من فوائد حديث ابن عمر: أن الميتة حرام، وهذا يؤخذ بالمفهوم، لأن قوله: ( أحلت لنا ميتتان ) هو نوع من الاستثناء، يعني: حكم مستثنى، فالأصل في الميتة التحريم، فقوله رضي الله عنه: ( أحلت لنا ميتتان ) يعني: أنهما استثنيتا من تحريم الميتة، وهذا الحكم ورد بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة:3]، فتحريم الميتة ثابت بنص القرآن الكريم .
إذاً: قوله: (أحلت لنا ميتتان ودمان) يدل على أن الأصل في الدم التحريم، وإنما استثني ما ذكر في الحديث: الكبد والطحال، وما عداهما فهو محرم، وهذا الحكم أيضاً ثابت بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ [المائدة:3]، وفي آية البقرة: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [البقرة:173] .. وغيرها من النصوص.
فالدم حرام لا يجوز أكله.
وما المقصود بالدم؟ المقصود بالدم هو الدم المعروف، ولكن ورد تقييده في القرآن الكريم بأنه الدم المسفوح: قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا [الأنعام:145]. فالدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذبحها هو محرم أكله بالإجماع.
و أما الدم الذي يوجد في عروق ولحم الحيوان المذكى فإنه معفو عنه ليس بحرام؛ وذلك لأن الشرع جاء بالتخفيف والتيسير على العباد ؛ بخلاف شريعة أهل الكتاب من قبلنا وخاصة اليهود فإنهم كانوا يتشددون في النجاسات، حتى إنهم كانوا لا يأكلون هذا الدم الذي يوجد في اللحم والعروق، وهذا لا شك فيه حرج وأصر ومشقة، فجاء الإسلام بتخفيف هذا الأمر على الناس، فالدم المحرم هو الدم المسفوح، وما عداه فإنه ليس بحرام، وقد كان المسلمون يطبخون لحومهم ومرقهم، ويوجد فيه أثر الدم من عروق أو صفرة .. أو غيرها، ولا يمنع ذلك من أكله أو شربه إن كان مرقًا.
والحديث نص في الحوت: (فأما الميتتان فالجراد والحوت)، لكن من أين يؤخذ غير الحوت؟ من الحديث الذي مضى، وهو قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، فهذا مطلق في ميتات البحر كلها من الحوت وغيره.
وميتة البحر حلال، لكن ما المقصود بميتة البحر، هل المقصود ما ماتت في البحر ثم طفت فيه، أو المقصود التي تموت بمفارقتها البحر؟
الراجح: أن المقصود الأمران، يعني: سواء ماتت في البحر فطفت فيه فهي حلال، أو ألقى بها البحر خارجه فماتت فهي أيضاً حلال، ولم يرد في النص تفريق بين هذه وتلك، وهذا مذهب مالك والشافعي وأبي ثور .. وكثير من أهل العلم: أنهم لا يفرقون بين ما مات في البحر وبين ما ألقاه البحر خارجه فمات بمفارقته.
والحديث يشهد لهذا المعنى، ومثله الحديث السابق: ( الحل ميتته ).
وقد روى الطبري في تفسيره والدارقطني في سننه والبيهقي .. وغيرهم [ عن أبي بكر وأبي أيوب وابن عباس رضي الله عنهم بأسانيد صححها أهل العلم: أنهم قالوا في تفسير قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ [المائدة:96] أنهم قالوا: إن صيد البحر ما صيد فيه، وطعامه ما مات فيه ].
فـ الصيد: هو ما صاده الإنسان في البحر، وأما الطعام فهو ما مات في البحر من ميتة البحر -من حيوانات البحر-، فطفا على ظهر الماء، ففسر هؤلاء الصحابة الأجلاء -ومنهم حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس - طعام البحر بأنه ما مات فيه، وقد صح هذا عن جمع من الصحابة.
والقصة في البخاري ومسلم .. وغيرهما، فهي قصة صحيحة ثابتة، وهي عجب من العجب، وهذا الحوت يسمى العنبر، ويوجد في العصر الحاضر ما يشبهه، فهو أمر وإن كان عجيباً إلا أنه معروف في البحر.
فهذه القصة تدل على جواز أكل ميتة البحر وإن ماتت فيه؛ لأن مثل هذا الحوت العظيم لو كان حياً لكان مكانه ثبج البحر ووسطه، وإنما اقترب من ضحل البحر ومن طرفه؛ لأنه مات في البحر -والله أعلم-.
وحتى على فرض أن هذا الحوت يمكن أن يكون في طرف البحر، فإن الصحابة رضي الله عنهم لم يتساءلوا أو ينظروا: هل مات في البحر أو مات بخروجه؟ وكذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسألهم: هل مات في البحر أو مات بعد خروجه من البحر؟ فدل هذا على عدم التفصيل؛ ولذلك قال علماء الأصول: (ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال)، وهذه من القواعد الأصولية، يعني: عدم الاستفصال في أمر يحتمل أكثر من وجه يدل على أن الحكم واحد في الحالين، فكونه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث لم يستفصل: هل مات الحوت في البحر أم مات خارجه بمفارقة الماء، دل على أن الحكم واحد سواء مات في البحر أو مات خارجه.
ولـابن القيم كلام طيب مفيد جداً في هذه المسألة في الجزء الثالث من كتاب زاد المعاد في صفحة (392 وما بعدها) حقق فيه القول بجواز أكل ميتة البحر في الحالين.
والسبب في إطالته في هذه المسألة رحمه الله؛ لأنه ورد في حديث ضعيف رواه أبو داود عن جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن أكل ما طفا على البحر )، والحديث ضعيف، فيه عبد العزيز بن عبيد الله ضعفه الدارقطني وغيره، فلا يصح ولا يقاوم الأحاديث الصحيحة السابقة .
هذه بعض الفوائد من حديث ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه أو من أثره: ( أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان فالجراد والحوت، وأما الدمان فالكبد والطحال ).
خلاصة الجواب على هذه المسألة: أن كل نجس فهو محرم إلا في حالة الضرورة، ولا عكس: فليس كل محرم بنجس، فأنت تجد -مثلاً- أن الذهب والفضة محرما الاستعمال والأكل والشرب فيهما، مع أنهما ليسا بنجسين بالاتفاق، وكذلك السم أكله حرام ومع ذلك فليس بنجس، والخمر ذهب بعض أهل العلم كـالليث بن سعد والأوزاعي وربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك .. وغيره إلى طهارتها مع أنها محرمة بالاتفاق، فكل نجس فهو محرم ولا عكس، فليس كل محرم بنجس، فقد يكون محرماً لنجاسته، وقد يكون محرماً لسبب آخر غير النجاسة.
الشاهد الأول: حديث أبي سعيد رواه النسائي وابن ماجه وأحمد وابن حبان والبيهقي، وإسناده صحيح.
الشاهد الثاني: حديث أنس رضي الله عنه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث رواه البزار والطبراني، وقال ابن حجر في فتح الباري : رجاله ثقات، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد : رجاله رجال الصحيح. هذا حديث أنس عن من؟ مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الشاهد الثالث: حديث أنس أيضاً، لكن ليس مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما من رواية أنس رضي الله عنه عن كعب الأحبار -رحمه الله-، وكعب الأحبار صحابي أو تابعي، نعم يا أخ...؟
مداخلة: .....
الشيخ: تابعي، كعب الأحبار تابعي ؛ ولذلك فهذا الحديث حديث أنس عن كعب أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير : باب من حدث من الصحابة عن التابعين.
إذاً: فلو سئلت: هل روى أحد من الصحابة عن التابعين؟ نعم، يوجد هذا، بل يوجد في الصحيحين منه، كما في رواية معاوية بن أبي سفيان عن مالك بن يخامر عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الطائفة المنصورة: وهم بالشام، فهذا في صحيح البخاري من رواية معاوية عن مالك بن يخامر، ومالك تابعي.
ومن أمثلته ما عندنا الآن: رواية أنس بن مالك رضي الله عنه عن كعب الأحبار ؛ ولذلك أخرجه ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير : باب من روى من الصحابة عن التابعين .
وهذا الحديث أيضاً قال ابن حجر في تلخيص الحبير : وإسناده صحيح.
والشاهد الرابع: عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وقد أخرجه ..كما ذكر السيوطي في جامعه الكبير، ثم المتقي الهندي في كنز العمال تبعاً له، أخرجه ابن النجار، ولا أدري عن إسناد هذا الحديث وصحته أو ضعفه.
الخلاصة إذاً: أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلم إذا وقع الذباب في شرابه أن يغمسه ثم ينزعه.
ورد الآن عن كم صحابي؟ نعد .. الأول أبو هريرة، كما في رواية البخاري وأبي داود .
والثاني: أبو سعيد، كما في رواية أحمد والنسائي وابن ماجه وابن حبان والبيهقي .
الثالث: أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا رواه البزار والطبراني، وقال فيه ابن حجر : رجاله ثقات، وقال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح.
الرابع: أنس عن كعب الأحبار، وهذا أخرجه عنه ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير، بقي شيء؟ نعم.
الخامس: حديث علي أخرجه ابن النجار كما ذكر السيوطي .
إذاً: الحديث ورد خمسة أحاديث أو عن أربعة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤكد أن أبا هريرة رضي الله عنه لم ينفرد بهذا الحديث.
ومما يرد به عليهم: أنه ما من حديث طعن فيه من رواية أبي هريرة إلا جاء الحديث من رواية صحابة آخرين، ومن الأمثلة: سبق معنا حديث يقال فيه هذا الكلام، وهو حديث ولوغ الكلب، فقد ضعفه .. وإن كان الذين ضعفوه ليسوا من الزنادقة الذين أشرنا إليهم، وإنما ضعفه بعض الفقهاء؛ لأن أبا هريرة عمل وأفتى بخلافه، فرد عليهم بأن أبا هريرة لم يتفرد بهذا الحديث، بل قد ورد عن غيره كـعبد الله بن مغفل وسواه.
وهذا مثال آخر الآن: حديث الذباب، فلم ينفرد به أبو هريرة به، بل رواه أبو سعيد وأنس عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعلي بن أبي طالب، ورواه كعب الأحبار، وكعب قد يكون أخذه من كتب أهل الكتاب، وهذا يقوي الواقع ولا يضعف الحديث؛ لأن كعباً ليس بكذاب كما يطعن فيه البعض، وهو إذ يروي هذا الحديث فكأنه يثبت بأن ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الذباب موجود في كتب أهل الكتاب السابقة، فاتفق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مع ما جاء به من قبله.
والكلام في هذه المسألة يطول، لكنني أحيلكم على كتاب نفيس ومفيد اسمه: دفاع عن أبي هريرة ألفه أحد العلماء المعاصرين، وهو عبد المنعم بن صالح العلي، وهذا الكتاب مجلد مفيد جداً، تكلم فيه عن أبي هريرة وسيرته وتوثيق الصحابة له، وروايتهم عنه، ورواية التابعين عنه، ومن طعنوا فيه، وبيان حقيقتهم، وبيان الأحاديث التي خالف فيها أبو هريرة غيره، والأحاديث التي ردها الزنادقة، وتكلم عن ذلك بما لا يوجد في غيره، واسمه دفاع عن أبي هريرة.
أما مضمون هذا الحديث الذي بين أيدينا، فقد أكثر العلماء -وخاصة المعاصرون- من الكلام فيه، وهل مسألة وجود داء ودواء في جناحي الذباب مسألة ثابتة أم لا؟
والمسلم ينتهي إلى ما سمع، قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، فإذ قد جاءه الخبر من المعصوم صلى الله عليه وسلم بأن في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر شفاء، وأنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء، فإنه لا يعتبر أن ما يثبته الطب الحديث -مثلاً- يؤكد كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أن المسلم المصدق للرسول عليه الصلاة والسلام إذا عرف بأن هذا الحديث صحيح، وقد ورد عن فلان وفلان من الصحابة، لا يجد أنه بحاجة إلى أن يشهد الطب الحديث للرسول صلى الله عليه وسلم بالصدق، بل العكس هو الصحيح، فما جاء به الطب الحديث، وعرفنا أنه ورد في السنة اعتبرنا هذا دليلاً على أن الطب أصاب في هذه المسألة، ولا مانع أن يكون هذا مطمئنًا لقلب المؤمن؛ لأن تضافر الأدلة مما يزيد الإيمان، فالإيمان يزداد بتضافر الأدلة وكثرتها، وإذا رأى المؤمن في الواقع مصداق ما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم، قال كما قال المؤمنون الأولون: هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ [الأحزاب:22] .
فلا بأس لو أثبت العلم الحديث أن في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر دواء، ينبغي للأطباء المسلمين أن يحرصوا على نشر هذا وبيانه للناس؛ لأنه مما يقيم الحجة على الآخرين بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
لكن يجب أن نفرق بين هذا وبين كوننا نجعل تصديقنا بالحديث موقوفاً على إثبات الطب له، فهذا أمر خطير! يعني: أن نتوقف في قبول ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأتي الطب ليؤكده.
أقول هذا كمقدمة، وإلا فقد ذكر كثير من الأطباء القدماء والمعاصرين من الألمان .. وغيرهم، أنهم وجدوا بالتحليل والدراسة الطبية مصداق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأن في أحد جناحي الذباب داء وفي الآخر دواء، وأنهما متكافئان، فأحدهما يدفع شر الآخر.
وهذه الأقوال تجدونها في الكتاب السابق المشار إليه، وفي كتاب للشيخ محمد السماحي اسمه المنهل الحديث، وفي كتاب اسمه الإصابة في صحة حديث الذبابة لـخليل ملا خاطر، وإن كان الكتاب الأخير لم يأتِ بشيء جديد يذكر عما ذكره الكتابان السابقان، فمن أراد المزيد في هذا الموضوع فليراجع هذه الكتب.
منها الفائدة السابقة: وهي أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، وهذه الفائدة من أين تؤخذ من الحديث؟ نعم يا إبراهيم؟
مداخلة: لأنه لو كان نجساً لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه والشرب مرة ثانية.
الشيخ: نعم، لأن الذباب لو كان ينجس بالموت لما أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بغمسه، ثم شرب هذا الشراب من ماء أو لبن أو غيره؛ لأنه إن كان مات بعد وقوعه فالأمر ظاهر، وإلا فكان غمسه -ربما- سبباً في موته إن لم يكن مات، فلو كان نجساً والماء أو الشراب قليلاً لنجس هذا الماء أو الشراب، فلما لم يفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين قليل وكثير، بل قال: ( إذا وقع الذباب في شراب أحدكم )، والعادة أن شراب الواحد كثير أم قليل؟ ليس بكثير، فلما لم يفرق بل قال: ( فليغمسه ثم لينزعه )، دلّ على أنه ليس بنجس، وأنه لا ينجس ما وقع فيه، والذباب هو مما لا نفس له سائلة.
وهذه هي الفائدة التي ساق المصنف -رحمه الله- الحديث من أجلها، فحديث أبي هريرة تبع لحديث ابن عمر السابق، في بيان أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت.
... السابقين وبعض المعاصرين من الدعاة الذين لم يمتلئوا بالعلم الشرعي الصحيح المبني على النص من الكتاب والسنة، إذا أشكل عليهم أمر كحديث الذباب -مثلاً- أو غيره من أنواع الطب وسواه فإنهم يقولون: إن هذه الأشياء قالها الرسول صلى الله عليه وسلم باجتهاده، وبعضهم يقول: هذه ثقافة عصره صلى الله عليه وسلم، يعني -مثلاً- الطب الذي كان موجوداً عند العرب في الجاهلية عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأمر أصحابه به، فيقال: كلا، بل ظاهر أن هذه الأشياء أمور أخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم على سبيل القطع والجزم، فهي تقبل منه صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز التشكيك فيها أو ردها.
ونبدأ إن شاء الله في الأسبوع القادم بباب الآنية، والحديث هو حديث أبي واقد الليثي، ولعل بعض الإخوة حفظوا الحديث، تفضل نعم.
مداخلة: عن أبي واقد الليثي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت )، أخرجه أبو داود والترمذي، وحسنه واللفظ له.
وذكر المصنف ممن حسنوا الحديث الإمام الترمذي قال: وحسنه، والحديث أيضاً صححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وصححه من المعاصرين الألباني.
وللحديث شواهد:
منها: حديث عن ابن عمر رضي الله عنه، وقد أخرجه ابن ماجه والحاكم .
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري، وقد أخرجه الحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
ومنها: حديث تميم الداري، أخرجه ابن ماجه والطبراني، ولكنه ضعيف جداً، فيه أبو بكر الهذلي وهو متروك الحديث، فمثل هذا هل يصلح للاستشهاد؟ كلا؛ لأنه سبق أن الحديث الذي يصلح للاستشهاد هو ما كان ضعفه غير شديد قابلاً للانجبار، أما شديد الضعف كالذي فيه راو متروك أو متهم فلا يصلح للاستشهاد؛ ولذلك فذكره ها هنا من ضمن الشواهد -يعني: على سبيل كما يقولون- من باب العلم، وإلا فالواقع أنه لا يصلح شاهداً للحديث لشدة ضعفه، فيكتفى في شواهد الحديث بالشاهدين الأولين: حديث ابن عمر رضي الله عنه، وحديث أبي سعيد .
البهيمة: هي ما يؤكل لحمه، يعني: كل حيوان يؤكل لحمه، وقيل: هي بهيمة الأنعام، يعني: كالإبل والبقر والغنم ..ونحوها، كما في قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ [المائدة:1]، وقيل: هي كل ما لا يميز، كل هذه أقوال.
قيل: البهيمة هي كل حي لا يميز.
وقيل: المراد بهيمة الأنعام.
وقيل: كل ما يؤكل لحمه من الحيوان.
وإذا تأملت المقصود بـ(البهيمة) في الحديث وجدت أن القول الثالث قريب، وهو أن المقصود بالبهيمة: كل ما يؤكل لحمه، لماذا؟ لأن النبي صلى عليه وسلم ورد عنه أنه ذكر: ( أن بغياً من بني إسرائيل -كما في الصحيح- نزلت في بئر فشربت، ثم خرجت فوجدت كلباً يلهث -يلحس- الثرى من العطش، فقالت: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، ثم نزلت فنزعت موقها أو جرموقها -وهو الحذاء- فوضعت فيه الماء ثم أمسكته بفيها وخرجت وسقت الكلب، فشكر الله لها فغفر الله لها، -والله واسع عليم- فقال الصحابة: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم لأجراً -هذا الشاهد- فقال عليه الصلاة والسلام: في كل كبد رطبة أجر ).
فدل على أن المقصود بالبهائم في الأصل: كل شيء حي يدب على الأرض.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم هاهنا قال: ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت -أو فهو ميتة- ). وظاهر جداً من الحديث: أن البهائم التي لا تؤكل كالسباع .. وغيرها هذه حتى ما لم يقطع فيها فهو ميت، يعني: ليس هناك فرق بين ما قطع منها وهي حية، وبين أن تموت، وبين أن تذكى، فهي ميتة في كل الأحوال بلا استثناء وبلا تفصيل، ما قطع منها فهو ميت، ولو ماتت فمن البدهي أنها ميتة، ولو ذكيت فهل تحل بذلك؟ ستظل ميتة فحكمها واحد، وليس فيها تفصيل، فدل على أن المقصود في الحديث ما يؤكل خاصة؛ لأنه هو الذي يختلف حكمه بالموت عن حكمه بالذكاة، فيلحق ما قطع منه في حال حياته بميتته، أما ما ذكي منه فهو طاهر مباح، أظن هذا ظاهراً أو ليس بظاهر؟ طيب! إذاً فالمقصود بالبهيمة هاهنا ما يؤكل لحمه.
منها: تحريم قطع شيء من البهيمة وهي حية.
ومنها: أن هذا المقطوع من البهيمة ميت، ويترتب على كونه ميتاً أنه لا يحل أكله.
ومنها: تحريم تعذيب البهائم بأي أمر كان.
ومنها: تحريم الميتة؛ لأن قوله صلى الله عليه وسلم: ( فهو ميت )، يعني: في حكم الميتة، فيحرم أكله.
وقد يستفاد من الحديث أن هذا المقطوع من البهيمة إذا كان غير الشعر فهو نجس، أما الشعر فيجوز جزه وهو طاهر بالإجماع إذا جز منها في حال حياتها، إنما الكلام في غير الشعر، فلا يجوز قطع شيء منها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر