) .
ولذلك فلا بد من أخذ الفائدة أو الفوائد الموجودة في هذا الحديث ما دام صح عن
ابن عمر، وما دام في حكم المرفوع.
فالفائدة الأولى، أو المسألة التي ساق المصنف الحديث من أجلها هي: بيان أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت.
ما معنى هذه الكلمة؟
أولاً: ما معنى كون الشيء ليس له نفس سائلة؟
النفس هي الدم كما ذكره ابن قدامة وغيره من أهل العلم، المقصود بالنفس هي: الدم.
إذاً حين يقال: ما لا نفس له سائلة، يعني ما ليس له دم يسيل، والعرب يطلقون النفس على الدم كما هو موجود في أشعارهم، فما لا نفس له سائلة من الحشرات وغيرها لا ينجس بالموت كالجراد مثلاً، وكذلك الحوت كما في هذا الحديث، ومثله سائر الحشرات كالذباب والصرصار وغيرها، الخنافس، الجعلان وسواها، فكل شيء ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس بالموت، وإذا كان لا ينجس بالموت فلو افترض أنه مات في ماء، نفترض ماء مات فيه شيء من هذه الحشرات التي لا تنجس بالموت، فما حكم هذا الماء؟
نقول: ليس بنجس.. طهور، لا ينجس بهذا الشيء، وهذه هي المناسبة التي ساق المصنف الحديث من أجلها؛ لأن الحديث الآن في أي باب؟
في باب المياه، فكأن هذا إشارة إلى أن الماء لو سقط فيه شيء مما لا نفس له سائلة ومات فيه فإنه لا ينجس بذلك.
ودلالة الحديث على هذا الأمر من أي وجه؟ كيف استدللنا بالحديث على أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت؟ لأنه قال: (أحلت لنا) يعني: أحل أكلها، وما جاز أكله فهو طاهر، أو نعكس القاعدة فنقول: كل نجس فأكله حرام بلا استثناء إلا في حالة الضرورة، فكل أمر نجس يحرم أكله، ولو لم يرد نص خاص به إلا في حالة الضرورة.
وعكس القاعدة أيضاً: أن ما جاز أكله فهو طاهر، فما دام الرسول صلى الله عليه وسلم أحل لنا الجراد والحوت دل هذا على أنها طاهرة وأن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت، هذا وجه دلالة الحديث على المسألة.
وهل في هذه المسالة خلاف؟ فيها خلاف يسير فأكثر أهل العلم على القول السابق، أنها لا تنجس بالموت، ولا تنجس الماء إذا وقعت فيه، حتى قال ابن المنذر رحمه الله: لا أعلم فيه خلافاً بين أهل العلم إلا ما يذكر من أحد قولي الشافعي، أي أن الشافعي في أحد قوليه يذهب إلى نجاستها بالموت.
وقال ابن القيم رحمه الله: لا يعرف في السلف مخالف في ذلك، يعني: في طهارة ما لا نفس له سائلة إذا مات، وأنه لا ينجس بالموت.
إذاً: هذه المسألة الخلاف فيها هو قول للشافعي رحمه الله، وحتى على القول بأنها نجسة عند الشافعي في أحد قوليه، فكثير من فقهاء الشافعية يعتمدون أنها لا تنجس الماء بوقوعها فيه إذا كانت مما يكثر وقوعها في الماء وتعم البلوى بها، فيخففون في ذلك تيسيراً على الناس.
فالخلاصة: أن هذه المسألة خالف فيها الإمام الشافعي في أحد قوليه.
والرأي الصحيح هو الأول، أن ما لا نفس له سائلة لا ينجس بالموت.
وهناك مسألة متفرعة عن هذه المسألة وهي: أن هناك بعض الحشرات التي ليس لها نفس سائلة تكون متولدة أصلاً من النجاسة مثل ماذا؟ مثل الصراصير، فهل حكم الصراصير حكم غيرها مما لا نفس لها سائلة، أم لها حكم خاص؟
أيضاً القول الذي عليه كثير من أهل العلم أن حكمها حكم غيرها مما لا نفس له سائلة وأنها طاهرة، وحين يقال: طاهرة يجب أن يعرف أنها بذاتها طاهرة، أما كونها لامست نجاسة فكل شيء لامس نجاسة ثم وقع فالنجاسة نجسة، إنما المقصود الشيء بذاته.
فكثير من أهل العلم يذهبون إلى أن المتولد من النجاسة مما لا نفس له سائلة طاهر أيضاً كالصراصير، وحجتهم في هذا نفس الأدلة السابقة، وأن هذا هو الأصل، فإن الأصل في الأعيان الطهارة أو النجاسة؟
جميع الأعيان الأصل فيها الطهارة، وكذلك يقولون بأن النجاسة تزول بالاستحالة كما سبق في المسألة في أول الدرس، فلو افترض مثلاً أن هناك زرعاً سقي بماء نجس هل يكون هذا الزرع نجساً؟ لا، وكذلك مثل الصرصار الذي تولد من نجاسة هو طاهر، وإن كانت النجاسة التي كان منها في أصله لا شك معروف أنها نجسة.
الشيخ: وكذلك المني عند من يقول بأنه نجس، جزاك الله خير.
نكمل المسألة حتى تنتهي منها ولا نعود إليها، فأيضاً مسألة المتولد من النجاسة مما لا نفس له سائلة سبق أن أكثر أهل العلم على أنه طاهر، وهناك رواية في مذهب الإمام أحمد على أنه نجس، والقول الأول أقوى لعموم الأدلة وكون هذا مما لا نفس له سائلة فحكمها واحد؛ ولأن الأصل في الأعيان الطهارة وليس النجاسة والقائل بالنجاسة يلزمه الدليل، ولأن الاستحالة تغير النجاسة كما سبق، ومن ذلك أن كثيراً منهم يقولون بنجاسة المني، ومع ذلك فهم مجمعون على طهارة المسلم، مع أن الإنسان أصله من هذا الماء. فهذا يدل على أنها ليست بنجسة، والله أعلم.
والحديث فيه فوائد أخرى نؤجلها إن شاء الله للأسبوع القادم، بحيث نأخذ بقيتها ونأخذ معها الحديث الآخر الذي قرأتموه الآن، وحديث أبي واقد الليثي في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما أبين من البهيمة وهي حية فهو ميت ).
بحيث إن شاء الله في الجلسة القادمة ننتهي من الباب الأول، وهو باب المياه.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.