يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [الحشر:18-19].
أما بعد:
وقفنا على باب إزالة النجاسة وبيانها، بعد ذلك ننتقل للحديث المراد شرحه وهو حديث أنس بن مالك في تخليل الخمر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا ) أخرجه مسلم والترمذي وقال: حسن صحيح.
قول أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل، هذا الفعل مبني للمجهول، ولم يفصح عن السائل، ولكنه رضي الله عنه أفصح عنه في رواية أخرى عند مسلم وأبي داود وأحمد : ( أن
وهذا الحديث أو هذه الرواية فيها فروق عديدة عن الرواية الأخرى التي ساقها المصنف:
منها: التصريح باسم السائل، وأنه أبو طلحة رضي الله عنه.
ومنها: أن هذه الخمر كانت لأيتام.
ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر بإراقتها، ونهى عن اتخاذها خلاً.
وطريقة التخليل كما ذكر محمد فريد وجدي في موسوعته أو دائرة معارفه: أن هذا السائل أو العصير من النبيذ أو عصير التفاح أو عصير العنب أو غيرها إذا عرضت للهواء في درجة حرارة ما بين عشرين إلى خمس وعشرين درجة فإنه يحدث فيها تغير ذريع وشديد، حيث يتحول الحامض الموجود في هذه المادة -والذي يسمى بحامض الخليك- إلى كحول، وحينئذ تتخلل هذه المادة، وهذه طريقة تخلل هذه المواد.
أما بالنسبة للخمر وتخليلها فإن تخليل الخمر -كما ذكر الفقهاء- يكون بأشياء، منها: إضافة شيء إليها، كإضافة خبز أو بصل أو غيرهما.
ومنها: إضافة خل كثير إليها.
ومنها: نقلها من الشمس إلى الظل أو من الظل إلى الشمس، فقد تتخلل الخمر بذلك فتتحول إلى خل وتصبح غير مسكرة في هذه الحالة.
وهناك وسائل أخرى لتخليلها غير هذه، وسيأتي بيان حكم هذه المسألة.
قوله: (سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا.
من المعلوم لدينا أن الحديث ينقسم إلى ثلاثة أقسام من حيث الثبوت وعدمه:
القسم الأول: الصحيح. القسم الثاني: الحسن. والقسم الثالث: الضعيف.
وهذه القسمة تدل على أن الصحيح غير الحسن، أليس كذلك؟ فلماذا جمع الترمذي بين اللفظين فقال: حسن صحيح؟
اختلف أهل المصطلح اختلافاً كبيراً في تحديد هذه المسألة؛ وذلك لأن الترمذي رحمه الله أكثر جداً من استعمال هذا الاصطلاح وغيره من المصطلحات في صحيحه، فقد يقول: حسن صحيح، حسن غريب، حسن صحيح غريب، إلى غير ذلك، وهو لم يفصح رحمه الله عن مقصوده بهذا الاصطلاح، ولذلك التمس العلماء مقصوده فاختلفوا، فمنهم من قال: إنه حسن من طريق، صحيح من طريق آخر، وهذا القول يلزم عليه أن يكون للحديث الذي قال فيه الترمذي : حسن صحيح طريقان: أحدهما حسن، والآخر صحيح.
ثانياً: أنه حسن لذاته، صحيح لغيره، وهذا يلزم أيضاً فيه ما يلزم في الأول.
ثالثاً: ما يلزم أن يكون الترمذي نفسه شك، وإنما الحديث نفسه متردد، أن يكون الحديث متردداً بين الصحة والحسن، بمعنى: أن الحديث فوق الحسن ودون الصحيح، فهو متردد بينهما، فقال: حسن صحيح، أي: أنه فوق الحسن ودون الصحيح، وعلى هذا يكون ما قال فيه الترمذي : حسن صحيح أعلى مما قال فيه: حسن فقط، أو دونه؟ أعلى منه، ولكنه دون ما قال فيه: هذا حديث صحيح.
وجه رابع: حسن عند قوم صحيح عند آخرين، وهذا يلزم عليه أن يكون الترمذي رحمه الله مقلداً في التصحيح والتضعيف، غير مستقل به على الأقل فيما قال فيه: حسن صحيح، بل إنه يلزم منه أن يكون البخاري رحمه الله مقلداً؛ لأن الترمذي نقل عن البخاري في عدة مواضع أنه سأله عن حديث ما فقال: هذا حديث حسن صحيح، وهذا أيضاً يرد على من قال: إن الترمذي هو أول من استخدم هذا الاصطلاح، فقد استخدمه قبله البخاري كما نقله عنه الترمذي رحمه الله، فيلزم على هذا أن يكون البخاري ومن بعده الترمذي مقلدين في التصحيح والتضعيف، فيقولون: هذا الحديث حسن عند قوم صحيح عند آخرين.
خامساً: قد يكون حسن الإسناد صحيح المتن، وهذا وارد أيضاً.
وقد تكون الواو بمعنى (أو) فيكون حسن أو صحيح، وهذا راجع إما إلى تردد الحديث نفسه بين الحسن والصحة، أو إلى تردد المجتهد -كما ذكر الأخ- في الحكم على الحديث، أي: شك هل هو حسن أو صحيح.
وتمييز هذه الأقوال والترجيح بينها يتوقف على استقراء الأحاديث التي قال الترمذي فيها هذا القول، ومعرفة مدى انطباق أحد هذه الأقوال عليها، فلا يمكن الجزم بتصحيح أحدهما أو تقويته.
الأولى: مسألة حكم تخليل الخمر، فالخمر قد تتخلل بنفسها بدون فعل آدمي، وذلك كما لو ظلت الخمر فترة طويلة أو تغير عليها الجو من ظل إلى شمس أو العكس، فتخللت بنفسها بدون فعل آدمي، وفي مثل هذه الحال فإنها تطهر وتباح إجماعاً، وقد نقل الإجماع على ذلك الإمام النووي وابن تيمية رحمهما الله، ولكن نقل عن سحنون -وهو أحد علماء المالكية- المنازعة في هذا الإجماع، وأنها لا تطهر. يقول الإمام النووي: وإن صح هذا عنه فهو محجوج بإجماع من تقدمه.
أي إن صح عن سحنون المنازعة في أن الخمر إذا تخللت بنفسها تطهر فهو محجوج بإجماع من قبله من العلماء.
إذاً: فالإجماع -كما نقل النووي وابن تيمية - منعقد على أن الخمر إذا تخللت بنفسها وبدون فعل آدمي أنها تطهر، ومن ثم يحل استخدامها.
أما إذا تخللت الخمر بفعل آدمي، كما لو تخللت بأن أضاف إليها إنسان شيئاً أو نقلها من الشمس إلى الظل، أو من الظل إلى الشمس، أو ما شابه ذلك، فقد اختلف العلماء في حكم الخل الناتج عن الخمر، أو حكم هذا الخمر المتخلل على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قول جمهور العلماء الشافعي وأحمد ومالك، ونسب إلى كثير من الصحابة كـعمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره- أن هذا العمل لا يجوز ولا تطهر به الخمر.
واحتج أصحاب هذا القول بهذا الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا )، فقالوا: إن الخمر لو كان هناك سبيل إلى تطهيرها والاستفادة منها -هذا وجه الشاهد من الحديث- والانتفاع بها لأرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حفظاً للأموال.
ومما يزيد من وضوح هذا الرواية الأخرى عند مسلم وأبي داود وأحمد : ( أن
وللاستشهاد بهذا الحديث وجه آخر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (أهرقها) فإنه دليل على وجوب إراقة الخمر وعدم اقتنائها، فإذا اقتناها الإنسان فهو عاص لله عز وجل مخالف لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وما ترتب على ذلك فلا قيمة له.
فبناء عليه: لا يجوز للإنسان أن يقتني الخمر أصلاً لأي غرض من الأغراض، بل يجب عليه أن يهريقها كما أمر الرسول عليه الصلاة والسلام.
فهذه حجة الجمهور في تحريم تخليل الخمر وأنها لا تطهر بذلك.
وهناك تفصيل في هذا القول، وهو أن بعض فقهاء الشافعية قالوا: إن الخمر إذا تخللت بنقلها من الشمس إلى الظل، أو من الظل إلى الشمس فإنها تطهر.
القول الثاني: ذهب إليه بعض السلف كـسفيان وابن المبارك وغيرهما، قالوا بكراهة تخليلها، وهذا القول مروي عن الإمام مالك رحمه الله، وكأنهم ذهبوا إلى أن ما ورد في الحديث يدل على كراهة التخليل لا على تحريمه.
القول الثالث: هو قول أبي حنيفة والليث بن سعد والأوزاعي وابن حزم الظاهري، قالوا بالرخصة في تخليل الخمر، أنه يجوز تخليل الخمر، يعني: تحويلها إلى خل، وتطهر بذلك فينتفع بها.
وذهب بعض الحنفية أو زعموا أن تخليل الخمر يشبه ما ورد من دبغ الجلود، أن الخمر وإن كانت نجسة عندهم إلا أنها تطهر بالتخليل كما يطهر الجلد بالدباغ، ومن عجيب ما ذكره بعض فقهائهم أنهم قالوا: إن قول أنس : ( سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمر تتخذ خلاً؟ قال: لا ) ليس مقصوده تتخذ خلاً أي: تحول إلى خل، أي: تخلل بطريقة من الطرق، وإنما المقصود أنها تستخدم كما يستخدم الخل، فتوضع على الموائد وتدار عليها كما يدار الخل. وهذا من غريب ما يؤدي إليه التمسك بالمذهب، فإن الخمر ظاهرة التحريم .. ثابتة التحريم في القرآن والسنة وإجماع الأمة، سواء كان استخدامها بإدارتها على الموائد، أو بغير ذلك من ألوان الاستخدام، ولم يدر في خلد الصحابة أنه يجوز شرب الخمر بحال من الأحوال، فضلاً عن أن يسألوا: هل يجوز استخدامها كما يستخدم الخل؟ فهذا في منتهى البعد أن يكون السؤال عن استخدام الخمر كما يستخدم الخل فيدار على الموائد وغيرها. أظن أن هذا ظاهر.
إذاً: الحنفية ذهبوا إلى الرخصة في ذلك، ومن حجتهم قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( نعم الإدام الخل ) كما في صحيح مسلم، وقد يستدلون بحديث: ( خير خلكم خير خمركم )، والحديث رواه البيهقي وفيه ضعف.
فهذه ثلاثة أقوال: القول بالمنع وهو قول الجمهور، القول بالكراهة، القول بالرخصة.
والقول الأول هو الراجح؛ أنه لا يجوز تخليل الخمر بفعل آدمي، وأما تخللها بنفسها بدون قصد فهو يطهرها إجماعاً كما سبق. وهذا الحديث صريح في المسألة، خاصة الرواية التي أشرت إليها عند مسلم وأبي داود وأحمد قال: ( أهرقها، قال: أفلا أخللها؟ قال: لا ) مع أنها خمر لأيتام.
ابن حزم فيما يظهر لم يطلع على هذا الدليل فيما أظن، وإلا فهو صريح في قوله: (أهرقها)، وفي قوله: (لا)، وإن كان ابن حزم يقول: إن من اقتنى الخمر فهو عاص لله ورسوله آثم بذلك، لكن مع ذلك تتخلل الخمر بهذا الفعل وتطهر كما يظهر من كلامه في المحلى .
أما شرب الخمر فهو ثابت التحريم بالكتاب والسنة والإجماع، ولا حاجة إلى الكلام في ذلك، ويكفي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91]، فتحريم شربها واقتنائها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، لكن الكلام في نجاستها أو طهارتها، وما إذا وقعت على ثوب أو فراش أو بدن أو غيره، فهل ينجس بذلك أم لا ينجس؟ وفي هذه المسألة قولان لأهل العلم:
الأول: قول جمهور العلماء، قول الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة وأكثر فقهاء الشافعية، ومال إليه عدد من الأئمة المحققين فيما يظهر من أقوالهم، كالإمام ابن تيمية وابن القيم والشنقيطي والشيخ عبد العزيز بن باز فيما فهمت من كلامه، وغيرهم، ذهبوا إلى أن الخمر نجسة، واستدلوا لذلك بأدلة، منها الآية السابقة: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]، ووجه استدلالهم بالآية أولاً: أن الله عز وجل وصفها بأنها رجس، والرجس هو النجس في اللغة، فدل هذا على نجاسة الخمر نجاسة عينية حسية، فهذا الوجه الأول لاستدلالهم بالآية، أن الله عز وجل وصفها بأنها رجس.
وقالوا: إن اقترانها بالميسر والأنصاب والأزلام -وهذه الأشياء الطاهرة عند كافة أهل العلم باستثناء ابن حزم الذي قال بنجاستها أيضاً- لا يغير من الأمر شيء، قالوا: اقتران الخمر بهذه الأشياء لا يخرج الخمر عن كونها نجسة؛ لأن هذه الأشياء قام الدليل على طهارتها ولم يقم دليل على طهارة الخمر.
الوجه الثاني من استدلالهم بالآية: هو قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]، كيف استدلوا بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90] على نجاستها؟
أن الله عز وجل أمر بالابتعاد عنها، الاجتناب: هو البعد عن الجانب الذي تكون موجودة فيه، فالأمر باجتنابها دليل على نجاستها لئلا تصيب الإنسان، وكأن الأمر بالاجتناب أوسع من النهي عن شربها، فالأمر باجتنابها يدل على عدم شربها، وعدم الجلوس في المكان الذي تشرب فيه، وعدم القرب منها وما شابه ذلك، فدل هذا على أنها نجسة.
وهذا الوجه الثاني في الاستدلال بالآية قواه النووي في المجموع، فهذا دليلهم الأول الآية، ووصف الله عز وجل بأنها رجس، وأمره سبحانه باجتنابها.
الدليل الثاني: قوله تعالى عن أهل الجنة: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فوصف شراب أهل الجنة بأنه طهور يدل بمفهوم المخالفة على أن شراب الدنيا ما له؟ نجس. وصف خمر الجنة بأنه طهور يدل بمفهوم المخالفة على أن شراب أهل الدنيا وخمرهم نجس، وهذا أشار إليه بعض الأئمة كـالشنقيطي وغيره من المفسرين، هذه أهم أدلتهم على نجاسة الخمر.
القول الثاني هو: القول بطهارة الخمر، وقد ذهب إلى هذا الرأي ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإمام مالك، والمزني صاحب الإمام الشافعي وحامل فقهه، والليث بن سعد، وبعض فقهاء الشافعية كالمتأخرين من البغداديين والقرويين، وذهب إليه من الفقهاء المتأخرين الشيخ محمد رشيد رضا صاحب التفسير، ومن العلماء المعاصرين الشيخ محمد بن صالح العثيمين، ذهبوا إلى أن الخمر طاهرة في نفسها غير نجسة، واستدلوا لذلك بأدلة، منها: أن الأصل في الأشياء الطهارة كما سبق مراراً، ولم يقم دليل صريح على نجاسة الخمر، والأدلة التي استدل بها الجمهور على نجاسته لا تنهض، فأما وصفه بأنه رجس في الآية فلا يدل على نجاسته؛ لأن الله عز وجل قرنه بأشياء اتفق العلماء -أو كادوا- على أنها طاهرة كالميسر والأنصاب والأزلام، وهذه الأشياء طاهرة، فاقترانه بها يدل على أنه ليس المقصود من وصفها بالرجسية النجاسة العينية الحسية، وإنما المقصود النجاسة المعنوية وتحريم شربها واستعمالها.
وقالوا: إن تحريمها والأمر باجتنابها لا يدل أيضاً على نجاستها، فإننا نجد أشياء كثيرة محرمة وليست بنجسة، فقد حرم الإسلام الذهب والفضة، وحرم أكل السم، مع أن هذه الأشياء طاهرة في نفسها بالاتفاق، فالتحريم لا يلزم منه النجاسة.
دليلهم الأول الأصل، أن الأصل في الأشياء الطهارة، وقد أجابوا على أدلة الجمهور بما سبق.
واستدلوا ثانياً: بأن الخمر كانت غير محرمة في أول الإسلام، وكان من الصحابة من يشربها فتتلوث بها ثيابهم وأفواههم وتصيب الأرض، وقد يحتاج بعضهم إلى أن يصلي في ثوب أصابته الخمر أو يصلي عليه، ولم يرد أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن ذلك أو أمرهم باجتنابه.
الدليل الثالث: أن الله سبحانه وتعالى لما حرم الخمر ونزل تحريمها أريقت في شوارع المدينة، كما ثبت ذلك من طرق كثيرة صحيحة، بل: ( إن الأعرابي الذي أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن الخمر قد حرمت، فساره رجل فقال: ما قلت له؟ قال: قلت له: بعها، قال: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، ففتح الرجل فم القربة وأهرق هذا الخمر في مكانه وبحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم ينهه الرسول عليه الصلاة والسلام عن ذلك )، مع ما علم من تحريم التبول في طريق الناس، وفي ظلهم، وفي المرافق العامة التي يحتاجون إلى الجلوس فيها أو المرور بها، دل هذا على أن الخمر ليست بنجسة العين، ولو كانت نجسة لنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا الفعل، وأمرهم أن يهرقوها في أماكن خاصة بعيدة عن الاستعمال والاستخدام، كما أنه قد يقع من المسلمين من يخالف أمر الله عز وجل فيشرب الخمر ويقع في الإثم، ولم يرد نص في أمره بالتمضمض والتطهر من الخمر، فدلت هذه الأشياء على أن الخمر ليست بنجسة في نفسها، وإن كانت محرمة الاستعمال كما سبق.
أما الراجح من هذه الأقوال؛ فإنك إذا نظرت إلى من قال بالقول الأول وهم الجمهور، وجدت أن في هذا القول قوة من حيث القائلين به، ولكن القول الثاني أقوى من حيث الأدلة، وخاصة أنك لا تجد لأصحاب القول الأول دليلاً صريحاً، فاستدلالهم بالآية مدفوع بما سبق، مع أنه ليس صريحاً في النجاسة الحسية، واستدلالهم بخمر الجنة وأنها طهور مدفوع أيضاً بأن هذا استدلال بالمفهوم، ومن العلماء -كما سيأتي في الدرس بعد الأذان- من ينازع في ذلك، ولكن حتى مع القول بصحة الاستدلال بالمفهوم فهذا مفهوم ضعيف؛ لأن الآية ليست في مجال سياق حكم من الأحكام، إنما هي في مجال وصف خمر الجنة بأنها طهور، فنقول: هذا قد يفهم منه مثلاً أن غيرها طاهر عند من يقولون بأن هناك طهور وطاهر، وكثير من هؤلاء الذين يقولون بأن الخمر نجسة يقول: إن الماء طهور وطاهر ونجس، فيقال لهم بأن الخمر في الجنة طهور فليس المفهوم المقابل لذلك هو أن تكون خمر الدنيا نجسة، فنلزمكم على وفق مذهبكم في تقسيم الماء إلى ثلاثة أقسام أن يكون غيرها طاهراً وليس بطهور فلا يجوز الوضوء به.
ومما لا خلاف فيه فيما أعلم أن الخمر لا يجوز الوضوء بها، وإن نازع بعضهم في النبيذ، كما إن وصف خمر الجنة بأنه طهور هو إشارة إلى طيبه وحله، بخلاف خمر الدنيا فهو خبيث محرم مذهب للعقل.
ويقوي قول من قالوا بالطهارة مع ضعف أدلة الآخرين اعتضاده بالأصل كما سبق، وإن كان أكثر العلماء على خلافه، لكن الحق إذا مال إليه الإنسان ورأى أن الأدلة تعضده لا مانع أن يقول به وإن خالف الجمهور كما سبق مراراً، وفي القول بأن هذا قول الجمهور في هذه المسألة قد يكون قوياً، وإن كان نسبة القول إلى الجمهور في بعض الحالات فيه ما فيه؛ لأنه لم ينقل أقوال الصحابة كلهم وأقوال التابعين كلهم في هذه المسألة، بحيث يمكن أن يقال: إن جمهور الأمة قالت بهذا، بل ربما نقول: إن جمهور المذاهب المتبوعة يعني: الأئمة الأربعة، فهذا صحيح؛ لأن الأئمة الأربعة كلهم يقولون بأن الخمر نجسة، إلا أنه نقل عن كثير من فقهاء الشافعية بما فيهم المزني القول بطهارتها.
فالقول بطهارة الخمر من حيث الدليل فيه قوة ووجاهة فيما ظهر، والله تعالى أعلم بالصواب.
هاتان المسألتان المأخوذتان من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه، وفي الأسبوع القادم إن شاء الله تعالى نحفظ حديثين بعده.
الجواب: لا. القول بنجاسة الخمر هو قول الأئمة الأربعة بما فيهم الشافعي، نعم. إنما خالف في ذلك بعض الشافعية.
الجواب: نعم، هو وصف الشيء بأنه رجس لا يعني أنه نجس، فقد يكون رجساً بمعنى النجاسة الحسية، وقد يكون بمعنى وجوب اجتنابه وتحريم شربه، كما في شأن الأمثلة الواردة في الآية: وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ [المائدة:90] وصفت بأنها رجس وغيرها.
الجواب: الراجح في الظاهر، يعني الراجح عند الشافعي، والراجح عند مالك، والراجح عند أحمد، والراجح عند أبي حنيفة أن الخمر نجسة، هذا صحيح، لكن الراجح عند ربيعة والمزني والليث وبعض فقهاء الشافعية ورشيد رضا والشيخ ابن عثيمين، وهو الذي يظهر رجحانه: أن الخمر طاهرة، فلو أصابت ثوب الإنسان وصلى فيه مثلاً لا نقول له: أعد الصلاة لأن ثوبك نجس، بل صلاته صحيحة، وإلا فالواجب على الإنسان أن يجتنب الخمر أصلاً، ولا يجلس في المكان الذي تشرب فيه ولا يتعرض لها.
الجواب: هذه الأقوال لا يظهر بالضبط أيها أرجح، يمكن مراجعة كتاب الإمام الترمذي والموازنة بين جامعه وبين الصحيحين للأستاذ نور الدين عتر، فهو بحث طيب ومفيد في هذه المسألة، وكذلك أظن الشيخ محمد أبو شهبة رحمه الله بحث هذه المسألة في عدد من كتبه، منها كتاب -أظن- اسمه: أعلام المحدثين، ومنها كتاب الحديث والمحدثون وغيرها، وأقول: إن الجزم في هذه المسألة يتوقف على استقراء الأحاديث التي قال فيها الترمذي : (حسن صحيح)، لكن الذي تميل إليه نفسي -إن صح هذا التعبير ولا أظنه يصح- أن قوله: (حسن صحيح) قد يعني: أن هذا الحديث فوق الحسن ودون الصحيح، فهو متردد بينهما، قد يكون هذا التردد لشك في اجتهاد المؤلف، أو لأن الحديث من حيث درجته فوق الحسن فعلاً ودون الصحيح؛ لأن من المعلوم أن درجات الأحاديث تتفاوت، فالحسن مراتب، والصحيح مراتب، فقد يكون الحديث فوق الحسن في نظره، ودون الصحيح، فعبر عنه بأنه حسن صحيح، يعني: هذا من الأقوال القوية.
الجواب: نعم. يعني عدم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغسل الأواني والقرب التي كان فيها الخمر هذا من الأدلة على طهارتها، بخلاف أمره بغسل القدور التي كانت فيها لحوم الحمر الأهلية، كما سيأتي في الدرس القادم إن شاء الله، هذا من الأدلة على عدم نجاستها، والواقع أن الخمر في ذلك المجتمع عند العرب كانت مستعملة، يعني: لما نزل تحريم الخمر كان عدد من الأنصار يشربون الخمر، وكان أنس يسقيهم، وكذلك معروفة قصة حمزة وعلي وشارفيه -وهي في الصحيح - وشربه الخمر، وجبه لأسنمة هذه الإبل، وقوله للرسول صلى الله عليه وسلم: (إنما أنتم عبيد لأبي) يدل على أن الخمر كانت موجودة في ذلك المجتمع، وإن كانت قلت بعد الإسلام كثيراً، خاصة بعد الإشارات المتعددة إلى تحريمها وإلى كراهتها أولاً، ثم نزل بعد ذلك الأمر بتحريمها، فلو كانت نجسة العين لكانت الحاجة داعية إلى التصريح بنجاستها، ولكان تجنب الصحابة لها أمراً ظاهراً.
الجواب: الظاهر أنها ليست محرمة في الشرائع السابقة فيما أعلم والله أعلم.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر