذه المعلقات ما روي منها بصيغة الجزم فهو صحيح، مثل قول البخاري: قال فلان كذا .. قال أبو هريرة، وما روي منها بصيغة التمريض فهو ضعيف، مثل: روي أو حكي أو يحكى، يعني من الأفعال المبنية للمجهول، هذا شائع.
لكن للحافظ ابن حجر رحمه الله -وهو من أكثر المهتمين بصحيح البخاري روايةً وشرحاً ودراسة- له كلام جيد في المعلقات، خاصة في كتابه الذي سماه: النكت على ابن الصلاح في الجزء الأول صفحة ثلاثمائة وثمان وعشرين تقريباً، ذكر حكم معلقات البخاري وفصله تفصيلاً لا أظنه يوجد في غير هذا الكتاب، وأذكر لكم الآن خلاصة ما قرره الحافظ ابن حجر في الموضع المشار إليه، قال: المعلقات في صحيح البخاري على قسمين: منها ما يوجد موصولاً في موضع آخر من صحيح البخاري .
أي: أن البخاري رواه في أحد المواضع بإسناد موصول على شرطه، ولكن احتاج إليه في موضع آخر، فبدلاً من أن يكرر الإسناد كله اكتفى بذكر الإسناد معلقاً، وهو موصول في موضع آخر من الصحيح.
وما حكم مثل هذه المعلقات؟ هذه ليس فيها كلام؛ لأنها تعتبر مما رواه البخاري على شرطه وليست معلقة، وإن كانت معلقة في أحد المواضع إلا أنها موصولة في موضع آخر، والسبب في عدم وصل البخاري لها؛ أن البخاري رحمه الله -كما هو معروف من طريقته في التصنيف- يكرر الحديث ويقطّعه بحسب المواضع التي يحتاج إليها فيه، فإذا كان الحديث مثلاً فيه عشرة أحكام، فقد يكرره البخاري في عشرة مواضع في صحيحه، ويسوقه في كل موضع بإسناد مختلف، إما أن يختلف شيخه، أو شيخ شيخه، أو من فوقه، فيكرر لفائدة، ويغير في الإسناد، لكن إذا لم يوجد للحديث إلا إسناد واحد عند البخاري فإنه حينئذ لا يكرر الإسناد غالباً، بل يسوق طرفه ويذكر الجزء من المتن المطلوب، وهذا ما يسمى بالمعلق في ذلك الموضع، ولكنه موصول في موضع آخر، هذا النوع الأول: ما وجد موصولاً في موضع آخر.
والنوع الثاني: ما لم يوجد موصولاً في موضع آخر في صحيح البخاري، هذا الذي لا يوجد موصولاً في موضع آخر أيضا ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما رواه البخاري رحمه الله معلقاً بصيغة الجزم، مثل: روى، أو قال، أو ذكر، أو ما أشبهها، ما رواه بصيغة الجزم. فهذا صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى النظر فيما أبرز من رجاله، يعني البخاري رحمه الله حذف من رجال الإسناد ثلاثة من طرفه القريب إلى المصنف، ثم قال: قال فلان. فكأن البخاري رحمه الله يقول لك في هذه الحال: من حذفته من الرجال .. وما حذفته من الإسناد فهو على مسئوليتي أنه صحيح، أما من أبرزته من الرجال فانظر فيهم وفي درجتهم من الثقة وغيرها.
إذاً: ما رواه بصيغة الجزم فهو صحيح إلى من علقه عنه، ويبقى النظر فيما أبرز من رجاله، فإذا نظرت فيمن أبرز من رجاله وجدت أن منه أحاديث صحيحة على شرط البخاري، ومنه أحاديث صحيحة لكنها تتقاعد عن شرطه، ومنه أحاديث حسنة، ومنه أحاديث ضعيفة وهي قليلة.
هذا ما يتعلق بما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم، وذلك مثل قول البخاري رحمه الله مثلاً: قال أبو الدرداء: [ إنما تقاتلون بأعمالكم ]، قال وهب بن منبه: [ لا إله إلا الله مفتاح الجنة، فإن أتيت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك ]، قال أبو هريرة .. وهو صحيح على شرطه، رواه بصيغة الجزم، فقال: قال .. وهو أيضاً صحيح على شرط البخاري . وهذا النوع الأول وهو ما روي بصيغة الجزم.
أما النوع الثاني: فهو ما روي بصيغه التمريض، وما هي صيغة التمريض؟
هي أن يقول: يروى، أو يحكى، أو روي، أو قيل، أو ما أشبه ذلك، هذه صيغة التمريض، وما رواه البخاري بصيغة التمريض فليس منه ما هو على شرطه إلا النادر، ليس منه ما هو على شرطه، ولكن منه ما هو صحيح على غير شرطه، ومنه ما هو حسن، ومنه ما هو ضعيف منجبر بأمر آخر، يعني: قابل للانجبار وقد وجد ما يجبره في روايات أخرى، ومنه ما هو ضعيف لم يوجد من يجبره من وجه آخر.
وبذلك تعلم أنه قد يسوق البخاري أحياناً حديثاً صحيحاً في صحيحه بصيغة التمريض، هذا يحصل أو لا يمكن؟ مرة ثانية: هل يمكن أن يسوق البخاري حديثاً صحيحاً، أو حسناً في صحيحه معلقاً بصيغة التمريض؟
نعم يمكن؛ لأنه تبين الآن أن هناك من المعلقات المروية بصيغة التمريض ما هو صحيح، لكن ليس على شرطه، وما هو حسن، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره البخاري تعليقاً بصيغة التمريض عن عبد الله بن السائب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه فقرأ سورة المؤمنون، حتى إذا جاء ذكر عيسى أو ذكر موسى أخذته سعلة فركع صلى الله عليه وسلم )، هذا الحديث رواه مسلم عن عبد الله بن السائب رضي الله عنه، فهو حديث صحيح، ومع ذلك جاء في البخاري بصيغة التمريض.
وبالجملة فقد صنف الحافظ ابن حجر كتاباً ضخماً حافلاً؛ وصل فيه الأحاديث المعلقة في صحيح البخاري وسماه: تغليق التعليق، يعني: أتى إلى هذه الأحاديث المعلقة فغلقها، يعني أكمل عليها وساق أسانيدها الموصولة، وهو مطبوع في خمس مجلدات.
هذا استطراد إن شاء الله مفيد في علم المصطلح يتعلق بقوله: رواه البخاري تعليقاً وقد عرفتم أن البخاري رواه تعليقاً، ولكنه صحيح على شرطه.
و ذكر في البدر المنير : أنه ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضيلة السواك أكثر من مائة حديث، وقد ساق منها الحافظ ابن حجر في تلخيص الحبير طائفة طيبة، حتى قال كثير من أهل العلم: إن السواك من باب المتواتر المعنوي، والمقصود بالمتواتر المعنوي: أي أن ترد أحاديث كثيرة تثبت قضية كلية، وينفرد كل حديث بجانب منها.
فمثلاً الأحاديث الواردة في حوض النبي صلى الله عليه وسلم وإثباته يوم القيامة، منها أحاديث وردت في طول الحوض، ومنها أحاديث وردت في عدد كيسانه أو أكوابه، ومنها أحاديث وردت في صفة مائه، ومنها أحاديث وردت فيما يحصل يوم القيامة ذود النبي صلى الله عليه وسلم الأمم عنه، ومنها أحاديث فيمن يرد هذا الحوض ومن يشرب منه ومن يذاد عنه إلى غير ذلك، فمجموع هذه الأحاديث يثبت قضية كلية وهي ثبوت الحوض، لكن لا يلزم من ذلك أن تكون كل جزئية وردت في حديث أن تكون متواترة، كذلك السواك وردت أحاديث كثيرة جداً، منها أحاديث في فضله، ومنها في الأمر به، ومنها في فضله عند النوم، ومنها في فضله عند الوضوء، ومنها في فضله عند الصلاة، ومنها في فوائده وتطهيره للفم، ومنها في مشروعيته، ومنها في فضل الصلاة به، ومنها في فعل النبي صلى الله عليه وسلم له، فمجموع هذه الأحاديث يجعل أن فضيلة السواك من باب المتواتر المعنوي.
هذا معنى قولهم: أنه من باب المتواتر المعنوي، وكما ذكر في البدر المنير : أنه ورد فيه أكثر من مائة حديث.
و مشروعية السواك جماهير أهل العلم على أنه سنة فحسب، وحكى ابن مفلح في المبدع والنووي رحمهما الله الإجماع على أن السواك سنة وليس بواجب، ولكن نقل بعض أهل العلم عن داود الظاهري وإسحاق بن راهويه القول بوجوبه، ولكن هذا قول بعيد جداً، ولعله لا يصح عنهما، وإن صح فإنه يدخل فيما سبق من شذوذ العلم التي ينبغي أن يتقيها الطالب، فإن الأحاديث صريحة في عدم وجوب السواك.
على كل حال الذي يظهر: أن الأمر واسع، فإن استاك الإنسان قبل الوضوء فقد حقق السنة، وإن استاك مع المضمضة فكذلك، والأمر في ذلك واسع؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( مع كل وضوء )، يقتضي مطلق المصاحبة، فمن استاك قبيل الوضوء أو أثناء الوضوء فقد حقق هذا الحديث.
أولاً: عند الوضوء.
الموضع الثاني: عند الصلاة، وقد مرت أحاديث هذين الموضعين.
الموضع الثالث: عند الاستيقاظ من نوم الليل، كما في الصحيحين من حديث حذيفة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك ).
الموضع الرابع: عند دخول البيت، كما في حديث عائشة في صحيح مسلم : ( أنها سئلت: بأي شيء كان يبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل منزله؟ قالت: بالسواك ) .
الموضع الخامس: عند الحاجة إلى السواك، وذلك كما إذا تغير الفم وظهرت رائحته، أو أكل الإنسان شيئاً ذا رائحة كريهة، أو ما أشبه ذلك، فاحتاج إلى أن ينظف فمه بالسواك، والدليل على أنه يشرع للإنسان أن يستعمل السواك كلما احتاج إليه في تنظيف فمه، ما رواه النسائي وأحمد وابن خزيمة وغيرهم بإسناد صحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ).
والحديث رواه أحمد والنسائي وابن خزيمة وغيرهم عن عائشة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب ) .
الموضع السادس: عند قراءة القرآن، وقد ورد في ذلك أحاديث منها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن الإنسان إذا قرأ في الصلاة، فإن الملك يدنو منه حتى يضع فاه على فيه، فما يخرج من فم الإنسان فإنها في فم الملك ). والحديث رواه البزار وغيره بإسناد جيد كما يقول الدمياطي في كتاب المتجر الرابح .
وورد حديث آخر صحيح أيضاً، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أفواهكم طرق القرآن فطيبوها بالسواك )، وهناك حادثة وردت في الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها وهي: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حين كان في مرض الموت جاءها
فقد يقال: إن هذا يدخل فيما إذا شعر الإنسان بالحاجة إلى تطييب الفم بالسواك، وقد يكون هذا لشدة عناية الرسول صلى الله عليه وسلم بالسواك، وحرصه عليه، وكثرة أمره به، حتى قال كما في الحديث الصحيح: ( أكثرت عليكم في السواك ) .
هذه المواضع التي يشرع فيها السواك، وينبغي للمسلم أن يتعاهد فمه بذلك، ويحرص عليه، ويعلمه أهله ومن حوله.
قوله: ( مع كل وضوء )، وكذلك في اللفظ الآخر: ( عند كل صلاة )، فلفظ: (كل) من ألفاظ العموم يستوي فيه الصائم وغيره، قبل الزوال وبعده. ومن ادعى خروج شيء من ذلك فعليه الدليل.
وهذه المسألة .. مسألة حكم السواك للصائم بعد الزوال اختلف فيها أهل العلم، فذهب كثير من الصحابة كـعمر وابن عمر وعائشة ومعاذ بن جبل كما في معجم الطبراني الكبير بسند صحيح عن معاذ، وكثير من التابعين والأئمة، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك، ورواية في مذهب الإمام أحمد وقال به كثير من فقهاء الشافعية كـالعز بن عبد السلام والنووي وغيرهما، بل قال النووي : أنه مذهب أكثر أهل العلم، قالوا: إن السواك مشروع للصائم قبل الزوال وبعده، واستدلوا بأدلة منها حديث الباب، واللفظ الآخر: ( عند كل صلاة )، وأن (كل) من ألفاظ العموم، فيدخل فيها كل صلاة وكل وضوء، قبل الزوال وبعده، للصائم وغيره.
ومن أدلتهم: ما رواه أحد الصحابة من قوله: ( رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم )، وهذا الحديث ذكره البخاري تعليقاً، ولكن الحديث فيه ضعف؛ لأن فيه عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف، ولذلك ضعفه ابن حجر رحمه الله في تلخيص الحبير، وحسنه أيضاً في موضع آخر، لكن الأولى تضعيفه؛ لأنه علل هذا التضعيف بوجود عاصم بن عبيد الله وهو ضعيف كما أسلفت.
وذهب بعض أهل العلم إلى أن السواك لا يشرع للصائم بعد الزوال، وهذا مذهب الشافعي، وهو الرواية الأخرى عند الإمام أحمد، ويستدل بأدلة منها:
حديث علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي ) أو ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي )، وهذا الحديث لو صح لكان حجة لهم؛ لكنه لا يصح، فقد رواه الدارقطني والبيهقي وضعفاه، وضعّفه الحافظ ابن حجر أيضاً، وفي سنده عدد من المجهولين، فهو ضعيف ومعارض للأحاديث الصحيحة.
ومن أدلتهم أيضاً ما في الصحيحين، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( والذي نفسي بيده لخلوف -بضم الخاء عند الجمهور- فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك )، فقالوا: إن الخلوف هو ما ينبعث من الإنسان وهو صائم، وخاصة بعد الزوال، فالسواك يؤثر في هذا الخلوف، وقد يزيله أو يخفف منه، وهي رائحة محبوبة لله تعالى؛ لأنها أثر من آثار العبادة، فينبغي أن يبقيها الإنسان ولا يزيلها، وهذا الاستدلال فيه نظر من وجوه:
أولاً يقال: إن الخلوف هو رائحة المعدة عند خلوها من الطعام، وإنما تخرج من الفم، وحينئذ فهل يؤثر فيها السواك؟ لا، هذا جواب.
الجواب الثاني: أن يقال: على فرض أن الخلوف هو من أثر الفم أيضاً، وأن السواك يخفف منه أو يزيله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر: ( أن الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك )؛ لأن هذه الرائحة مكروهة عند الناس، ولأنها أثر من آثار العبادة لله عز وجل فهي محبوبة لله، وهي أطيب عند الله من ريح المسك، فليس الحديث وارداً في النهي عن إزالة هذه الرائحة، وإنما إشارة إلى أن ما يلقاه الإنسان؛ بسبب تعبده وطاعته لله عز وجل فهو محبوب لله عز وجل ولو كان مكروهاً للناس، ولا يمنع هذا من أن يزيله الإنسان إذا وجد لإزالته سبيلاً لا يؤثر في هذه العبادة.
والصائم عمله محبوب لله تبارك وتعالى إذا كان بنية واتباع، ولو لم يوجد من فمه أو معدته رائحة كريهة، وبذلك يتبين أن هذا الحديث الصحيح لا دليل فيه لهم.
وأما الحديث الذي هو دليل لهم وهو حديث علي فما شأنه؟
فهو حديث ضعيف، ضعّفه البيهقي والدارقطني وابن حجر، والراجح إن شاء الله في هذه المسألة هو القول الأول في مشروعية السواك للصائم قبل الزوال وبعده.
مرة أخرى كأن الحديث بمجموع اللفظين يدل على أن الإنسان يشرع له أن يتوضأ لكل صلاة، وأن يستاك مع كل وضوء. وقد نسب بعضهم إلى ابن خزيمة أنه روى: ( مع كل وضوء عند كل صلاة )، وبمراجعة صحيح ابن خزيمة في باب السواك لم أجده عنده بهذا اللفظ، ومشروعية الوضوء عند كل صلاة ثابتة، أخذها بعضهم من قوله تعالى: إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة:6].
وثبتت في الصحيح كما في البخاري وغيره من قصة بلال رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله وقال له: إني سمعت خشف نعليك أمامي في الجنة؟ فذكر له أنه لا يتوضأ إلا صلى ركعتين )، وهذا قد يدل على أنه يتوضأ أيضاً لصلاة الفريضة، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، إلا ما حدث منه يوم الفتح كما في الصحيح: ( حيث صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات كلها بوضوء واحد، فسأله
وكذلك يدل الحديث على هذه المسألة من وجه آخر: وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لولا أن أشق )؛ لأن ما أمر به على سبيل الاستحباب ليس فيه مشقة بحيث أن الإنسان إذا وجد مشقة تركه، فهو ليس بواجب، وإنما الذي يشق على الناس هو الإيجاب، فالناس إذا أوجب عليهم أمر شق عليهم تركه، وقد يحتاج الواحد منهم إلى تركه، فالحديث يدل على أن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، وهذا قول جمهور الأصوليين، وهو الصحيح، وله أدلة كثيرة من القرآن والسنة: منها قوله تعالى في قصة موسى وهارون : أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93]، ومنها قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63]، ومنه قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36]، فنفى الخيرة عن المؤمنين حين يأتي أمر الله أو أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، إلى أدلة أخرى كثيرة.
وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأمر للاستحباب؛ لأنه أقل ما يفهم من الأمر، فيجب الاقتصار عليه حتى يوجد ما يدل على أنه يدل على الوجوب.
والقول الثالث وهو أضعف الأقوال: أن الأمر يدل على الإباحة؛ لأنه وردت أوامر تدل على الإباحة كما في قوله: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2]، وهذا قول ضعيف جداً. والصحيح هو القول الأول.
وفيه فائدة أصولية مهمة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يحل أو يحرم شيئاً، أو يوجب على أمته شيئاً باجتهاده صلى الله عليه وسلم ويقره الله تبارك وتعالى على ذلك، وفي حالات نادرة قد يرد ما ينهى الرسول صلى الله عليه وسلم أو يستدرك عليه ذلك من قول الله عز وجل وهي حالات معدودة نادرة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد فيحلل أو يحرم أو يوجب أو يبيح لأمته، والأدلة على ذلك كثيرة منها الحديث؛ لأنه قال: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم )، فدل على أنه امتنع صلى الله عليه وسلم عن أمرهم خشية المشقة عليهم، فكان ذلك إليه صلى الله عليه وسلم والله عز وجل لا يقر نبيه إلا على حق.
هذه بعض أو أكثر الفوائد الفقهية والأصولية الموجودة في الحديث.
الجواب: دلالة ليست مباشرة، لكن بلالاً رضي الله عنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يتوضأ وضوءاً إلا صلى به ما شاء الله له، فقد يفهم من ذلك أنه أيضاً لا يصلي إلا توضأ لهذه الصلاة والله أعلم. هذا وجه، وقد يكون فيه ضعف في الاستدلال، لكن الحديث الآخر صريح في ذلك وهو حديث قصة عمر في الفتح. نعم يا أخ عبد الكريم!
الجواب: لا، لا شك أن السواك بالنسبة للصلاة قبل الصلاة. السواك قبل الصلاة وليس حال الصلاة؛ لأن الإنسان حال الصلاة مأمور بالإخبات والخشوع والسكون، ووضع اليد اليمنى على اليسرى على صدره، وكذلك في الركوع على ركبتيه، وفي السجود على الأرض وهكذا، فلا يشرع للإنسان أي حركة في الصلاة إلا لعارض، أو حركة تتعلق بالصلاة، أما السواك فإنه يشرع لمن أراد الصلاة قبل أن يكبر، وقد ورد في ذلك أحاديث كثيرة من أشهرها: قوله صلى الله عليه وسلم: ( إن صلاة بالسواك تعدل سبعين صلاة بدون سواك ). وهذا الحديث ضعفه بعضهم؛ لأن فيه ابن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس، ولكن للحديث شواهد عديدة، حتى إن من العلماء من حسنه أو صححه، ومنهم من ضعفه.
الجواب: قبض السواك في الصلاة، الحقيقة ما اطلعت على أشياء تدل على أنه مشروع، وإنما ورد في سنن أبي داود عن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه: (أنه كان يذكر هذا الحديث قول الرسول صلى الله عليه وسلم: لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة، قال: فكان السواك في أذنه موضع القلم من أذن الكاتب)، فهذا دليل على أنه يشرع للإنسان أن يكون السواك قريباً منه .. في جيبه أو قريباً منه، أما أن يكون السواك في يده فالأولى ألا يفعل الإنسان ذلك؛ وذلك لأنه يشغله عن القيام بأعمال الصلاة على الوجه الأكمل، كما أن الإنسان لا يشرع له أصلاً أن يستاك وهو يصلي، فحينئذ يكون قبض السواك بين أصبعيه ليس له معنى.
الجواب: الواقع يحتمل أن يكون للاثنتين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل قضى حاجته عليه الصلاة والسلام ثم استاك ثم توضأ، فهذا السواك يحتمل أن يكون لاستيقاظه من الليل كما في حديث حذيفة في الصحيحين: ( أنه إذا استيقظ من النوم أو من الليل يشوص فاه بالسواك )، ويحتمل أن يكون للوضوء، ولا مانع أن يكون لكلا الأمرين.
وعلى كل حال ما دام ليس هناك نص صريح واضح في المسألة، فالأولى التوسعة في ذلك، إن استاك قبل الوضوء فهذا قد يكون أيسر على كثير من الناس؛ لأنه يستاك ثم يضع السواك في جيبه ثم يشرع في الوضوء، وإن استاك أثناء الوضوء عند المضمضة فلا بأس أيضا بذلك.
الجواب: في أثناء الخطبة الرسول عليه الصلاة والسلام أمر بالإنصات وعدم الكلام، والسواك أثناء الخطبة فيه شيء من الانشغال عن الخطيب أو التشاغل عنه، ولذلك فهو ليس موضعاً مشروعاً للسواك، وفيه انشغال عن الخطيب، فالأولى بالإنسان أن لا يتسوك أو لا يستاك أثناء الخطبة.
الجواب: لا، ما يشرع، إنما يشرع إما قبل الوضوء أو معه، لأنه بعده قد لا يسمى معه، إضافة إلى أنه ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يستاك بعد الوضوء، إنما الأحاديث الواردة إما أنه يستاك قبل الوضوء أو مع المضمضة.
الجواب: لعل مشروعية السواك عند الصلاة لأن العبد سيقبل على الله عز وجل، وتقترب منه الملائكة ويقرأ القرآن، وكما سبق في الحديث أن الملك يقترب منه، وكذلك هو يصلي في المسجد وبجواره المصلون، فتطييب الفم حينئذٍ مراعاة لحق الله، ثم لحق الملك، ثم لحق المصلين، كل هذه الأشياء واردة.
الجواب: هو ريق ولعاب، نعم يبتلع.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر