الأسبوع الماضي أخذنا السبق، وأحد الإخوة يسأل عن المباريات الرياضية ووضع الجوائز عليها؟
فالمباريات الرياضية إذا كانت الجائزة من طرف خارجي فلا بأس بها، وأما إذا كانت عن طريق القمار، بمعنى أن كل واحد من الفريقين يدفع مالاً، والفائز يأخذها فهذا الذي نراه قماراً ولا يجوز.
أما ما يتعلق بالوديعة فنقول أولاً:
معنى الوديعة: مأخوذة في اللغة من ودع، وهو بمعنى ترك، كما في قوله تعالى: مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3]، يعني: ما تركك وما جفاك، فالمقصود بالوديعة إذاً: هو الشيء الذي يتركه الإنسان عند غيره لحفظه، وتجمع على ودائع.
والمقصود: أن يتبرع إنسان بحفظ مال شخص آخر ولا يتصرف فيه إلا بإذنه.
فأما الكتاب فآيات عديدة في موضوع الأمانة كما في قوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] فهذا دليل على الوديعة، والوديعة نوع من الأمانة، وهو دليل على جوازها، بل على أن هذا قد يكون فاضلاً أحياناً كما سوف أشير.
وهكذا السنة، يقول: النبي صلى الله عليه وسلم كما في السنن: ( أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك ).
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يحفظ ودائع قريش في مكة قبل الهجرة، ولما أراد الهجرة وكل علياً رضي الله عنه بإيصالها إلى الناس، وهذا له مقاصد عظيمة نبيلة؛ لئلا يظنوا أنه ذهب بها، ولأن ذهابه صلى الله عليه وسلم بهذه الودائع ربما يترتب عليه تلف أو ضرر أنه كان ملاحقاً مطارداً عليه الصلاة والسلام، وليتمكن علي رضي الله عنه من إيصالها إلى أهلها.. إلى غير ذلك من المقاصد.
وأما الإجماع: فقد أجمع علماء العصور -كما ذكر ذلك ابن المنذر وابن عبد البر وابن قدامة وغيرهم- على جواز الوديعة.
وقد يكون مستحباً، وقد يكون مباحاً في الأحوال العادية، وقد يكون مكروهاً، وقد يكون حراماً، وتحريمه ظاهر فيما لو أن إنساناً أخذ الوديعة وفي نيته مثلاً ألا يحفظها لصاحبها، فهي -كما يقال- مما تجري فيه الأحكام الخمسة.
يقول العلماء: إن الأمانة أوسع مفهوماً من الوديعة، فالأمانة قد تكون أحياناً بقصد أو بغير قصد، مثلاً: لو أن الإنسان وقع في يده مال لغيره، يعرف أن هذا لفلان فهذا يعتبر أمانة، يعني: سقط في مزرعتك أو في بيتك مال وتعرف أنه لفلان، فهو في هذه الحالة أمانة عندك، وإن كان فلان ربما لم يدر به ولم يقصد إيداعه.
لكن الوديعة تكون مقصودة؛ ولذلك سميت وديعة؛ لأنه جاء بقصد ووضعها عندك، وطلب إليك أن تحفظها.
إذاً: نقول: الأمانة أوسع من الوديعة، ولهذا الأمانة أيضاً تطلق على المعاني مثل أمانة الدِّين والعقيدة والصلاة والغسل والوضوء وغيرها، والوديعة إنما تطلق على الأشياء الحسية.
واليوم تطور مفهوم الوديعة أيضاً، في البنوك هناك ألوان من المعاملات يسمونها وديعة، وهناك أشياء تعتبر أمانة، فالأمانات مثلاً عندهم لها صناديق خاصة تستأجر ويضع الإنسان فيها ما يشاء، بينما الوديعة قد تكون حساباً، مثل ما يسمونه بالحساب الجاري الذي يأخذ منه الإنسان باستمرار، وهذا الحساب ليس فيه مضاربة ولا ربح ولا خسارة.
فأصل الحساب الجاري يسمى وديعة عند معظم الكاتبين في مجال الاقتصاد، فيعتبرونه نوعاً من الوديعة، ولذلك سواء قلنا: أقراض أو وديعة في النهاية أنه لا يجوز أخذ الفائدة عليه، يعني: الحكم في الحالين واحد لا يختلف، فهو نوع من الإيداع، قصدي أنهم يسمونه في أنظمة المصارف يسمونه حساب الإيداع في الغالب.
قال المصنف: [وإن لم يحفظها في حرز مثلها إلا أن يتعدى]، قال: ولو لم يحفظها في حرز مثلها.
أما مسألة الحرز، فالمقصود به الوعاء الذي تحفظ فيه الأشياء.
وقد أجمع الفقهاء على أن الحرز يختلف بحسب العرف، فما كان حرزاً في زمان قد لا يكون حرزاً في زمان آخر، وما كان حرزاً في بلد قد لا يكون حرزاً في بلد آخر، ثم حرز كل شيء بحسبه.
والمقصود بالحرز: هو ما يحفظ به الإنسان ماله عادة، ويحرزه من السراق واللصوص وغير ذلك، فهذا هو الموضع الذي ينصب عادة لحفظ هذه الأشياء.
والمقصود: أن الإنسان إذا وضع عنده أمانة أو وضع عنده وديعة يجب أن يحفظها في حرز مثلها، إن كانت مالاً مثلاً يضعها -كما قلنا- في خزانة أو في صندوق أو في حساب أو ما أشبه ذلك من الأشياء التي فيها حفظ لها من السرقة.
فلو أخرج الإنسان هذا المال أو هذه الوديعة لعذر، فهل نقول: إنه يضمن إذا تلفت أو نقول: لا يضمن؟ هنا فرق، فإذا كان إخراجها لقصد حفظها، مثلما لو صار في البيت حريق فأخرجها من مكانها بقصد ألا تتلف، فهذا لا يضمن بالاتفاق، بل واجب عليه أن يخرجها إذا كان قادراً أو مستطيعاً، أما لو أنه أخرجها لإيداعها في حرز آخر قد يكون أفضل من الحرز الأول، فأيضاً هنا يجب ألا يكون عليه ضمان؛ لأنه قصد مزيداً من الحرز.
ولو أخرجها لحرز آخر مثل حرزها، هنا أيضاً وإن كان فيه خلاف قوي، لكن نقول: الأقرب أنه لا يضمنها إذا تلفت في الحرز الثاني؛ لأن الحرز الثاني مثل الحرز الأول، لكن لو تلفت قبل أن يحرزها، فيجب عليه حينئذ أن يضمنها.
إذاً: المصنف رحمه الله قال: [أو مثل الحرز الذي أمر بإحرازها فيه]، يعني: هنا لا يضمن.
قال: [أو خلطها بما لا تتميز منه]، إنساناً أودعك زيت زيتون أو شيئاً من هذه السوائل، أو زبيباً، فوضعت أنت هذا الزيت في أوانٍ كبيرة موجود فيها الزيت الذي يخصك والزيت الذي يخص غيرك، بحيث لا يتميز هذا الزيت الذي لفلان من الزيت الذي لغيره، هنا انتقلت من كونها وديعة مضمونة يعني: مطلوب لنفسها إلى كونها ضمان، والضمان ما معناه؟
أن الواجب في ذمتك، يعني: أن تخرج له بقدر ما أعطاك؛ لأنه لا يمكن فرز ما يخصه هو عما يخص غيره، فهذا معناه أنه انتقلت من كونها يد وديعة إلى كونها يد ضمان، أي أن المطلوب منه أن يضمن هذا الشيء ويعطيه مثل حقه؛ وليس عين حقه؛ لأنه لا يتحدد ولا يتعين.
قال: [أو أخرجها لينفقها ثم ردها]، يعني: لو أنه أخرج هذه الوديعة لإنفاقها، ثم خطر له ورجع عن هذا الأمر وردها في الحرز أو الكيس الذي كانت فيه، فهنا يضمن؛ لأنه تصرف فيها.
[أو كسر ختم كيسها]، يعني: قد يكون مالاً موضوعاً في كيس وله ختم مختوم عليه. طبعاً المقصود بالختم مثل الضبط أو الإتقان الذي يمنع من فكه أو من سرقته، هذا المعنى بالختم، فإذا كسر الختم فقد تسبب حينئذ في تلفها.
قال: [ أو امتنع من ردها عند طلبها مع إمكانه]، يعني: قال له: أعطني الوديعة التي عندك، فقال له: لا، لن أعطيكها الآن ولا في الأسبوع القادم، تعال بعد شهرين، فتلفت خلال شهر أو شهرين، فيلزمه حينئذ أن يضمنها؛ لأنه مفرط بعدم دفعها لصاحبها حينما طلبها.
قال: [وإن قال: ما أودعتني، ثم ادعى تلفها أو ردها لم يقبل منه]، يعني: لو جحد الوديعة، وقال: ما أخذت منك شيئاً أصلاً، ثم بعد ذلك قال: فعلاً أعطيتني إياها، لكنها تلفت، أو أعطيتني إياها ولكني رددتها عليك، هنا لا يقبل منه وتلزمه في ذمته؛ لأنه جحدها في البداية، ثم اعترف بها، فيقبل اعترافه على نفسه ونقضه للجحد الأول، ولا يقبل منه ادعاؤه بأنها تلفت أو أنه ردها إلى صاحبها، فتصبح في ذمته ويلزمه ردها.
لكن هنا فرق بين هذه الحالة وبينما لو قال: ما لك عندي شيء، انظر الفرق: (ثم ادعى ردها أو تلفها)، يعني: أتيت تقول له: أعطني الوديعة التي أعطيتك، أنا أعطيتك مائة ألف ريال، فقال: ما عندي لك شيء، ثم بعد قليل وفي نفس المجلس قال: والله أنا سبق أني رددتها عليك قبل سنة، أو قال: إن الوديعة التي أعطيتني تلفت، في الحالة هذه يقبل كلامه؛ لأنه ما أنكر؛ لأن قوله: ما عندي لك شيء لم يقل: إني ما أخذت منك وديعة، بل يقول: ما عندي لك الآن شيء، ليس في ذمتي لك الآن شيء، فهو يفسر كلامه بأن مقصوده أن الوديعة تلفت ولم يعد يتوجب في ذمتي لك شيء، ففرق بين هذا وبين ما لو قال: بأني لم آخذ منك وديعة أصلاً، فهنا يقبل كلامه؛ لأن كلامه المفصل يفسر كلامه المجمل.
هذا ما يتعلق إذاً بموضوع الوديعة وأحكامها.
الوديعة: لحظ المودع، يعطيك شيئاً لتحفظه، أما العارية فهو أمر تطلبه أنت لحاجتك؛ تطلب مثلاً أن تستعير مني سيارة أو ماعوناً أو كأساً أو فأساً أو ثوباً أو ما أشبه ذلك لحظك أنت وتستخدمه، فالعارية للاستخدام وليست للحفظ.
إذاً: هناك فرق أن الوديعة لحظ المودع، والعارية لحظ المستعير.
الفرق الثاني: أن الوديعة للحفظ، وأما العارية فهي للاستعمال.
فنقل المفسرون عن ابن عباس وابن مسعود وغيرهما رضي الله عنهم أن المقصود بقوله: وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:7]، أي: يمنعون العارية التي يحتاجها الإنسان، وهذا دليل على أن المسلمين يجب أن يكون بينهم من التعاون في الحاجات ما تقوم به أمور حياتهم، فهذا المقصود بالعارية.
والدليل على ضمان العارية ما ورد في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ( والعارية مضمونة )، رواه أهل السنن، وفي سنده أظنه إسماعيل بن عياش إن لم تكن خانتني الذاكرة، وفيه ضعف.
وأيضاً من الأدلة على ضمان العارية قصة صفوان : ( لما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم منه أدراعاً فقال: أغصباً يا محمد! قال صلى الله عليه وسلم: بل عارية مضمونة )، والحديث رواه أهل السنن وأحمد وسنده جيد، فهو دليل على أن العارية تضمن وإن لم يتعد فيها المستعير، يعني: ولو لم يكن منه تعد فإن عليه ضمانها؛ لأنه طلبها -أولاً- بنفسه، وثانياً: لأنها استعملها واستخدمها، فكما أن الشرع جعل على صاحب الحاجة المستغني عنها أن يعيرها لطالبها، فكذلك على طالبها أن يحافظ عليها ويحسن استخدامها، وإذا تلفت في يده فعليه أن يضمنها.
نعم، قوله صلى الله عليه وسلم: ( العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم )، المصنف هنا يقول: إسناده جيد.
والله تعالى أعلم.
الجواب: إذا أمكن للإنسان أنه يؤخر سنة الفجر إلى بعد ارتفاع الشمس قدر رمح فهذا جائز، وقد ورد فيه أحاديث صحاح، وإذا صلاها الإنسان بعد صلاة الفجر، فهذا أيضاً جائز وإن كان وقت نهي، وقد نقل عن نحو ستة عشر صحابياً أنهم كانوا يصلونها بعد صلاة الفجر، وهذه لها سبب، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قضى راتبة الظهر بعد صلاة العصر، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر