الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين..
حكم الماء إذا وقعت فيه النجاسة؟ هذا هو السؤال الذي طرح في آخر الجلسة الماضية.
والآن نبدأ في الجواب على هذا السؤال, فإذا انتهينا من الحديث انتقلنا إلى تسميع ما بعده والكلام عليها, فقد اتفق العلماء رحمهم الله على أن الماء إذا وقعت فيه النجاسة, وتغير بها فهو نجس, وقد ذكر كثير من العلماء الاتفاق على هذا الحكم، ممن ذكر الإجماع الإمام ابن المنذر والإمام الشافعي والنووي وابن حجر والشوكاني وابن تيمية وغيرهم من أهل العلم, قالوا: إن الماء إذا تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فهو نجس إجماعاً, وهذا مما لا كلام فيه.
وقد ورد ما يشهد لهذا الإجماع من حديث النبي صلى الله عليه وسلم, فقد روى ابن ماجه عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على لونه وطعمه وريحه ) .
ورواية البيهقي فيها زيادة: ( الماء طهور إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه ) , وهذا الحديث ضعيف ضعفه الشافعي قال: ورد بإسناد لا يثبت أهل الحديث مثله, وغيره من الأئمة, بل قال النووي : اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف .
لكن اختلف مسلك أهل العلم في الاستدلال بالإجماع أم بالحديث، فجماهير أهل العلم يستدلون بالإجماع وإلا فالحديث ضعيف.
ومنهم من يسلك طريقة أخرى فيقول: إن الحديث وإن كان ضعيفاً إلا أن الإجماع على تقبله وصحة معناه يجعله يرتقي إلى درجة الاحتجاج فيحتج به, وهذه طريقه بعض من لا يحتجون بالإجماع وهم ندرة من أهل العلم، وإلا فالإجماع حجة وأصل من أصول الاستدلال.
فالخلاصة: أن ما تغير أحد أوصافه بالنجاسة فهو نجس بلا خلاف.
ولا يستثنى من ذلك إلا مسألة واحدة عند الإمام أحمد، وهي: ما إذا وقعت في هذا الماء الكثير عذرة آدمي أو بوله ولم يشق نزحه فحينئذ ينزح.
وهذا الاستثناء هو للإمام أحمد خاصة, ولذلك نبقى عند أصل القول وهو التفريق بين الكثير والقليل, فالكثير لا ينجس إلا بالتغير, والقليل ينجس بمجرد وقوع النجاسة.
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة؛ منها: قوله صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الماء يكون بالفلاة من الأرض, وما ينوبه من السباع والدواب, فقال عليه الصلاة والسلام: ( إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث ) , وفي لفظ: (لم ينجس) فقالوا: هذا الحديث دليل على أن ما كان فوق القلتين أو قلتين يختلف حكمه عما كان دونهما, فإذا كان قلتين فأكثر لم يحمل الخبث, أي: لم ينجس.
أما ما كان دون القلتين فإنه يحمل الخبث, أي: ينجس بمجرد وقوع النجاسة فيه, وهذا من أقوى أدلة من قالوا بالتفريق بين الكثير والقليل.
وقد استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة، منها:
أولاً: قالوا: إن العبرة دائماً بما غلب على الشيء؛ فإذا كان الماء الذي وقعت فيه النجاسة لم تتغير أحد أوصافه بها, فالغالب على هذا الماء هو الطهورية, والنجاسة فيه منغمرة وغير ظاهرة بخلاف الماء الذي ظهرت فيه النجاسة لوناً أو طعماً أو ريحاً, فقد غلبت عليه النجاسة وظهرت فصار الغالب عليه النجس.
وقالوا: إن هذا معتبر في جميع الأشياء, فنحن مثلاً: لو وصفنا إنساناً بالصلاح كان معنى ذلك أن خصال الخير فيه أكثر وأغلب, وإلا فلا يخلو من نقص أو خطأ, والعكس لو وصفناه بالخبث أو الشر لكان معنى ذلك أن خصال الخبث والشر عليه أغلب وأكثر، وإلا فيبعد ألا يكون فيه خصلة خير, وكذلك سائر الأشياء هي لما غلب عليها, فالماء الذي وقعت فيه النجاسة ولم تغلب عليه لا يزال طهوراً, والغالب عليه الطهورية، والحكم لهذا الغالب.
الدليل الثاني: وهو يكاد أن يكون نصاً في محل النزاع, وهو حديث بئر بضاعة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى حكماً عاماً مطلقاً غير مقيد فقال: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء )، وهذا لفظ عام, وإن كان السبب خاصاً، فهو كحديث ماء البحر: ( هو الطهور ماؤه ) هو لفظ عام غير مقيد بسبب ولا بحادثة معينة, وهو يقضي بأن الماء الأصل فيه الطهورية, وأنه لا ينجسه شيء, فإذا أورد علينا أحدهم سؤالاً: الماء الكثير أو القليل المتغير بالنجاسة أليس يكون نجساً؟
فالجواب: بلى، بالإجماع. فكيف تقولون: الماء طهور لا ينجسه شيء؟ بلى ينجسه ما غيره.
فكيف تجيبون على هذا الإيراد؟
الإجابة على هذا الإيراد من أحد وجهين:
الوجه الأول: أن نقول: نعم, الحديث قضية عامة: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ولا نخرج منه أي فرد من أفراده إلا بدليل صريح صحيح, فأما ما تغير بالنجاسة فهو خارج بالإجماع, فلا كلام فيه لأن الذين يقولون بعدم التفريق بين الكثير والقليل, والذين يقولون بالتفريق -كلا الطائفتين- يخرجون ما تغير بالنجاسة من عموم هذا الحديث.
الوجه الثاني: وقد يفهم من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن يقال: إن الماء الذي تغير بالنجاسة لا يصلح أن يسمى ماء مطلقاً, بل لابد إما أن يضاف أو يوصف, أما الإضافة فيضاف إلى المادة التي وضعت فيه, فيقال: هذا ماء كذا, وأما الوصف فيوصف بأن يقال: هذا ماء نجس مثلاً, ولا يقال: (هذا ماء) ويسكت, ولذلك يكون الحديث بهذا عاماً على عمومه: ( الماء طهور لا ينجسه شيء )، فأما إذا تنجس فقد خرج عن مسمى الماء المطلق, وصار ماءً نجساً أو ماءً مضافاً إلى المادة التي وضعت فيه.
هذا هو الدليل الذي يكاد أن يكون نصاً في موضع النزاع, وهو حديث بئر بضاعة: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) , ثم إن في الحديث إشارة إلى أنه لا ينجس إلا بالتغير؛ لأن بئر بضاعة لو تغير لتنجس؛ لو تغير بالنجاسة لصار نجساً, وهذا ظاهر ومجمع عليه كما سبق, فما عداه فهو باق على أصل طهوريته.
كما استدل أصحاب هذا القول بدليل ثالث, قالوا: إن المياه من المسائل التي تكثر حاجة الناس إليها أكثر من حاجتهم إلى أي أمر آخر, ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم حريصين أشد الحرص على معرفة أحكام المياه دقيقها وجليلها, فلو أن الشارع فرق بين الكثير والقليل, وجعل للكثير حكماً وللقليل حكماً آخر لكان الصحابة رضي الله عنهم عرفوا ذلك معرفة دقيقة ونقلوه إلى من بعدهم.
ولا شك أن الإنسان إذا عرف الحق وجب عليه الانصياع له ولو كان خلاف مذهبه, فحتى لو كان الإنسان شافعياً ورأى أن الحق في مذهب الإمام مالك فإنه لا يجوز له عند الله عز وجل أن يتبع إمامه فيما يعلم أن الحق والدليل بخلافه، والله عز وجل يقول: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] فالسؤال هو عن إجابتك للمرسلين, وهؤلاء الأئمة العظام إنما كانوا أئمة واتفقت الأمة على جلالة قدرهم وعلى فضلهم؛ لأنهم متبعون للرسول صلى الله عليه وسلم, سائرون على طريقه, فإذا اتفقوا على أمر فاتفاقهم حجة, أما إذا اختلفت أقوال السلف, وكان عند الإنسان إمكانية في البحث عن الدليل والوصول إلى القول الصحيح فعليه أن يبحث, ويلتزم القول الصحيح, فإن لم يكن كذلك سأل من يثق بعلمه ودينه عن الدليل الذي اعتمد عليه في هذا القول, فهذا لابد منه .
هذا القول الذي هو الراجح لدى كثير من العلماء المحققين قد يشكل عليه الحديث الوارد في دليل أصحاب القول الأول, وهو حديث القلتين, والحديث سيرد معنا إن شاء الله إما في نهاية هذه الحلقة أو في بداية الحلقة القادمة, ولكن سأذكر الجواب عليه الآن فقط, جواب أصحاب القول الراجح على هذا الحديث بإيجاز, فمنهم من ضعف هذا الحديث, وسيأتي ذكر من ضعفوه, والأوجه التي ضعفوه بها.
ومنهم من صححوه لكن لم يعملوا به للاضطراب في تحديد معنى القلتين ومقدارهما.
ومنهم من صححوا الحديث ولكن قالوا: إن الحديث لم يرد من النبي صلى الله عليه وسلم مورد التحديد والتقييد المطلق, بل هو إشارة إلى أن الماء الكثير غالباً لا يتغير بالنجاسة, وأن الماء القليل غالباً يتغير بالنجاسة, فكأن معنى الحديث هنا إذا كان الماء قلتين فأكثر لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه بوقوع النجاسة فيه, وهذا حكم غالب, ولذلك لو تغير لتنجس عند الجميع.
ومفهوم الحديث أن ما كان دون القلتين فإنه يتغير أحد أوصافه بوقوع النجاسة فيه, وهذا أيضاً حكم غالب, فلو وقعت فيه فلم تغيره فهو باق على أصله.
ومنهم من قال: إن التفريق بين الكثير والقليل هو مفهوم الحديث وليس لفظه, أي: إن منطوق حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن ما كان قلتين فأكثر لم ينجس إلا بالتغير, هذا هو المنطوق, أما المفهوم فهو العكس أن ما كان دون القلتين تغير بوقوع النجاسة فيه, يعني: تنجس بوقوع النجاسة فيه ولو لم يتغير, قالوا: فهذا مفهوم, وأمامنا منطوق يعارضه, وهو منطوق حديث بئر بضاعة, والمنطوق مقدم على المفهوم عند التعارض, فنأخذ بمنطوق حديث بئر بضاعة ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) ونطرح مفهوم حديث القلتين, هذا لو فرض وجود تعارض, مع أن الواقع أنه لا تعارض بينهما كما سبق بيانه, هذه أهم أجوبتهم على هذا الحديث.
وكذلك مما يضعف هذا القول بالتفريق أن أصحابه لم يتفقوا على قدر معين, فمنهم من حدد الكثير بما إذا حركت أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر.
ومنهم من حدد الكثير بما لا يظن الإنسان استعمال النجاسة الموجودة فيه إذا استعمله.
ومنهم من حدد الكثير بالقلتين, ثم اختلف أصحاب القلتين اختلافاً كثيراً سيرد, فقالوا: هذا الاضطراب في تحديد الماء الكثير من القليل يدل على أن هذا القول لم يعتمد على أصل صحيح, حتى قال الإمام ابن القيم رحمه الله في تهذيب سنن أبي داود : إذا كان جهابذة العلماء وفحول الفقهاء قد اختلفوا في تحديد الكثير والقليل, واختلفوا في قدر القلتين اختلافاً بيناً, فمنهم من يجعلها ألف رطل, ومنهم من يجعلها ستمائة رطل, ومنهم من يجعلها خمسمائة, ومنهم من يجعلها أربعمائة, ومنهم من يجعلها دون ذلك، فما بالك بالعوام ودهماء الناس الذين لم يتلقوا شيئاً من العلم؟! أنى لهم بمعرفة الفرق بين الكثير والقليل؟! فهذا الاضطراب في التحديد هو مما أورده الذين لا يفرقون بين الكثير والقليل على من يفرقون بينهما.
ولذلك فالراجح أنه لا يفرق بين كثير الماء وقليله, بل ما تغير بالنجاسة فهو نجس قليلاً أو كثيراً, وما لم يتغير بالنجاسة فهو باق على أصل طهوريته كثيراً كان أو قليلاً, وهذا قريب المأخذ سهل الفهم, هذه هي المسألة الأولى التي تتعلق بحديث بئر بضاعة والتي سبقت الإشارة إليها.
الأول: الطهور. والثاني: المتنجس أو النجس, فالماء طهور لا ينجسه شيء, وليس بينهما ماء وسط، ليس بطهور وليس بنجس، ولذلك اختلف أهل العلم في هذه المسألة أيضاً على قولين:
طهور: وهو الطاهر في نفسه المطهر لغيره مما يستعمل في الطهارات وغيرها.
الثاني: طاهر أي: طاهر في نفسه يستعمل للشرب وغيره لكن لا يستعمل في الطهارات.
الثالث: النجس, وهو غير الطاهر.
وهذا القول منسوب لأكثر العلماء, وإن كانوا يختلفون في تفاصيله, فهو قول الشافعية ورواية عن الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد، وهي التي عليها أكثر المتأخرين من الحنابلة أن الماء ثلاثة أقسام.
واستدلوا على قولهم ببعض الأدلة, فمن أدلتهم: قالوا: إن قوله تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] فقوله: (ماء) هذا لفظ مطلق المقصود به الماء الباقي على أصل خلقته غير المتغير بشيء أو المنتقل عن الطهورية؛ لأنه إذا تغير أو انتقل لم يسم ماء مطلقاً هكذا, هذا دليل لهم.
الثاني: قالوا: لأن وجود ماء طهوركما في قوله: وأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] , وقوله صلى الله عليه وسلم: ( هو الطهور ماؤه ) كما في قوله: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:11] قالوا: هذا دليل على أن (طهور) معناها مطهر, فهو فعول بمعنى فاعل أي: منقولة من فاعل فهو طهور أي: مطهر لغيره, كما تقول: هذا رجل أكول أو شروب أو ظلوم، فكذلك (طهور), هذا عند بعضهم وليس عند جميعهم.
الدليل الثالث: استدل بعضهم بحديث ( هو الطهور ماؤه ) ووجه استدلالهم بهذا الحديث دقيق ولطيف ينبغي الانتباه له, قالوا: لأن سؤال الصحابي رضي الله عنه لم يكن عن طهارة ماء البحر, فإن طهارته كانت مقررة معلومة, وإنما كان سؤاله عن طهوريته أي: عن جواز الوضوء والغسل به ورفع الحدث, وهذا دليل على أنه كان قائماً في ذهن هذا الصحابي أن هناك ماء طاهراً لا يرفع به الحدث, وهو ما اصطلح الفقهاء بعد على تسميته بالطاهر.
واستدلوا -رابعاً- ببعض الأحاديث، كما في نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد, ونهيه عن الوضوء بفضل وضوء المرأة, ونهيه عن غمس القائم من نوم الليل يده في الإناء.
قال بعضهم: فهذه المياه مع أنها طاهرة ليست بنجسة ورد النهي عن الاغتسال ببعضها كما في حالة فضل وضوء المرأة, وورد النهي عن غمس اليد, أو النهي عن البول في الماء الراكد, والنهي يقتضي الفساد عند بعض الأصوليين. ولذلك قالت الظاهرية: إن هذا الماء الراكد الذي بال فيه البائل, أو هذا الماء الذي غمست فيه يد قائم من نوم ليل لا يجوز الوضوء به, ولا يرفع الحدث؛ لأنه ماء فاسد لا يصلح للطهورية.
هذه أهم الأدلة لأصحاب القول الأول.
واستدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة منها: أولاً: قول النبي صلى الله عليه وسلم ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ).
وهذا أيضاً دليل قوي لهم؛ لأنك لو تأملت الحديث وجدت أنه يحكم للماء بالطهورية, وأنه لا ينتقل عن الطهورية إلا إلى النجاسة, فإما طهور وإما نجس.
الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: ( هو الطهور ماؤه ) قالوا: فإن ماء البحر متغير بالملوحة الزائدة وهذا الذي جعل الصحابي رضي الله عنه يسأل عن حكمه, ومع تغيره فقد حكم له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه طهور, فدل على أن ما تغير بالطاهرات فهو طهور إلا لو غلبت أجزاء المادة الموضوعة فيه, فهو حينئذ ينتقل عن مسمى الماء أصلاً أي: لو أضفت إلى الماء زعفران أو ماء ورد أو باقلاء أو غيرها من المواد إضافات كثيرة فصارت غالبة على الماء، حينئذ نرجع لنقول: إن هذا لما غلب عليه, فلو سميته ماء كنت مخطئاً في ذلك.
الشاي مثلاً هل يسمى ماء مطلقاً؟ لا يسمى ماء, ولو أمرت إنساناً أن يحضر لك كوباً من الشاي فأحضر ماء لما كان ممتثلاً للأمر, والعكس صحيح لو طلبت ماء فجاء الشاي لما كان هذا امتثالاً للطلب.
قالوا: فتغير الماء بالطاهرات لا يخرجه عن مسمى الطهورية، إلا إذا خرج عن مسمى الماء المطلق, وصار أمراً آخر كماء ورد أو ماء زعفران أو ماء باقلاء, فحينئذ انتقل عن كونه ماء أصلاً.
قالوا: ولا فرق بين ما تغير بفعل الإنسان المقصود وما كان تغيره بطبيعته, فلا فرق بين ماء البحر عندهم وبين الماء الذي أضاف إليه الإنسان باختياره ملحاً حتى صار مالحاً.
هذا هو الدليل الثاني لهم, وقالوا: من قال بالفرق بينهما فيلزمه الدليل, ولا دليل هناك.
الدليل الثالث: قالوا: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم الأمر بالغسل بماء خلط فيه غيره من الطاهرات، ففي قصة المحرم الذي وقصته ناقته, قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في المتفق عليه: ( اغسلوه بماء وسدر ) ومن المعلوم أن الماء إذا أضيف إليه السدر فإنه يتغير به.
وكذلك في حديث أم عطية المتفق عليه لما جاء صلى الله عليه وسلم والنسوة يغسلن ابنته قال: ( اغسلنها بماء وسدر ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك, واجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور ) فالسدر والكافور يغير الماء غالباً.
وكذلك ورد في أمره للرجل الذي أسلم أن يغتسل بماء وسدر, كم هذه الأدلة؟
الدليل الرابع: ما رواه النسائي والبيهقي وأحمد عن أم هانئ رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل هو وأحد أزواجه من قصعة فيها أثر العجين ), ومن المعلوم أن الماء إذا وضع في قصعة أثر العجين فيها ظاهر فإن العجين يتحلل بوجود الماء فوقه, وترتفع بعض أجزائه في الماء فتغيره, وكان هذا عام الفتح.
الدليل الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يسافرون ويحملون الماء في أسقية كان غالبها من الأدم -من الجلود- ومن الطبيعي في مثل هذه الأسقية أنها تؤثر في لون الماء وفي طعمه وفي ريحه, ويتحلل منها مع الوقت أجزاء ترتفع إلى الماء فتؤثر فيه, ولم ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يتقون استعمال هذا الماء في سائر الطهارات, أو أنهم كانوا يحملون معهم غيره ويستعملونه في الشرب أو في استعمالات أخرى مثلاً.
الدليل السادس: قالوا: إن أمر الماء من الأشياء التي تكثر حاجة الناس إليها, وسؤالهم عن أحكامها, فحاجتهم إليها أشد من حاجتهم إلى بيان سائر الأحكام, ويبعد جداً أن يوجد تقسيم شرعي للمياه, ولا ينقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم القول به, إلى غير ذلك من الأدلة.
أما الدليل الثاني, وهو تسميته بطهور: فقالوا: إن الله عز وجل وصف ماء أهل الجنة بذلك وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21] مع عدم حاجة أهل الجنة إلى التطهر, فالمقصود وصفه بالطيب والطهارة, ولا يمنع أن نسمي كل ماء غير نجس طهوراً, لا يوجد ما يمنع من ذلك.
أما سؤال الصحابي عن ماء البحر, قالوا: فهذا لو صح هو ظن صحابي, وهو مدفوع بلفظ النبي صلى الله عليه وسلم الصريح بأن ماء البحر طهور مع تغيره, فالاستدلال بأن ماء البحر طهور مع أنه متغير بالملوحة الزائدة, وهذا لفظ النبي عليه الصلاة والسلام أولى من الاستدلال بالظن الذي وقع في ذهن الصحابي.
أما النهي عن الوضوء بفضل وضوء المرأة, فهذا ورد ما يخالفه في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بفضل
وكذلك الماء الذي غمست فيه يد قائم من نوم ليل ناقض لوضوء, أو الماء الراكد الكثير الذي بال فيه شخص ولم يتغير, كل هذه المياه هي باقية على طهوريتها, وإلا فما رأيكم يا أصحاب القول الأول لو كان عندنا ماء كثير جداً فبال فيه إنسان, هل تقولون بجواز الوضوء به أم لا؟
إذا قال من قسموا الماء: نعم يجوز الوضوء به, قلنا: قد نقضتم الأصل الذي بنيتم عليه. وإن قالوا: يمتنع الوضوء به مع كثرته فإنهم قد خالفوا في ذلك نص النبي صلى الله عليه وسلم, فلابد لهم من هذا التناقض؛ لأنهم يفرقون بين الكثير والقليل.
وبذلك يظهر أن الأقرب للصواب -والله أعلم- أن الماء قسمان: طهور ونجس, وأن ما عدا ذلك من التفريعات فهي اجتهادات أصحابها مأجورون إن شاء الله لبذلهم الوسع في الوصول إلى حكم الله ورسوله, ولكن لا يجب على من عرف خلافها أن يتبعها.
الأول: للعلم والفائدة.
الثاني: وهو مهم جداً حتى يعلم كل إنسان منا أن هؤلاء العلماء الكبار ما قالوا بهذه الأقوال تخرصاً أو افتياتاً من عند أنفسهم, فبعض الناس إذا رجح قولاً شنع على من يخالف هذا القول, ورماه بكل نقيصة, فيقول مثلاً: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21] يعني: من اتبع هؤلاء الأئمة فيما ذهبوا إليه, أو يقول: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31].
وقد رأيت بعض الإخوة -هداهم الله- يقول مثلاً: لا علينا من أقوال فلان وعلان وآراء السلف, إنما نحن ندين بدين الكتاب والسنة, هذا صحيح, كلنا يجب أن ندور مع الكتاب والسنة حيث دارا, ولا شك أن الدعوة إلى الكتاب والسنة دعوة صحيحة، وتقديم الكتاب والسنة على آراء الرجال حق, يجب أن يستقر في أذهاننا جميعاً .
ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يقول: لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا, وهكذا غيره من الأئمة كانوا لا يرضون بأن يقلدوا.
الإمام الشافعي رحمه الله كما روى البيهقي وابن أبي حاتم وغيرهما في سيرته: كان جالساً في المسجد يقرر مسألة من المسائل, فذكر في ذلك حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه حديث صحيح، فقال له أحد الحضور: أتأخذ بهذا الحديث يا إمام؟! فغضب الإمام الشافعي رحمه الله حتى احمر وجهه, وعلاه العرق, ثم قال: هل رأيتني في كنيسة؟ هل رأيت في وسطي زناراً -وهو ما كان يشده الرهبان على بطونهم- أقول لك حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تأخذ به.
هكذا كان هديهم - رضي الله عنهم - وما استحقوا ثناء الناس واتباعهم من ذلك العصر حتى أجمعت الأمة على فضلهم إلا لشدة اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم, ولذلك فإن من كمال اتباعهم أن تخالف أحدهم فيما تعلم أن الدليل ليس معه, وأنت إذا خالفت لا يقال: من أنت حتى تخالف, صحيح من نحن بالقياس إلى هؤلاء الأئمة؟ لا شيء لكن أن تنتقل من إمام إلى إمام!
ولذلك لا يمكن أن يسوغ الإنسان كائناً من كان أن يأتي إلى مسألة بحثها السلف فيبتدع قولاً جديداً لم يسبق إليه, ويأتي بقول مخالف لهم؛ لأنهم حينئذ قد أجمعوا على أن هذا القول الذي قال به هذا الشخص غير صحيح حيث لم يقولوا به, فأجمعوا على عدمه .
أما إذا وجدت أن هذا الإمام معه دليل، وذاك معه دليل فتركت إماماً إلى إمام آخر لأن دليله أقوى, فهذا هو.. -لا أقول سائغاً- بل هو المشروع , بل يحرم على الإنسان أن يقلد شخصاً ما في مسألة, وهو يعلم أن الدليل مخالف له , والله عز وجل يقول: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف:3].
لكن ينبغي على الإنسان أن يعرف لهؤلاء الأئمة قدرهم, فلا ينتقصهم بأي صورة من صور التنقص, ومن صور التنقص أن يتهمهم بأن هذه الأقوال مجرد تخرصات أو ظنون أو لا دليل عليها ؛ لأنه حينئذ نسبهم إلى أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون, والقول على الله بغير علم هو قرين الشرك: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] فالقول على الله بغير علم هو قرين الشرك .
ومن صور التنقص لهؤلاء الأئمة: أن يقول القائل كما قرأت في بعض الكتب: نحن لا نبالي بخلاف فلان وفلان؛ لأن الله عز وجل يقول عن القرآن: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82] فهذا الاختلاف بين العلماء والفقهاء دليل على أنه ليس من عند الله, فدين الله ليس فيه اختلاف.
هذا أيضاً تنقص للأئمة؛ لأنه نسبهم إلى أنهم لم يأخذوا من القرآن والسنة, بل جاءوا بآرائهم المحضة, أو بما أخذوا من أهل الكتاب أو غيرها مثلاً.
ومن التنقص أن يتعاظم الإنسان نفسه أمام هؤلاء الأئمة, فتجد الإنسان وهو لا يزال في بداية الطلب قد يذكر أقوال الأئمة ثم يقول: وعندي أن الصواب كذا, وكلمة (عندي) تدل على أن هذا القائل له مكانة كبيرة، أو وأنا أقول بكذا.
ورحمة الله على الإمام ابن دقيق العيد حيث يقول:
يقولون هذا عندنا غير جائز ومن أنتم حتى يكون لكم عند.
يعني: الإنسان إذا بحث ورجح يرجح قول فلان؛ لأنه رجحه فلان وأدلته أقوى, أما أن يستعمل هذه الألفاظ: ولي، وعندي، وأنا أقول، أو ما أشبه ذلك؛ فهذه عبارات فضفاضة كبيرة يمكن أن يستعملها العالم، أما طالب العلم أو المبتدئ فينبغي له أن يعود لسانه -قدر الإمكان- على تجنبها, وقد يعتاد عليها الإنسان وتتكرر في اللسان فتمر عفواً في بعض الأحيان فلا بأس, لكن الإنسان يكون رقيباً على نفسه.
وهناك كلمة جيدة في هذا الباب ذكرها الإمام ابن القيم في آخر صفحة من الجزء الثاني من زاد المعاد فارجعوا إليها, يقول رحمه الله ما معناه وهو يتحدث عن الألفاظ التي ينبغي تجنبها، كلفظ (لو) ولفظ (لولا الله وفلان)، وما أشبه ذلك من الألفاظ التي ورد النهي عنها, ذكر أن مما يكره أو يستكره أو يستهجن قول القائل: ولي, وعندي, وأنا، فقال: أفضل ما استعملت فيه هذه الألفاظ أن يقول العبد: لي الذنب ولي الجرم ولي الإثم ولي الخطيئة, أو يقول: أنا العبد المذنب الفقير المقصر المستحق للعقوبة إن لم يغفر الله لي, وأفضل ما استعملت فيه كلمة (عندي) في مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اغفر لي خطئي وعمدي، وهزلي وجدي، وكل ذلك عندي ) فهذا أدب نقصر فيه كثيراً نحن الطلاب, والأولى بنا أن نعود ألسنتنا قدر الإمكان على اللهج دائماً بالثناء على الأئمة والعلماء, وعلى تجنب الألفاظ التي تدل على أن المتكلم يرجح بين هذه الأقوال كما لو كان شيخ الإسلام ابن تيمية أو غيره من المجتهدين الكبار.
فهناك أمر وسط بين هذا وهذا، ليست القضية أن تقلد تقليداً مطلقاً بلا دليل ولا تبصر, ولا أن تنسف هذه الأقوال كما لو كان الذين قالوها أتوا بها من كيسهم بلا دليل, بل ترجح ما رجحه العلماء المحققون, وغالباً يكون هو رأي جمهور العلماء بأدلته، مع معرفة أن الآخرين لهم دليل ولو كان ضعيفاً, لا يكاد يخلو قول من وجود دليل، لكن قد يكون الدليل ضعيفاً من حيث الثبوت, وقد يكون الدليل ضعيفاً من حيث الاستدلال .
وهذه الآداب أيها الإخوة! عمداً جاء الحديث عنها؛ لأن كثيراً من الطلاب -خاصة طلاب العلوم الشرعية- حين يبدءون بدراسة الحديث والفقه تبرز هذه المشكلة, وقد يقرءون في كتب العلماء الكبار فيجدون هذه العبارات فينقلونها كما هي، صحيح أنت قد تجد في كلام ابن تيمية أو ابن القيم أو في كلام بعض العلماء المعاصرين أنه قد يقول: قلت -مثلاً- أو يقول: وأرى أو عندي, لكن ينبغي للطالب أن يتجنب هذه العبارات حتى يصل إلى ما وصلوا إليه, وحينئذ يقول ما يرى أنه مناسب.
هذا هو الذي دفعني إلى عرض الأقوال حتى يعرف الطالب أن الجميع مجتهدون, ولهم أدلة, لكن لا شك أن الحق واحد, وهو نصيب أحد الفئتين.
هذه بعض الفوائد التي تؤخذ من حديث بئر بضاعة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) ومن المفترض أن نسمع اليوم حديثين أو ثلاثة أحاديث، وهما حديث أبي أمامة بروايتيه وحديث ابن عمر في القلتين، فما أدري أيحفظ أحد من الإخوة هذه الأحاديث!
واللفظ الآخر هو لفظ البيهقي قال: ( إلا أن تغير لونه أو طعمه أو ريحه ) فجاء بلفظ (أو) بدل الواو ( إلا أن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه ) .
وهذا الحديث جاء من طريق راشد بن سعد، الأول رشدين بن سعد والثاني راشد بن سعد , وفي هذا رد على من قال: إن الحديث تفرد به رشدين بن سعد فيقال: كلا لم ينفرد به، بل تابعه راشد بن سعد كما في رواية البيهقي , ولكنه مع ذلك ضعيف الإسناد.
فـ الحديث بكل حال ضعيف, وقد ضعفه أهل العلم حتى قال النووي : اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف , ولفظ البيهقي أشبه ما يكون بألفاظ الفقهاء: (إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه).
والكلام على هذا الحديث من حيث عزوه, والكلام على من صححه, والكلام على إسناده، والوقوف عند بعض المعاني المهمة فيه يرد بإذن الله تعالى في الحلقة القادمة، وأرجو من الإخوة الحرص على حفظ هذه الأحاديث الثلاثة, وإن أمكن حفظ حديث معها فأمر طيب.
وإن كان هناك سؤال حول ما سبق تقريره فيمكن طرحه.
الجواب: لا, كراهية الشخص للماء أو استقذاره هذا باب آخر, إنما الكلام هو في الطهورية الشرعية، بحيث لو كان عندك هذا الماء -مثلاً- وأنت في سفر, وليس معك غيره, هل تتوضأ به أم تعدل إلى التيمم؟
أما الاستقذار من الإنسان نفسه فهذا باب آخر، وإن كنا نقول: إن الأصل أن الإنسان لا ينبغي له أن يستقذر ما علم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يستقذره, ولذلك لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح (أن قوماً تنزهوا عن أشياء عملها فغضب وقال: أما إني أعلمكم بالله وأخشاكم له).
فلا ينبغي للإنسان أن يستقذر ما يعلم أنه غير مستقذر في الشرع.
الجواب: التفريق بين المنطوق والمفهوم: المنطوق هو لفظ الحديث، الذي يدل عليه اللفظ مباشرة, والمفهوم هو عكس المنطوق, فمثلاً: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) هذا لفظ الحديث, أي: هذا هو المنطوق, فما كان قلتين فأكثر لم يحمل الخبث, أي: لم ينجس بلفظ الحديث, مفهوم الحديث: أن ما كان دون القلتين فهو يحمل الخبث.
مثلاً: لو افترض أن عندك ثلاثة رجال كانوا مسافرين, فسألك سائل: هل قدم فلان وفلان وفلان من السفر؟ فقلت: قدم فلان وفلان, وسكت عن الثالث, فالمنطوق هو أن فلاناً وفلاناً قدموا، والمفهوم هو أن الثالث لم يقدم بعد, فهذا هو الفرق بين المنطوق والمفهوم.
الجواب: لا أدري إذا كان الماء متجمداً -ثلجاً مثلاً- ووقعت عليه النجاسة, فلا أعلم، أو لم أقف على قول لأصحاب هذا القول في هذه الحال، والله أعلم.
ولكن فيما يتعلق بالدهن ورد كلام الفقهاء في ذلك, وأن الجامد تلقى منه النجاسة وما حولها ويستعمل, ولكن قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على أنه لا فرق بين الجامد والمائع في هذه الحال, بل تلقى وما حولها في الحالين, ويستعمل الدهن أو غيره, والله أعلم.
الجواب: نعم. إذا رئيت نجاسة في الماء ولم تغير أحد أوصافه, أما إن كان الماء كثيراً فلا خلاف في هذه الحالة أنه طهور، إلا ما سبق عن الإمام أحمد أنه شدد في بول الآدمي وعذرته المائعة إذا وقعت في ماء كثير, وأمكن نزحه، وإلا فلا خلاف في ذلك فيما أعلم.
أما إن كان قليلاً, ولم يتغير ورئيت فيه النجاسة, فعلى قول من يقولون: إنه ينجس بوقوع النجاسة فيه، فالأمر ظاهر أنه نجس عندهم سواء رئيت أو لم تر.
أما على قول أصحاب القول الثاني فيقول بعضهم: إن رؤية النجاسة يبعد معها ألا يتغير الماء؛ لأنها حينئذ تكون غيرت لونه ولابد, أو غيرت أحد أوصافه ولو تغييراً يسيراً، فلا يتصور أن يقع فيه -وهو قليل- نجاسة ظاهرة ترى ثم لا تؤثر فيه إلا في حالات قليلة، ولكن لو افترض أنه وجد ماء وقعت فيه نجاسة قليلة ورئيت دون أن تغيره فهو عندهم طهور على كل حال.
الجواب: الحقيقة أن التفصيل في هذا واسع، فأما من قالوا: إن المياه تنقسم إلى قسمين, فكل هذه المياه عندهم داخلة في قسم الطهور صالحة للوضوء والغسل بها وغير ذلك من الطهارات.
أما أصحاب القول الأول الذين قسموا الماء إلى ثلاثة أقسام, فلهم تفصيلات كثيرة جداً, وهذه التفصيلات أيضاً تختلف فيها المذاهب، فيختلف مذهب الإمام أحمد في هذا عن غيره، وهم يفرقون بين ما تغير بما يقع فيه من غير الممازج كقطع الكافور والملح المائي, وبين ما تغير بممازج, فالذي تغير بغير ممازج يعتبر من قسم الطهور عند الحنابلة, أما ما تغير بممازج فهو طاهر.
وكذلك يفرقون بين ما يشق صون الماء عنه وما لا يشق صون الماء عنه، فما يشق صون الماء عنه فيعتبر من باب الطهور, ويفرقون بين الماء المستعمل, ومن المعلوم أن الماء المستعمل لم يختلط بشيء, حتى لم يختلط بشيء من الطاهرات, وإنما هو ماء استعمل في طهارة, فيفرقون بين الماء المستعمل في طهارة واجبة كالوضوء الواجب مثلاً, فهذا يعتبر طاهراً لا يطهر.
وبين الماء المستعمل في طهارة مستحبة كالغسلة الثانية والثالثة من الوضوء, وكغسل الجمعة وما أشبهه من الطهارات المستحبة, بمعنى لو جمع الإنسان الماء المتساقط من هذه الطهارات المستحبة غير الواجبة, فهو عند الحنابلة طهور, وهو داخل في الطهور.
ولهم في ذلك تفريعات كثيرة مذكورة في كتب الفقه يمكن مراجعتها فيها، لكن عند أصحاب القول الثاني وهم من يقولون بأن الماء قسمان, لا محل لهذه الأقسام كلها؛ لأن الماء عندهم إما طهور فيستعمل في الطهارة والغسل وغيره, وإما نجس لا يستعمل في شيء من ذلك, وليس عندهم ماء طهور ومع ذلك لا يجوز استعماله إلا لو خرج عن مسمى الماء كما سبق, لو غلبت أجزاء المادة التي أضيفت إليه كزعفران أو ورد أو باقلاء أو غيرها فغلبت على الماء وصارت هي الغالبة فهو حينئذ لا يسمى ماء.
وهنا سؤال: كيف خالفوا الأصل؟
الجواب: لأننا لو افترض الآن أن عندنا ماء كثيراً غمست فيه يد قائم من نوم ليل ناقض للوضوء, فهذا الماء الكثير عندهم يعتبر لا ينجس حتى ولو وضعت فيه النجاسة فهو طهور, وهذا سبق تقريره, فنقول: هذا غمست فيه يد قائم من نوم ليل, أو وضعت فيه مادة طاهرة وليست نجسة, أو بال فيه إنسان وهذه نجاسة, فلو قالوا: إنه حينئذ ينجس يكونوا نقضوا الأصل السابق. يعني: لو كان عندنا ماء كثير فوضعت فيه نجاسة لم تغيره فحكمه عندهم أنه طاهر، وهو طهور في هذه الحالة, ماء كثير طهور. فإن قالوا: إنه ليس بطهور في هذه الحالة نقضوا الأصل الذي قالوا به، وإن قالوا: إنه طهور نقضوا القول الذي لجئوا إليه, وهو أن من الماء ما هو طاهر في نفسه وليس بطهور, فلابد لهم من أحد هذين الإلزامين.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في مواضع من الفتاوى إلزامات كثيرة لأصحاب هذه القول تضعف القول به, ولذلك قال رحمه الله لما ذكر القول الثاني قال: وهو الصواب, وهو المنصوص عن الإمام أحمد وفي أكثر الروايات عنه, قال: والقول بأن الماء ثلاثة أقسام قول مخالف للكتاب والسنة, هكذا في الفتاوى .
ولكن سبق أن هذا القول قال به علماء أجلاء اجتهدوا فإن أصابوا فلهم أجران, وإن أخطئوا فلهم أجر، واجتهادهم لا يجب اتباعه.
ولم يذكر الفقهاء والمصنفون والشراح -الذين مالوا إلى القول بأن الماء ثلاثة أقسام- لم يذكروا في ذلك نقلاً عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم، إنما اعتمدوا على ما سبق من الأدلة, وكان منها أن الصحابي الذي سأل عن ماء البحر قد يكون وقع في ذهنه أن هناك ماء طاهراً وليس بطهور, إذ كان يعلم أن ماء البحر طاهر, وسأل أنتوضأ؟ لم يشك أنه طاهر, ولا جاء في ذهنه أنه نجس, فسؤاله وقوله: أنتوضأ؟ دليل في نظرهم على أنه كان يعرف أن هناك ماء ليس بنجس، ومع ذلك لا يجوز التطهر أو الوضوء به, والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر