أما بعد: فالموضوع الذي سنتطرق له اليوم إن شاء الله تعالى هو البحث في كتاب الطهارة، (باب: المياه)، وسنبدأ بالحديث الأول والثاني إن شاء الله.
بسم الله الرحمن الرحيم..
[عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في البحر: ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته )].
وهذا الحديث له قصة، وهي: ( أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ).
وذكره أيضاً ابن أبي شيبة، وذلك في كتابه المصنف في الأحاديث والآثار، وذكره أيضاً مالك في الموطأ , والشافعي في السنن , وأحمد في المسند , وقد رواه غير هؤلاء الثمانية: ابن حبان وابن خزيمة والحاكم وابن الجارود والبيهقي والدارقطني وغيرهم.
ومما يجب أن يعلم أن كثرة مصادر الحديث لا تزيده قوة. فقد يكون الحديث في مصادر عديدة بإسناد واحد، فلا يستفيد من قولنا: رواه فلان وفلان قوة؛ ولذلك لابد أن يُثنى بذكر من صحح الحديث من الأئمة؛ لأننا في مجال البحث في الأحكام, ولابد أن ندرك صحة الحديث.
فقد صحح الحديث جمع من الأئمة يربو عددهم على عدد من خرجوه.
ذكر المصنف رحمه الله ممن صحح الحديث: ابن خزيمة , فقد رواه ابن خزيمة في صحيحه، وقد صححه البخاري كما ذكر الترمذي في علله , قال: سألت البخاري عن هذا الحديث؟ فقال: هو حديث صحيح, وصححه الترمذي أيضاً، والبغوي وابن منده وابن المنذر وابن حبان والحاكم وابن عبد البر، وصححه من المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني .
ومدار هذا الحديث وإسناده هو على صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة رضي الله عنه، وهذا يؤكد لكم ما سبق من أن كثرة مخارج الحديث لا تزيده قوة بالاضطرار، فهذا الحديث في هذه المصادر مداره على صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة، فلو كان أحد هؤلاء الرجال ضعيفاً للزم من ذلك تضعيف الحديث، ولكن هؤلاء الرجال كلهم ثقات معروفون، ولذلك صححه هذا الجمع الكبير من الأئمة.
وهذا المعنى الوارد في ماء البحر لم ينفرد بروايته أبو هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ورد عن جمع من الصحابة رواية هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم، فرواه أيضاً جابر بن عبد الله وأبو بكر وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص وعبد الله بن عباس , وصحابي اسمه الفراسي وأنس بن مالك رضي الله عنه.
فهؤلاء ثمانية كلهم مع أبي هريرة وهو تاسعهم رووا هذا المعنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي كلها شواهد لحديث أبي هريرة، إلا أن حديث أنس بن مالك لا يصلح لأن يستشهد به؛ لأن فيه راوياً متروكاً, وهو أبان بن أبي عياش.
الفائدة الأولى: أن الحديث إذا ورد عن صحابي ثم ورد عن صحابي آخر كان هذا شاهداً للحديث الأول. بمعنى: إذا ورد حديث عن أبي هريرة ثم ورد نفس الحديث أو ورد الحديث نفسه عن ابن عباس أو ابن عمر سمينا حديث ابن عمر أو ابن عباس شاهداً لحديث أبي هريرة , وسمينا حديث أبي هريرة شاهداً لحديث ابن عمر.
أما لو ورد الحديث عن صحابي واحد من طريقين فالحديث مثلاً عن سهل بن سعد , ولكن رواه عن سهل بن سعد تابعيان، أو روي بإسنادين مختلفين، فهل يسمى أحدهما شاهداً للآخر؟ تقولون: لا، هذا صحيح لا يسمى شاهداً, بل يسمى متابعاً.
إذاً: إذا كان الحديث بإسنادين عن صحابي واحد فأحدهما متابع للآخر، أما إن كان بإسنادين عن صحابيين مختلفين فأحدهما شاهد للآخر. هذه الفائدة الأولى.
فإذا كان في إسناد الحديث راو متروك فهذا الإسناد لا يعبأ به, ولو جاء الحديث من عشر طرق أو أكثر في كل طريق منها راوٍ متروك ما ازداد الحديث بهذه الطرق قوة، أما لو كان في الإسناد راو ضعيف -ضعيف الحفظ- لكنه ليس كذاباً ولا متهماً بالكذب فيتقوى الحديث بكثرة طرقه.
هذا فيما يتعلق بثبوت الحديث، وبذلك تبين لكم أن الحديث ثابت بلا شك، بل ثبت بأقل من ذلك.
إذاً: هو عبد أبو زمعة البلوي، ولا يمنع أن يصغر فيسمى عبيداً , أو يضاف فيقال: عبد الله أو عبيد الله، والخلاف في اسمه يسير؛ لأنه لا يترتب عليه كبير غناء، وإن كان ما دامت معرفته ميسورة فلا بأس بها.
أولاً: هذه صيغة السؤال, ومنها يؤخذ فائدة في طريقة الاستفتاء، وهي: أن السائل أو المستفتي ينبغي له أن يفصل في السؤال, ويذكر كل ما يتعلق به مما يغلب على ظنه أن له تأثيراً في الحكم؛ ولذلك ذكر هذا الرجل الحال ووصفها أبلغ وصف، فذكر أنهم يركبون البحر، وكأن هذا لحاجتهم في السفر والذهاب والإياب للتجارة, أو لحمل الناس من ساحل إلى آخر، وأنهم يحملون معهم شيئاً من الماء، فلو توضئوا بهذا الماء لعطشوا ولم يجدوا ما يشربونه, فهم حينئذٍ مضطرون إلى أن يتوضئوا بماء البحر، أو أن يحملوا معهم شيئاً من التراب ليتيمموا به، فمهد للسؤال بهذه الأشياء التي ربما ظن أن لها تأثيراً في الحكم, ( أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه الحل ميتته ).
وها هنا سؤال: لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم هذا الرجل بقوله: نعم. وهو الذي أوتي جوامع الكلم، بل أجابه بجواب آخر، فقال: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ). فلماذا عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجواب بنعم إلى هذا الجواب؟ لماذا عدل صلى الله عليه وسلم؟ نعم يا أخي!
الحكمة الأولى: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو قال له: (نعم) لربما فُهم من ذلك أن جواز الوضوء بماء البحر خاص بحالة الضرورة التي سأل عنها السائل, أنه يركب البحر وليس معه إلا ماء قليل، فلو توضأ به لعطش، فلا يكون عاماً في حالة الضرورة وغيرها. فلما قال: ( هو الطهور ماؤه ) دل على أن جواز الوضوء بماء البحر عام في حالة الضرورة وفي غيرها.
الحكمة أو الفائدة الثانية: حتى يكون الحكم مقروناً بعلته، فعلة جواز الوضوء بماء البحر هي الطهورية, حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أومأ إليها حين وصف ماء البحر بأنه طهور، فقرن الحكم مع علته, فعلم من ذلك أن كل ماء طهور يجوز الوضوء به, ولا يستثنى من ذلك شيء أبداً على الإطلاق، فكل ماء طهور يجوز لك أن تتوضأ به ولو لم تكن مضطراً.
الفائدة الثالثة: أنه أراد أن يبين أن استعمال ماء البحر عام في الوضوء وفي غيره من الطهارات؛ لأن السؤال: ( أفنتوضأ )، فلو قال: نعم لربما ظن البعض أن هذا خاص بالوضوء, لكن الغسل مسكوت عنه، فلما قال: ( هو الطهور ماؤه ) دل على أن ماء البحر يمكن استعماله في الوضوء وفي غيره من الطهارات.
هذه ثلاث حكم أو أسرار؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هو الطهور ماؤه ).
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ( الحل ميتته ). ومعنى: ( الحل ميتته ) أي: أن ميتة البحر حلال أكلها، والمقصود بميتة البحر: الحيوانات البحرية التي لا تعيش إلا في البحر، أما حيوانات البر لو ماتت في البحر فهل تكون حلالاً؟ لا. إنما المقصود ما لا يعيش إلا في البحر من الحيوانات كالسمك وغيره.
وها هنا زاد النبي صلى الله عليه وسلم على السؤال، فالسؤال كان عن موضوع الوضوء، فأجابه بما يتعلق بالوضوء, ثم زاده أمراً قد يكون أجنبياً بعض الشيء عن موضوع السؤال، فقال: ( الحل ميتته ). فلماذا أضاف النبي صلى الله عليه وسلم هذه الفائدة للسائل؟
أضاف عليه الصلاة والسلام هذه الفائدة لأن هذا الرجل كان مظنة أن تخفى عليه، أو يخفى عليه حكمها؛ وذلك لأنه سأل عن ماء البحر، مع أن من المعلوم أن الأصل في المياه كلها الطهارة، فما دام خفي عليه حكم ماء البحر مع أن الأصل في المياه الطهارة، فمن باب أولى أن يخفى عليه حكم ميتة البحر, مع أن الأصل في الميتة التحريم, فالميتة محرمة، وميتة البحر مستثناة من ذلك.
إذاً: من خفي عليه حكم استعمال ماء البحر فمن باب أولى أن يخفى عليه حكم ميتة البحر. هذا من جهة.
ومن جهة أخرى فهو يركب البحر, وحاجته ماسة إلى معرفة حكم ميتته, فزاده النبي صلى الله عليه وسلم بذكر هذه الفائدة المتعلقة بالبحر.
ونأخذ من هذا فائدة ذكرها عدد من أهل العلم رحمهم الله، وهي: أنه يجوز للعالم أن يفتي السائل بأكثر مما سأله، بل ينبغي له ذلك إن ظن بالسائل حاجة إلى هذه الزيادة؛ ولذلك بوب الإمام البخاري رحمه الله في صحيحه في آخر باب من كتاب العلم قال -رحمه الله-: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله، ومن المعلوم عند العلماء أن الإمام البخاري رحمه الله يتفنن في التراجم ويدقق ويذكر فيها فوائد فقهية عميقة، وهذا نموذج لها، فهو عقد هذه الترجمة ثم ساق حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: ( يا رسول الله! ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: لا يلبس القميص, ولا العمامة, ولا السراويل, ولا البرانس, ولا ثوباً مسه زعفران أو ورس، ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين، وليقطعهما حتى يكونا تحت الكعبين ). البخاري رحمه الله ساق هذا الحديث ووضع له هذه الترجمة.
إذاً: المفتي قد يجيب بطريقة أخرى غير ما سأل السائل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو أراد أن يعدد الثياب التي يلبسها المحرم لطال به المقام ولم يستوفها، لكن الأشياء الممنوعة محصورة، فذكرها حتى يعلم أن ما عداها يجوز لبسه، لكن لا زلنا نسأل من أين أخذ البخاري الفائدة من الحديث؟
الجواب: من قوله: ( ومن لم يجد إزاراً فليلبس السراويل، ومن لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما ). فهل ابن عمر رحمه الله أو غيره سأل عمن لم يجد؟ كلا. بل الذي ورد في السؤال: ما يلبس المحرم من الثياب؟
وكان يكفي في الإجابة أن يقال: لا يلبس كذا ولا كذا، إنما هو صلى الله عليه وسلم أضاف فائدة جديدة في حالة من لم يجد إزاراً، وفي حالة من لم يجد نعلين.
ونجد أن علماء الأصول رحمهم الله يقولون: يجب أن يكون الجواب مطابقاً للسؤال. وهذا صحيح لكن ليس معنى مطابقة الجواب للسؤال ألا يزيد عليه، وإنما المعنى أن يكون الجواب متضمناً وشاملاً للأمر المسئول عنه، فلا يكون الجواب أجنبياً عن السؤال، أو جواباً عن سؤال آخر، وهذا معلوم أن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال، لكن وجود زيادة في الجواب على ما سأل عليه السائل لا تعارض التطابق، بل من أدب الفتيا أن يذكر المفتي إذا كان هناك مظنة توهم أو حاجة إليها عند السائل.
الجواب: إن جماهير أهل العلم من الصحابة والتابعين والسلف والخلف مطبقون على طهورية ماء البحر, وجواز استعماله في جميع الطهارات، إلا أن الإمام ابن رشد في كتاب بداية المجتهد قال: وذُكر في هذه المسألة خلاف للصدر الأول, ويعني بالصدر الأول الصحابة. نعم. وُجد خلاف، فقد نقل عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو بن العاص من الصحابة رضي الله عنهما المنازعة في الوضوء بماء البحر. والاستدلال بحديث النهي عن ركوب البحر، ( وأن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً إلى سبعة أنيار وسبعة أبحر ). وهذا الحديث لا يحتج به, فقد ضعفه البخاري وأبو داود والخطابي، فهو حديث ضعيف ؛ ولذلك فقد يقال أيضاً بضعف الرواية عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو في منع الوضوء بماء البحر، وكذلك نقل هذا المذهب عن سعيد بن المسيب وعن الإمام ابن عبد البر المالكي، لكن القول الصحيح الذي يشبه الإجماع من أهل العلم هو جواز الوضوء والغسل بماء البحر؛ لأن ذلك هو الأصل، إضافة إلى ثبوت هذا الحديث الصريح في الموضوع. هذه أهم الفوائد المتعلقة بالحديث.
وهذا الحديث له أيضاً سبب، وسببه هو أن أبا سعيد رضي الله عنه قال: ( قلت: يا رسول الله! أتتوضأ من بئر بضاعة، وهي بئر يلقى فيها الحيض والنتن ولحوم الكلاب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إن الماء طهور لا ينجسه شيء ).
والحديث روي من طرق عديدة يقوي بعضها بعضاً، فقد ورد في المصادر المذكورة بإسناد فيه عبيد الله بن عبد الله بن رافع بن خديج , وعبيد الله هذا قال فيه الحافظ ابن حجر في كتاب التقريب قال: عبيد الله مستور، وكتاب التقريب -كما تعلمون- كتاب مختصر في بيان رجال الكتب الستة، يذكر فيه اسم الراوي، وتاريخ وفاته، وطبقته، وخلاصة أقوال علماء الجرح والتعديل فيه، ولابد من قراءة مقدمته لمن أراد الاستفادة منه؛ لأنه بين فيها مصطلحاته، يقول في عبيد الله: مستور. فما معنى مستور عند ابن حجر في التقريب؟
مستور أو مجهول الحال هما بمعنى واحد، يقول ابن حجر : المستور أو مجهول الحال هو الراوي الذي روى عنه أكثر من واحد ولم يوثق . فلو وجد راو كـعبيد الله هذا روى عنه عدد من الرواة ولم يوجد فيه كلام لأحد من الأئمة أنهم يقولون: إنه ثقة ولا قالوا: إنه ضعيف، من روى عنه أكثر من واحد ولم يُوثق يسمى مستوراً أو مجهول الحال، ولا شك أن المستور أو مجهول الحال ضعيف.
فهذا الإسناد الذي فيه عبيد الله هو إسناد ضعيف بمفرده؛ لوجود هذا المستور، ولكن الحديث ورد من طريق أخرى في مسند الطيالسي , وهي طريق ضعيفة، ولكن بمجموع الطريقين يصبح الحديث حسناً أو صحيحاً؟ يصبح حسناً لغيره، فالحسن لغيره هو: الضعيف إذا تعددت طرقه، ويشترط في الضعيف في هذه الحالة شرط سبق معنا في أول هذه الحلقة, يشترط في الضعيف لكي يرتقي إلى الحسن شرط ألا يكون الضعف شديداً، وإنما يكون ضعفاً يسيراً محتملاً من قبل حفظ الراوي.
فالحديث حسن بمجموع الطريقين، وقد ورد الحديث عن ابن عباس عند ابن خزيمة وابن حبان وأحمد، وعن سهل بن سعد عند الدارقطني بنفس المعنى, ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ). ورد عن سهل بن سعد عند الدارقطني، وورد عن ابن عباس عند ابن خزيمة وابن حبان وأحمد .
ماذا نسمي حديث ابن عباس وحديث سهل بالنسبة إلى حديث أبي سعيد الخدري الذي هو الحديث الأصل عندنا؟
نسميهما شاهدين لحديث أبي سعيد، فنقول: حديث أبي سعيد حسن لغيره, حسن بمجموع الطريقين، وهو صحيح بشواهده, ولذلك أيضاً صححه الأئمة الذين سبق ذكرهم. هذا فيما يتعلق بثبوت الحديث.
والحديث عندنا ثابت, وهو مهم جداً في أبواب الطهارة؛ لأنه يتحدث عن مسألة في غاية الأهمية, فثبوته وتصحيحه أمر مهم، وهو - بحمد الله- ثابت وصحيح.
وهذا هو الموجود في عامة المصادر، ويشهد له أن في رواية النسائي قال أبو سعيد: (مررت بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ من بئر بضاعة، فقلت: يا رسول الله! أتتوضأ)؟ فقوله: (مررت به وهو يتوضأ) دليل على أنها: (أتتوضأ), وأن المعني فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن وجد في بعض المصادر بالنون: (يا رسول الله! أنتوضأ) على أنها سؤال عن حالهم هم. أي: أيتوضئون؟ أيجوز لهم الوضوء به؟
وهذا قد يحتج له بما في سنن الدارقطني ولفظه قال: (يا رسول الله! إنا نتوضأ من بئر بضاعة).
قوله: (أتتوضأ من بئر بضاعة)؟ بئر بضاعة هي قليب, وليست عيناً تجري كما توهم محمد بن عمر الواقدي وغيره، وإنما هي قليب ليست جارية.
و(بُضاعة) بضم الباء على المشهور الغالب، وقد تكسر فيقال: (بضاعة)، وبئر بضاعة هذه بئر موجودة في شرقي المدينة, في حي يقال له: (حي بني ساعدة)، وبنو ساعدة حي من الأنصار, منهم صحابة مشهورون مثل سهل بن سعد مر معنا أنه أحد رواة هذا الحديث، أنه روى الحديث نفسه المتعلق بالبئر، فعلى هذا يكون روى موضوعاً يتعلق به وبقومه، حيث إن البئر كانت في حي بني ساعدة، وهذه البئر ذكر ابن الملقن أنها بئر مباركة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم تمضمض ومج الماء فيها، فكان الناس يستشفون بمائها.
نعم, يجوز. والروايات في هذا كثيرة جداً في الصحيحين وغيرهما، منها: ما ورد أن أم سليم حين نام عندها النبي صلى الله عليه وسلم فاستيقظ وقد عرق، فأخذت هذا الذي أصابه العرق فعصرته ووضعته في قارورة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا أم سليم ؟! قالت: طيب أتطيب به يا رسول الله! فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث الحديبية قال أبو سفيان : ( وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ). وفي نفس الحديث وفي حجته صلى الله عليه وسلم: ( أنه حلق رأسه فقسمه بين أصحابه ). فالتبرك بالآثار الحسية للنبي صلى الله عليه وسلم ليس به بأس, وليس محظوراً، ولكن في هذا تنبيه إلى أمور:
الأمر الأول: أن التبرك بالأشياء التي ليست آثاراً حسية غير مشروع، كما يفعله الجهال من التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يغلو بعضهم فيدعو ويستقبل القبر حال الدعاء - والعياذ بالله- وقد يصل الحال بآخرين إلى أن يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم في تفريج الكربات وقضاء الحاجات، وهذا شرك أكبر بالله عز وجل؛ لأنه صرف لنوع من العبادة أو لأكثر من نوع لغير الله عز وجل، والله يقول: مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]. ولا يشفع لهؤلاء أن يكون دافعهم حب النبي صلى الله عليه وسلم -فيما يزعمون- لأننا نقول: إنهم يجب أن يحبوا الله عز وجل أعظم من حبهم لغيره، ولو أحبوا الله أعظم الحب لصرفوا العبادة له لا لغيره، ونقول: إن حب النبي صلى الله عليه وسلم هو طاعته، وكما قيل:
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع
من الصعب جداً أن يثبتوا لنا بالدليل المادي أن هذه الشعرة هي من رأس المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن هذه البردة بردته، وأن هذا النعل نعله، بل الغالب أن مثل هذه الأشياء لا تبقى هذه القرون الطويلة بل تندرس وتزول، ولعل من حكمة الله عز وجل أنها لم تبق هذه الأشياء ولم تثبت؛ لأنها لو بقيت وثبتت لربما كانت سبباً في مزيد من الفتنة لبعض الناس, ولهذا كان من حكمة الله عز وجل أن أخفى على الناس بعض المواضع الشريفة التي قد يفتتن بها العوام، مثلاً: الشجرة التي بايع تحتها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, لما جاءوا في العام القادم يبحثون عنها لم يجدوها, واختلفوا فيها، حكمة لله حتى لا يفتتن الناس بها، ولما علم عمر أن الناس يتبركون ببعض الأشجار أمر بقطعها؛ لدفع المفسدة والفتنة.
وحول هذا أيضاً قتيبة بن سعيد وأبو داود وغيرهما من السلف رحمهم الله.
ما غرضهم من إثبات هذه المعلومات عن بئر بضاعة؟ هل غرضهم العناية بالآثار -كما يقول البعض- أم لهم غرض آخر من ذلك؟
لهم غرض آخر، وهو معرفة كمية الماء الموجودة في هذه البئر, ومدى كثرتها؛ لتعلق الحكم الشرعي بذلك، وليس قصدهم موضوع العناية بالآثار.
الحيض جمع حِيضة بكسر الحاء, وهي الخرقة التي يكون فهيا الحيض, سواءً كانت الخرقة التي مسحت بها المرأة حيضها، أو هي الخرقة التي تستثفر بها المرأة، يعني: تتحفظ بها، والمقصود: أنها خرقة ملوثة بدم الحيض, وهو نجس.
( يلقى فيها الحيض والنتن ) النتن هو: الشيء المنتن الكريه الرائحة، ولعل المقصود به حينئذٍ أقذار الناس ورجيعهم, ( ولحوم الكلاب ).
أجاب الإمام الخطابي رحمه الله على ذلك بجواب سديد، فقال ما معناه: إن هذا لا يظن بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, وهم من هم مكانة وعلماً وأدباً ونبلاً، وإنما كانت هذه البئر في حدور من الأرض، أي: في مكان منحدر منخفض، فكانت الأمطار إذا سالت في المدينة تجرف هذه الأشياء من لحوم الكلاب والخرق والنتن وغيرها حتى تلقي بها في هذه البئر، وكانت هذه البئر كثيرة الماء لا يؤثر فيها وقوع هذه الأشياء ولا يغيرها.
هذا جواب, وهو -كما سبق- طيب، ويتناسب مع حسن الظن بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
ويمكن أن يضاف إليه جواب آخر, وهو: أن المدينة كان يوجد فيها مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم اليهود والمنافقون وبعض ضعفاء الإيمان، ومثل هؤلاء قد يتصور منهم مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد يتصور من بعضهم تعمد الإضرار والإساءة وتلويث مياه المسلمين. وكلا الجوابين محتمل.
العموم الوارد في الحديث بطهارة الماء أو بطهورية الماء وعدم تنجسه مخصوص بما إذا لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه, وهذا بإجماع أهل العلم بلا خلاف، أنه مخصوص بما إذا لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه.
وقد ورد في هذا المعنى حديث يأتي إن شاء الله في الحلقة القادمة: أنه عليه الصلاة والسلام قال: ( الماء طهور لا ينجسه شيء، إلا ما غلب على لونه وطعمه وريحه ), وفي رواية البيهقي : ( إلا إن تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة تحدث فيه ). ولكن الاحتجاج بالإجماع وليس بالحديث؛ لأن هذا الحديث ضعيف لا يصلح للاحتجاج، قال الإمام الشافعي رحمه الله: الحديث ورد بإسناد لا يثبت أهل الحديث مثله. وقال الإمام النووي رحمه الله: اتفق الحفاظ على أنه حديث ضعيف . ما هو الحديث الذي قال فيه الشافعي والنووي ما قالا؟
الجواب: هو الحديث الذي ورد فيه الاستثناء، ( إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه )، هذه الزيادة، الحديث بهذه الزيادة ضعيف، أما أصل الحديث: ( الماء طهور لا ينجسه شيء ) فقد سبق الكلام فيه, وأنه صحيح صححه أهل العلم، إنما كلام الشافعي والنووي في الحديث بهذه الزيادة, ( إلا ما غلب على لونه أو طعمه أو ريحه ).
إذاً: فالإجماع على أن ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه بنجاسة فهو نجس بلا خلاف.
لكن ما لم يتغير لونه ولا طعمه ولا ريحه بالنجاسة مع وقوع النجاسة فيه، فما حكمه؟
هذا السؤال مهم. وأعيد السؤال مرة أخرى، ونترك الإجابة عليه، السؤال مرة ثانية: إذا كنا عرفنا أن ما تغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة فهو نجس بالإجماع، فما حكم ما وقعت فيه النجاسة ولم يتغير لا لونه ولا طعمه ولا ريحه؟
هل نقول: إنه نجس لوقوع النجاسة فيه, أو طاهر؛ لأنه لم يتأثر بهذه النجاسة، أم إن في الأمر تفصيلاً آخر؟ نترك الجواب على هذا السؤال إلى الأسبوع القادم بإذن الله تعالى؛ لأن الكلام فيه يطول، وهو يقرر مسألة عويصة، قال الإمام الشوكاني رحمه الله: هذه من المضايق التي لا يهتدي إليها إلا الأقلون.
إن كان هناك سؤال حول ما سبق الكلام عنه من حديث بئر بضاعة فلا بأس. نعم.
الجواب: ابن عمر وابن عمرو نقل عنهما القول بمنع الوضوء بماء البحر، ونقل عنهما أيضاً الاحتجاج بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن تحت البحر ناراً ) إلى آخره. فالأخ يسأل: أليس ابن عمر أعلم من غيره بالنبي صلى الله عليه وسلم؟
لاشك أن ابن عمر أعلم من غيره، ولو علمنا أن ابن عمر رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم لكان يجب اتباع مذهبه في ذلك, وكان الأمر ثابتاً عند البخاري وغيره، إنما الحديث ضعيف؛ ولذلك ذكرت أن الحديث ما دام ضعيفاً، فهذا يضعف الرواية عن ابن عمر أيضاً، بحيث نقول: إنه لا يثبت عن ابن عمر ولا عن ابن عمرو منع الوضوء بماء البحر. لماذا لا يثبت؟
لأنه ما دام الحديث الذي يعزى إليهما الاحتجاج به ضعيفاً فمعناه أن القول الذي قالا به أنه لم يثبت عنهما، ما داما محتجين بالحديث، اللهم إلا لو قيل: إنهما قالا بالمنع لسبب آخر غير الحديث المذكور، فقد يقولون بمنع الوضوء بماء البحر لعلة أخرى، وليس للحديث، فلو نقل ذلك لربما كان هذا له وجه.
الجواب: الحديث رواه الترمذي وصححه، ونقل عن البخاري أيضاً تصحيحه، قال: سألت محمد بن إسماعيل عن هذا الحديث؟ فقال: صحيح.
الجواب: لا. لا يقال هذا بتغير طعمه؛ لأن ما تغير طعمه هذا رأي بعض الفقهاء في أن ما تغير طعمه بطاهر فإنه طاهر وليس بطهور، ولا يرد هذا في ماء البحر؛ لأن ماء البحر هكذا هو في أصل الخلقة لم يتغير، إنما هذا هو أصل ماء البحر, فلا يقال: إنه تغير، بل هذه خلقته، هكذا هو بأصل الخلقة، والفقهاء الذين يقولون: بأن ما تغير أحد أوصافه بطاهر أو ما خالطه ومازجه طاهر أنه لا يتوضأ به، لا يقولون ذلك في ماء البحر؛ لأن ماء البحر هذا هو بأصل الخلقة, لم يتغير طعمه بممازج آخر أو بمخالط أو بطارئ من الطوارئ.
الجواب: إذا ورد الحديث من طريقين ضعيفين ضعفهما غير شديد فإن أحدهما يقوي الآخر, فيكون مجموعهما حسناً لغيره، أما إذا كان أحد الطريقين ضعيفاً ضعفاً شديداً غير منجبر، كأن يكون فيه راو متروك فهذا لا يستفيد من تعدد الطرق قوة.
الجواب: لا، لا يجوز؛ إنما هذا خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم.
الجواب: المخصص هو الإجماع، والإجماع لا شك حجة شرعية، ويمكن أن يكون عمدة العلماء في هذا الإجماع أدلة شرعية كثيرة؛ لأن الشرع جاء باعتبار الغالب في أشياء كثيرة، فالإنسان -مثلاً- إذا غلب عليه الخير والصلاح سمي صالحاً, ولو كان فيه هنات أو أخطاء، من ذا الذي ليس فيه شيء، وإن كان يغلب عليه الشر سمي خبيثاً, ولو كان فيه بعض الخصال الطيبة، وكذلك المال مثلاً إذا غلب عليه الحلال كان جائزاً الأكل منه وقبول هدايا صاحبه، وإذا غلب عليه الحرام فالعكس .
كذلك قالوا: هذا هو الحكم في الماء، فإن الماء إذا غلبت عليه النجاسة وأصبحت ظاهرة فيه يمكن شمها أو رؤيتها أصبح نجساً وأصبحت إذا استعملته فأنت استعملت النجاسة حينئذٍ في الواقع، لو توضأت به فكأنك توضأت بهذه النجاسة التي غلبت عليه، فهذا بعض مستند الإجماع في نجاسة ما تغير أحد أوصافه بالنجاسة.
ومدار الحديث على ابن سليم عن سعيد بن سلمة عن المغيرة بن أبي بردة رحمهم الله أجمعين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الجواب: نعم ذكر أبو داود أنه وجد فيها الماء متغير اللون، وتغيره والله أعلم هاهنا يقرب ألا يكون بنجاسة؛ لأنه لو كان تغيرها بنجاسة لحرم استعمالها، فالغالب أن يكون تغيرها بما وقع فيها من الطاهرات، وهناك احتمال آخر وهو: أن تكون تغيرت بعد ذلك؛ لأن أبا داود رحمه الله جاء بعدما حصلت القصة بزمن طويل كما هو معروف, فلو تغيرت بنجاسة لقيل: إنها أصبحت حراماً ونجسة بعد ذلك؛ لتغيرها بالنجاسة، لكن الغالب أن تغيرها كان ببعض ما يلقى فيها من الطاهرات.
الجواب: لا يظهر الجواز، إنما الجواز هو بالآثار الحسية المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الماء يتغير ويذهب ويأتي غيره.
الجواب: نعم. هذا سؤال طيب, وهو: هل الرسول عليه الصلاة والسلام حين قال: ( إن الماء طهور لا ينجسه شيء ) أطلق حكماً عاماً على كل ماء، أو خاصاً بماء بئر بضاعة؟
الواقع أن الرسول عليه الصلاة والسلام أعطى حكماً عاماً, وهو يتعلق بالماء عموماً، ( إن الماء طهور ). وهذا الحكم يدخل فيه بئر بضاعة باعتباره أحد أفراده؛ ولذلك قال الأصوليون: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فاللفظ عام، فـ(الماء طهور) أو (إن الماء طهور) هذا عام في كل ماء، وإن كان سبب ورود الحديث هو قصة بئر بضاعة.
الجواب: قد يكون باعتبار ما يئول إليه الأمر، أنهم يلقونه قريباً منها، أو يلقونه في طرف الوادي، فإذا جاءت السيول جرفته وألقته في هذه البئر، وهذا الإشكال أيضاً لا يرد على الجواب الثاني الذي سبق، وهو أن يكون هذا من فعل بعض اليهود والمنافقين وضعفاء الإيمان.
الجواب: نعم. الربط بينهما ظاهر، فكأن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: إن ما يلقى في هذه البئر من هذه النجاسات لا يؤثر فيها ولا ينجسها، فاعتراضكم على الوضوء منها ليس في مكانه؛ لأن ماءها طهور ولا يتنجس بما يلقى فيها.
والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر