الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
عندنا اليوم حقيقة باب مهم جداً وهو باب الشركة، وحقيقة هذا الباب باب كبير وذو أهمية في الفقه الإسلامي، وفي الواقع أيضاً اليوم بسبب تداخل الأعمال التجارية وغيرها، ولذلك أقول أولاً: طبعاً سوف نحاول أن نقدم ببعض المقدمات المهمة في هذا، ثم ننتقل إلى نص المؤلف إذا وجدنا في الوقت ما يسع لذلك.
فيتعلق بالشركة من حيث الضبط: يطلق عليها هكذا الشركة، وهو غالب الاستعمال اليوم -بفتح الشين وكسر الراء- مثل: سرقة أو نحوها. ويجوز أن تقول: شركة -بكسر الشين وسكون الراء- ولعل الشِركة هي أفصح كما يقال.
والمقصود بالشركة في الأصل هي: الاختلاط، سواءً كان الاختلاط في المال، أو كان الاختلاط في العقد، فإذا كانوا -مثلاً- مشتركين في أرض، سواءً كان هذا الاشتراك إجبارياً أو اختيارياً، فإن هذه تسمى شركة، وهم الخلطاء: وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض [ص:24]، وكذلك قول الله تعالى: فهم شركاء في الثلث [النساء:12].
إذاً: لو فرض أن مجموعة أولاد عشرة مات أبوهم وله مزرعة أو أرض، أليسوا يصبحون شركاء في هذه الأرض بالميراث؟ هذه شركة بمال أو بملك، يسمونها شركة ملك أو شركة أملاك، وهل هي شركة اختيارية هنا أو إجبارية؟ إجبارية.
ومثل ذلك: لو أن إنساناً تبرع للإخوة الحضور بشيء من غير تعيين، فهذا التبرع جعلهم شركاء في هذا الجعل أو في هذا العطاء الذي قدمه لهم. فهذا نوع من الشركة.
وقد تكون الشركة اختيارية، كأن أتفق أنا وأنت على شراء سيارة معينة أو سلعة معينة، فنكون شركاء بالاختيار في هذا الملك، وهذا يسمى شركة ملك أو شركة أملاك.
وقد تكون الشركة بغير المال أيضاً، قد تكون شراكة بعلم، وقد تكون شراكة بدعوة، وهذا جاء في القرآن الكريم في قول موسى عليه الصلاة والسلام: هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه في أمري [طه:30-32]، هذه شراكة في الدعوة إلى الله تعالى، وشفاعة هي أعظم شفاعة أن موسى عليه السلام شفع إلى ربه تعالى بالنبوة لهارون عليه الصلاة والسلام، فهذه أيضاً شَركة أو شِركة.
وأما الشركة في اصطلاح الفقهاء فهي: الاجتماع في استحقاق أو تصرف. وتلاحظون أن هذا التعريف يشمل نوعين من الشركة:
النوع الأول: هو شركة الأملاك.
والنوع الثاني: هو شركة العقود.
فالاستحقاق المقصود به: شركة الأملاك، أن نكون شركاء في ملكية شيء معين، ملكية أرض أو سيارة أو كتاب أو بيت أو مصنع أو أي شيء، فهذه تسمى شركة أملاك.
وأما القسم الثاني: فهو شركة التصرف، والمقصود بها ما يسميه الفقهاء: شركة عقود، يعني أن أجعل عقداً بيني وبينك على أننا شركاء في عمل معين.
أما الكتاب، فكما في قول الله عز وجل: وإن كثيرًا من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض [ص:24] فإن هذه الآية صريحة في الشركة.
هذه الآية في أي سورة جاءت؟ في سورة (ص). وفي قصة داود عليه السلام والملائكة: فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب * قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيرًا من الخلطاء [ص:23-24] يعني: الذين لهم أموال يختلط بعضها ببعض: ليبغي بعضهم على بعض [ص:24].
الشركة المذكورة في الآية أو الخلطة أقرب إلى أن تكون شركة أملاك أو شركة عقود؟ الأقرب أنها شركة أملاك، وإن كان قد يؤخذ منها أيضاً جواز شركة العقود.
وأما في السنة النبوية فقد روى أبو داود في سننه عن أبي حيان التيمي عن أبيه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى يقول في الحديث القدسي: أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر، فإن خان أحدهما الآخر خرجت منهما ) .
وزاد في بعض الروايات: ( ودخل الشيطان ) .
وهذا الحديث ذكره أبو داود وفي سنده -كما ذكرت لكم- أبو حيان التيمي عن أبيه عن أبي هريرة، وأبوه هذا من التابعين الذين أخذوا عن الصحابة وليس هو بالمشهور، وثقه أبو حاتم وابن حبان ووثقه العجلي . وقال بعضهم: إنه مجهول. فنقول: إن الحديث لا بأس به في هذا السياق، وإن لم يكن سنده بالقوي، وهذا الحديث يدل على ماذا؟ على فضيلة الشراكة، فالله تعالى يقول: ( أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما الآخر )؛ وذلك لأن الشراكة إذا بنيت كما في الحديث الآخر: ( فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركت بيعهما ) لأن الشريكين يضم أحدهما جهده إلى جهد الآخر، يعني: بدلاً من أن يكون كل إنسان يعمل لنفسه، يصبح هذان الاثنان أو الثلاثة، يصبح كل واحد منهم يعمل لمصلحته ولمصلحة الآخرين، وأعتقد أن هذا لون من التربية في الدعوة، ولون من التربية في التعليم والعلم، ولون من التربية في التجارة، يحتاج المسلمون إلى فقهه وإلى معرفته؛ لتقوى بذلك عزائمهم وتحفظ مجتمعاتهم، وخصوصاً ونحن اليوم نعيش في عصر التكتلات الاقتصادية، في الدول الغربية في الولايات المتحدة الشركة التي رأس مالها مائة مليار دولار تنضم إلى شركة أخرى ليصبح رأس المال أحياناً ثلاثمائة أو أربعمائة أو سبعمائة مليار دولار، شركات السيارات، شركات الكمبيوتر، شركات النفط، شركات المباني، شركات المصانع، شركات الإعلام، ولذلك استطاعت هذه الشركات الكبرى التي يسمونها اليوم: الشركات العابرة للقارات، استطاعت أن تهيمن على -لا أقول على الاقتصاد الدولي فقط- بل حتى على السياسة، وعلى التصنيع وعلى القرارات، فربما كثير من قرارات الحرب مثلاً تكون وراءها شركات كبرى تروج سلعها وأسلحتها، وتجرب على أمم أو شعوب.
وأما المسلمون اليوم فلأنهم أمم يعيشون في جو الفردية والأنانية والذاتية، ولم يتربوا على روح الجماعة وروح الفريق وروح الشركة، ولا على مبدأ التنازل للآخرين، كل واحد يريد من الناس أن يتنازلوا له، لذلك أصبحوا بالحال التي تعرفها الآن بما في ذلك التخلف الاقتصادي.
فإذا كنا سندخل في العولمة، والمملكة ستدخل أو يفترض أن تدخل في منتدى العولمة خلال هذا العام، وهكذا دول الخليج ومصر وغيرها، فكيف تتوقع من إنسان كسيح يمشي على عربة، أو على أحسن الأحوال يمشي على عكازين أنه سيدخل مارثون سباق مع أشهر العدائين العالميين، هذا هو حالنا وواقعنا، يعني: سوف تزال جميع الحدود الجمركية والاقتصادية عن البلاد ويصبح هناك منافسة في التصنيع والسلع والمنتجات، بينما دول العالم الإسلامي لا تصنع شيئاً ذا بال، وليس عندها قدرة ولا كفاءة ولا اتفاق على قدر من التعاون فيما بينها، يعني منذ قرون وأوروبا تعيش ما يسمى بالسوق الأوروبية المشتركة، ثم هناك الاتحاد الأوربي الآن الذي ألغيت بموجبه الحدود السياسية والحدود الجمركية، وحدود التنقل، ووحدت العملة فصاروا يتعاملون باليورو، وهناك عندهم أفكار لتوحيد أو إيجاد جيوش خاصة بهم، وإيجاد أجهزة أمنية خاصة بهم، بينما العالم الإسلامي حتى وجود سوق مشتركة بين مجموعة من الدول لا يزال حلماً بعيد المنال.
إذاً: قضية الشركات من القضايا الأساسية الضرورية، والإسلام جاء بالدعوة إلى إيجادها، وأنتم تلاحظون أن الشركات هي لغة الاقتصاد اليوم، وسواءً في العالم الإسلامي أو في غيره.
فنقول إذاً: إن الشركات من حيث الأصل جائزة، بل مشروعة بالكتاب وبالسنة وبالإجماع أيضاً، وقد شارك النبي صلى الله عليه وآله وسلم السائب بن أبي السائب وقال لما لقيه: ( أهلاً بأخي وشريكي كان لا يداري ولا يماري )، وهكذا شارك الصحابة رضي الله عنهم.
وأما الإجماع، فإن الناس كانوا في الجاهلية يتعاملون بها، ثم تعامل بها الصحابة، وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من غير نكير، ولا زالت الشركات هي القائمة اليوم في حياة الناس، كما ذكرت.
المضاربة، أنت عندك مال مضيق عليك، وأنا ما عندي مال، لكن عندي استعداد أن أعمل، فتدفع مالك لأضارب به، ولذلك تسمى المضاربة، هذا نوع من الشركة يسمى المضاربة أو القراض، يسميه المتقدمون القراض، أن أحدهما يدفع المال والآخر يضارب بهذا المال، يعني: يتاجر به ببدنه وعقله، فهذا نوع من الإجارة، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم عمل لـخديجة بمالها، أليست هذه شركة؟ من النبي صلى الله عليه وسلم الجهد البدني، ومن خديجة الجهد المالي، فهذا نوع من الشركة أيضاً، وإن كان الفقهاء ربما لم أجد منهم من استدل بهذا الأثر أو هذا الحادث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه يصلح للاستدلال على جواز الشركة أو ما يسمى بالمضاربة، فهي بهذا الاعتبار نوع من الإجارة، وقد تكون أحياناً نوعاً من الوكالة، أن توكل شخصاً على شيء معين يقوم به بالنيابة عنك، والوكالة أيضاً جائزة. يعني هذه مقدمة فيما يتعلق بالشركة.
من أنواع الشركات، الشركات بالأعمال أو كما يسميها بعضهم: شركات الأبدان، أن أتفق معك مثلاً ولدينا مهنة معينة، إما خياطة أو نجارة أو صناعة أو أي عمل آخر، افترض مثلاً أن نذهب إلى الصحراء من أجل جمع الحشيش كما كانوا يفعلون، أو من أجل جني بعض الثمار أو غيرها بجهدنا وعملنا، فهذه تسمى شركة أبدان أو شركة أعمال؛ لأنهم اشتركوا فيها أن ما يحصله واحد منهم فهو للجميع، وما يحصله الآخر فهو للجميع أيضاً، فهذه شركة أعمال.
من الشركات أيضاً ما يسمونه: بشركات الوجوه، وشركة الوجوه المقصود بها: أنهم يشتركون في الجاه، يعني: أنا لي جاه ومعرفة عند التجار، بحيث إذا طلبت منهم أن يقرضوني أو يعطوني شيئاً بالتقسيط فعلوا، وأنت مثل ذلك والثالث، فنعمل شركة ونستفيد أو نستثمر هذا الجاه، وربما يكون من جراء ذلك أنه قد نشتري أشياء بالتقسيط ونبيعها في العاجل، لأن الناس يثقون بذممنا وبأدائنا ويقرضوننا، فهذه شركة الوجوه.
ومنها: شركة المضاربة كما ذكرتها لكم قبل قليل، وهذه الشركة الحنابلة يعدونها من الشركات، ولذلك يدرجونها ضمن أبواب الشركات، لأنه من أحدهم المال ومن الآخر الجهد البدني، بينما جمهور الفقهاء لا يعتبرون المضاربة من الشركات، وإنما يعتبرونها من الوكالة ويبحثونها في أبواب أخرى.
والفرق بين مذهب الحنابلة هنا وغيرهم: أنه على مذهب الحنابلة سوف تكون هذه من الشركات وتأخذ حكمها، بينما عند الآخرين سوف تكون استثناء، ولا تدخل في هذا الباب، فيضيق فيها فيما يتعلق بكثير من الأحكام، كما ذكره ابن تيمية في القواعد النورانية وابن القيم وغيرهم.
هذه بعض التقسيمات الواردة في موضوع الشركات.
شركة العقود يقسمها بعضهم إلى الأقسام الأربعة، وقد وجدت كثيراً من الفقهاء ينصون على الإجماع على أنها لا تخرج عن هذه الأقسام الأربعة أو الخمسة، وكان يقع في نفسي شيء من هذا الإجماع، لأن هذا الإجماع ليس فيه نص من القرآن الكريم ولا من السنة النبوية، وإنما هو استنباط من كلام بعض الفقهاء، وهي ربما أشبه بالقواعد النظرية العقلية، حتى وجدت في الكتاب المشهور للشيخ صديق حسن خان رحمه الله وشرح الإمام الشوكاني وجدت هذا النص، وهو نص في نظري أنه مناسب، قال: واعلم أن هذه الأسامي التي وقعت في كتب الفروع لأنواع من الشركة كالمفاوضة والعنان والوجوه والأبدان لم تكن أسماء شرعية ولا لغوية، بل اصطلاحات حادثة متجددة، ولا مانع للرجلين أن يخلطا ماليهما، ويتجرا كما هو معنى المفاوضة المصطلح عليها، لأن للمالك أن يتصرف في ملكه كيف شاء ما لم يستلزم ذلك التصرف محرماً مما ورد الشرع بتحريمه، وإنما الشأن في اشتراط استواء المالين، وكونهما نقداً واشتراط العقد، فهذا لم يرد ما يدل على اعتباره.
يعني: أن بعض الفقهاء مثلاً يشترطون في الشركة أن يكون رأس المال نقداً، إما ذهب أو فضة، بينما هناك آخرون يقولون: يجوز للشركة حتى لو كان رأس المال عروضاً، سواءً قدرت بذهب أو فضة أو لم تقدر وإنما حددت منذ البداية، فيقول الشيخ: مجرد التراضي بجمع المالين والاتجار بهما كاف.
وكذلك لا مانع من أن يشترك الرجلان في شراء شيء بحيث يكون لكل واحد منهما نصيب منه بقدر نصيبه من الثمن، وقد كانت هذه الشركة ثابتة في أيام النبوة، ودخل فيها جماعة من الصحابة، فكانوا يشتركون في شراء شيء من الأشياء، ويدفع كل واحد منهم نصيباً من قيمته.. إلى أن قال: والحاصل: أن جميع هذه الأنواع يكفي في الدخول فيها مجرد التراضي؛ لأن ما كان منها من التصرف في المال فمناطه التراضي .. إلى آخر ما قال.
وأعتقد أننا بأمس الحاجة إلى مثل هذا اللون من التوسع في تقييم الشركات والعقود وغيرها، لأننا في العصر الحاضر أمام انفجار في تعريف العقود وألوانها وصيغها لم تكن معروفة من قبل، فالذين كانوا يحددون ألوان الشركات في الماضي يحددونها بموجب القسمة العقلية أنها لا تخرج عن هذه الأصناف الأربعة، لكن جد اليوم ألوان أخرى.
على سبيل المثال: الآن كون هناك حقوق محفوظة لأسماء شركات أو منتجات أو فنادق أو غيرها تصبح هذه الأسماء خاصة بهم، ولهم فيها إشراف، بحيث أي إنسان يريد أن يلتزم بشروطهم وضوابطهم ويدخل معهم ويأخذ اسمهم وهو مستقل بعمله، يسمحون له بذلك، مثلاً هناك شركة عالمية للفنادق تلتزم مثلاً في الغرف، في قيامها، في فرشها، في خدماتها، في البناء، في الخدمات المقدمة، في المواقع بأشياء في غاية الدقة، وأحياناً تكون متميزة جداً، أي إنسان يريد أن يلتزم بضوابطهم ويخضع لإشرافهم يسمحون له ويعطونه الاسم، ويأخذون منه مقداراً معيناً، ثم يتركون له ما وراء ذلك، وتكون مهمتهم هي الإشراف والتأكد من انضباط وجودة المعايير.
فالمقصود أنه جد أشياء كثيرة جداً في هذا الباب، وهذا ما سوف نناقشه إن شاء الله في الجلسة القادمة مع عرض كلام المصنف رحمه الله تعالى.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر