بالنسبة للمساقاة، نحن أهل زرع وضرع، ولذلك معروف لدينا هذه، يمكن الشركات ذات طابع اقتصادي تجاري، لكن المساقاة والمزارعة هي أشياء بيئية، وأنا أقرأ تذكرت آبائي وأجدادي وكيف أن عندهم مزرعة أعطوها أحداً؛ يزرعها بجزء منها، فهذا أمر موجود عندنا.
المساقاة: هي أن يدفع الإنسان شجره لشخص آخر يسقيه بجزء من ثمرته، هذا هو معنى المساقاة، أن يكون عندي نخل، وأعطيك هذا النخل تقوم أنت بسقايته ويتبع السقاية خدمة النخل، مقابل جزء من ثمرة النخل، أن لك مثلاً عشرة في المائة مما ينتجه هذا الحقل أو هذا البستان.
ما حكم المساقاة؟
الجمهور من أهل العلم على جوازها، وهو الصحيح، ومنع منها أبو حنيفة رحمه الله تعالى.
لماذا منع منها أبو حنيفة ؟
فنجيب على ذلك بأن نقول: إن هذه ليست من باب الأجرة وإنما هي أشبه بشركة المضاربة، الآن حين أعطيك المال تعمل به ببدنك هذه مضاربة، مني المال ومنك الجهد والعمل، وهكذا فيما يتعلق بالمزارعة أو المساقاة، فمني الأرض ومني الزرع والثمر والنخل، ومنك أنت السقي والمتابعة والتعاهد، فهي تماماً مثل المضاربة التي ذكرنا سابقاً الاتفاق على جوازها، وأنها موجودة حتى في الجاهلية وفي الإسلام، والنبي صلى الله عليه وسلم شارك فيها، وهكذا الصحابة من بعده، هذا أولاً: أن الأمر فيه نوع من المضاربة وليس إجارة.
وكذلك مما استدل به الحنفية وبعض الذين منعوا من المساقاة والمزارعة: حديث رافع بن خديج، والحديث في الصحيحين أن رافع بن خديج ينقل ويروي عن بعض عمومته من الأنصار أنهم يقولون: ( نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر كان بنا رافقاً أو كان بنا نافعاً، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا )، انظروا الإيمان ما شاء الله! قال: ( إنه نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن أن يؤجّروا حقولهم، وقال: من كان له حقل فليعمل به أو ليمنحه أخاه )، وهذا الحديث فيه إشكال، لو تقرأ في بعض كتب الفقه يمكن يدور رأسك أحياناً إذا ما عرفت الحل المفتاح، والمفتاح هنا سهل جداً أن نقول: إن هذا الحديث يكثر ترداده وكما قلت: هو في الصحيحين، وأطال فيه الحافظ ابن حجر، وابن تيمية كتب مئات الصفحات في هذا الموضوع.
من أهل العلم من اعتبر أن هذا الحديث مضطرب في سنده ومضطرب في متنه، فإن فيه روايات مختلفة وألفاظاً مختلفة، حتى إن الإمام أحمد رحمه الله أشار إلى هذا المعنى وقال: حديث رافع يرد فيه ألفاظ متفاوتة.
ومنهم من قال: إن هذا الحديث مردود؛ لأنه رده بعض الصحابة، فقد رده زيد بن ثابت، وهو أيضاً من الأنصار ومن أهل الحقول، ورده ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه.
والقول الثالث وهو الأفضل عندنا أن نقول: إن النهي في حديث رافع بن خديج وعمومته ليس عن المساقاة ولا عن المزارعة، وإنما عن نوع خاص منها، وعندما تجمع النصوص تعرف ذلك، نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن معنى خاص، وهو أني أعطيك المزرعة تعمل فيها مقابل أن لك جزءاً من الثمرة قد يكون عشرة في المائة أو أقل، لكن أقول: ترى هذا الجدول لي والجدول هذا لك، وهذه الناحية لي وهذه الناحية لك، يعني: يتم تحديد شيء للمالك من البداية، ويتم تحديد شيء للساقي والمزارع أيضاً من البداية، فربما سلم هذا وعطب هذا، وربما عطب هذا وسلم هذا، فيكون في هذا غرر، ويكون فيه إشكالات، ويكون فيه خصومات، حتى إن اثنين منهم اقتتلا من أجل هذا الموضوع، فهذا هو سر المسألة؛ أنه لا يجوز تحديد شيء معين، لابد أن تكون المساقاة أو المزارعة على نصيب معلوم مشاع، لاحظ النقاط هذه: نصيب معلوم، ولكن في نفس الوقت يكون مشاعاً.
أما (معلوم) فلا يمكن أن أقول مثلاً: اعمل. ولا يكون هناك تحديد، ولو لم يوجد تحديد فهنا يرجع فيه إلى المثل، وأيضاً لابد أن يكون هذا النصيب المعلوم مشاعاً، يعني: فلا يكون محدداً أنه هذه المنطقة لك وهذه المنطقة لي؛ لأنه ربما تسلم هذه وتعطب هذه، فيكون فيه إجحاف أو ضرر إما على المالك أو على العامل، فهذا هو سر النهي في المسألة.
إذاً: خلاصة القول في المساقاة: جوازها عند الجمهور، بل الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتعاطونها، بل خيبر أجرها النبي صلى الله عليه وسلم على أهل خيبر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهي عندهم، وهكذا أزواجه من بعده.
يعني: لا يكون محدداً، والمصنف يقول: [ تجوز المساقاة ]، يعني: أنها عقد جائز، لكن إذا وقعت المساقاة أو المزارعة فهل نقول: إنها عقد جائز من حق أي واحد أن يفك العقد، أو نقول: إنها عقد لازم؟
الجمهور يرون أنها عقد لازم، والحنابلة يميلون إلى الجواز، وهو الذي نصره ابن قدامة في المغني، والأقرب قول الجمهور، والدليل على صحة قول الجمهور أو رجحانه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما آجر أهل خيبر قال: نقرّكم فيها ما شئنا )، حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه.
فكون النبي صلى الله عليه وسلم شرط عليهم أنه: ( نقركم فيها ما شئنا )، دليل على أنه لو لم يشترط كان عقداً لازماً.
إذاً نقول: إنها عقد لازم، وهي في ذلك مثل الإجارة، لازم يعني: إلى نهاية الحول مثلاً، ولو لم تكن عقداً لازماً لكان من الممكن أن الإنسان بعد فترة وربما يكون المؤاجر أو العامل الساقي بذل جهداً فيقول له: قد فضضت العقد، فيذهب جهده.
يعني: مثل المساقاة المزارعة، وهي تسمى أحياناً: المخابرة، يعني: إما من الأرض، الأرض تسمى خباراً أو مأخوذة من خيبر ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بهذه المعاملة، فصارت تسمى مخابرة، إما نسبة إلى الأرض وهي الخبار، وهذا معروف حتى عندنا في نجد يسمون الأرض أحياناً كذلك.
أو المقصود: النسبة إلى خيبر، مخابرة يعني: ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعمله مع أهل خيبر من اليهود الذين عاقدهم على العمل فيها.
إذاً.. المساقاة عرفناها: أني أدفع لك الشجر لسقيه مقابل جزء معلوم من الثمرة.
المزارعة هي مثلها أيضاً: أن أدفع لك الأرض؛ لتقوم أنت بزراعتها على جزء مما يخرج منها.
وهذه أيضاً أجازها الجمهور ومنعها أبو حنيفة، وللشافعية فيها نوع من التفصيل.
يعني: سواء من مالك الأرض أو من العامل الزارع، وذلك بحسب ما يتفقون عليه؛ لقول ابن عمر رضي الله عنه: ( عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من زرع وثمر )، فهذا الحديث دليل على جواز المزارعة وجواز المساقاة.
وفي لفظ: ( على أن يعمروها من أموالهم ).
فهذا دليل على أنه يجوز أن يكون البذر من الفلاح، ويجوز أن يكون البذر من صاحب الأرض.
قال: [ وعلى العامل ما جرت العادة بعمله ].
يعني: ليس مجرد أن يسقيها الماء، بل كل ما يتطلبه الزرع من خدمة النخل -مثلاً- وصيانته والمحافظة عليه وغير ذلك فهو مطلوب منه.
طبعاً هذه ليست من المزارعة، لكن المصنف ألحقها بها، قال: [ لو دفع إلى رجل دابة يعمل عليها وما حصل بينهما جاز على قياس ذلك ].
يعني: مثل السيارات الآن، أن يعطيه سيارة يقودها والأجرة بينهما، فهذا نوع من الإجارة، وهذه المسألة الأخيرة هي من باب الإجارة تقريباً.
هذا ما يتعلق بموضوع المزارعة.
الجواب: حتى لو توفرت وسائل الراحة في السفر، فإنه ما سمي سفراً جاز للإنسان أن يترخص فيه، وقد نص على ذلك الأئمة، وهذا شيء عجيب أنك تجد مثلاً في كتب المتقدمين كـالمغني وغيره أنه لو قطع المسافة التي تقطع مثلاً في شهر؛ لو قطعها في ساعة فإنه يتمتع برخصة السفر.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر