الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة الخميس الخامس عشر من شهر صفر من سنة 1424هـ، والدرس وكالمعتاد هو في شرح عمدة الفقه، وعندنا اليوم باب أحكام الدين.
في الأسبوع الماضي شرحنا باب القرض، وما يتعلق به، وتقريباً باب القرض باب سهل وواضح, وليس فيه أشياء كثيرة جداً تحتاج إلى مراجعة، ولذلك نبدأ اليوم في الباب الجديد، وهو باب أحكام الدين.
والملاحظ: أن كثيراً من الفقهاء والمصنفين لا يضعون للدين باباً خاصاً، وإنما يدرجونه ضمن أبواب أخرى، وغالباً ما تكون مسائل الدين مدرجة عندهم ضمن باب الحجر وباب التفليس؛ لأنه يترتب على الدين الحجر، ولكن بعضهم يصنفون باباً خاصاً, ومنهم المؤلف رحمه الله, فإنه وضع باباً للدين، وبمقابل ذلك فإنه لم يضع للحجر باباً خاصاً، وإنما أدخل أحكام الحجر ضمن أحكام الدين, كما سوف يظهر بعد مراجعته.
والمقصود بالدين هو في الأصل: لزوم حق في الذمة. فهذا تعريف الدين في اللغة وفي الشريعة أيضاً.
فقولنا: لزوم حق، هذا يشمل الحقوق المالية ويشمل الحقوق غير المالية.
الحقوق المالية مثل ماذا؟
مثل القرض، أليس ديناً على المستقرض؟ بلى، هذا نوع من الحق المالي، ومثل السلم أيضاً؛ فهو نوع من الحق المالي. فهذه حقوق مالية، ولكن أيضاً يشمل الحقوق غير المالية, كالبر مثلاً؛ فإنه دين على الولد لوالده، وكذلك يشمل ما هو حق لله تبارك وتعالى وما هو حق للمخلوقين، فما هو حق لله مثل: الصلاة الفائتة, فإنها دين في ذمة صاحبها، وكذلك الزكاة فهي دين يجب عليه أداؤها، وهذا حق مالي لله سبحانه وتعالى، وللمخلوق أيضاً، ويشمل الصوم فهو حق، بل نستطيع أن نقول: إن أصل الدين كله عبارة عن ماذا؟ عن حق في ذمة الإنسان، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم في حديث معاذ بن جبل الشهير لما قال: ( أتدري ما حق الله على العباد؟ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ). إذاً: هو حق لله سبحانه وتعالى على العباد، فمن حقوق الخالق ما ذكرنا مثل: الصلاة، ومثل الصيام.
أيضاً من حقوق الله سبحانه وتعالى النذر، فالنذر هو حق يلزم ويجب في ذمة الناذر، لو نذر إنسان لله سبحانه وتعالى أن يصوم شهراً، أو نذر أن يتصدق بمال يلزمه أو ما يلزمه الوفاء؟ يلزمه.
طبعاً، النذر له باب في الأيمان والنذور، لكن لا بأس، إذا لم يستطع الوفاء بالنذر ماذا عليه؟ عليه كفارة يمين، وكذلك إذا كان النذر ليس مقصوداً لذاته وإنما مقصود به الحث أو مقصود به المنع، فإنه يصبح حكمه حكم اليمين، مثلاً لو إنسان ابتلي بالتدخين، وصار كل مرة يترك الدخان ثم يعود، ثم يتركه ثم يعود, فقال: لله علي نذر إن وقعت في الدخان مرة ثانية أن أصوم مثلاً خمسة أيام، نقول: هذا عبارة عن يمين حكمه حكم اليمين، فهو مخير إما أن يصوم، طبعاً إذا وقع ورجع، إما أن يصوم خمسة أيام أو يكفر كفارة يمين، وكذلك لو أنه أراد حفز نفسه على فعل شيء، وأنه إن لم يفعل فعليه كذا، والقصد هو إلزام نفسه بالفعل، فالنذر هنا يكون حكمه حكم اليمين الذي يقصد به أن يلزم الإنسان نفسه بفعل شيء أو يلزمها بترك شيء. هذا يأتي في باب النذر، لكن للمناسبة. المهم أن النذور تعتبر حقوقاً.
وكذلك الكفارات: كفارة اليمين .. كفارة الظهار .. كفارة الوطء في نهار رمضان, هي حقوق في ذمة الإنسان لله تبارك وتعالى.
وحق الله سبحانه وتعالى أوسع من دين الله، ولذلك نقول مثلاً: التوحيد حق، لكن لا يسمى ديناً؛ لأنه فعل يفعله الإنسان، أما الدين - دين الله سبحانه وتعالى- فما تعلق في ذمة الإنسان مما ترتب على ذمته، مثل ما ورد مثلاً المرأة أو الرجل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ( إن أمي ماتت ولم تحج أو إن أبي مات ولم يحج، فقال: أرأيت لو كان على أبيك دين أو على أمك دين، أكنت قاضيته؟ ) فهذا دين.
إذاً: هناك دين لله يتعلق بترتب شيء في الذمة لم يؤده الإنسان، هذا يسمى دين الله.
وهناك حق الله وهو عموم الحقوق الشرعية بما فيها أصل الدين الذي هو التوحيد، ثم الفرائض كلها، وهناك حقوق المخلوقين، وهناك ديون المخلوقين.
إذاً: هذا ما يتعلق بتعريف الدين وما يتعلق باسمه.
هناك أموال تصلح أن تكون ديناً، وهناك أموال ربما يكون فيها بعض النظر، وهذا له علاقة بما سبق أن شرحناه في باب السلم.
الأموال التي تصلح أن تكون ديناً عديدة، والفقهاء يعرفون الدين كما ذكرنا قبل قليل بأنه: لزوم حق في الذمة، وقد يقولون: لزوم مال في الذمة؛ ليقتصر على الديون المالية، ويستبعد منه ما يتعلق بالحقوق الأخرى التي ليست مالية، فقد يقولون: إن الدين هو ما يثبت في الذمة من مال.
إذاً: الدين ثابت في الذمة - في ذمة الإنسان- وهذا يصدق على عدة أشياء:
مثل الشعير .. القمح .. البر، وبشكل عام مثل المكيل والموزون.
لماذا قلنا مثلاً: إن المكيل والموزون مثلي؟ لأن هذا الكيس وهذا الكيس تقريباً متشابهة، فهي متماثلة، ولذلك بدلاً من مثلاً كيلو قمح أعطيك أنا كيلو قمحاً آخر.. أو لا؟ فهي متماثلة متقاربة، يقال لها: إنها مثلية كالمكيلات والموزونات. والأشياء التي تتشابه أنواعها فيما بينها، التمر مثلاً مثلي؛ لأنه متقارب ومعروف ومنضبط، فهذا هو النوع الأول مما يمكن أن يكون ديناً، وبلغة أخرى نستطيع أن نقول: يمكن أن يكون سلماً؛ لأنه سبق أن ذكرنا في باب السلم أنه يجوز السلم في المثليات باتفاق الفقهاء، يعني: يجوز أن أعطيك ألف ريال على أن تعطيني مائة صاع تمر بعد سنة، لماذا؟ لأن التمر مثلي، يعني: منضبط.
هذا هو النوع الأول, وهي: الأعيان المثلية، فبالاتفاق هذه يجوز فيها السلم, ويجوز أن تكون ديناً، يعني: سلماً أو غير سلم.
إذاً: القسم الثاني مما يصلح أن يكون ديناً: الأموال القيمية المنضبطة بالوصف، مثل ماذا؟
مثلاً السيارات؛ لأن السيارات منضبطة بالوصف وإن كانت ذات قيمة، كذلك مسألة الثمار مثلاً، ألوان الثمار من الفواكه والخضروات وغيرها، كذلك الثياب، فهذه أشياء قيمية منضبطة بالوصف, يصلح فيها السلم, وتصلح أن تكون هي ديوناً، بينما هناك أموال أو أعيان قيمية غير منضبطة بالوصف، لا يمكن ضبطها بالوصف بشكل دقيق، مثل الجواهر، اللؤلؤ مثلاً، أنت لو تعرف اللؤلؤ هل اللؤلؤ الذي يستخرج من أعماق البحر يكون بشكل واحد؟ لا، تجد منه شيئاً كبيراً، ومنه شيئاً صغيراً، ومنه شيئاً صافياً، ومنه شيئاً غير صاف، ومنه أنواع ممتازة وأنواع متوسطة وأنواع رديئة، ولذلك ربما تجد عقداً تجده قطعة من اللؤلؤ تباع بمائة ألف ريال, أو حتى بمائة ألف دولار، بينما أخرى تجدها بعشرة آلاف أو أقل من ذلك, فهي متفاوتة تفاوتاً كبيراً, ولا يمكن انضباطها.
فهذه الأشياء التي لا تنضبط بالوصف مثل الجواهر من اللؤلؤ، والعقيق، والفيروز .. وغيرها مما لا يتحدد بالمثل, وتختلف آحادها، وتتفاوت أفرادها، وتتفاوت قيمها وأثمانها تفاوتاً كبيراً، ولا يمكن ضبطها بالوصف، فهذه الجمهور على أن هذه الأشياء لا يصلح أن تكون ديناً, ولا يجوز فيها السلم كما سبق أن ذكرناه، لماذا؟ لأنه إذا أراد أن يسدد لك الدين الذي عليك ممكن يعطيك قطعة لؤلؤ تعادل مائة ألف ريال أو قطعة أخرى تعادل عشرة آلاف ريال، ويكون قد أدى ما عليك، وهذا يترتب عليه حصول الخصومات والخلاف بين الناس.
بينما في المسألة قول آخر, وهو: أن هذا النوع من الأشياء القيمية التي لا تنضبط يصلح أن يكون ديناً إذا كان معلوم القدر، بمعنى: أن يتم تحديده ولو لم يكن تحديده بشيء منضبط في ذاته، في وصفه، مثل ما نصف مثلاً التمر، أو مثل ما نصف السيارة, أو غيرها، وإنما يوصف بمجمل أوصاف تقريبية يعرفها أهل الصنف وأهل الاختصاص؛ بحيث يسهل الأداء فيما بعد وتقل الخصومات.
إذاً: القسم أو النوع الثاني من الأشياء التي تصلح أن تكون ديناً: الأشياء والأموال ذات القيمة -القيمية، وليست الأشياء المثلية- مما كان منضبطاً بالوصف، وحتى ما ليس بمنضبط فهناك قول بأنه يصلح ويجوز أن يكون ديناً إذا أمكن تقريبه وتقليل الخلاف بين آحاده وأفراده.
إذاً: يجوز أن يكون إيجار المنزل أن أؤجرك المنزل ديناً, يعني: أنه بعد سنة تسكن هذا المنزل مثلاً، وكذلك العمل يجوز أن يكون الدين في ذمتك أن تعمل عندي في مزرعة .. في حقل .. في محل تجاري لمدة شهر اعتباراً من تاريخ معين.
فهنا تلاحظ أن هذه المنفعة أصبحت ديناً في ذمتك، ما في ذمتك مال، ولا في ذمتك ذهب أو فضة، وإنما في ذمتك منفعة معينة تؤديها بعد حين.
وطبعاً مسألة المنافع هنا الجمهور على أن الإنسان يمكن أن يؤجر منفعة معينة ولا تكون بشيء خاص، وإنما تكون عامة، مثلاً: لو قلت: أنا سوف أوصلك إلى مدينة الرياض، التزمت أني أوصلك إلى مدينة الرياض , وأخذت منك المال مائة ريال أو أقل أو أكثر على أن أوصلك إلى هذه المدينة، أصبحت هذه المنفعة ديناً في ذمتي لك أو لا؟
هل يلزم أني أقول: أوصلك على سيارة أتوبيس موديل كذا وشكل كذا، أو أنه ممكن أنه يصير الإيصال بناء على شيء موصوف وليس -يعني- سيارة معينة؟ يعني: هل يلزم أن يكون الإيصال على هذه السيارة، أو أوصلك على سيارة بشروط ومواصفات معينة؟
ما يلزم أن أقول: أحملك على هذه الراحلة .. على هذه السيارة، أو على هذه الطيارة، أو على هذه الباخرة, لا، هذا مذهب جمهور أهل العلم وهو الصحيح، أن المقصود هو حصول المنفعة، فإذا قلت: أوصلك إلى مكان كذا بمبلغ من المال جاز هذا، ولو لم يتم الاتفاق على عين الأداة أو الوسيلة التي سوف أحملك عليها، طبعاً هذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد .
بينما الحنفية يرون أنه لابد أن يحدد الشيء المؤجر، ولذلك عند الحنفية يقول: لو آجره من أحد الحانوتين لم يجز، إما هذا وإما هذا، فلا بد أن يحدد واحداً منهما، فلا يصح عندهم الإيجار على شيء موصوف، ولا بد أن يكون لشيء معين بذاته.
طيب. دعونا ننظر في الواقع الآن، مثلاً قضية الرحلات الجوية، عندما تأخذ من خطوط ما تذاكر على أنك سوف تسافر إلى أي مكان في الأرض، وتأخذ التذكرة هذه بعدما تعطيهم المال، أليست هذه التذكرة عبارة عن دين لك عليهم؟
طيب. في الحالة هذه معروف أنك مثلاً درجة أولى, أو درجة سياحية، أو درجة أفق، ومعروف ما هي حقوقك في هذه الرحلة، ولذلك على مذهب الجمهور هذا شيء صحيح وطبيعي، لكن على مقتضى قول الأحناف لابد أن يكون هناك تحديد للطائرة التي سوف تركب عليها، طبعاً لا يلزم أن يكون الحنفية يقولون بهذا؛ لأن الذين يعيشون مثل هذا الوضع ربما يخرجونه على باب آخر، فلذلك نقول: إن الجمهور يرون أن مثل هذه المنافع التي هي الإجارة جائزة ولو لم تكن محددة العين، وإنما المنفعة معروفة, أنك تحملني على طيارة أو على باخرة أو على سيارة بدرجة معينة وبأجرة معينة، وهذه في الجملة المنضبطة، ولذلك لو أن إنساناً مثلاً أخذ تذكرة درجة أولى وركب في الأفق أو السياحي، من حقه أن يسترد الزيادة أو لا؟ نعم، ومن حقه أن يطالب.
إذاً: الأمور تقريباً معروفة ومنضبطة، وأنواع الطائرات متقاربة من الأسطول التي تملكه مثلاً هذه الخطوط أو تلك، وكذلك البواخر، ولو حصل خلل لكان بإمكانه أن يطالب به، فهذا يكون عبارة عن منفعة في الذمة, ولا يلزم أن تكون على أداة بعينها أو على مؤجر بعينه، وإنما يكفي فيه الوصف المنضبط.
إذاً: هذه ثلاثة أشياء مما يصلح فيها أن تكون ديناً: الأول منها هو الأعيان المثلية التي كالمذروع والمكيل والموزون. النوع الثاني الأعيان القيمية المنضبطة بالوصف عند الجمهور, وغير المنضبط إذا أمكن تحديده بالقيمة فهو تابع له أيضاً على ما اخترناه في باب السلم.
القسم الثالث أو النوع الثالث المنافع، ونقول: المنافع لا يلزم تحديدها عند الجمهور وهو الراجح, لا يلزم تحديد عين مثلاً البيت المسكون، أو الدكان المؤجر، أو السيارة، أو الباخرة، أو الطائرة، وإنما يكفي فيه أن يكون منضبطاً معلوماً بالوصف.
متى يتعلق الدين بعين، يعني: بشيء محدد؟
متى يتعلق الدين بسيارتك التي تركبها؟ أو ببيتك الذي تسكنه مثلاً؟ أو بالمال الذي في محفظتك الآن؟ متى يتعلق الدين؟
هذه حالات:
يباع على دينك هذه الشقة ويسدد له، ويصبح صاحب الرهن أحق بهذا من غيره.
إذاً: إذا صار الدين موثقاً برهن فإن الدين يتعلق حينئذ بعين المرهون، يعني: إذا سددت الحمد لله طبعاً، لكن لو لم تسدد معناه رجع صاحب الدين إلى الرهن.
ومعروف ما معنى الحجر, كما سوف يأتي إن شاء الله في الدرس القادم: أنه منع الإنسان من التصرف في ماله، إما لحقه هو أو لحق الآخرين.
ففي هذه الحالة نقول: إن هذا الأموال التي تم الحجر عليها تعلقت بها حقوق الدائنين، أصبحت حقوق الدائنين متعلقة بهذه الأموال بذاتها وبعينها, فلا يتصرف فيها إلا بما فيه مصلحة لأصحاب الديون.
فهذه أربعة أشياء طبعاً, وليس هذه فقط، لكن هذه من أظهر وأوضح الأشياء التي يصبح الدين فيها ليس فقط متعلقاً بذمة الإنسان، وإنما يكون الدين متعلقاً بماذا؟ بأعيان الأموال الموجودة عنده، وهي قلنا ذكرنا منها أربعة نماذج من أظهر ما يذكر.
الأول منها: الدين الذي يكون برهن - المرهون يعني-.
والثاني: إذا كان مريضاً مرض الموت أو المرض المخوف.
والثالث هو: الدين الذي حجر عليه.
والرابع هو: الدين في ذمة الميت.
يعني: الأصل أن ذمتك بريئة، نقول: حتى في الشريعة أو لا؟ نعم. ما معنى في الشريعة؟ يعني: نقول: الأصل عدم التكليف بشيء معين إلا إذا ورد النص على التكليف به، وكذلك الأصل براءة ذمة الإنسان من الاستحقاقات للناس إلا إذا وجد أمر طارئ أو سبب طارئ أوجب في ذمتك استحقاقاً لهذا أو استحقاقاً لذاك.
وطبعاً أسباب الدين التي تجعل ذمتك مشغولة بحق لأحد كثيرة، بعضهم أوصلها إلى عشرات أسباب، نذكر منها أمثلة, وهي واضحة طبعاً.
إذاً: هذا نوع من الالتزام ترتب على عقد بين طرفين، عقد معاوضة مثل عقد البيع، ومثل أيضاً عقد الإجارة، عقد السلم، عقود المعاوضات المختلفة، فهذه يترتب فيها دين على ذمة البائع وعلى ذمة المشتري حتى يسدد هذا ما عليه ويسدد هذا ما عليه.
ومن الممكن أن يكون العقد أيضاً قلنا: التزام بعقد، سواء كان عقداً ثنائياً بين طرفين أو كان عقداً فردياً، ومثال العقد الفردي: النذر، عند جميع الفقهاء لو إنسان -يعني- قال: لله علي نذر إن شفى الله مريضي أو رد الله غائبي، أو إن خذل الله سبحانه وتعالى قوات الطغاة المتغطرسين في أرض العراق أو فلسطين أو غيرها أن أتصدق بكذا، أليس يلزم هذا في ذمته؟ يلزم باتفاق الفقهاء, يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [الإنسان:7]. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نذر أن يطيع الله فليطعه ). فهذا نذر، التزام من طرف واحد يترتب عليه أن يكون هذا المنذور في ذمتك، هذا عند جميع الفقهاء، لكن فيه التزام أحياناً في الذمة عند بعض الفقهاء، وهذا الالتزام بعقد التبرع يلزم عند المالكية، يعني: لو قال الإنسان لشخص معين: أنا ألتزم لك شهرياً بألف ريال لمدة خمس سنوات، فالمالكية يرون أن هذا الالتزام واجب عليه، وأنه على مدى خمس سنوات يلزمه أن يصرف عليه ألف ريال، وعلى وجه الخصوص إذا التزم الإنسان بشيء مقابل هذا الوعد، يعني: أنا لما قلت لي أنت الكلام هذا رحت واستأجرت لي شقة وتزوجت؛ بناء على أنك سوف تصرف ألف ريال، فتورطت بأشياء بناء على وعدك، فلو ذهب للقاضي القاضي يلزم ذلك الإنسان بدفع المبلغ. وهذا قول جيد إذا تورط الإنسان بشيء مقابل هذا الوعد.
أما جمهور الفقهاء فيرون أن هذا الوعد غير ملزم، يرون أنه نوع تبرع, وأنه ما دام لم يبذله بعد فإنه مستحب وفاضل لكنه غير ملزم.
إذاً: السبب الأول من أسباب وقوع الدين، أو حصول الدين، أو ثبوت الدين في ذمتك: هو التزامك بمال, إما بعقد بيع مثلاً، أو سلم، أو بنذر فردي، أو بتبرع لشخص معين عند من يمضي هذا التبرع, وهم المالكية.
هذا يوجب أن يقع في ذمتك دين.
وكذلك الجناية فيما دون النفس، لو أنه جنى على أحد مثلاً بجناية معينة، بقطع، أو بجرح, أو نحوها فهو يوجب ديناً في ذمته، ومثله لو أتلف مال الغير، لو تسبب في إتلاف مال الغير, مثلاً: افرض أنه أخذ سيارة إنسان وقام وسوى فيها مثلاً حادث، أو سرقت منه بتفريط, أو ما أشبه ذلك، فهذا يوجب عليه دين أو لا يوجب عليه؟ يوجب عليه.
طيب سؤال: لو فرض أن عندك وثيقة، ورقة مكتوبة: أنني بعت على فلان المزرعة الكائنة في المكان الفلاني بخمسة ملايين ريال، وفيها شهود، وفيها توقيع المشتري, وفيها توثيق كامل، ثم جاء إنسان وقال لك: يعني: هذه خطها جميل, وهذه ورقة تاريخية، وأريد أن آخذها أصورها وأعيدها إليك, فأخذها ليصورها ثم قال: والله ضاعت مني يا فلان! أنا ما أدري أين ذهبت صراحة؟
وبناء على ضياع الوثيقة هذه ضاع المال، ذهبت أنت لصاحب الدين قال: والله أنا لا أذكر شيئاً، عندك أوراق أخرجها، عندك وثائق هاتها, أنا لن أتراجع، لكني لا أذكر الحاجة هذه، أو كان المدين متوفى وأنت تتعامل مع ورثته، قالوا: هات أي شيء، نحن حريصون على إبراء ذمة مورثنا، لكن أعطنا شيئاً.
في هذه الحالة ألا يتجه أن يكون الشخص الذي أضاع الوثيقة مسئولاً عن هذا الدين الذي ضاع بسببها؟ هذا أيضاً يتجه، جيد أن نقول: إنه مسئول؛ لأن هذا فيه نوع من العدل، وهو يتجه أن يكون ترتب عليه دين في ذمته بسبب خطأ ارتكبه في إضاعة هذه الوثيقة أو بإتلافها، فهو أعطاها له كأمانة، لكن هذا الإنسان ما ردها، ضيعها .. أتلفها أو أهملها، فيتجه أن يكون عليه وزرها، عليه دينها, على كل حال هذه مسألة فرعية، لكن هذا قول وجيه.
فنقول: إن تلف المال في يد الغاصب وما أشبهه يترتب عليه دين في ذمته لصاحب المال الأصلي.
إذاً: هذه أربعة أسباب. طبعاً ذكرنا أن هناك أسباباً كثيرة، لكن هذه من أشهرها وأوضحها، يترتب عليها أن تنشغل ذمة الإنسان بدين عليه، سواء كان ديناً كما ذكرنا محضاً للمخلوقين, أو ديناً مشوباً بناحية شرعية, مثل الزكاة.
وذلك لأن الدين قسمان: حال، والحال -أحياناً-يسمى المعجل أيضاً, وهو ما ليس له أجل، وهذا يطلب أداؤه فوراً إذا طلب الدائن، لكن لو سكت الدائن وبقي الدين عندك سنتين أو ثلاثاً لم يضر، لكن إذا طلب منك بذل المال أو بذل الحق وجب عليك أداؤه فوراً إلا أن تكون عاجزاً، والله سبحانه يقول: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [البقرة:280]، وليس له أجل أو توقيت معين.
وفي الأسبوع الماضي ذكرنا القرض، وهل يمكن أن يكون مؤجلاً أو لا يمكن؟ ما هو القول الراجح في القرض يقبل التأجيل أو ما يقبل؟
الراجح أنه يقبل التأجيل.
إذاً: القسم الأول: هو الدين الحال أو الدين المعجل. وهذا معروف.
والدين المؤجل: هو ما لا يجب أداؤه قبل حلول الأجل، إذا كان عندك سيارة اشتريتها بالتقسيط مثلاً من الأهلي أو من الراجحي أو من شركة التقسيط، والتزمت أن تدفع لهم كل شهر ألف ريال، هل يستحقون أن يطالبوك بتقديم ما لم يحل أجله؟ لا، وإنما يلزمك أداء الدين أو أداء القسط من الدين إذا حل فيه الأجل.
طيب، لكن لو أداه قبل الأجل يمكن أو ما يمكن؟
يمكن، لو أداه قبل الأجل صح الأداء وبرئت ذمته من ذلك؛ لأن هذا فيه نوع من الأداء وزيادة، يعني: فيه نوع من الفضل.
إذاً: هذا النوع وهو البدلان في الصرف كأن تصرف ذهباً بفضة أو ذهباً بذهب، لابد أن يكون حالاً, ولا يجوز فيه التأجيل، هذا طبعاً إذا كان على سبيل المصارفة، لكن لو كان على سبيل القرض، يمكن أن نقرضك ذهباً وترده فيما بعد أو لا؟ هذا باب آخر.
إذاً: القسم الأول مما لا يمكن أن يكون إلا حالاً، وهو ما يتعلق بالمصارفة.
فهنا رأس المال في السلم لابد أن يكون حالاً؛ لأنه لو لم يكن حالاً لكان عبارة عن بيع الدين بالدين، وذكرنا أن بيع الدين بالدين لا يجوز باتفاق الفقهاء من حيث الأصل.
إذاً: رأس المال في السلم لابد أن يكون حالاً.
إذاً: هناك مسألة توثيق الدين, وماذا نقصد بتوثيق الدين؟
المقصود بالتوثيق هو: توكيد الدين .. ضبط الدين .. حفظ الدين. هذا معنى التوثيق.
لكن كيف يمكن توثيق الدين؟ هذا فيه أكثر من صورة.
العلم صيد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقة
فمن الحماقة أن تصيد غزالة وتتركها بين الخلائق طالقة
هذا شعر لا أدري كيف هو، لكن المقصود المعنى.
إذاً: التوثيق الأول للدين هو التوثيق بالكتابة، والله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]. وهذا فعل أمر.
وأنا أريد أن ألفت نظركم يا معشر الطلاب إلى مسألة مهمة جداً في التعامل مع النصوص الشرعية، أزعم في بعض الأحيان وأقول لنفسي ولكثير من إخواني من الطلبة: إننا نحتاج إلى من ينبهنا في تعاملنا مع النص الشرعي، يعني: أحياناً تجد عندنا نصين شرعيين لا نتعامل معهما على حد سواء، واحد نتعامل معه بقوة وبحدة وبانفعال شديد، لحاجة في نفوسنا نحن لا ندريها، تأثيرات وخلفيات وظروف معينة، ولذلك نسلط على النص نوراً قوياً جداً جداً جداً, حتى نتمسك به بشكل غريب، بينما نأتي إلى نصوص أخرى قد تكون أقوى منها، ثم نتعامل معها بهدوء تام.
هذا يحتاج الإنسان أن يتفطن له، أضرب المثل بهذه الآية الكريمة. آية الدين ميزتها في القرآن أنها أطول آية في المصحف؛ حتى إنها تأخذ وجهاً كاملاً من سورة البقرة، هذه ميزة، ومع ذلك لاحظ كيف تكلم الله سبحانه وتعالى في هذه الآية عن قضية توثيق الدين بالكتابة، خاطبنا بيا أيها الذين آمنوا؛ حتى يستثير فينا عوامل الاستسلام والسماع والتطبيق؛ لأنه خاطبنا بالإيمان حتى ننفذ, يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا [البقرة:282].
ثم قال: إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282], هذا فعل أمر، والأمر يقتضي الوجوب. ثم قال زيادة: وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ [البقرة:282]. فأمر الكاتب أن يكتب، وهذا يدل على أنه يجب على الكاتب أن يبذل الكتابة، ثم قال: بِالْعَدْلِ [البقرة:282]، ووصف الكتابة أنها تكون بالعدل، فَلْيَكْتُبْ [البقرة:282]. هذا أمر آخر, وَلْيُمْلِلِ انتقل للإملاء, الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ ثم أمره بالتقوى, وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا انظر المؤكدات كم هي كثيرة.
ثم ذكر سبحانه فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ هنا البديل فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ [البقرة:282].
ثم ذكر سبحانه الإشهاد, وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى [البقرة:282].
ثم خاطب الشهداء وقال: وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا [البقرة:282].
ثم عقب بقوله سبحانه: وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ [البقرة:282]. انظر كم ورد من التأكيد، ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا [البقرة:282]. هذه التجارة الحاضرة, التي هي الآن خذ وهات، يعني: لا نحتاج أن تكتبها، إنما الكلام في الدين.
ثم قال بعدها: وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:282]، ثم قال في الآية التي بعدها: وَإِنْ كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تجِدُوا كَاتِبًا [البقرة:283]. لاحظ الشروط: مسافر، وليس عنده كاتب, لا يمكن، هنا ما هو البديل؟ فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283].
إذاً: الآية طويلة, وفيها التأكيد من الله سبحانه وتعالى بقرآن يتلى إلى يوم القيامة، وفيها نصوص، يعني: ضوابط كثيرة.
ذكر الثلاثة أشياء: الأول: التوثيق بالكتابة.
الثاني: التوثيق بالإشهاد.
الثالث: التوثيق بـ.
مداخلة: بالرهن.
الشيخ: بالرهن. هذه ثلاثة أشياء من توثيق الدين، طبعاً هذه فائدة فقهية الآن, أنه ذكرنا ثلاثة أشياء في توثيق الدين التي هي الأول: الكتابة، الثانية: الشهادة، الثالثة: الرهن.
مستحب، هذا مذهب الجمهور مالك والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل، وجمهور العلماء، وإنما قال بوجوب الكتابة الإمام الطبري ونسب لبعض السلف، وهو قول له وجاهته يعني، لكن أنت عندما ترى قول الجمهور أو تسمع طالب علم يقرر لك أن كتابة الدين ما هي بواجبة، لا تشعر بقلق, أو أن فيه اعتداء على النصوص، مع أن النص كبير مثل ما أنت ترى، لكن القضية ما أخذت بعداً معيناً وعاطفياً ونفسياً وأثراً، ولذلك الواحد يتعامل معها بهدوء واعتدال، ويرى أن هذا الإنسان الذي لم يقل بالوجوب، ليس ذلك عدواناً على النص، وإنما ظهر له من نصوص أخرى ومن أدلة شرعية أن الأمر هنا على سبيل الاستحباب, وعلى سبيل التوثيق لأمر دنيوي يتعلق بمصالح الناس فقال بهذا القول.
ولذلك لا تجد أحداً يشنع على أحد بقلة دينه مثلاً أو بقلة فقهه، لأنه يقول بأن كتابة الدين ليست واجبة، بينما أحياناً قد تجد مسألة ليس فيها نص في القرآن أصلاً، ويمكن ليس فيها نص حتى في الحديث، ثم تجد عند الناس نوعاً من التوتر والضيق إذا حصل فيها نوع من عدم الاتفاق بين الفقهاء والعلماء، شكل كبير يدلك على أن تعاملنا أحياناً مع النص عندما نستدعي النص أحياناً أو نتكلم فيه، يعني: يحتاج إلى أن الإنسان يتفطن إلى أن تكون القضية فعلاً وقوفاً عند حدود الله وعند النصوص القرآنية المحكمة, وليست بتأثيرات لا شعورية عند الإنسان.
فالمهم أن الكتابة الآن هي الأول من طرق التوثقة, وهي مستحبة عند الجمهور، واجبة عند الطبري وبعض السلف كما ذكرنا.
والذي نميل إليه هو قول الجمهور في أن الأمر للاستحباب؛ لأنه يتعلق بشيء دنيوي في توثيق مصالح الناس الدنيوية، ولذلك كان الأمر مبنياً على حصول الأمانة، ولهذا قال: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]. فهذه الأمانة مبنية على ماذا؟ لماذا أنا أمنتك؟ هل أجزم بأنك أمين؟ لا، وإنما ظهر لي من حالك أنك رجل تأخذ وتعطي وتحفظ أموال الناس.
إذاً: هذه ثلاثة أشياء يوثق بها الدين.
فيه أقوال لأهل العلم، الأقرب منها: إن المطالبة تتجه أصلاً للمدين، فإذا تعذر سداده أو ماطل انتقل إلى الكفيل.
طيب. لو كان لك علي مائة ألف، ولي عليك خمسون ألفاً، ألا نسقط خمسين ألفاً من الدين ويسدد لك الخمسين الباقية؟
بلى، يعني: يؤخذ حصة الدين الذي عليك وتنزل من قيمة الدين. فهذا يسمى مقاصة، وقد تأتي المقاصة على الدين كاملاً, يعني: مائة ألف بمائة ألف، وقد تأتي على بعض الدين كما ذكرنا على نصفه أو أقل أو أكثر، فيسقط من الدين الذي عليك.
واتحاد الذمة المقصود به: لو فرضنا أن عليك ديناً في ذمتك قدره مليون ريال لشخص معين .. لأخيك .. شقيقك .. أخوك الشقيق هذا كتب الله عليه الموت، طبعاً هرم هو مات في التسعين من عمره، فمات وأنت الوارث الوحيد له، ألست ترثه؟ وبالتالي هذا الدين الذي في ذمتك أصبح لمن؟ أصبح ديناً لك عليك، فهنا الذمة اتحدت وسقط الدين، فمات الدائن الذي لا وارث له إلا المدين, ونحو ذلك.
أعطيك مثالاً: بعت عليك هذه السيارة، ثم تم رد السيارة بالخيار، كنت أعطيتك الخيار وفي فترة الخيار أنت تراجعت، أو رددت السيارة بخيار العيب، فالعقد إذاً ألغي، وبناء عليه برئت ذمتك من الدين؛ لأن السبب الذي أوجب الدين قد زال.
إذاً الأسباب التي بها تبرئ الذمة خمسة:
أولاً: السداد.
ثانياً: الإسقاط.
ثالثاً: الإبراء.
رابعاً: المقاصة.
خامساً: اتحاد الذمة.
سادساً: زوال سبب وجوب الدين.
لي على فلان دين، اذهب إليه وكان فلان مليئاً, يعني: باذلاً غنياً، فإنه يتحول إليه وتبرأ ذمة المدين الأصلي. فهذه الأشياء التي بموجبها تبرأ..
وقد ورد في حديث ذكره أبو داود في سننه وذكره الإمام أحمد في مسنده عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أعظم الذنوب عند الله عز وجل أن يلقاه بها عبد بعد الكبائر التي نهى الله عز وجل عنها: أن يموت الرجل وعليه دين لا يدع له قضاء ). وهذا الحديث كما قلت: رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده والروياني والبيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في معرفة الصحابة، وفي سنده ضعف؛ فيه رجل يقال له: أبو عبد الله القرشي يروي عن أبي بردة عن أبي موسى، وهو مجهول، ولكن استشهد به جمع من أهل العلم كـابن تيمية , وأبو داود ذكره وسكت عليه. وهذا الحديث لو صح لكان دليلاً على عظمة الدين، وكون الإنسان يموت وهو لا يدري متى يموت وعليه دين ليس له وفاء، أما إن كان له وفاء فالأمر يسير.
الجواب: إذا كانت الشركات تتاجر بسلع مباحة في الأصل مثل: الهاتف .. مثل الكهرباء .. مثل المواد الغذائية .. الكمبيوتر .. النفط .. ونحوها، فيجوز للإنسان أن يتاجر بأسهم هذه الشركات، لكن الكثيرين يلاحظون أن بعض هذه الشركات وربما غالبها تودع في البنوك، يكون عندها فائض أموال تودعه في البنوك وتأخذ عليه فوائد، وتصرف هذه الفوائد للمساهمين، وهذا أيضاً صحيح، يعني: يندر أن توجد شركة كبرى إلا ويكون لها إيداعات في البنوك، ففكرة تجنب هذه الشركات نهائياً باعتبار هذا القدر الموجود صعب، هذا فيه مشقة على الناس عظيمة، وفيه تفويت لفرص خير على المسلمين في اقتصادهم، يصبح اقتصادهم مملوكاً بأيدي غيرهم، وهذا من أسوأ ما يفكر فيه الناس أن يصبح حتى اقتصادنا يملكه أعداؤنا، وشركاتنا مثلاً في الأسمنت، أو في الكهرباء أو في غيرها يملكها غير المسلمين، وفكرة إنه والله اضغط عليها حتى تتخلص هذا ما هو بالأمر السهل يعني، والناس كلهم ليسوا على قلب رجل واحد.
ولذلك فالصواب: جواز المساهمة في هذه الشركات، لكن إن كان الإنسان يعرف مقدار المال الذي جاء من الربح الربوي 1% .. 2% .. 3 .. أقل .. أكثر فإنه يخرجه، وإن كان لا يعرف فإنه يتحرى, ويخرج بقدر ما يظن أنه يكفي ويغطي المال الذي جاء عن طريق الربا، وبذلك نكون -يعني- سلمنا من المفسدة وصببنا على بول الأعرابي ذنوباً من ماء .
الجواب: لا شك أن هذا أمر خطير، أن تحلف بالله كاذباً وفي حق من حقوق إخوانك المسلمين، ربما إنسان أحرج بمناسبة معينة، لكن الذي على الأخ يقول: شعر بالذنب الكبير والحسرة، وأنا الآن لا أدري ما أفعل, وما هي الكفارة؟
حقيقة الكفارة أولاً الاستغفار من حلفك بالله بغير حق.
والكفارة الثانية: أن تذهب لهذا الرجل وتتحلل منه, وتقول له: أنا قلت لك ما قلت، ووقعت في حرج، وأستغفر الله، وما تريده مني فأنا حاضر, بحيث إذا قال لك مثلاً: أن تذهب لهؤلاء الأشخاص وتخبرهم بأنك قلته، لا بأس، يعني: كونك تعترف على نفسك بحق أفضل من كونك تدين أخاك المسلم بباطل، صار هو كذاب؛ لأنه ادعى عليك شيئاً وأنت قلت: ما قلته، ففي هذه الحالة أن تذهب إليه وتعتذر منه، فإن سامحك فالحمد لله، وإن قال لك: حتى تذهب إلى هؤلاء الناس وتخبرهم بأنك قلته فلا عليك أن تذهب، ولا شك أن هذا أهون من عقوبة الله لك.
الجواب: هذا أيضاً لابد أن يكون مضى في باب الزكاة، وذكرنا فيه أقوال أهل العلم في المسألة، والقول الراجح المختار: أنه يجوز سداد دين الميت من الزكاة, طبعاً إذا لم يوجد له وفاء في تركته، وهذا هو مذهب المالكية واختاره الإمام ابن تيمية كما في الاختيارات الفقهية.
وأما الجمهور فلا يرون ذلك؛ لأنهم يرون أن الزكاة تمليك في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60]. فلا بد أن يملك الغارم الزكاة، ولذلك يقولون: لو سدد عنه دينه لابد أن يكون ذلك بعلمه أو موافقته. ولكن الذي نختاره هو جواز ذلك، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر