إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
عندنا اليوم حديثان، أحدهما: حديث أبي قتادة في سؤر الهر، والثاني: حديث أنس في قصة الأعرابي.
الحديث الأول: عن أبي قتادة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة: إنها ليست بنجس، إنما هي من الطوافين عليكم ) أخرجه الأربعة، وصححه الترمذي وابن خزيمة.
فـالترمذي قال: هذا حديث حسن صحيح، وقد جوده مالك، ولم يأت به أحد أتم منه، وهو أحسن شيء في الباب. هذه كلمة الإمام الترمذي .
وصححه أيضاً ابن خزيمة كما ذكر المصنف، وصححه ابن حبان، وصححه الحاكم، وصححه البخاري والعقيلي، والذهبي .
فهؤلاء الأئمة حكموا على هذا الحديث بأنه حديث صحيح.
وأعله آخرون من العلماء، فممن أعل الحديث: ابن مندة رحمه الله، أعل الحديث بعلتين:
الأولى: أن في إسناده حميدة بنت عبيد بن رفاعة، وهي مجهولة كما يقول ابن مندة، حميدة بنت عبيد بن رفاعة .
العلة الثانية: أن في إسناده كبشة بنت كعب بن مالك وهي أيضاً مجهولة كما يقول ابن مندة، وذلك أن إسناد الحديث: أن حميدة روت عن كبشة بنت كعب بن مالك، وكانت كبشة هذه زوجة لـابن أبي قتادة -كانت تحت ابن أبي قتادة - كما سيرد في سبب الحديث، فأعل ابن مندة الحديث بعلتين:
أولاهما: جهالة حميدة بنت عبيد، والثانية: جهالة كبشة بنت كعب بن مالك .
وقد أجاب العلماء عن هاتين العلتين: بأن حميدة وهي المذكورة في العلة الأولى .. حميدة بنت عبيد أنها روت أحاديث غير هذا الحديث، لم تنفرد بهذا الحديث، وروى عنها ثقتان فارتفعت جهالتها.
و هذه قاعدة: أن الراوي المجهول العين إذا روى عنه راويان ثقتان ارتفعت جهالة عينه .
ولذلك قال الحافظ ابن حجر عن حميدة هذه: مقبولة، وما معنى مقبولة؟ يعني: يقبل حديثها؟ كذا؟ ما رأيكم؟ مقبولة؟ أظن مر معنا مثال آخر غير هذا.
المقبول -كما صرح في المقدمة- أي: حيث يتابع، قال: مقبول حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.
فـ المقبول درجة من درجات التضعيف، وليست من درجات التوثيق، فإذا قيل في راو: مقبول، فهذا يعني أنه ضعيف، لكن ضعفه قابل للانجبار، فإذا جاء الحديث نفسه من طريق راو آخر قبل الحديث.
هذا اصطلاح للحافظ ابن حجر في كتابه: تقريب التهذيب .
إذاً: تدفع العلة الأولى بعض الدفع لا كله، بأن يقال: إن حميدة روت أحاديث، وروى عنها ثقتان فارتفعت جهالتها، فبقيت مقبولة الحديث، لكنها تحتاج إلى من يتابعها في هذه الرواية.
أما العلة الثانية وهي: جهالة كبشة بنت كعب بن مالك، فهي تدفع بأن يقال: إن كبشة هذه ذكرها بعض المصنفين في الصحابة، كـابن حبان، ومن المعلوم أن جهالة عين الصحابي لا تضر، مع أنها معروفة على هذا.
فيندفع ما ذكر عنها من الجهالة، والحديث له طريق آخر غير هذا الطريق، ذكره الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار .
والحديث رواه الطحاوي والدارقطني والحاكم وابن خزيمة وصححاه، وغيرهم.
فهذا شاهد للحديث الأول حديث أبي قتادة، الشاهد هذا عن عائشة رضي الله عنها.
الشاهد الثاني: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( يا أنس
الشاهد الثالث: حديث جابر بنحوه، وقد أخرجه ابن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ .
فهذه ثلاثة شواهد للحديث الأصل، مع أن له طريقاً آخر عند الطحاوي كما سبق، وبذلك يتبين أن الصواب مع من ضعف الحديث كـابن مندة أو مع من صححه كالأئمة الذين سبقوا؟ الراجح تصحيح الحديث؛ لأن ضعف الطريق التي أخرجها الأربعة منجبر، وقد توبع عند الطحاوي، وله شواهد ثلاثة أو أربعة كما سبق، فالحديث بهذا صحيح، هذا فيما يتعلق بالكلام على إسناد الحديث وطرقه وشواهده.
زاد الترمذي وأحمد وابن حبان وغيرهم : ( والطوافات )، ( إنما هي من الطوافين عليكم والطوافات )، فهذا سبب سياق أبي قتادة رضي الله عنه للحديث.
ما حكم الماء القليل أو الكثير إذا ولغ فيه الهر أو شرب منه، هل ينجس بذلك أم لا ينجس؟
ذهب جمهور أهل العلم بما فيهم الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي، وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية إلى أن سؤر الهر طاهر، يتوضأ به ويغتسل به، واستدلوا بأدلة، منها: حديث أبي قتادة وهو حديث الباب.
وحديث عائشة.
وحديث جابر .
وحديث أنس بن مالك على طهارة سؤر الهر.
أما القول الثاني فهو قول لـأبي حنيفة قال: إن سؤر الهر نجس، ولكن خفف فيه لعموم البلوى به فكره كراهة .. خفف فيه فكره كراهة، واستدل أبو حنيفة على هذا القول بأدلة، منها:
أولاً: ما رواه الطحاوي والدارقطني عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغسل الإناء من ولوغ الهر مرة أو مرتين )، فقال: هذا دليل على أن الإناء ينجس بولوغ الهر، ولكنه خفف فيه فكره؛ لكثرة ملابسته للناس، ووجوده في البيوت، وولوغه في الأواني، فهذا دليل له.
واستدل أيضاً بما رواه أحمد والدارقطني والحاكم وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( السنور سبع )، والسنور هو الهر، قال: فهذا الحديث الذي صححه الحاكم وغيره يدل على أن حكم الهر حكم السباع، وقد سبق في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الماء يكون بالفلات من الأرض، وما ينوبه من السباع والدواب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) وفي لفظ: ( لم ينجس ) فقالوا: لولا أن ورود السباع على الماء في الأصل ينجسه لما سئل عن ذلك، ولقال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم إن السباع طاهرة، فلما قال: ( إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ) أو ( لم ينجس ) دل على أن آثار السباع خبث ونجس، ولكن إذا كان الماء كثيراً لم يتأثر بها ولم ينجس، فاستدل بحديث ( السنور سبع ) ثم بحديث: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ).
لدينا عدد من الأدلة، من هذه الأدلة:
( حديث
ومن ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل: ( يا رسول الله! أنتوظأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم. وبما أفضلت السباع كلها )، وهذه الأحاديث أيضاً رواها الدارقطني وغيره.
فدل على أن آثار السباع طاهرة؛ الهر وغيره، حتى وإن كان الهر سبعاً من السباع، وهذا يرجح.. وهذه الأحاديث .. وخاصة الحديث الأخير منها ذكره البيهقي، رواه وقال: له أسانيد إذا انضم بعضها إلى بعض اكتسب بها قوة.
فدل على أن هذه الأحاديث صالحة في الجملة للاحتجاج بها على طهارة آثار السباع، بما في ذلك الهر، مع وجود النص الصريح في ذلك، وهي الأحاديث السابقة.
وبهذا يترجح قول الجمهور أن سؤر الهر طاهر، هذه المسألة الفقهية الظاهرة والبارزة في الحديث.
وما ورد من غسل الإناء من ولوغ الهر مرة أو مرتين، هذا الحديث أيضاً فيه مقال، وجميع الأحاديث التي استدلوا بها على نجاسة سؤر الهر أو وجوب غسله ضعيفة لا تصلح للاحتجاج .
في نسخة بلوغ المرام الموجودة في أيديكم كما قرأ الأخ: (فلما أقصى) وهذا خطأ مطبعي فيما يظهر؛ لأن الرواية في مصادر الحديث: ( فلما قضى بوله ) يعني: انتهى منه، والحديث متفق عليه، وله شاهد عن أبي هريرة رضي الله عنه أخرجه الستة إلا مسلماً، وله شاهد عن واثلة بن الأسقع، رواه ابن ماجه بإسناد حسن، فالقصة إذاً صحت عن أنس وأبي هريرة وواثلة .
وقوله: ( فبال في طائفة المسجد ) ما المقصود بالطائفة؟ ( بال في طائفة المسجد ) ما هي الطائفة؟
الطائفة هي الناحية، وعرف الناس جار على أنه يطلق على الطائفة من الناس يعني: الفئة من الناس أو القطعة من الناس، لكن الواقع أنه يطلق على الجزء من كل شيء، فتقول: أصاب البول طائفة من الثوب مثلاً، أو طائفة من الأرض، أو طائفة من المسجد، كل هذا جائز ومستعمل في لغة العرب.
( فزجره الناس ) أي: قالوا له: مه مه، وقاموا إليه ليمنعوه من ذلك، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( دعوه، فلما قضى الأعرابي بوله أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذنوب ) والذنوب هي: الدلو العظيمة الملأى بالماء، ( فأهريق ) أي: أريق أو صب على بوله، وقد ورد في بقية الرواية أن النبي صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: ( إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إن هذه المساجد لا يصلح فيها شيء من هذه الأقذار، إنما هي لذكر الله وقراءة القرآن ونحو ذلك )، أو كما قال.
ومن فوائده: وجوب التحرز من البول، ولذلك قال الله عز وجل: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4].
وفي الحديث المتفق عليه عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما: فكان لا يستبرئ من البول -وفي لفظ: لا يستنزه من البول- وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة ).
فدل هذا على أن عدم التنزه من البول إثم بل وكبيرة من كبائر الذنوب؛ ولذلك عوقب عليها هذا الذي لا يستنزه من بوله بأن عذب في قبره، ومن المعلوم أن كل ذنب توعد عليه بلعنة أو غضب أو حد في الدنيا أو عذاب في الآخرة فهو من الكبائر، هذا ضابط الكبيرة .
وقد توعد -كما هو ظاهر في هذا الحديث- من لا يستنزه من البول بأن يعذب في قبره.
من الظاهر في هذا الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم طهر بول الأعرابي بأن صب عليه الماء، أمر بأن يصب عليه ذنوب من ماء، ولذلك ذهب أكثر أهل العلم بما فيهم المذاهب الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي إلى أنه يكفي في تطهير الأرض التي وقعت عليها النجاسة أن يصب عليها الماء حتى تزول النجاسة.
واستدلوا بحديث الباب، وأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأمر بصب الماء عليه ودلالته ظاهره.
وذهب أبو حنيفة إلى التفصيل في ذلك .. ذهب الأحناف إلى التفصيل في الأرض التي وقعت عليها النجاسة من بول أو غيره، فقالوا: إن كانت الأرض رخوة كالرمل مثلاً فإنه يصب عليها الماء حتى تتشرب الأرض هذا الماء ويتسرب في باطنها فتزول معه النجاسة، هذا إذا كانت الأرض رخوة.
الأمر الثاني أو الصورة الثانية: إذا كانت الأرض صلبة، ولكنها غير مستوية، بحيث يمكن أن تغسل بالماء ثم يستقر الماء الذي غسلت به في نهايتها، في حفرة أو نحوها، أو يدفع هذا الماء الذي غسلت به الأرض إلى هذا الموضع، كما يمكن أن يدفع مثلاً بالغسالات وغيرها، فهذا أيضاً يكفي، أن تغسل الأرض بالماء، بحيث يستقر الماء في حفرة في المنحدر من الأرض أو يدفع إليها.
الصورة الثالثة: أن تكون الأرض صلبة ومستوية بحيث لا يمكن زوال الماء الذي غسلت به إلى مكان آخر، هذه الحال لابد من حفر الأرض وإزالة التراب الذي وقعت عليه النجاسة.
واستدلوا لذلك بأدلة، هذه الأدلة كلها عبارة عن روايات وردت في قصة الأعرابي نفسه، وفيها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفر ما بال عليه وإلقائه، ثم صب الماء في مكانه، وهذه زيادة -كما تلاحظون- لم ترد في رواية الصحيحين ولا غيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفر المكان الذي وقع عليه البول وإلقائه ثم صب الماء مكانه، فأين هذه الروايات أين توجد؟
ورد في ذلك أربع روايات:
الرواية الأولى: من حديث واثلة بن الأسقع وقد رواها الدارقطني، وأعلت بالضعف، وذكر العلماء أن هذا الحديث منكر لا تقوم به حجة.
والرواية الثانية: حديث عبد الله بن معقل وهو من التابعين، فحديثه مرسل، ومع ذلك هو ضعيف.
ووردت روايتان أخريان في نفس الموضوع -أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بحفر الأرض- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذه أيضاً رواية منكرة، وعن أنس بن مالك .
فهذه الروايات الأربع كلها روايات شديدة الضعف، ما بين رواية حكم عليها بالخطأ، وأن راويها أخطأ في روايتها، كما في حديث واثلة . وما بين رواية مرسلة منقطعة، وما بين رواية منكرة، فلا تقوم بها حجة ولا يقوي بعضها بعضاً.
إضافة إلى أن هذه الروايات مخالفة في الظاهر لرواية الصحيحين والسنن، أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على الأمر بصب الماء، وبذلك يتبين أن الدليل الذي استدل به أبو حنيفة على إزالة التراب الذي وقعت عليه النجاسة، وصب الماء مكانه، دليل ضعيف لا تقوم به حجة، وأن الدليل الصحيح يدل على الاقتصار على الغسل بالماء.
ومن هذا يتبين أن الراجح في هذه المسألة هو قول الجمهور.
وقد يشكل على البعض بعض الأماكن التي تكون صلبة، كأن يكون فيها بلاط أو اسمنت مثلاً، لا يشرب شيئاً من الماء، فيرى أن مثل هذه الحال يصح فيها ما ذكره الإمام أبو حنيفة رحمه الله، من أنه لا يكفي فيها الغسل بالماء، فيقال أولاً: من البعيد كل البعد أن يكلف إنسان بأن يزيل هذا الشيء المبني الذي لا يمكن إزالته، إنما كيف يطهر هذا المكان الذي وقع فيه البول؟
يطهره بغسله بالماء، فإن كان هناك بالوعة يذهب إليها الماء الذي غسلت به النجاسة، فهذا أمر ظاهر لا إشكال فيه وهذا هو الأصل، وإن جفت النجاسة ثم غسلها حتى زالت عينها ولم يبق لها أثر فهذا أيضاً ظاهر؛ لأنه سبق أن الماء إذا وجد أو وقع فيه نجاسة ولم تغيره فهو طهور، فلو فرض أنه جفت هذه النجاسة فبقي منها شيء يسير، فصب عليها ماء كثير فغسلها به أو صب عليها ماء يسير أولاً فغسلها، ثم غمر المكان بماء كثير، ففي مثل هذه الحالة هذا الماء الذي لم يظهر أثر النجاسة فيه هو ماء طهور، سواء أبقاه، أو أزاله، أو تبخر هذا الماء في الشمس، أو غير ذلك.
فالراجح هو قول الجمهور في الاقتصار على غسل النجاسة بالماء، وعدم الحاجة إلى حمل التراب وإزالته.
وهذه المسألة -وهي مسألة: هل يشترط الماء لإزالة النجاسة، أم أن أي أمر زالت به النجاسة يكفي، ولا يشترط لذلك الماء؟
ذهب كثير من أهل العلم كالإمام الشافعي ومالك وأحمد رحمه الله في رواية عنه: إلى اشتراط الماء لإزالة النجاسة، وأنه لابد من غسلها بالماء، واستدلوا لذلك بأدلة منها:
أولاً: حديث الباب، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذنوب من ماء فأهريق عليه.
والدليل الثاني: حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه في غسل آنية أهل الكتاب، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( ارحضوها بالماء )، وهذه الرواية هي عند الترمذي، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، فدل على اشتراط الماء لغسلها.
وما أشبه ذلك من الأدلة والنصوص التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بغسل الأمر المراد غسله بالماء، فقالوا: هذا يدل على تعين الماء لإزالة النجاسة.
وذهب أبو حنيفة وهو أيضاً رواية عن مالك، ورواية في مذهب الإمام أحمد، والمذهب القديم للشافعي إلى أن أي أمر زالت به النجاسة كفى، ولا يشترط الماء لإزالته، أي أمر زالت به النجاسة فهو كافي ولا يشترط الماء للتطهير، واستدلوا لذلك بأدلة عديدة.
فمن أدلتهم: أولاً قالوا: إن إزالة النجاسة من أفعال التروك، التروك يعني: جمع ترك، فلا تشترط فيه النية، ولا القصد، ولا فعل الآدمي، فأي شيء أزال النجاسة فهو كاف؛ ولذلك مثلاً يجوز الاستجمار بالأحجار بدل الماء؛ لأن المقصود زوال النجاسة بأي أمر من الأمور، فزوال النجاسة من باب التروك التي لا تشترط فيها النية ولا القصد، ولذلك قال الفقهاء: لو ترك ثوبه أو علقه على وتد وهو نجس فنزل عليه المطر فإنه يطهر حينئذ، لا يشترط فيه فعل العبد، فيفرق بين زوال الخبث وبين رفع الحدث، فزوال الخبث هو من باب التروك التي لا تشترط لها النية، ولا القصد، ولا فعل الآدمي، يعني: إزالة النجاسة بأي أمر زالت فالحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً، زالت النجاسة زال حكمها، وصار المحل طاهراً.
أما رفع الحدث فلا بد فيه من النية، رفع الحدث مثل ماذا؟ مثل الوضوء للصلاة لابد فيه من نية الوضوء، ففرقوا بين رفع الحدث وبين إزالة الخبث، هذا الوجه أو الدليل الأول عندهم.
الدليل الثاني: ما رواه ابن عمر رضي الله عنه: ( أن الكلاب كانت تقبل وتدبر -وفي لفظ- وتبول في المسجد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كانوا يرشون شيئاً من ذلك )، وقد سبق أن رواية: (وتبول) عند الترمذي، ونسبها أكثر من عالم من العلماء إلى أنها موجودة في بعض روايات البخاري .
ولكن حتى لو لم تثبت فإن من المعلوم أن الكلاب إذا أقبلت وأدبرت فإن البول أمر طبيعي أن يحصل، فقالوا: كون الكلاب تقبل وتدبر وتبول في المسجد ولا يرش دليل على أن هذه النجاسة تزول بغير الماء، تزول بماذا؟ تزول بالشمس، وتزول أيضاً بالريح والهواء وما أشبه ذلك، وبأي أمر زالت النجاسة زال حكمها؛ ولذلك لم ترش هذه المواضع التي بالت فيها الكلاب.
واستدلوا أيضاً بما ثبت في أحاديث كثيرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في نعليه )، كما في الحديث المتفق عليه: ( أن
وروى أبو سعيد الخدري : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً في نعليه ثم خلعهما في الصلاة، فخلع الصحابة رضي الله عنهم نعالهم، فلما سلم قال لهم: ما بالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: يا رسول الله! رأيناك خلعت فخلعنا، فقال عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفاً فأخبرني أن بهما قذراً، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد بهما أذى فليمسحهما وليصل فيهما )، والحديث رواه أبو داود والترمذي وغيرهما.
دلالة الحديث على ما ذهبوا إليه من وجهين:
أولاً: قالوا: إن النعل وفيها الأذى طهرت بمسحها في الأرض، ولو كان لابد من الغسل بالماء لأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما قال: ( فليمسحهما ) دل على أن مسح النعلين بالأرض مزيل لما فيهما من الأذى والخبث والنجاسة.
الوجه الثاني: قالوا: إنه مسح نعليه بالأرض، وهو في أي مكان؟
في المسجد، فلولا أن هذه الأرض إذا أصابها شيء يسير من النجاسة غير ظاهر، لولا أنه يزول بالشمس والريح وذهاب النجاسة، لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمسح النعلين في الأرض، فهذان وجهان لاستدلالهم بهذا الحديث.
واستدلوا أيضاً بحديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( يا رسول الله! إني أطيل ذيلي وأمشي في المكان القذر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يطهره ما بعده )، والحديث رواه مالك والترمذي وأبو داود .
فقوله صلى الله عليه وسلم: ( يطهره ما بعده ) دليل على أن ما يصيب الثوب من النجاسات من مروره بالأرض يزيله مروره بأرض أخرى ..
والله أعلم، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر