الحديث الأول: عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا ألا تجدوا غيرها، فاغسلوها وكلوا فيها)، متفق عليه.
واستدل أصحاب هذا القول وهم أكثر العلماء بأدلة كثيرة، أذكر بعض هذه الأدلة:
فمن أدلتهم أولاً: ما ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة التي صنعتها له ولأصحابه اليهودية يوم خيبر ، وهذا الحديث رواه البخاري وأبو داود والدارمي وأحمد وغيرهم عن أبي هريرة، واتفق عليه الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
وخلاصة القصة كما رواه البخاري عن أبي هريرة أن هذه اليهودية صنعت للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه شاة، ثم سألت الناس ما أحب اللحم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: الذراع، فوضعت في الشاة سماً وأكثرت منه في الذراع، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأكلوا منها، ونهس منها النبي صلى الله عليه وسلم نهسة ثم لفظها، وقال: (إن الذراع أخبرني أنه مسموم)، وأكل معه أناس من أصحابه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أدعوا لي من هاهنا من اليهود فدعوا له بعض اليهود فقال: إني سائلكم عن مسألة أفتصدقونني، قالوا: نعم يا أبا القاسم، قال: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان بن فلان، وذكروا له اسماً غير الاسم الحقيقي الذي ينتسبون إليه في القبيلة، فقال: كذبتم بل أبوكم فلان، قالوا: صدقت يا أبا القاسم، ثم قال عليه الصلاة والسلام: إني سائلكم عن مسألة أفتصدقونني؟ قالوا: نعم، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في المرة الأولى، فقال عليه الصلاة والسلام: من أهل النار؟ قالوا: نكون فيها قليلاً ثم تخلفوننا فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: كذبتم، والله لا نخلفكم فيها أبداً، ثم قال مرة ثالثة: إني سائلكم عن مسألة أفتصدقونني؟ قالوا: نعم، قال هل وضعتم في هذه الشاة سماً؟ قالوا: نعم، قال: فما أردتم إلى ذلك؟ قالوا: أردنا إن كنت ملكاً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لم يضرك).
وكانت المرأة التي وضعت السم هي فاطمة بنت الحارث زوجة سلام بن مشكم، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم تركها ولم يعاقبها، وورد في روايات صحيحة أنه قتلها، والجمع بين ذلك أنه تركها أولاً ثم لما مات بشر بن البراء بن معرور من أثر السم قتلها النبي صلى الله عليه وسلم قصاصاً، كما ذكر ذلك البيهقي وابن القيم وغيرهما من أهل العلم.
والشاهد من هذه القصة هو أكل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من هذه الشاة التي طبختها اليهودية، وهذا دليل على أن المشرك والكافر -سواء كان كتابياً أو غيره- ليس بنجس العين، بل نجاسته معنوية.
وفي الحديث الآخر الذي رواه الإمام أحمد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاب يهودياً دعاه إلى خبز شعير وإهالة سنخة) يعني: فيها أثر النتن والرائحة الكريهة.
وهذا الحديث وإن حكم عليه بعض أهل العلم بالشذوذ، فإن إسناده صحيح، وقد ورد في البخاري بلفظ: (أن خياطاً دعا النبي صلى الله عليه وسلم)، ولا مانع أن يكون هذا الخياط يهودياً فتكون الأحاديث متفقة، فأكله صلى الله عليه وسلم عند هذا اليهودي دليل على أنه ليس بنجس العين.
والدليل الثالث: ما رواه أبو داود وأحمد وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الجبن المجلوب من بلاد النصارى)، ومن المعلوم أنهم يباشرون هذه الأشياء بأجسادهم، فلو كانت أجسادهم نجسة لتأثرت هذه الأشياء بالنجاسة.
الدليل الرابع: هو ما ثبت (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بربط
والشاهد من القصة: هو ربطه في سارية المسجد، فإنه من المعلوم أنه كان وثنياً مشركاً، ولو كان نجساً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بربطه في سارية المسجد، مع ما علم من دخول كثير من المشركين إلى المسجد في عهده صلى الله عليه وسلم، يسألون عن الدين والإسلام، والقصص والأخبار في ذلك كثيرة.
والدليل الخامس: هو ما ساقه المصنف من قول عمران بن حصين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة مشركة)، فلو كانت المشركة نجسة لكان الماء نجساً مظنة أن يتنجس بملابستها له واستعمالها له.
والدليل السادس: هو ما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يلبسون الثياب التي نسجها المشركون، وهذا أمر مستفيض في أحاديث كثيرة جداً من حال الرسول صلى الله عليه وسلم وحال أصحابه، وقد اتفق علماء الإسلام على جواز لبس الثياب التي نسجها المشركون بلا خلاف.
والدليل السابع: أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يعيشون إلى جوار الكفار في مكة ، ويعيشون بين ظهرانيهم، ثم يعيشون إلى جوار اليهود في المدينة ، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه أنهم كانوا يتقون شيئاً منهم من اللمس أو نحوه، ولو كانوا أنجاس العين لكان هذا الأمر مما يكثر التوقي منه، وتتوافر الدواعي على نقله ومعرفته، ولذلك فإن هذا القول بأن الكافر ليس بنجس العين وإنما نجاسته معنوية قوي جداً بل هو الصحيح.
وحجة أصحاب هذا القول أولاً: قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا [التوبة:28]، فنص على أنهم نجس، وقالوا: إن قوله: (نجس) لفظ عام، يشمل النجاسة الحسية والنجاسة المعنوية، ولا يقال بتخصيص إحدى النوعين من النجاسة إلا بدليل، هذا دليلهم الأول.
ودليلهم الثاني: هو قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة: (إن المؤمن لا ينجس )، وما وجه الدلالة من هذا الحديث؟ (إن المؤمن لا يَنْجَس، أو لا يَنْجُس)، ما وجه الدلالة منه على نجاسة الكافر نجاسة عينية؟
استدلوا بمفهوم حديث: (إن المؤمن لا ينجس)، فقالوا: ما دام الرسول صلى الله عليه وسلم نص على أن المؤمن لا ينجس، فهو دليل بالمفهوم على أن الكافر أو غير المؤمن ينجس، والمقصود النجاسة الحسية كما يقولون؛ لأن سبب الحديث: (أن
قالوا: فالمقصود النجاسة الحسية، وسبب نجاسته عندهم إما الشرك الذي هو النجاسة المعنوية حيث كانت سبباً في النجاسة الحسية عندهم، وإما أن تكون نجاسته لأنه لا يتقي النجاسات والأقذار، ولا يغتسل من الجنابة، ولو اغتسل من الجنابة ما نفعه غسله؛ لأنه لم ينو رفع الحدث بذلك؛ ولهذا ذهب كثير من أهل العلم كالإمام أحمد ومالك في رواية عنه وأبي ثور إلى وجوب غسل الكافر إذا أسلم ، وستأتي هذه المسألة إن شاء الله في أبواب الغسل.
هذان الدليلان هما أهم ما تمسك به من قال بنجاسة الكافر نجاسة عينية، قوله: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ [التوبة:28]، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن المؤمن لا ينجس)، ولا شك أن الإجابة عن هذين الدليلين ممكنة وميسورة، فإنه يقال: إن المقصود بالنجاسة في الآية النجاسة المعنوية وليست النجاسة الحسية، وقد ثبت في نصوص كثيرة إطلاق النجاسة أو النجس على ما ليس بنجس، وسبق من ذلك على سبيل المثال: (قوله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية إنها رجس)، وكذلك قوله تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] والرجس هو النجس.
وقد اتفق العلماء على أن الميسر والأنصاب والأزلام ليست بنجسة العين بل هي طاهرة، واختلفوا في الخمر، ويأتي إن شاء الله ذكر الخلاف فيه.
وكذلك يجاب عن حديث أبي هريرة بأن ما استدلوا به مفهوم، ودلالة المفهوم ينازع فيها بعض الأصوليين، ولكن مما لا يختلف فيه: أن دلالة المفهوم لا تقاوم دلالة المنطوق ، يعني: إذا كان عندنا حديث يدل بمفهومه على شيء، وعندنا حديث آخر يدل بمنطوقه على شيء مخالف ومعارض لمفهوم الحديث الأول، فأيهما أولى أن يؤخذ به المفهوم أو المنطوق؟ لا شك أن المنطوق أولى بالأخذ، خاصة ونحن الآن أمام أدلة صريحة صحيحة قوية كثيرة على طهارة المشرك من حيث النجاسة العينية، أي: أنه ليس بنجس العين، وإنما هو نجس نجاسة معنوية لما يحمله من الشرك والعقيدة الفاسدة، هذه هي المسألة الأولى.
ولم أقف فيما قرأت على أجوبة لهم على هذه الأدلة، إنما هم استدلوا بما سبق، ورأوا أن هذه الآية والحديث كاف في نجاسة عين المشرك، ولم أقرأ في الحقيقة جواباً لهم على أدلة الآخرين، لكن ربما يلتمسون لها بعض الأجوبة، أو يقولون بتخصيص بعضها مثلاً، أو بنسخ، أو ما أشبه ذلك.
ولذلك اختلف أهل العلم في حكم استعمال أواني المشركين، فذهب بعضهم إلى أنه لا يجوز استعمال آنية المشركين إن وجد غيرها، وما دليل هؤلاء القوم؟
دليلهم نص الحديث، فإنه قال: (أفنأكل في آنيتهم؟)، فجاءه جواب الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تأكلوا فيها)، وهذا نهي يفيد المنع والتحريم، (إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها).
فقالوا: يحرم استعمالها إلا أن لا يجد غيرها فيجوز له حينئذ أن يستعملها بعد غسلها، ودليلهم ظاهر الحديث، وذهب الأكثرون من أهل العلم الشافعي وأبو حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد وغيرهم إلى أنه يجوز استعمال آنية المشركين على تفصيل في ذلك، فإن عُلم أن هؤلاء المشركين يستعملون الأشياء المحرمة، فيشربون في آنيتهم الخمر ويطبخون في آنيتهم الخنزير أستحب لمن يستعملها أن يغسلها قبل استعمالها.
أما إن علم ورأى فيها النجاسة فما حكمها حينئذ؟ يعني لو رأى فيها النجاسة من لحم الخنزير أو من الخمر على القول بنجاسته، أو غيرهما من النجاسات التي يستعملون، ما حكم هذه الآنية حينئذ؟ يغسلها، وهل يتصور في هذه المسألة خلاف؟ هل يتصور فيها خلاف؟ كلا، يعني إذا كانت النجاسة مرئية في الإناء، سواء كان إناء مشركين أو إناء مسلمين، إذا رأى فيه النجاسة فغسله قبل استعماله واجب، إنما إن لم ير نجاسة، ولكن علم أن هذه الأواني مظنة وصول النجاسة إليها، كما إذا كان هؤلاء القوم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر، فإنه يستحب له أن يغسلها؛ لظاهر قوله في الحديث: (إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها).
أما إن لم يعلم أنهم يأكلون الخنزير ويشربون الخمر بل علم من حالهم خلاف ذلك، فإن بعض المشركين قد يتقون هذه الأشياء إما استقذاراً أو لاعتقاد عندهم أو لسبب آخر، فإن لم يكونوا ممن يستعملها جاز استعمالها بلا غسل وبلا كراهة أيضاً، استعملها ولو لم يغسلها دون كراهة، فهذا قول أكثر أهل العلم.
واستدل هؤلاء الأئمة بحديث أبي ثعلبة أيضاً، فإنهم قالوا: إن حديث أبي ثعلبة هذا قد ورد فيه نصوص تدل على أن هؤلاء القوم كانوا يشربون الخمر ويأكلون الخنزير، فقد ورد في رواية أبي داود وأحمد من حديث أبي ثعلبة أنه قال: (يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب، وإنهم يأكلون في آنيتهم الخنزير ويشربون فيها الخمر، أفنأكل فيها؟) فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بما أجابه.
وقصة أبي ثعلبة وسؤاله للنبي صلى الله عليه وسلم حصل أكثر من مرة أو مرة واحدة؟ الظاهر والطبيعي أنه حصل مرة واحدة، فتحمل بعض الروايات على بعض، ويكون بعض الروايات مكملاً للبعض الآخر، فيدل على أن الحكم الوارد في الحديث وهو قوله: (لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها) خاص بأي نوع من آنية المشركين وأهل الكتاب؟ خاص بما علم أنهم يستعملونه في أكل الخنزير وطبخه، وفي شرب الخمر.
وقالوا: إن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمالها بقوله: (لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها)، هو ليس للتحريم إنما هو على سبيل الاستقذار، كما أن الإنسان يستقذر أن يأكل أو يشرب في محجمة مغسولة، يعني ما يستعمل في الحجامة ويصيبه الدم، لو غسل ونظف ثم قدم للإنسان فيه طعام، ألا تعافه نفسه؟! الغالب كذلك.
ومثله لو أتي الإنسان مثلاً بما صنع أصلاً لاستعماله في أشياء وضيعة: كتغسيل أو تبول أو غيرها وإن كان في غاية النظافة، ثم وضع فيه ماء أو طعام فإن نفس الإنسان تكرهه وتأباه وتستقذر مثل هذا الشيء، فلا يحمل هذا الأمر على التحريم، وإنما هو على الكراهة؛ ولذلك قال هؤلاء الأئمة: إن آنية المشركين لا تخرج عن ثلاثة أحوال كما سبق:
الحال الأولى: أن ترى فيها النجاسة، وحينئذ يجب غسلها بلا خلاف.
الحال الثانية: أن لا يرى فيها نجاسة ولكن يعلم من حال هؤلاء القوم أنهم يستعملون النجاسة كالخمر والخنزير، ولا يجد أثر هذه الأشياء في هذا الإناء بعينه، ففي مثل هذا الحال ما الحكم؟ يكره استعمالها قبل غسلها، يستحب له أن يغسلها لحديث أبي ثعلبة حين سأل عن مثل هذه الآنية التي يشرب فيها الخمر ويؤكل فيها الخنزير فقال: (لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها).
الحال الثالثة: أن يعلم من حالهم أنهم لا يستعملون هذا الإناء في شرب خمر ولا في أكل خنزير، فها هنا يجوز استعمالها بلا كراهة؛ لأن هذا هو الأصل، وقد سبق أن المشرك ليس بنجس العين.
وهذا القول هو قول أكثر أهل العلم كما سبق ، ويدخل العلماء في هذا الحكم سائر أصناف الكفار والمشركين وليس مقصوراً عندهم على اليهود والنصارى وأهل الكتاب الذين ورد السؤال بشأنهم: (إنا بأرض قوم أهل كتاب)؟! بل يشتمل اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأوثان من المشركين.
وقد ورد في روايات عند الترمذي وأحمد في حديث أبي ثعلبة نفسه أنه ذكر المجوس ، وأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بالإجابة نفسها، فعلم أن الحكم عام لليهود والنصارى والمجوس وغيرهم.
ولذلك أيضاً بوب البخاري رحمة الله عليه على حديث أبي ثعلبة بباب آنية المجوس ، وإن لم يذكر اللفظة التي فيها ذكر المجوس، وهذا من فقه الإمام البخاري، فإنه رحمه الله يضع أحياناً عنواناً للباب أو ترجمة تكون لفظاً من حديث ليس على شرطه، أو تكون مستفادة من حديث أو من لفظ في الحديث الذي ذكره، لكن هذه اللفظة ليست على شرط البخاري، ولذلك لم يخرجها في الصحيح ولم يهملها أيضاً، بل أشار إليها في عنوان الترجمة، فقال مثلاً هاهنا: باب آنية المجوس، فعلم من ذلك أنه يشير إلى حكم آنية المجوس والكلام فيها، ثم خرج حديث أبي ثعلبة كما قرأتم وليس فيه ذكر للمجوس ، بل اكتفى بالإشارة إلى الرواية في الترجمة فقط، وهذا من فقه الإمام البخاري، وكما سبق مراراً أن فقه الإمام البخاري في تراجمه.
والذي يظهر والله تعالى أعلم بالصواب: أن القول الثاني فيه قوة ووجاهة، وهو القول بالتفصيل فإن علمت النجاسة وجبت إزالتها، وإن لم تعلم لكن علم استعمالهم للإناء في النجاسة استحب غسله، وإن لم يعلم استعمالها بل علم أنهم لا يستعملونها جاز استعماله بلا كراهة، ولو قيل بوجوب غسله إذا كان يعلم استعمالهم للآنية عموماً في النجاسة لكان ذلك وجيهاً أيضاً، هذه المسألة الثانية والأخيرة في حديث أبي ثعلبة رضي الله عنه.
وقال في الحديث الذي رواه أبو داود عن سمرة بن جندب : ( من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله )، ومعنى جامعه يعني: اجتمع معه، وقيل: جامعه، أي أنه يتزوج امرأة مشركة فيجامعها، والمعنى الأول أعم وأولى، ونصوص القرآن والسنة في موضوع البراءة من المشركين صريحة وواضحة.
ومن فوائد حديث أبي ثعلبة أيضاً: أنه ينبغي للإنسان أن يعتني بعلم ما يحتاج إليه في حياته العملية، وأن هذا من فروض الأعيان، أي: أن كل إنسان يحتاج في حياته العملية أشياء قد لا يحتاجها غيره، فالطبيب مثلاً يحتاج إلى معرفة أحكام لا يحتاجها المهندس، والمهندس يحتاج إلى أحكام لا يحتاجها التاجر مثلاً، والتاجر يحتاج إلى أحكام لا يحتاجها الزارع أو الفلاح وهكذا، فكل نوع من الناس يحتاج إلى معرفة أحكام تخصه، وكذلك المرأة تحتاج إلى معرفة أحكام قد لا يحتاجها الرجل والعكس بالعكس، فيجب على الإنسان وجوباً شرعياً أن يتعلم الأحكام التي يحتاجها في حياته العملية؛ ليكون عمله وعبادته على بصيرة.
هذه أهم الفوائد في حديث أبي ثعلبة.
وهذا الحديث ذكر المصنف أنه متفق عليه في حديث طويل، وليس في الصحيحين عن عمران بن حصين فيما يظهر لفظ كهذا، وإنما المصنف ذكره بالمعنى الذي قد يفهم من حديث عمران بن حصين، فقد أخرج الشيخان عن عمران رضي الله عنه في قصة طويلة: ( أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في سفر فأسروا حتى تأخروا في الليل ثم وقعوا على الأرض وقعة -كما يقول وكان من عادتهم أن لا يوقظوا النبي صلى الله عليه وسلم إذا نام؛ لأنهم لا يدرون ماذا يقع له في نومه، أما يقول عمران : فكنا نغير على القبائل التي حولها ولا نصيب قومها، فقالت لقومها: والله ما أراهم يتركونكم عمداً، فهل لكم في الإسلام؟ قال: فأسلموا
هذه هي القصة، وفيها: ( أن رجلاً اعتزل القوم فلم يصل معهم، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم: ما لك؟ فقال: أصابتني جنابة ولا ماء، قال: عليك بالصعيد فإنه يكفيك، ثم لما جاء ماء هذه الأعرابية أعطاه ماء وقال صلى الله عليه وسلم: اذهب بهذا فأفرغه على جسدك ).
هذا الحديث أخذ منه المصنف رحمه الله بالمعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه توضئوا من مزادة مشركة، وكذلك المجد بن تيمية في المنتقى روى الحديث مثلما رواه المصنف هاهنا.
وقد اختلف من الذي اتخذ مكان الشعب سَلسلة، فالرواية التي بين أيدينا تدل على أن المتخذ هو الرسول صلى الله عليه وسلم.
وورد في رواية البخاري من طريق عاصم الأحول ما يدل بظاهره على أن المتخذ هو أنس قال: ( رأيت قدح النبي صلى الله عليه وسلم عند
ودلالة الحديث ظاهرة في الوجهين، وإن كانت دلالته في الحال الأولى -حال كون النبي صلى الله عليه وسلم هو المتخذ- أقوى وأتم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الجواب: فيما يتعلق بالأشياء التي أتت من قوم الأصل الحل والجواز، يعني: ما أتى من قوم النصارى فالأصل أنه لا يحتاج الإنسان إلى أن يسأل، ولعلك تشير إلى ما يدور في أوساط الناس اليوم من السؤال عن مثل الدجاج وغيره من الذبائح التي تذبح في بلاد النصارى، وهل يسأل عنها أو لا يسأل؟
والكلام الحقيقة في هذه المسألة يطول ولا يتسع له مثل هذا الوقت، وإن كان لابد من إشارة خفيفة فأقول: إن الأصل كما رأيت، إذا علم الإنسان أن هذا الحيوان مذبوح في بلاد نصارى لا ينبغي له أن يسأل كيف ذبحوه، وبأي طريقة ذبحوه؟ هذا هو الأصل، لكن الفقهاء يقولون أحياناً: قد يغلب على الأصل أمر ظاهر يوجب النظر في هذا الأصل في بعض الحالات.
واليوم نجد أن هناك أمراً ظاهراً قد فشى وانتشر وكثر أوجب نوعاً من التردد عند كثير من الناس، وهو أن كثيراً من الثقات -من طلاب العلم والعلماء- ذهبوا إلى تلك البلاد الكافرة .. بلاد النصارى ووجدوا أن هذه المسالخ والمذابح تذبح فيها الحيوانات بطرق أخرى ليست طريقة شرعية، بطريقة الصعق الكهربائي، أو بطريقة المياه الحارة، أو بغير ذلك، بطرق ليست ذكاةً شرعية، وكثر هذا الكلام ونقل عن كثير من الثقات في كثير من البلدان.
وأضيف إلى ذلك أيضاً دلائل أخرى مثل توسع أولئك القوم الكفار في مثل هذه الأشياء، الأمر الذي يجعل من المستبعد أن يقوموا بالتذكية الشرعية إلا في حالات معينة، وكذلك وجود أجهزة ضخمة عندهم يتم بها موت أعداد كبيرة من الحيوانات دفعة واحدة، دون حاجة إلى ذكاة شرعية، أو إلى أن يذكيها إنسان ممن تحل ذكاته.
والأمر الثالث: أن كثيراً من أولئك القوم يشك في صدق نصرانيتهم، بل الغالب عليهم الإلحاد والكفر بالديانات السماوية كلها، فهذه الأمور الطارئة جعلت كثيراً من الناس يتوقفون أو يسألون عن هذه الذبائح، هل يجوز أكلها أو لا؟ وإن كانت لا ترتقي هذه الأمور فيما يظهر والله أعلم إلى درجة تحريم هذه الأشياء، لكنها فيما يظهر لي والله أعلم بالصواب ترتقي إلى درجة أن يكون من الورع الكف عن هذه الأشياء، إلا إذا علم الإنسان أنها ذبحت بطريقة ذكاة شرعية عن طريق توثيق جهات رسمية معتبرة.
ولكن لو أكل الإنسان من هذه الأشياء دون أن يسأل، فالقول بأن هذا الأكل محرم، أو بأنه يجب الإنكار عليه فيه صعوبة، وإن كان العلماء مختلفين في ذلك، علماء العصر مختلفون في ذلك اختلافاً بيناً.
والنظر إلى من يقوم بهذه الأعمال في الأصل وبالدرجة الأولى إلى الشعوب؛ لأن الغالب أن من يتصدون لهذه الأشياء ويعانونها هم من الناس، فالعبرة بمن يتصدون لهذه الأشياء .. العبرة بالشعب الذي يتصدى لعمليات الذبح والسلخ وغيرها، ولكن إذا علم من بلاد أيضاً أنها بلاد كافرة أو شيوعية ولو وجد فيها بعض النصارى، فهذا يرجح ترك هذه الأشياء؛ لأن النصارى في الأصل عندهم دين يدينون به ويأمرهم بالذكاة الشرعية، فقد يراعونه، أما غيرهم من الوثنيين والشيوعيين وسواهم فليس لهم دين، ولا يفرقون بين ما ذكي وما لم يذك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر