طيب قبل أن ننتقل إلى المزارعة دعونا نفصل أفضل، فنبقى في موضوع المساقاة.
أولاً: قال: المنع لأن هذه أجرة، والأجرة مجهولة، فأنت لا تدري ماذا تنتج هذه الحقول أو ماذا ينتج هذا الشجر والثمر.
فنجيب على ذلك بأن نقول: إن هذه ليست من باب الأجرة وإنما هي أشبه بشركة المضاربة، الآن حين أعطيك المال تعمل به ببدنك هذه مضاربة، مني المال ومنك الجهد والعمل، وهكذا فيما يتعلق بالمزارعة أو المساقاة، فمني الأرض ومني الزرع والثمر والنخل، ومنك أنت السقي والمتابعة والتعاهد، فهي تماماً مثل المضاربة التي ذكرنا سابقاً الاتفاق على جوازها، وأنها موجودة حتى في الجاهلية وفي الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم شارك فيها، وهكذا الصحابة من بعده، هذا أولاً: أن الأمر فيه نوع من المضاربة وليس إجارة.
وكذلك مما استدل به الحنفية وبعض الذين منعوا من المساقاة والمزارعة: حديث رافع بن خديج، والحديث في الصحيحين أن رافع بن خديج ينقل ويروي عن بعض عمومته من الأنصار أنهم يقولون: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقاً أو كان بنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا )، انظروا الإيمان ما شاء الله! قال: ( إنه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يؤجّروا حقولهم، وقال: من كان له حقل فليعمل به أو ليمنحه أخاه )، وهذا الحديث فيه إشكال، لو تقرأ في بعض كتب الفقه يمكن يدور رأسك أحياناً إذا ما عرفت الحل المفتاح، والمفتاح هنا سهل جداً أن نقول: إن هذا الحديث يكثر ترداده وكما قلت: هو في الصحيحين، وأطال فيه الحافظ ابن حجر، وابن تيمية كتب مئات الصفحات في هذا الموضوع.
من أهل العلم من اعتبر أن هذا الحديث مضطرب في سنده ومضطرب في متنه، فإن فيه روايات مختلفة وألفاظاً مختلفة، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله أشار إلى هذا المعنى وقال: حديث رافع يرد فيه ألفاظ متفاوتة.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث مردود؛ لأنه رده بعض الصحابة، فقد رده زيد بن ثابت، وهو أيضاً من الأنصار ومن أهل الحقول، ورده ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
والقول الثالث وهو الأفضل عندنا أن نقول: إن النهي في حديث رافع بن خديج وعمومته ليس عن المساقاة ولا عن المزارعة، وإنما عن نوع خاص منها، وعندما تجمع النصوص تعرف ذلك، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى خاص، وهو أني أعطيك المزرعة تعمل فيها مقابل أن لك جزءاً من الثمرة قد يكون عشرة في المائة أو أقل، لكن أقول: ترى هذا الجدول لي والجدول هذا لك، وهذه الناحية لي وهذه الناحية لك، يعني: يتم تحديد شيء للمالك من البداية، ويتم تحديد شيء للساقي والمزارع أيضاً من البداية، فربما سلم هذا وعطب هذا، وربما عطب هذا وسلم هذا، فيكون في هذا غرر، ويكون فيه إشكالات، ويكون فيه خصومات، حتى إن اثنين منهم اقتتلا من أجل هذا الموضوع، فهذا هو سر المسألة؛ أنه لا يجوز تحديد شيء معين، لابد أن تكون المساقاة أو المزارعة على نصيب معلوم مشاع، لاحظ النقاط هذه: نصيب معلوم، ولكن في نفس الوقت يكون مشاعاً.
أما (معلوم) فلا يمكن أن أقول مثلاً: اعمل. ولا يكون هناك تحديد، ولو لم يوجد تحديد فهنا يرجع فيه إلى المثل، وأيضاً لابد أن يكون هذا النصيب المعلوم مشاعاً، يعني: فلا يكون محدداً أنه هذه المنطقة لك وهذه المنطقة لي؛ لأنه ربما تسلم هذه وتعطب هذه، فيكون فيه إجحاف أو ضرر إما على المالك أو على العامل، فهذا هو سر النهي في المسألة.
إذاً: خلاصة القول في المساقاة: جوازها عند الجمهور، بل الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعاطونها، بل خيبر أجرها النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي عندهم، وهكذا أزواجه من بعده.