إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة الخميس الثاني والعشرين من شهر صفر من سنة 1424هـ، ودرس عمدة الفقه كالمعتاد، وعندنا اليوم الإجهاز إن شاء الله تعالى على باب أحكام الدين, حيث في الجلسة الماضية شرحنا عدداً من التقاسيم المتعلقة بأحكام الدين، وقبل أن نبدأ بهذا الباب عندنا موضوعان صغيران:
الأول: موضوع هذا السؤال الذي كتبه أحد الإخوة، وكتبه بالقلم الأحمر؛ علامة على الخطورة طبعاً، فهو خلاصته يقول: كنا جالسين اليوم الصباح مع مجموعة من الإخوة وتكلموا عمن لم يكفر الكافر فهو كافر، فأبى بعضهم تكفير بعض العلمانيين الموجودين، ولهم آراء في تمجيد حزب البعث إلى آخره, وقال: من لم يكفر الكافر فهو كافر، يعني: رد عليه شخص آخر, وتراشقوا بألفاظ التكفير صباح هذا اليوم.
حقيقة هذه فتنة قاتلة، قضية الولع بالتكفير, وكأننا إذا كفرنا صنعنا شيئاً، هب أنك كفرت الخلق كلهم، كان ماذا؟ المطلوب الدعوة .. المطلوب البيان .. البلاغ .. الحجة .. تطبيق الإسلام في الواقع .. مدافعة الأعداء, أما مجرد التراشق بألفاظ التكفير من أناس ربما ليسوا من أهل العلم، فهذا خطر كبير، وبعض الناس يظن أن هذه أمور لابد منها، وأنه لازم إما أن تكفر أو تصبح كافراً! هذا أيضاً نوع من الإرهاب الفكري، طيب أنا جاهل لازم أكفر؟ لا أعرف حال هذا الشخص، أنت تدعي أنه قال كذا وقال كذا وقال كذا، لكني لم أطلع على هذا، يلزمني أن أطلع وأحكم عليه؟ هل أنا قاض مثلاً حتى يلزمني أن أنظر في هذه القضية بخصوصها وعينها وذاتها؟
والله قضية التكفير تترتب عليها نتائج وخيمة في الدنيا والآخرة على الشخص المكفِّر، وعلى الشخص المكفَّر، وليس من السهولة أن يقال: فلان كافر .
وطبعاً الكلام هذا فيمن أصله الإسلام، يعني: واحد يشهد أن لا إله إلا الله ويشهد أن محمداً رسول الله، وقد يكون من المقيمين للصلاة، ولكن وقع له نوع كلام فيه شبهة وفيه ظن وفيه احتمال، أو كلام ضلال لكنه لا يصل إلى الكفر، أو كلام له أكثر من وجه، ففي مثل هذه الحالة لا ينطبق الكلام في قضية من لم يكفر الكافر، وإنما نقول: من لم يكفر الكافر الأصلي فهو كافر، أو من لم يكفر الكافر المرتد بالإجماع فهو كافر , يعني: واحد قال لك: اليهودي أو النصراني ليس بكافر، وإنما هم مسلمون مثل أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم يدخلون الجنة، ولو أصروا على كفرهم! هذا لا شك أنه كفر؛ لأنه مناقضة لأصل رسالة الإسلام، ونسخ الأديان السابقة، كذلك لو أن إنساناً وقع في كفر بواح صراح بإجماع العلماء, ثم أصر أحد على عدم تكفيره مع وجود الحجة وقيامها، نقول هذا أيضاً يكفر؛ لأنه خالف أموراً قطعية ضرورية من الدين.
أما القضية التي فيها احتمال وفيها لبس فهذا أمر ينبغي أن يكون فيه ورع, ما دام شخص أصله الإسلام، يكفيني أن أذكر لكم يا إخوة! ابن القيم رحمه الله، وهو من أئمة أهل السنة، في كتابه أحكام أهل الذمة تكلم حتى عن من لم يدخل في دين الإسلام ولم تقم عليه الحجة ولم تبلغه الرسالة، ونازع في كونه يطلق عليه لفظ الكافر، وقال: إنما الكافر من بلغته الحجة ثم أصر على تركها. وهذا كلام موجود, وأنا نقلته في بعض أجوبتي بالنص، طبعاً ذكر هذا ضمن جدل وضمن حوار.
ونحن نرى ونقول: إن الناس في القرآن على ثلاثة أقسام: إما مسلم، أو كافر، أو منافق, والمنافق ظاهره مسلم، في الظاهر حكمه حكم المسلم، وباطنه في الدرك الأسفل من النار، فليس هناك شخص نقول: موقوف ليس بكافر ولا مسلم؛ لأنه لم تبلغه الحجة، حتى من لم تبلغه الحجة فالراجح عندنا أنه يطلق عليه الكفر في الدنيا وإن كان أمره في الآخرة إلى الله، لا يلزم أن يكون من أهل النار.
فالمقصود أن هذه المسائل يقع فيها لبس، ويقع فيها غموض، وتوقع تورط بعض الشباب في الحكم والكلام خصوصاً في موضوع الأشخاص وهو لا يعرف، أحياناً ربما يبني على كلام سمعه من بعض من يثق به، وإذا حررت وحققت معه، قال: والله أنا لا أدري سمعت أحداً يقول كذا، أو وجدت ورقة فيها كذا وكذا. طيب, هل أنت ملزم بأن تتكلم في مثل هذه القضايا؟
أو تقول: والله أنا ليس عندي خبر، لست متأكداً، يعني: مثلاً قد تنقل عن فلان من الناس أنه يقول كلمة كفرية، طيب، هل سمعته؟ قال لك: لا, والله ما سمعته، طيب, قرأت هذه الكلمة بخط يده؟ قال: لا، قرأتها منسوبة إليه في وسيلة إعلامية رسمية, وأنه أقر ذلك ولم ينفه؟ قال لك: لا، ولكني وجدتها في بعض المواقع في الإنترنت، أو وجدتها في مقال منسوب إلى شخص آخر ينسب إلى مثل هذا, مما قد يقع في شيء من اللبس، فهنا لا يضر الإنسان أبداً أن يقول: أنا لا أحكم على فلان، وإنما الفعل أقول: هذا الفعل كفر، أو أقول: هذا القول كفر. نعم. لكن أن أحكم على فلان بأنه كافر لأنه فعل كذا أو لأنه قال كذا، هذه مرحلة أخرى .. مرحلة متطورة تتطلب وعياً، وتتطلب يقظة، وتتطلب علماً, وزوال الموانع وتوفر الشروط والتأكد والتحقق، فإذا حصل للإنسان التأكد والتحقق فنعم. وإذا صار عنده أدنى التباس ولو بنسبة 1% فينبغي .. بل يجب عليه شرعاً أن يكف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من قال لأخيه: يا كافر! فإن كان كذلك وإلا حار عليه ). معناه أنه إذا وجد أدنى أدنى أدنى مجال للاحتمال، فإن الواجب والحقيق والورع بالمسلم هو الكف عن التكفير فيمن هو مسلم أصلاً.
أنا ذكرت لكم سابقاً, يعني: اقرءوا سيرة النبي صلى الله عليه وسلم .. أبي بكر .. عمر .. عثمان .. علي , كم كفّروا ممن يدعي الإسلام؟ عندهم في عصرهم ما كان فيه منافقين؟ ما كان فيه كفار؟ ما كان فيه مرتدون؟ ما كان فيه مشركون؟ يعني: يتظاهرون بالإسلام وقد يبطنون غيره، أو يدخل في الإسلام وقد يخالف إلى غيره؟
طيب. في عهد الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد ؟ في عهد ابن تيمية وابن القيم ؟ في عهد أئمة الإسلام؟ هات، أعطني قائمة بعدد الأشخاص الذين كفّروهم؟ فلان كافر، وفلان كافر، وفلان كافر. تجد هذا نادراً، حتى تجد مثل الإمام ابن تيمية رحمه الله عنده من هذه الكتب الكم الهائل من المؤلفات والمصنفات، اسحب وتابع واسرد أسماء الناس الذين كفرهم ابن تيمية قولاً واحداً؟ ربما لا تجد إلا واحداً أو اثنين، وحتى كلامه فيهم يكون فيه نوع من الاضطراب والاختلاف في موضع عن موضع آخر, مما يدل على أن القضية هذه ليست مما تطمح إليه أبصار العقلاء.
فأقول: إنه كثيراً ما نذكر نحن الخلاف، ومقصودي في الواقع من ذكر الخلاف؛ هو تربية الطالب على سعة النظر والمدارك؛ بحيث يدري أن المسألة فيها أقوال، ويعرف أن هناك من العلماء من عنده ورع ويقول بهذا القول، وعالم آخر عنده ورع ويقول بقول نقيضه, لأن تربية الطالب أحياناً على القول الواحد تولد عنده التعصب، ونحن نرى هذا اليوم في مدارسنا العلمية والفقهية ومجتمعاتنا الخاصة، خصوصاً في المملكة هنا، هناك تعصب, وهناك نوع من الولع بالخلاف والشدة والقسوة فيمن يختلفون معك، وقد تكون مسألة فرعية أو فقهية, أو لا يوجد فيها قول للأئمة المتقدمين, ولا نص من كتاب ولا سنة، ومع ذلك قد تكبر وتصغر، وتطول وتقصر، وتقرب وتبعد، ويترتب عليها انشطار أحياناً، واستحلال أعراض، وقيل وقال, والمسألة لا تستاهل كل هذا، والسبب ما هو؟ أننا تربينا على أنه مسألة واحدة، وقول واحد، وفتوى واحدة، وأن المخالفة فيها نقض لأصل الدين.
بينما تربي الطالب على أن العلماء اختلفوا في هذه المسائل، مع أن فيها نصوصاً شرعية أحياناً من قرآن أو سنة، وذكرنا لكم في الجلسة الماضية آية الدين مثلاً، وما فيها من التوكيد الظاهر القوي على وجوب كتابة الدين كما يدل في ظاهر الآية، وتوثيقه والرهن، ومع ذلك ذكرنا أن مذهب الجمهور بما فيهم الأئمة الأربعة عدم وجوب ذلك، حتى يتعلم الطالب أن العلماء والفقهاء يجتهدون، فينظرون إلى النص من زاوية، وينظر غيرهم من زاوية أخرى، ولا حرج أن يأخذ الإنسان بما يبدو له من الأقوال التي يرى أنها أقوى، لكن لا يجيء ليقول: الكتاب والسنة، ويظن أنه هو الكتاب والسنة، حظ الناس من الكتاب والسنة مثل حظك أو أكثر يمكن، وغيرتهم على الدين مثل غيرتك أو أشد، وسعة عقولهم مثل عقلك أو أقوى، فما هو الذي يجعلك تظن أن عندك, وإخلاصهم يفترض أن عندهم من الإخلاص مثل ما عندك، لا تعتقد أنك أجدر منهم بإخلاص ولا بعلم ولا بعقل ولا. إذاً: أنت قصاراك أن تكون كواحد منهم.
إذاً: المقصود من ذكر الأقوال هو هذا المعنى أولاً، وهذا معنى تربوي أرى أنه مهم جداً في هذه المرحلة, خصوصاً الآن انفتحت وسائل الإعلام، والقنوات الفضائية, وغيرها، وصار الناس يسمعون أقوالاً مختلفة جداً، فأصبح هناك حاجة إلى نوع من الضبط الفقهي، وفي نفس الوقت ألا يكون العبرة بالقول هو كونه مألوفاً فقط. هذا جانب.
الجانب الثاني طبعاً: هو معرفة الأقوال من باب العلم، ولا شك أن هذا علم طيب، والإنسان ما لم يعرف أقوال الفقهاء والعلماء, فإنه لا يستطيع أن يمتلك ملكة فقهية في الاستنباط والمعرفة وغير ذلك.
فإذا كان قادراً على فهم الأقوال وضبطها فهذا شيء جيد، إن لم يكن فعليه أن يكتب ولو رءوس الأقلام من المسائل؛ لأنه مع تكرار السماع والكتابة ترسخ في ذهنه المسائل الكبار ولو ضاعت المسائل الصغار، وإن كنت أقول: إن فهم الكتاب وفهم السنة في الجملة أولى من الانشغال الكبير بتدوين الأقوال وحفظها وضبطها، إلا لمن كان من الناهين أو المنتهين.
إذا كان الدين مؤجلاً فإن المدين لا يطالب به إلا إذا حل الأجل، سواء كان الأجل يحل دفعة واحدة أو كان تقسيطاً على فترات، مثل ما تجد الآن في البنوك وشركات التقسيط, أنهم يجعلون على المدين كل شهر أجلاً أو قسطاً يحل عليه، فلا يطالب بالمزيد.
لكن لو وجد نوع من الشرط أنك إذا أخرت سداد دين, أو قسط هذا الشهر يحل عليك معه القسط الذي بعده، هذا يجوز أو ما يجوز؟
هذا ما فيه زيادة مال، بحيث نقول: إنه ربا، وإنما فيه إلغاء الأجل عن شهر معين، يعني: إذا تأخرت في سداد الدين شهراً واحداً، يقال: يحل عليك هو والشهر الذي بعده، فيتقدم الشهر الآخر من غير أن يكون فيه زيادة في المال، فهذا الأقرب أنه جائز، وفيما سوى ذلك فإن الدين لا يحل قبل أجله.
أما بالنسبة للتفليس فهو مثلما نقول: إشهار إفلاس، أن فلاناً أو الشركة الفلانية قد أفلست فيعلن ذلك؛ حتى يتجنب الناس التعامل معه والبيع والشراء والوثوق بذمته؛ لأنه مفلس ما عنده شيء، فلا يعلن إفلاس هذا الإنسان من أجل دين لم يحل.
وقالوا أيضاً: لأن الإفلاس لا يوجب حلول الدين الذي لي، لو فرض أن لي عليك يا أبو عبد الله ! دين مثلاً عشرة ملايين ريال، وحصل عندي إفلاس، هذا الدين الذي لي عليك وهو مؤجل لسنتين، هل يحل بسبب إفلاسي؟ ما يحل، يظل مؤجلاً.
فكذلك الدين الذي علي لا يحل أيضاً بسبب الإفلاس، بل يظل قائماً إلى وقت حلول الأجل.
إذاً: الخلاصة أن الأجل حق لي، كون الدين مؤجلاً هذا حق لي، فلا يحل بكونه حصل عندي نوع من الإفلاس, أو ما أشبه ذلك، فلا يوجب حلول الدين.
وأيضاً قالوا: إنه دين على إنسان حي، فلم يحل إلا إلى أجله، وذمته قائمة وباقية. هذا هو القول الأول, وهو الذي اختاره المصنف رحمه الله, وهو الراجح فيما يظهر من سياق أدلته ونظره؛ لأنه كما قلنا: الأجل حق، فلا يسقط هذا الحق بحال من الأحوال.
وفي المسألة قول آخر: أن الدين يحل بالتفليس، يعني: لو عليك دين مائة ألف ريال إلى سنة، ثم أعلن إفلاسك, وأنك لا وثوق الآن في ذمتك ببيع ولا شراء؛ لأنه ليس عندك مال، وتم الحجر على جميع ممتلكاتك, فالقول الثاني هنا يقول: الديون المؤجلة بعد سنة مثلاً، كهذا الدين الذي بعده سنة، تحل الآن ويلغى الأجل، هذا طبعاً رواية في مذهب الإمام أحمد ذكرها أبو الخطاب محفوظ الكلوذاني من الحنابلة المعروفين، وهو قول الإمام مالك، قالوا: يحل الأجل؛ لأن الإفلاس في هذه الحالة - إفلاس الإنسان- يعني: أن ذمته كأنها خربت وأصبحت مثل ذمة الميت لا تتحمل شيئاً، وبالتالي تعلق الدين بالمال ولم يعد الدين متعلقاً بالذمة، الذمة خربانة بالعربي الآن، فلا يتعلق بها دين، وأصبح الدين يتعلق بالأعيان والأموال الموجودة عندك والتي تم الحجر عليها، فلذلك يقولون: يلغى الأجل ويحل الدين.
هذا القول الثاني كما قلت، وهو قول عند الحنابلة ورواية عن الإمام مالك، لكن الراجح هو الأول، أنه يبقى الدين المؤجل مؤجلاً، حتى ولو تم إعلان الإفلاس أو تم تفليس المدين.
معناه: ولا يحل الدين بموت المدين، إذا كان الدين -طبعاً- مؤجلاً، هب أن الدين الآن للبنك العقاري ديون كثيرة تحل بعد أقساط، تحل بعد سنة أو عشر سنوات مثلاً، أو ديون لأحد البنوك اشترى مثلاً أرضاً، أو اشترى سيارة، أو اشترى حديداً، أو اشترى أسهماً من شركة وترتب على ذلك ديون في ذمته ثم مات، وهذه الديون مؤجلة، فهل تحل بموته وتصبح متعلقة بالتركة، أم تبقى في ذمته قائمة؟
أيضاً هذه المسألة فيها خلاف مثل المسألة الأولى.
إذاً: هذا القول يقول: لا يحل الأجل بالموت, بل يبقى مؤجلاً في ذمة الميت، وهم يرون أن الأجل حق, فلا يسقط مثل ما ذكرناه قبل قليل في مسألة إذا أفلس الإنسان، فيقولون: سواء مات أو أفلس فالأجل باق بحاله والدين باق بحاله، والموت لا يبطل الحقوق التي على الإنسان.
ولكن في هذه الحالة طبعاً يكون الدين متعلقاً؛ إما أن يقال: متعلق بالذمة ويكون للورثة، أو نقول وهذا أجود: أن يكون الدين متعلقاً بالتركة، أو متعلقاً بالورثة إذا تقبلوا هم الدين ووافق على ذلك صاحب الدين، فإما أن يكون متعلقاً بالتركة نفسها وما خلفه الميت بعد موته، أو إذا قال الورثة: نحن نتحمل الدين, وقال صاحب الدين: أنا أثق بذممكم وضمائركم، وأوافق على نقل الدين إليكم, فهذا لا شك أنه جائز.
إذاً: هذا هو القول الأول, وهو الذي نختاره أيضاً. مثل ما في المسألة الأولى.
قالوا: لأنه لا يجوز بقاء الدين في ذمة الميت، ذمة الميت قد ذهبت بموته، فلا يجوز بقاء الدين في ذمة الميت، وبقاؤه في ذمة الميت ضرر عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما -يعني- أتي برجل ليصلي عليه وقالوا: عليه دين، فقال: ( صلوا على صاحبكم ). وكذلك في قصة الشهيد لما قال: ( يكفر عني كل شيء؟ قال: نعم، ثم قال: كيف قلت؟ فقال: نعم إلا الدين، أخبرني بذلك جبريل آنفاً ). فقالوا: هذا دليل على الضرر الذي يلحق بذمة الميت بتعلقها بالدين، وهذا قد نقول نحن: إن الدليل هذا نستطيع أن نقلبه أنه دليل على بقاء الدين في ذمة الميت، وإلا لما ترتب عليه هذا الأثر الشرعي, من تأخير الصلاة عليه أو من أنه لا يغفر له حتى يقضى ما عليه.
إذاً: هذا دليلهم أنهم قالوا: إن ذمة الميت لا يصلح أن يتعلق بها الدين المؤجل.
طيب. ذمة الورثة لا يتعلق بها الدين أيضاً؛ لأن الورثة أصلاً ما التزموا بهذا الدين, ولا هم الذين اشتروا ولا باعوا، وأيضاً ربما صاحب الدين لا يقبل ذممهم، يقول: هذه ذمم متفاوتة, هذا غير موثوق، وهذا غير مأمون، وهذا فقير، وهذا غير مليء, فذمم الورثة أيضاً لا يتعلق بها الدين، وربما صاحب الدين أيضاً يتضرر بتأخيره وتأجيله على هذا الدين الذي له، هذان قولان في تعلق الدين بذمة الميت أو الدين المؤجل هل يحل بالموت؟ وذكرنا أن القول الراجح منهما مثله في ذلك مثل الدين على المفلس أو المحجور عليه, أن الأجل يبقى بحاله ويتعلق بالأعيان الموجودة عند المفلس أو بالتركة التي تكون وراء الميت.
قال: [ ولا بموته إذا وثقه الورثة برهن أو كفيل ] في هذه الحالة الورثة يقولون: هذا رهن فارهنه عن مالك مثلاً، أو هذا كفيل موثوق ومليء يمكن أن يسدد الدين، أو يلتزمون هم بذلك ويوافق عليه صاحب الدين, فلا يسقط الأجل بهذا.
إذاً: هذه مسألة الآن أنه إذا كان على الإنسان دين وكثير من الناس يسألون مثلاً، إذا أراد الإنسان أن يحج أو أراد أن يجاهد وعليه دين، أو يسافر وعليه دين، فكيف نقول في سفره؟
دعونا نقول في البداية: إنه ربما يكون غالب كلام الفقهاء عن أسفار طويلة، وأسفار ربما يكون فيها نوع من الخوف والمخاطرة، كما كان في الماضي؛ لأن المسافر يقطع مسافات ويتعرض لقطاع الطريق، وربما لو كان سفره حتى إلى مدينة على مسافة مثلاً: مئات الكيلو مترات يستغرق أياماً ويتعرض للمخاطر في البر إلى غير ذلك، أما عندما يكون السفر الغالب عليه السلامة، والسفر قليل ومتعارف عليه، فمن الصعب جداً أن نذكر كلام الفقهاء في هذه المسألة، أن نقول مثلاً: الذي عليه دين وهو في بريدة لا يسافر مثلاً للرياض، أو عليه دين وهو في مكة لا يخرج إلى جدة , هذا ربما دوامه في جدة أصلاً, وهو مقيم في مكة، أو ربما مثلاً يكون في مدينة ويدرس في مدينة أخرى على مسافة مائة كيلو متر، وهذا قد يعد سفراً عند جمهور أو أكثر الفقهاء.
ففي هذه الحالة ينبغي أن نقول: إنه ربما يكون كلام الفقهاء في السفر الذي يكون سفراً طويلاً في العرف، أما الأسفار القصيرة والعادية والمألوفة فهذه لا يتعلق بها استئذان، والإنسان لا يستأذن من والده ولا يستأذن من وليه في مثل هذه الأسفار العادية فضلاً عن غيرها؛ لأن الغالب عليها السلامة، وخصوصاً في هذا العصر الذي تقدمت فيه وسائل الاتصال ووسائل السلامة، وصحيح أنك عندما تأتي بإحصائيات الوفيات مثلاً في حوادث السيارات، لكن تخيل أن الإحصائية هذه وإن كانت كثيرة إلا أنها كثيرة بالنظر إلى كثرة المسافرين؛ لأنه ما فيه أحد إلا ويسافر اليوم، وكما ذكرنا أصبح إنسان يقيم في بلد ويداوم تدريساً أو وظيفة في بلد آخر.
لكن إذا كان السفر سفراً طويلاً أو سفراً مخوفاً، فهل يجوز للإنسان أن يسافر لسفر، أو لحج، أو لجهاد، أو لمتعة, أو سياحة مثلاً وذمته مشغولة بالدين أو لا يجوز؟ المصنف ذكر هذا وقال: [ وإن أراد سفراً يحل قبل مدته, أو الغزو تطوعاً فلغريمه منعه إلا أن يوثقه بذلك ]. فذكر المصنف مثلاً ما يدل على أن الدين إذا كان حالاً يمنع السفر؛ لأنه قال: إذا كان يحل قبل مدته، وكذلك أنه لا يسافر إلا أن يوثق، لكن لو أتى بوثيق، أو بكفيل، أو بضمين، أو برهن, أو ما أشبه ذلك، فإنه يجوز له أن يسافر، والمسألة فيها قولان لأهل العلم:
إذاً: الجمهور يرون أن الدين الذي يمنع السفر للجهاد مثلاً أو لغيره هو الدين الحال، وأما الدين المؤجل فلا يمنع لعدم توجه المطالبة، ما يحق لك أن تطالبه والدين ما حل بعد. هذا قول.
ويستدلون بما ذكرناه في قصة: ( أرأيت إن قتلت في سبيل الله ). وقصة عبد الله بن عمرو بن حرام أيضاً؛ والد جابر الذي توفي وعليه دين، فيقولون: إن هذا يدل على أن الإنسان لا يحل له أن يجاهد وعليه الدين، ومن باب أولى السفر لغير الجهاد.
ابن تيمية رحمه الله له كلام جيد ومتوسط في هذه المسألة, يقول: سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه، وقد تعين الجهاد، ومعروف الحالات التي يتعين فيها الجهاد، وهي: إذا التحم الصفان .. إذا حضر القتال، أو إذا استنفره الإمام, هذه من الحالات الواضحة المتفق عليها.
فيقول: سئلت عمن عليه دين وله ما يوفيه، وقد تعين الجهاد، فقلت: من الواجبات ما يقدم على وفاء الدين، كنفقة النفس والزوجة والولد الفقير. إذاً: هذا واجب يقدم على سداد الدين.
قال: ومنها ما يقدم وفاء الدين عليه، كالعبادات مثلاً من الحج والكفارات وغيرها, فتقدم حقوق العباد والديون على الحج.
ومنها ما يقدم عليه إلا إذا طولب به كصدقة الفطر، يعني: تقدم صدقة الفطر إلا إذا طالبك صاحب الدين به.
ثم قال تفريعاً على ذلك: فإن كان الجهاد المتعين عليك لدفع الضرر، كما إذا حضره العدو أو حضر الصف قدم على وفاء الدين كالنفقة وأولى. لماذا؟ لأنه هنا إذا كان العدو حاضراً والناس مطالبون بالقتال والجهاد في هذه الحالة، فإنه إذا لم يقاتل الناس يأتي العدو ويجتاح أموالهم، ويذهب الدائن والمدين وتذهب الأموال كلها، فيكون في ذلك حفاظ على مصالح المسلمين العامة.
قال: وإن كان استنفار -يعني: إن كان سبب وجوب الجهاد هو الاستنفار ما هو بسبب حضور العدو- وإن كان استنفار فقضاء الدين أولى؛ إذ الإمام لا ينبغي له استنفار المدين مع الاستغناء عنه، يعني: كأنه فرق بين الجهاد الواجب إذا كان وجوبه بسبب استنفار عام، أو إذا كان وجوبه بسبب حضور العدو.
يعني: هذا خلاصة ما قاله رحمه الله تعالى.
طيب. إذاً: هذا ما يتعلق بالغزو أو السفر لمن عليه دين.
لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]. قوله: وجب إنظاره، معناه: أنه لا يحبس في هذا الدين؛ لأن الإنظار معناه: تركه حتى يجد ما يسدد به، أما الحبس للمعسر فهذا ليس له أصل في الدين، حتى قال ابن هبيرة رحمه الله: إن هذا ليس له أصل في الشريعة, ولا يقول به أحد من أهل العلم، وهو كان وزيراً يقول: وجدت أنهم يحبسون كثيراً منهم في أماكن ضيقة, ولا يستطيعون أن يقيموا الصلاة ولا أن يتوضئوا، ويحبس البر والفاجر, وذكر أشياء كثيرة مما كان يقع في عصره وزمنه.
فسبحان الله! كأنه يرى زمان الناس هذا، وهذا جانب من موضوع رعاية الحقوق الإنسانية التي تقدم اهتمام الإسلام بها بشكل كبير، إنه إذا لم يكن عنده قدرة على سداد الدين فإنه لا يحبس، حبسه لا ينفع، بل يمنعه من الضرب في الأرض, ويمنعه من محاولة الحصول على المال وكسب الرزق، فيحال بينه وبينه.
فالحبس إذاً له أصل إذا كان مبنياً على قدرة الإنسان على السداد، ولكنه يبطئ ويماطل، وكذلك الحديث الآخر: (لي الواجد - وهو متفق عليه في الأصل- يحل عرضه وعقوبته). بعضهم يقول: (لي الواجد ظلم). كلمة (ظلم) هذه ليس لها أصل في السنة، وإنما الحديث (لي الواجد). ما معنى: لي الواجد؟ يعني: مطل الغني، لي الواجد هو مطل الغني، والحديث جاء بهذا اللفظ أيضاً: ( مطل الغني )، يعني: غني ويماطل، فهذا يحل عرضه ويحل عقوبته.
عرضه: أنك تتكلم فيه وأن تشكوه إلى الحاكم وإلى القاضي. وعقوبته: هي سجنه. هذا إذا كان واجداً غنياً، أما إذا كان فقيراً فعلى ماذا يحبس؟ إلا إذا كان الأمر فيه لبس فيحبس حتى يثبت الحقوق ثم تثبت عليه، وقد يستخرجه صكاً كما يسمونه الآن صك إعسار.
قال: [ فإن ادعى الإعسار حلف وخلي سبيله ]. قال: إنا معسر، ليس عليه أكثر من اليمين.
قال: [ إلا أن يعرف له مال قبل ذلك ] أي: نذكر أنه توجد مزرعة وتوجد أموال، وأشياء ربما يكون هذا الإنسان ولجها، جعل شيئاً باسم زوجته، وشيئاً باسم ولده، وشيئاً باسم صديقه, فهنا لا يقبل مجرد القول ولا يقبل مجرد اليمين إلا ببينة؛ لأن الأصل بقاء هذه الأموال عنده، أين ذهبت الأموال؟
ولهذا في قصة الزبير لما أنكر العباس، قال: (العهد قريب والمال كثير)، يعني: أموال كثيرة أين ذهبت؟
قال: [ فإن كان موسراً لزمه وفاؤه، فإن أبى حبس حتى يوفيه ] كما ذكرنا دليل ذلك.
قال: [ فإذا حجر عليه ] وهذا المحجور عليه لحقوق الآخرين، بخلاف المحجور عليه لحظ نفسه كالسفيه والصغير مثلاً, [ لم يجز تصرفه في ماله ولم يقبل إقراره عليه ]. طبعاً لم يقبل إقراره عليه بعد الحجر، لماذا؟ لأنه قد يقر بأموال، هذه الأموال تتوجه المطالبة بها من جديد، وربما يكون في ذلك نوع من الاحتيال، لكن إذا ثبت أن عليه حقوقاً، فالحقوق لا تبرأ بها ذمته، يعني: أنا لي عليه ولكن هذا الدين غير موثق، فأقر بعد الحجر بهذا الدين فلا يعني ذلك أن الدين هذا ضاع، وإنما على قول المؤلف أنه لا يدخل في الديون التي توزع عليها الأموال والأعيان الموجودة، ويتجه أنه إذا كان إقراره بهذا الدين أنه دين قبل ما يحجر عليه، ما يقول والله: تدينت بعد الحجر، إذا قال: تدينت بعد الحجر، في هذه الحالة لا يقبل إقراره، لكن لو قال: والله لمحمد علي دين قبل سنتين وقبل أن تحجروا، ولكنه رجل متسامح وما طالبني ولا ذهب إلى القاضي، فهنا هذا الدين يدخل ضمن الحقوق التي توزع عليها الأعيان الموجودة عنده.
طيب قال: [ ويبدأ بمن له أرش جناية ] هنا طريقة الحاكم في توزيع المال - مال المحجور عليه-.
قال: [ يبدأ بمن له أرش جناية من رقيقه؛ فيدفع إلى المجني عليه أقل الأمرين من أرش الجناية أو قيمة الجاني ]. ما معنى هذا الكلام؟
معناه باختصار: إذا كان للمحجور عليه عبد، وهذا العبد ارتكب جناية ترتب عليها حق، مثلاً عشرة آلاف ريال بسبب الجناية هذه، ننظر هل أرش الجناية -قيمة الجناية- أكثر أو قيمة العبد؟ وجدنا أنه يقول: العبد هذا كله لا يساوي ألف ريال, فيدفع إليه؛ يقول: الأقل من قيمة العبد أو أرش الجناية؛ لأن الأرش هنا متعلق بالعبد، الحق متعلق بالعبد، فيدفع إلى من له حق الجناية، والجناية قد تكون في نفس، أو في طرف، أو في عضو من الأعضاء، أو جرح, أو شيء من هذا القبيل، يدفع إليه الأقل من أرش الجناية أو من قيمة العبد الجاني.
وكذلك قال: [ يبدأ بمن له رهن ] يعني: لي دين عليك أيها المحجور عليه! وهذا الدين أنا وثقته برهن بقطعة أرض أو عقار, فيبدأ بمن له رهن أيضاً؛ لأن الدين هنا كما ذكرنا سابقاً يصير مرتبطاً بعين الرهن [ فهنا يدفع إليه أقل الأمرين من دينه أو من ثمن الرهن ] فإن كان الرهن يعادل الدين فهذا واضح، إذا كان الرهن أقل يعطى الرهن فقط وما بقي من الدين له يشارك فيه بقية الغرماء، لكن لو كان الرهن أكثر من الدين فإن الزيادة تعود إلى صاحب المال.
قال: [ وله أسوة الغرماء في بقية دينه ] يعني: إذا كان الدين أكثر من الرهن، إذا كان الرهن يساوي خمسين ألفاً، والدين مائة ألف، بعنا هذه الأرض بخمسين ألفاً بقي لي خمسين ألفاً أخرى، نقول: تدخل فيها مع بقية أصحاب الديون في الأموال الباقية، هذا معنى قوله: [ وله أسوة الغرماء ], يعني: أنه مثله في ذلك مثل بقية الغرماء.
معناه: افترض أنني بعت عليك سيارة لكسز أمس، ثم تم الحجر عليك اليوم والسيارة موقوفة عند الباب جديدة ما حركتها ولا تصرفت فيها، وأعلن الحجر عليك، أتيت أنا أركض للقاضي وقلت: يا فضيلة القاضي! حفظك الله, أنا بعت هذه السيارة أمس على فلان، لم تتغير إطلاقاً, وما زادت ولا نقصت، وأنتم قد حجرتم عليه، أريد سيارتي. هذا الحديث يدل على أنه أحق بها، فيقال: خذ سيارتك، لماذا؟ لأن الحديث يقول: ( من أدرك متاعه بعينه عند رجل قد أفلس) . هذا أفلس الآن، وهذا متاعي بعينه من غير زيادة ولا نقص, ( فهو أحق به من غيره ). فيأخذه، وهذا مذهب الجمهور الأئمة الثلاثة، خلافاً للأحناف الذين تأولوا هذا الحديث بأنه خلاف القياس، أو أن راويه ليس بفقيه، أو غير ذلك من اجتهاداتهم المرجوحة التي يقولونها في مثل هذه المسألة.
الشرط الأول: أن تكون بحالها سالمة, لم يتلف شيء منها، فإن تلف شيء منها فإنه لا يحق له أن يأخذها، بل يصبح أسوة الغرماء، يعني: مثله مثل الغرماء.
الشرط الثاني: ألا يتم زيادتها أيضاً زيادة متصلة بها، مثل إذا كان مثلاً حيواناً اشترى مني ناقة، ثم سمنت هذه الناقة وكبرت، أو لو كان عبداً فتعلم صنعة جديدة وزاد بذلك ثمنه، فإنه لا يأخذها، بل يكون مثله مثل غيره.
الشرط الثالث: ألا يكون البائع أخذ شيئاً من قيمة السلعة، فلو كان أخذ ولو عربوناً من قيمة السلعة، فإنه لا يسترجعها، بل مثله في ذلك مثل غيره من الغرماء.
الشرط الرابع: ألا يتعلق بهذه السلعة حق آخر غير حق المدين، المفلس هذا، فإن تعلق بها مثل أن تكون خرجت عن ملكه، باعها على شخص آخر مثلاً، أو وهبها أو ما أشبه ذلك، فإنه لا يرجع عليها، ولكن يكون أسوة الغرماء.
الشرط الخامس: أن يكون المفلس حياً، فلو مات المفلس لم يرجع بها، لماذا لم يرجع بها؟ لأنها حينئذ انتقلت من ذمة المفلس إلى ذمة .. صارت للورثة، فلا يرجع بها.
إذاً: بهذه الشروط الخمسة إذا وجد سلعته بعينها عند رجل قد أفلس فهو أحق بها من بقية الغرماء.
قال: [ ويقسم الباقي بين الغرماء على قدر ديونهم ], يعني: إذا كان الموجود يغطي مثلاً 10% من الديون أعطى كل إنسان قدر 10% من دينه، فصاحب مائة ألف كم يأخذ؟ يأخذ مثلاً عشرة آلاف، وصاحب عشرة آلاف يأخذ ألفاً, وهكذا.
قال: [ فإن وجب له حق بشاهد فأبى أن يحلف لم يكن لغرمائه أن يحلفوا ]. معنى الكلام هذا: لو أن المدين الذي أعلنا أنه مفلس وقمنا بالحجر عليه وعلى ماله، وجب له حق عندك يا فواز ! مثلاً، وقيل: إن هذا المدين هذا له حق مثلاً مليون ريال عند الأخ فواز، لكن هذا الدين لا يمكن الحصول عليه، وليس معه إلا شاهد واحد، ويحتاج مع الشاهد إلى يمين؛ لأن شاهداً واحداً لابد أن يعزز بيمين، فقيل للمفلس: احلف أن عند فلان لك دين، هل يلزم بالحلف؟ لا يلزم بالحلف؛ لأن بعضهم قد يقول: ألزمه بالحلف؛ لأنه ربما لا يحلف من أجل أن يظل هذا الدين يحتفظ به للمستقبل، فلا يحلف عليه، نقول: نعم لا يجب عليه أن يحلف أن عند فلان لي ديناً بموجب أن هناك شاهداً؛ لأنه قد لا يثق بهذا الشاهد مثلاً، وقد لا يتذكر هذا الدين، فلا يلزمه أن يحلف، فإن عرف أنه فعلاً له دين عند فواز، ووجد شاهداً فإنه يجب عليه شرعاً أن يحلف، لكن لا يلزم من قبل القاضي بالحلف، ولا يلزم غرماؤه أن يحلفوا؛ لأن غرماءه أيضاً سوف يحلفون على شيء لا يتعلق بهم هم، وإنما يتعلق بذمة الغريم، وأيضاً هم لهم مصلحة في هذا الدين، حتى يسددوا ما لهم، فنقول: لا يلزمه هو أن يحلف ولا يلزم غرماءه أن يحلفوا.
تقريباً هذا ما يتعلق بباب الدين.
وهذا الحديث عن معاذ على أن معظم الفقهاء يذكرونه، ورد متصلاً بسند ضعيف, بل بعضهم يقول: ضعيف جداً, فيه إبراهيم بن معاوية الكرابيسي , ضعفه الساجي وغيره.
وورد بسند مرسل لا بأس به، فالصحيح أنه مرسل، والمرفوع ضعيف، ولهذا لا يصح، على أن من أهل العلم كـالحاكم وابن الصلاح وغيرهم؛ من صححوا حديث الحجر على معاذ رضي الله عنه.
لا شك أن الحجر عليه لا يعني نقصاً في ذاته، فهذا أمر يقع لسائر الناس، وقد يبتلى الإنسان بمصيبة في ماله لم يتوقعها ولم يحتط لها، فليس في ذلك في حال ثبوته عن معاذ رضي الله عنه تنقص ولا غض من قدره ومقامه؛ باعتباره من خيار أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام.
أما إذا كان الحق أكثر مما تعلق به من التوثيق فالإنسان يأخذ الثقة، ثم يطالب بالبقية، يعني: يكون أسوة الغرماء فيما بقي، مثل ما ذكرنا في الرهن، يعني: إذا كان الرهن يغطي نصف المبلغ بع هذه الأرض واستوف بها نصف دينك، النصف الثاني هل يضيع عليك؟ لا يضيع عليك، وإنما تصبح فيه مثل غيرك، بخلاف الرهن، وكذلك موضوع الجناية، أنه متعلق بعين. هذا هو الفرق.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر