الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عندنا باب الرهن ضمن كتاب المعاملات في شرح عمدة الفقه.
ومنه أيضاً: أن يكون الشيء ثابتاً لا يتغير، ولهذا يسمى الحبس رهناً، وهذا تجده في القرآن الكريم, كما في قوله عز وجل: كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ [الطور:21] أي: مرهون، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر:38] يعني: محبوسة أو مأسورة أو مأخوذة.
ومنه أيضاً: أن عصابة معينة تأخذ شخصاً وتراهن عليه، فهو يسمى رهينة عندهم، أي: مرهون أو محبوس؛ لأنه يبقى عندهم لفترة طويلة.
وكذلك في الحديث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( كل غلام رهن بعقيقته )، يعني: مرهون بها، وإن كان في الحديث مقال.
فالمقصود: أنه مرهون بعقيقته أو بالتميمة حتى يعق ويذبح عنه، ومن هذا المعنى قول المتنبي لما أشيع أنه قد مات يقول:
كم قد قتلت وكم قد مت عندكمُ ثم انتفضت وزال القبر والكفنُ
المهم في آخر البيت يقول:
كلٌ بما زعم الناعون مرتهن
يعني: أشاعوا أنه مات، فهو يقول: الناس كلهم رهن للموت، فهذه معاني الرهن أنها تدور حول البقاء واللزوم والثبوت ونحو ذلك.
والناس عندنا يستخدمون أحياناً الرهن بمعنى آخر، فأذكر لما كنا صبياناً كان الصغار يتكلمون عن الرهن أو المراهنة، ويقصدون بها نوعاً من المنافسة أو السباق على شيء، إما على جري أو على أمر من الأمور، والذي يفوز يحصل على الجعل، فيكون فيها نوع من المخاطرة، ولذلك إذا أراد أحدهم أن يقول للآخر شيئاً، يعني: فلان نجح قال الثاني: لا، ما نجح. فيقول الأول: تراهن؟ يعني: أنه قد نجح فعلاً.
فهذا المعنى الذي هو الرهن بهذا المصطلح ليس له علاقة بالموضوع الذي نتحدث عنه، هو مادة أخرى، وإنما المقصود بالرهن عندنا المعنى الأول الذي هو الشيء الثابت اللازم الباقي المحبوس.
وهذا المعنى واضح، يعني: لو أنك أتيت لي لتشتري مني سيارتي وأنا لا أعرفك، وأنت لا مال عندك، فتقول: أسدد لك على أقساط شهرية أو سنوية، فأقول: لا بأس، لكن أريد أن ترهنني شيئاً، فتقول: عندي أرض منحة لنفترض أنها في منطقة الضاحي، أو في أي مكان آخر بأربعين ألف ريال ترهنها مقابل تسديد قيمة السيارة، يعني: تأخذ صك الأرض مثلاً أو يكون لك الإمكانية أنه في حالة عدم دفعي لهذه المبالغ المستحقة علي فإنك تأخذ الأرض مقابل هذا المال، فهذا هو معنى الرهن؛ توثقة الدين الذي عليك بالعين -في المثال السابق- العين هي الأرض، بحيث يمكن استيفاء الدين من الأرض، يعني: لو لم تف أنت بالدين تباع عليك الأرض ويستوفى منها الحق، أو نقول: حبس العين بالدين، وكلها معان متقاربة.
الرهن عقد، وهو من عقود التوثيق، بمعنى: أن الإنسان يريد أن يتوثق لحقه وماله ويطمئن عليه لئلا يضيع أو ينكر أو ما أشبه ذلك، فهو من عقود التوثيق.
وهو أيضاً يصح أن يكون من عقود الإرفاق سواء للراهن أو للمرتهن.
أما في القرآن الكريم فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فبين الله سبحانه وتعالى أنه يمكن إذا صار هناك بيع ودين بين اثنين؛ أن يأخذ أحدهما من الآخر رهناً مقابل الدين حتى يطمئن، وأن يقبض هذا الرهن، وسماه الله تعالى رهاناً، والرهان هنا جمع، ولذلك قال: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، ما قال: فرهن مقبوض، فهذا دليل من القرآن الكريم على الرهن، ولذلك أخذ العلماء من هذه الآية الإجماع على جواز الرهن في السفر؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر السفر: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا [البقرة:283].
وهل يجوز الرهن في الحضر؟ يعني: هل هو مخصوص بالسفر؟ لا. يجوز الرهن في الحضر أيضاً، وإنما ذكر الله تعالى السفر في الآية لماذا؟ لأن الناس في السفر غالباً لا يكون عندهم استعداد، أما في الحضر تذهب إلى مكتب أو بقالة أو سوق فتجد عنده أجهزة وعنده ورق وقلم وكتابة وضبط، لكن الناس غالباً في السفر لا تكون عندهم هذه الأشياء فيحتاجون إلى الرهن، وقد لا يتوفر عندهم الكاتب أيضاً، فيكون الرهن حلاً عملياً سريعاً وسهلاً لتوثيق الدين، ولهذا ذكره الله سبحانه وتعالى لحكم الغالب؛ لأن هذا هو الغالب، وإلا فالرهن يجوز في الحضر ويجوز في السفر، ويجوز مع وجود الكاتب ويجوز مع عدم الكاتب أيضاً، وقد خالف في ذلك مجاهد وبعض الظاهرية كـداود الظاهري، فرأوا أنه لا يجوز الرهن إلا في السفر اعتماداً على ظاهر النص، وهذا القول ضعيف بل ترده النصوص الأخرى.
إذاً: الدليل الأول على جواز الرهن هو القرآن الكريم.
الدليل الثاني: السنة النبوية، والأحاديث في هذا كثيرة جداً، على سبيل المثال ذكرنا أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي.
إذاً نقول: من الأدلة على جواز الرهن ما في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي على شعير أو طعام اشتراه لأهله )، إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر أو في حضر؟ كان في حضر، والكاتب موجود أيضاً في المدينة المنورة، واليهود أهل كتاب وكتابة، ولذلك كان الشاعر يقول:
كما خُط الكتاب بكف يوماً يهوديٍ يقارب أو يزيلُ
ومع ذلك أجرى النبي صلى الله عليه وسلم الرهن فدل على جوازه.
وهكذا أيضاً جاء في السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً ).
وعلى كل حال الإجماع كما ذكرنا قائم على جواز الرهن جملة، ولكن الرهن ليس بواجب، يعني: هو جائز، فبإمكان الإنسان مثلاً أن يجري عقد بيع دون رهن، بل وبإمكانه أن يجري عقد بيع دون كتابة، مع أن الله تعالى يقول: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282] فهذا يدل على الاستحباب، وهو مذهب الجمهور والأئمة الأربعة، إنما لو لم يكتب الإنسان فليس عليه في ذلك شيء؛ لأن المقصود حفظ ماله، فإذا كان هناك ثقة موجودة أو متبادلة أو ما أشبه ذلك، فليس على الإنسان في ذلك حرج.
الفائدة الأولى: حفظ حقوق الناس في كل الظروف، ربما نحن الآن في عصر الكمبيوتر والكتابة والاتصال والضبط قد لا نتصور تنوع حاجات الناس، تخيل حاجة الناس في أمصار أخرى ومناطق أو في أزمنة أخرى لم يكن عندهم هذا الإمكان، فكان الرهن هو أكثر الطرق تيسراً لحفظ الحقوق وضبط الأموال. هذا أولاً.
من فوائده ثانياً: تسهيل التعامل بين الناس؛ قد تأتيني أنت تطلب مني قرضاً -لا نريد أن نقول ديناً بزيادة- قرضاً حسناً إلى أجل، في هذه الحالة ربما أعطيك القرض؛ لكن ما الذي يضمن لي حقي، قد يضيع علي إما بإفلاسك أو بمماطلة أو بتغير أحوالك أو بأي شيء آخر، فلابد أن يكون هناك شيء يشجعني على إقراضك أو على التعامل معك، حتى لو لم يكن قرض .. بيع، لكن أنت محتاج للبيع؛ تريد أن تضارب، تريد أن تبني نفسك مادياً واقتصادياً؛ ففي هذه الحالة عندما يكون هناك الرهن -أرهنك سيارة أو أرهنك أرضاً أو أرهنك عقاراً أو ما أشبه ذلك- فهذا يشجع ويسهل المعاملة بين الناس.
نضرب لذلك بعض الأمثلة: هل يمكن لواحد أن يرهنك نفسه، يقول: أنا أرهن نفسي؟ لا. تقول: ماذا أصنع بك، لا يباع هذا الإنسان.
كذلك أم الولد كما يقولون، لما كان الناس عندهم عبيد أرقاء، إذا ولدت الجارية من سيدها أصبحت أم ولد لا تباع، فهي أيضاً لا ترهن، لا يجوز رهنها.
وكذلك الأشياء المحرمة: هل يجوز أن يرهنك خنزيراً -مثلاً- أو خمراً أو غيره من الأعيان المحرمة أو النجسة التي لا يجوز تعاطيها وبيعها؟
لا يجوز رهنها، لماذا؟ لأنها لا تباع ولا يستفاد منها.
إذاً: لابد أن تكون العين المرهونة مما يجوز بيعه؛ لأن المقصود من الرهن أصلاً هو استيفاء الثمن في حالة عدم السداد، في حالة أن تماطل -مثلاً- أو لا تسدد أبيع الرهن وأستوفي حقي، فإذا لم تكن قابلة للبيع فلا فائدة حينئذ من الرهن.
وهذا يقودنا إلى التعرف أكثر وأكثر على شروط العين المرهونة، أي: الشيء الذي سوف ترهنه لي: ترهن أرضاً أو سيارة.. أو أي شيء آخر مقابل ديني الذي في ذمتك، لابد أن يتوفر فيه شروط.
طبعاً المصنف ذكر ضابطاً معيناً، وهو أن يكون مما يجوز بيعه، وهذا ضابط جيد، لكن نحن نعطي بعض التفصيل.
كذلك إذا قلنا: إنه لابد أن يكون الرهن عيناً، فهنا لا يجوز رهن المنفعة، مثل رهن الإجارة مثلاً أو غيرها؛ لأنه لا يمكن بيعها أو تحصيلها، والأصل في هذا قول الله سبحانه وتعالى: فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فإن قوله: مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283] يدل على أنها شيء يقبض ويؤخذ.
إذاً: الأشياء التي لا يمكن قبضها أيضاً، أو الغير مقدور على تسليمها لا تصلح رهناً، فلا يمكن أن أرهنك مثلاً سيارتي المسروقة، أو أرهنك سمكاً في البحر أو طيراً في الهواء، أو مالاً قد تلف وضاع ولا أدري أين هو، هذه الأشياء كلها غير مقدور على تسليمها ولا على قبضها ولا على بيعها ولهذا لا يجوز رهنها.
يعني: فلا يرهن الحر مثلاً ولا أم الولد، ولا ترهن الأشياء المحرمة كالخمر والخنزير، ولا الأشياء النجسة التي لا يستفاد منها كالميتة مثلاً، ولا يرهن المعدوم، أرهنك مثلاً الحمل الذي سيوجد في بطن ناقتي، هذا شيء غير موجود، وبالتالي لا يمكن بيعه ولا رهنه.
فلا يجوز رهن المجهول، مثلاً: لما طلبت مني الرهن, قلت لك: أُرهنك أو أَرهنك ما في هذا الكيس وأنت لا تدري، قد يكون في هذا الكيس يواقيت، ذهب، فضة، دنانير، قد يكون فيه تراب، أو مثلاً: ما في هذه الغرفة وأنت لا تعرف ما في وسطها، فهذا غرر كبير يترتب عليه خصومات ومشاكل، فلا يقع الرهن إلا على أشياء معلومة.
طيب هنا سؤال ونحن نتكلم عن الأشياء المعلومة: هل يجوز رهن المشاع؟ مثلاً هذه القطعة من الأرض لي فيها مبلغ معين من الأمتار غير محدد -وغير المحدد لا يمكن قبضه- فهل يجوز رهنها أو لا يجوز؟ لا يجوز؛ لأنه لا يمكن قبضها، هذا القول الأول، والقول الثاني يجوز في هذه الحالة رهنها؛ لأنها مقدور على تحديدها وعلى ضبطها وعلى إزالة الشيوع فيها، كونها مشاعة وتحديدها وبيعها .. إلى غير ذلك من الأشياء.
فالفقهاء مختلفون في رهن المشاع، والذي نختاره أنه يجوز رهن المشاع كغيره.
مثلما ذكرنا: العبد الآبق -مثلاً- أو الطير في الهواء أو السمك أو المال الضائع لا يجوز رهنه؛ لأنه غير مقدور عليه.
إذاً قول المصنف رحمه الله: (أن ما جاز بيعه جاز رهنه وما لا فلا)، يعني: ما لا يجوز بيعه فلا يجوز رهنه.
نقول: القبض هو وضع اليد على الشيء أو حيازته مثلاً الآن الكتاب هذا عندي ملكي وفي يدي وقبضتي، بالنسبة لك قبضه أن تأخذه، ولا هو بلازم أن تأخذه بيدك، لكن عندما أضع الكتاب أمامك وأقول: تفضل الكتاب لك، فهذا نوع من الحيازة؛ لأنني خليت بينك وبينه وأذنت لك باستلامه.
إذاً معنى القبض: هو وضع اليد على الشيء أو حيازة الشيء.
هل ورد في الشرع تحديد دقيق ومعين لمعنى القبض؟
نقول: لم يرد في الشرع شيء لا في القرآن ولا في السنة، لم يرد تحديد دقيق لكلمة القبض ولمعنى القبض.
ولذلك المصنف رحمه الله هنا قال عن قبض الدين: [ نقله إن كان منقولاً والتخلية فيما سواه ]، نقل الدين إن كان منقولاً، الدين المنقول مثل سيارة؛ لأنه يمكن أن تنتقل من شخص إلى آخر ومن مكان إلى آخر، مثل الثوب، مثل قطعة الذهب، مثل الكتاب.. هذه الأشياء منقولة يعني: تنتقل، ولذلك المصنف يقول: قبضها بنقلها.
والقسم الثاني: ما ليس بمنقول، فهذا المصنف يقول: قبضه بالتخلية، مثل الأرض أو الدار، هل يمكن أني أنقل الأرض إلى مكان أو موقع آخر؟ لا. فيقول: القبض هنا هو التخلية، يعني: أن نعطيك المفاتيح مثلاً وأخلي بينك وبينها، وليس بالضرورة أن أعطيك المفاتيح، ممكن أعطيك شيئاً آخر، وهو الصك الذي بموجبه أتملك الأرض، لكن هنا لابد أن يكون الصك مهمشاً عليه -كما يقال- لأنه ممكن أن يصير أي ادعاء أن هذا الصك سرقه فلان أو أخذه، فلابد أن يكون هناك في الصك أو في أصل العقد ما يدل على أن هذه الأرض أو هذه المزرعة أو هذا البيت مرهون لفلان مقابل دين له في ذمته.
إذاً المصنف رحمه الله قسم الأشياء إلى قسمين: المنقولات واعتبر أن قبضها يكون بنقلها، وغير المنقولات واعتبر أن قبضها يكون بالتخلية بينك وبينها، مثل الأرض والمزرعة والثمار وغيرها.
ولهذا نقول: إن المرد في تحديد القبض في الرهن، كيف قبضه وهل قبضه؟! المرد في ذلك يرجع إلى العرف، فالناس اليوم تعارفوا على أن صك الأرض عندي يعتبر قبضاً للرهن، حتى لو كان المالك ساكناً في البيت ويعمر البيت أو يزرع البيت ما يضر، وتعارفوا على أن السيارة عندما تكون مكتوبة باسمي, أو لم يتم نقلها أن هذا يعتبر من أقوى الضمانات والرهون.
فإذاً: نقول: إن القبض في الرهن يعتمد على العرف، والعرف يختلف من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان.
وبناء عليه نقول: يجوز أن يكون الرهن عند المرتهن، والمرتهن هو صاحب الدين الذي له الحق، يسمى مرتهناً، ويجوز أن يكون أيضاً عند طرف ثالث، والفقهاء يسمونه أحياناً (العدل)، يعني: شخص مأمون موثوق معتدل مضمون، فأقول أنا: لا أريد أن يكون الرهن مقبوضاً عندي، سبحان الله! أخشى أن يتلف أو يضيع، أو لا يوجد عندي إمكانيات، أو لا يوجد عندي مستودعات، ولذلك أتفق معك على أن نضع الرهن عند طرف ثالث. هذا أيضاً جائز.
إذاً: يمكن أن يكون الرهن عندي ويمكن أن يكون عند وكيلي أو الأمين الذي فوضته، ويمكن أن يكون عند شخص ثالث وسيط عدل يقوم بحفظ الرهن ورعايته.
لازم نفصل، نقول: ليس عليه شيء إلا أن يتعدى أو يفرط، هذا بالنسبة للعدل الوسيط، ضاع عنده الرهن أو تلف أو سرق أو احترق.. نقول: ليس على العدل؛ لأنه محسن فقط وليس له علاقة في الموضوع، والله سبحانه وتعالى يقول: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، يعني هو فقط فتح مستودعاته ووضع فيها الأشياء التي تريدون، فكان قصده الإحسان إليك وإلى الطرف الثاني، ولذلك نقول: ليس عليه شيء إلا إذا تعدى أو فرط، ففي حالة ما إذا تعدى أو استخدمه بطريقة غير صحيحة، أو فرط أو أهمل فترك الأبواب مفتوحة، أو مثلاً كان هناك مثلاً مواطير ومكاين وحملها حمولة شديدة جداً، وترتب عليها احتراق أو ما شابه ذلك؛ من الأشياء التي حصل بموجبها فساد وضياع للرهن بسبب تعد أو تفريط من الشخص العدل الذي استلم، ففي هذه الحالة نقول: إنه يضمن، حتى صاحب الأمانة إذا ضيع أو فرط يضمن، إنما الأصل أنه لا ضمان عليه إلا إذا تعدى أو فرط، وهذا لا إشكال فيه باتفاق الفقهاء أنه لا يضمن إلا إن فرط.
طيب! انتهينا من العدل الآن، العدل ما عليه شيء؛ لأنه ما فرط ولا تعدى.
طيب! هذا المال الذي ضاع احترق أو فسد أو ضاع أو مات أو سرق وتبين أنه ليس على العدل منه شيء، ضاع على من؟ هل ضاع على مالكه الأصلي الذي هو الراهن؟ أو على صاحب الدين الذي هو المرتهن؟
هذه المسألة فيها خلاف بين الفقهاء، فالجمهور من أهل العلم يرون أنه ضاع على الراهن، يعني على مالكه مادام لم يكن هناك تفريط، بخلاف الحنفية فإنهم يرون أنه ضاع على المرتهن صاحب الدين، والقول الأول هو الراجح؛ أن الرهن الذي ضاع الآن في يد العدل من غير تفريط ولا تعد ضياعه على مالكه الأصلي الذي عليه الدين؛ لأنه ضاع عند هذا الإنسان مثلما يضيع عندك، احترق في مستودعات فلان مثلما كان يمكن أن يحترق في مستودعاتك أنت، ولا تطالب أحداً به. طيب هذه الآن تقريباً الحالة الأولى.
إذا كان الرهن عند المرتهن الذي له الحق أخذه منك ضماناً وتوثيقاً لدينه، ورمى به وأهمله وضيعه، ولم يجعل مثلاً مع الإبل أو الغنم راعياً، ولا جعل على هذه الأجهزة عناية وصيانة، ولا جعل على هذه المزرعة متابعة، فتلفت وفسدت بإهماله هو أو تعديه أو جنايته، فإنه يضمن بالاتفاق أيضاً، وهذه لا إشكال فيها.
إذاً: المسألة الأولى أن العدل إذا لم يفرط فلا ضمان عليه. انتهينا منها.
المسألة الثانية: أن المرتهن الذي عنده الرهن إذا تعدى أو أهمل أو فرط فعليه الضمان. هاتان المسألتان بالاتفاق.
هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال للفقهاء:
القول الأول: أن المرتهن الذي ضاع عنده الرهن أو احترق أو تلف أنه يضمنه مطلقاً، يعني: أياً كان نوع الرهن، قد يكون من الأشياء الظاهرة مثل الإبل، مثل السيارات المركوبة، أو كان شيئاً خفياً كذهب أو سفينة بحر أو ما أشبه ذلك من الرهون الخفية الغامضة.
فالقول الأول قول الحنفية: أنهم يقولون: إنه يضمن مطلقاً الرهن الظاهر والرهن الخفي، قالوا: لأن الرهن ليس بأمانة حتى نفرق، ولذلك يجب ضمانه، واستدلوا على أن الرهن ليس بأمانة بقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]، قالوا: هذا عطف وهو يقتضي المغايرة وأن الرهن ليس أمانة وليس حكمه حكمها، ولذلك يجب ضمانه على المرتهن.
كما استدلوا أيضاً بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً رهن فرساً في مال له فنفقت هذه الفرس -هلكت-, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب حقك )، يعني: كأن هذه الفرس التي هلكت ذهبت من ماله، وهذا ذكره أبو داود في مراسيله وهو ضعيف لا يحتج فيه.
إذاً: هذا هو القول الأول أنه يضمن مطلقاً، وهو قول أبي حنيفة .
القول الثاني: أنه لا يضمن مطلقاً، يعني: سواء كان الرهن ظاهراً مثلما قلت لك: سيارة مثلاً، أو دابة أو شيئاً واضحاً يعرف الناس أنه تلف أو ما تلف، أو كان الرهن خفياً لا يعرف الناس هل تلف أو لم يتلف، وهم أصلاً فرقوا بين الظاهر والخفي من منطلق أن بعض الناس قد يدعي التلف وهو لم يحصل، ويتحجج ببعض الأشياء في أمور لا يمكن إثابتها، فهذا سبب تفريقهم بين الرهن الظاهر والرهن الخفي.
فالقول الثاني إذاً: أنه لا ضمان على المرتهن مادام لم يفرط، يعني: أنا أدلي بحجتي ودعواي وقد نفقت دابتك عندي -فرسك أو بعيرك- مقابل الدين، فأقول لك: لم أقصر، وأنا أعترف به، وجعلتها مع إبلي ومع دوابي، وهناك عناية وطعام ومراقبة جيدة وشراب.. إلى غير ذلك، لم يكن هناك تقصير، لكنها تلفت بغير فعلي واختياري، فبأي شيء تأخذني أو تأخذ مالي وتستحل مالي، وكان من الممكن أن يقع هذا في بيتك وفي ملكيتك، فعلى هذا أنه لا يضمن مطلقاً، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة والظاهرية كـابن حزم وجماعة من أئمة السلف.
فعلى هذا: الرهن عندهم يعامل معاملة الأمانة، لو أمنت إنساناً شيئاً وتلف بغير تفريط فإنه ليس عليه ضمان، فالرهن عندهم أمانة، والدليل عندهم على أنه لا ضمان, أولاً: أن الله سبحانه وتعالى جعل الرهن في القرآن عوضاً عن الكتابة: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [البقرة:283]، فقالوا: هذا مثلما لو تلفت ورقة الكتابة.. تلف الرهن، فأنا ليس علي شيء ولا يذهب حقي، هل لو تلفت ورقة الكتابة يذهب حقي؟ لا. الحق عليه شهود وعليه إثبات، وأنت مسئول عنه في الدنيا والآخرة، فهذا من أدلتهم.
وأيضاً استدلوا بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه مالك والشافعي وغيرهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يغلق الرهن على صاحبه، له غنمه وعليه غرمه )، ومعنى (لا يغلق الرهن على صاحبه) يعني: لا يذهب أو لا يسقط الحق بفوات أو بضياع الرهن، وهذا الحديث وإن كان في سنده مقال إلا أنه صححه جماعة من أهل العلم؛ كـابن عبد البر وعبد الحق الإشبيلي والحاكم قد رواه في مستدركه وقال: صحيح على شرطهما.
إذاً القول الثاني: أن الرهن لا يضمن مطلقاً ما لم يقع تفريط فيعامل معاملة الأمانة، وهذا كما قلت: للشافعية والحنابلة والظاهرية.
القول الثالث: التفصيل، والتفصيل هنا هو في التفريق بين الرهن الظاهر البين والرهن الخفي، فإن كان مما يخفى هلاكه مثل الثياب والحلي والسفينة في البحر ونحوها فهذا يضمن؛ لأنه قد يدعي أنه تلف وهو قام بإتلافه أو بيعه أو ما أشبه ذلك، أو وقع منه تفريط شديد ولم يتبين، وإن كان مما لا يخفى مثل السيارة أو غيرها فهذا لا يضمن؛ لأنه إن كان حصل منه تفريط فسوف يكون واضحاً وجه التفريط، وإن لم يحصل منه تفريط فليس عليه ضمان كما ذكرنا.
طبعاً بالنسبة للقول الثاني ربما من أدلتهم: حديث سمرة بن جندب عند أحمد وأهل السنن؛ من رواية الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( على اليد ما أخذت حتى تؤديه )، وهذا الحديث فيه مقال؛ لأنه وإن كان صححه الترمذي وغيره، إلا أنه من رواية الحسن البصري عن سمرة بن جندب، وقد اختلف المحدثون فقال بعضهم: سمع منه، وقال بعضهم: لم يسمع منه، وقال آخرون أو توسطوا فقالوا: إنه سمع منه أحاديث معدودة كحديث العقيقة وغيره، فالحديث فيه ضعف؛ لأنه من طريق الحسن عن سمرة فالأقرب أنه مرسل، وكأنهم حملوا هذا على الوقت الذي يمكن أن يخفى، كما أنهم استحسنوا أن التهمة يمكن أن تلحق الذي في يده الرهن وفي قبضته في المال الخفي؛ لاحتمال عدم الصدق.
والقول بعدم الضمان مطلقاً -وهو القول الأوسط- هو الأجود إذا لم يقع منه تعد ولا تفريط.
هذه بعض المسائل المتعلقة في موضوع الرهن، وإن شاء الله في الأسبوع القادم نكمل الباب.
الجواب: هل يمكن بيعها؟ لا. إذاً: لا يجوز رهنها.
طيب، لكن في مانع أنك تعطيه البطاقة أو رخصة القيادة من باب التوثيق؟ هذا أشبه بالكفالة، يعني: الكفيل الحضوري، فأنت عندما تعطيه البطاقة لابد أن ترجع إليه لأخذها، وهكذا رخصة القيادة، فهذا لا يسمى رهناً ولكنه جائز.
الجواب: والله أفضل شرح: شرح ابن تيمية، لكنه لم يكمل.
الجواب: رهن المنفعة إذا كان المقصود رهن الأجرة فهذا جائز، إما أن نقول: إنه رهن عين إن كانت موجودة، أو نقول: إنه رهن دين وهو مضمون.
الجواب: بالنسبة لدراسة القانون يعتمد الأمر.. طبعاً كلمة (القانون) كلمة مخيفة عندنا؛ لأن الناس كلهم ظنوا أو سبق إلى أذهانهم أن القانون هو نقيض الشريعة، بينما قد تكون كلمة قانون أحياناً كذلك، وقد تكون معناها النظام، نظام مرور، نظام إداري بحت لا يتعلق بمعارضة للشرع، ما يتعلق بالقوانين الوضعية التي تنظم حياة الناس؛ من القوانين الأوروبية الفرنسية وغيرها، فدراستها تحتمل الجواز وعدمه، فإن كان مقصود الإنسان بالدراسة التعرف عليها ومعرفة ما يوافق الشريعة وما لا يوافقها، ومعرفة جوانب الخلل والنقص فيها، ومعرفة الجوانب المباحة التي يمكن الاستفادة منها فهذا جائز، أما إن درسها الإنسان ليطبقها ويعمل بها ويكون قاضياً -مثلاً- أو محامياً بموجب هذه القوانين الوضعية المعارضة للشريعة فهذا لا يجوز.
الجواب: لا، وإنما تطالبه بذلك، وإذا لم يستجب لك بإمكانك أن ترفع أمرك إلى القضاء.
الجواب: والله إذا كانت واضحة يراها الناس ويعرفونها، وأنت تنزل في سعرها، فإذا افترضنا عندك مثلاً بعض الخضار أو الفواكه، تقول: هذا بثلاثين وهذا بعشرين فتفاوت السعر، وهذا واضح يعني يراه الناس من غير ما تتعمد إخفاء الأمر أنه هذا مثلاً ذابل بعض الشيء، فليس يلزمك إلا أن يسألك فتقول له: هذا من أمس وهذا من اليوم.
الجواب: بعضهم اعتبروا أو وصفوه على أنه من الرهن، وبعضهم ذكروا صيغاً أخرى، وقد سبق أن تكلمنا في هذا، وكتبت فيه بحثاً يمكن للأخ مراجعته.
الجواب: هذه إجارة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر