الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
عندنا اليوم الحلقة الثالثة والأخيرة في مقدمات البيوع، فقد عقدنا الأسبوع الماضي والذي قبله حلقتين في المقدمات المتعلقة بالبيوع تقدمة لشرح كتاب البيوع من عمدة الفقه وهو الكتاب المعروف في مذهب الحنابلة.
وفي هذه الليلة والتي قبلها أيضاً انضم إلينا بعض الإخوة عن طريق الإنترنت، حيث يقوم الإخوة بنقل الدرس مباشراً على موقعنا (islamtoday.net) الإسلام اليوم، وطلب منا أحد الإخوة الأخ عيسى طلب منا إعادة المقدمات ثم غاب، فنعيدها على كل حال؛ لأن الحاجة ماسة، ولعل طلبه ليس شخصياً، وإنما هو مراعاة للمصلحة العامة، فتقريباً ذكرنا مجموعة مقدمات فيما مضى نبدأ بها الآن ثم نواصل بعدها.
المقدمة الأولى التي ذكرت: ما يتعلق بالحاجة إلى عقد البيع، وقد ذكرنا أن عقد البيع هو أبو العقود وأساسها وأولها وأسبقها وجوداً، وأكثرها إلحاحاً وضرورة في حياة الناس؛ ولهذا يذكر دائماً في مقدمة كتاب المعاملات، وهو من العقود المسماة، يعني التي لها اسم في الشريعة، بخلاف العقود التي هي مرجأة أو منظرة غير مسماة، ويتفرع عن عقد البيع عقود أخرى كعقد السلم، أو الصرف أو غيرها، ولهذا يسمونه أحياناً باسم البيوع، إشارة إلى تنوعه، وأنه ليس عقداً واحداً، وإنما هي عقود متعددة كما يتضح ذلك جلياً من خلال التقسيمات.
أيضاً هو من عقود المبادلات بين طرفين، وهو من عقود المعاوضات، ليس عقد إرفاق أو تبرع أو هبة، وإنما هو عقد معاوضة، لابد فيه من عوضين، والمبنى فيه على مصلحة الطرفين.
هذه هي المقدمة الأولى.
فهناك بينهما فرق، وقد ذكرنا أن القاعدة في الفرق أن ما يتعلق بالعبادات الشرعية فأصلها تفصيلي توقيفي، أما إنه تفصيلي؛ فلأن الشريعة جاءت بالتفاصيل، كيف تقوم وتركع وتسجد، وماذا تقول في الدعاء، إلى غير ذلك، وهكذا الحال في الصوم والحج والزكاة، الشريعة جاءت بأحكام فيها مفصلة.
والأمر الثاني: أن العبادات توقيفية، بمعنى أنه لا يحق لأحد أن يخترع أو يبتكر عبادة من عند نفسه، وهذا من يسر الشريعة، وإلا لتراكم على الناس كميات هائلة من العبادات عبر القرون، لو أن كل أحد خطر في باله فكرة عبادة فاقترحها على الناس.
فلذلك نقول: العبادات تفصيلية توقيفية، ولذلك قال الله سبحانه وتعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، فهنا لا يحق لأحد أن يخترع أو يبتكر عبادة جديدة لم يأت بها الشرع، وقلنا: إن العبادات توقيفية في خمسة أشياء:
في السبب، وفي النوع أو الجنس، كونها صلاة أو زكاة أو صوماً، وفي الزمان والتوقيت، وفي الصفة، وفي العدد.
إذاً: العبادات توقيفية تفصيلية، بينما ما يتعلق بالمعاملات أو بالعادات نقول: هي إجمالية عفوية.
أما إنها عفوية فمعناه: أن الأصل فيها هو الإذن والموافقة والقبول الشرعي، ولا يحتاج الأمر فيها إلى توقيف من الشرع، بل الأصل فيها هو الإذن، ولهذا هي عفو، هذا معنى كونها عفوية، أي: أنها عفو في الشريعة، ولا يحتاج الإنسان في إجراء عقد من العقود، أو شرط من الشروط، أو معاملة من المعاملات إلى أن يأتيه نص شرعي بإجازة ذلك، بل يكفي ألا يرد نص شرعي في منع ذلك. هذا معنى كونها عفوية.
وأما كونها إجمالية فهو أن النصوص لم تفصل، ولهذا تجد -مثلاً: كتاب الصلاة- تجد فيه كميات هائلة من الأحاديث، بينما تجد في البيوع والمعاملات عدداً قليلاً جداً، فالنصوص فيها إجمالية تتكئ على جانبين:
الجانب الأول: التقعيد، يعني: وضع القواعد والأصول العامة التي تحكم الباب.
الجانب الثاني: هو بيان المنهيات، يعني يأتي نص في تحريم هذا البيع أو تحريم هذه المعاملة، ومعناه أن ما كان سواها فالأصل فيه أنه جائز.
إذاً النصوص في المعاملات هي إجمالية تتعلق إما بوضع القواعد العامة والأصول الكلية، أو ببيان ما يحرم من هذه المعاملات، وهذه العقود، وهذه الشروط.
ولو لم نأخذ بذلك لوقعنا في قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [يونس:59]، فدلت هذه الآية الكريمة على أن الأصل في الأشياء الإباحة والأصل في العقود والمعاملات وما خلق الله تعالى لنا من رزق أنه حلال مباح لا نحتاج فيه إلى إذن، يكفي ألا يرد دليل على المنع أو الحرام.
وذلك أننا قلنا: إنه عند جمهور العلماء أنه ما من مسألة إلا ولله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فيها حكم، علمه من علمه وجهله من جهله .
والأحكام التكليفية خمسة: الوجوب، ويقابله التحريم، والمكروه ويقابله المستحب، والمباح، فهذه الأحكام لا يخرج منها شيء، لكن نلاحظ أن في هذه الأحكام المباح، والمباح بغض النظر عن هل هو حكم أو ليس بحكم، إلا أنه تتعلق به أشياء كثيرة، بل نقول: إن أوسع الدوائر في الشريعة هي دائرة المباح، فأنت لو حسبت المحرمات وجدتها معدودة، لو حسبت الواجبات وجدتها معدودة، كذلك السنن والمستحبات أو المكروهات، بينما دائرة المباح لا تتناهى أبداً، هناك أشياء كثيرة لا يعلمها الناس مما يخلقه الله سبحانه وتعالى فيما بعد من المباح، مما لا يمكن للناس عده ولا إحصاؤه.
فلذلك نقول: الشريعة بهذا الاعتبار شاملة، والله تعالى نزل الكتاب تبياناً لكل شيء وتفصيل كل شيء، وهنا نلاحظ جانبين:
الجانب الأول: أنه مع هذا الشمول إلا أن هناك ازدواجية في حياة المسلمين في معاملاتهم، فلا يستغرب أنك قد تجد إنساناً عابداً مصلياً صواماً قواماً، ومع ذلك لو أتيته في صفقة البيع والشراء لوجدته قد يقع في الغش أو في اليمين الفاجرة، أو في الربا، أو في المعاملات -أقلها المعاملات المشبوهة- وما أشبه ذلك من الأمور التي تنبي عن ازدواجية في شخصية هذا الإنسان، فالذي يتعبد في محرابه ويصلي وربما يبكي قد يحدث -ولو كان قليلاً، لكنه موجود ولا سبيل إلى تجاهله- أن يقع عنده تفريط عظيم فيما يتعلق بكثير من المعاملات، وكأنه في حسه أن هناك فرقاً بين العبادات التي يخلص فيها وبين المعاملات التي يرتكب فيها الحرام، مع أن الشريعة واحدة والباب واحد.
والحقيقة أن وقوف الإنسان عند حدود الله تعالى في المعاملات لا يقل دلالة على إيمانه من وقوفه فيما يتعلق بالعبادات، وقد تجد إنساناً وقافاً عند حدود الله في العبادات، لكنه غادر وفاجر في المعاملات، مما يدل على ضعف إيمانه، ولذلك قال بعض السلف: [ لا ورع كالكف ]، فرأس الورع هو الكف عن المحرمات.
النوع الثاني من الازدواجية: هي ازدواجية التنظير، وهذا كثير، ربما نحن من ضحاياه، ازدواجية التنظير أننا حينما نتحدث مثلاً عن واقع المسلمين، أو عن الإسلام، أو عن تطبيق الشريعة أو ما أشبه ذلك، نفهم شيئاً ونترك شيئاً آخر، فنفهم أن هذا يتعلق بالعبادات مثلاً، لكن لا نتفطن إلى أن هذا يشمل كل شئون الحياة، وبالذات ما يتعلق بالمعاملات والآداب، مثلاً حينما يبتلى أناس بمصيبة ويقول البعض: إن هذا بسبب ذنوبهم، أو بما كسبت أيديهم.. يظنون أنه بتفريطهم مثلاً في العبادات، لكن لا يقع في بالهم أن تفريطهم في معاملات أو وقوعهم في الحرام في هذه المعاملات قد يكون سبباً للعقوبة.
وهكذا حينما نتحدث عن النهضة الإسلامية، النهوض بالمسلمين، والرقي بهذه الأمة، والخروج بها من أزمتها، فتجد الغالب يتحدثون عن التزامات تعبدية؛ لكنهم يغفلون عن هذه الالتزامات المتعلقة بالمعاملات، وتطبيق نظام الإسلام في كل شئون الحياة.
العقود والشروط يفترض أنها معروفة.
فالعقد: هو التزام بين طرفين، أو ترتيب بين كلامين؛ يترتب بموجبه التزامات على أحدهما أو على كل منهما.
وهكذا الشرط ذكرنا تعريفه، والشرط قد يكون شرطاً في الشيء أو شرطاً للشيء، وما يتعلق بالعقود والشروط فقط ذكرنا فيها قولين أساسين:
القول الأول: أن الأصل في العقود والشروط هو الحظر والمنع، بمعنى: أنه لا يجوز لأحد أن يبتدئ عقداً أو شرطاً إلا إذا أذنت فيه الشريعة، وهذا مذهب ابن حزم وقال ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية : إن بعض أصول الأئمة الأربعة تنبني على هذا.
وعمدة دليل هؤلاء هو حديث عائشة في الصحيحين في قصة بريرة لما اشترتها وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل وإن كان مائة شرط )، فقالوا: هذا دليل على أن الشروط إذا لم تكن في كتاب الله فهي باطلة، وبناءً عليه قالوا: لا يجوز ابتكار شرط ولا عقد إلا ويكون موجوداً في كتاب الله تعالى، هذا مذهب ابن حزم .
القول الثاني وهو الصحيح: أن الأصل في العقود والشروط هو الإذن وهو الجواز، وهذا مذهب الجمهور، بل من الباحثين من قال: هذا هو قول الأئمة الأربعة، كما ذهب إليه الدكتور صالح السلطان في رسالته في الشروط في البيع، وذكره جماعة من الباحثين على أنه قول الأئمة الأربعة، أن الأصل في العقود والشروط الجواز، وبناءً عليه فإننا لا نحتاج إلى إذن شرعي بعقد أو شرط، يكفي ألا يكون ورد نص شرعي في منع هذا العقد أو الشرط، أو أن يكون داخلاً في قاعدة عامة ثابتة في الشريعة تمنع منها، مثل عقود الغرر، عقود الميسر، عقود الربا، عقود الجهالة.. وما أشبه ذلك، عقود الظلم، هذا لا شك في تحريمها؛ لدخولها تحت قواعد كلية أو نصوص خاصة.
فمذهب الجمهور كما ذكرنا في العقود والشروط الجواز، وحجتهم:
أولاً: الآيات القرآنية يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1] .. وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ [النحل:91] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.
فقالوا: لولا أن الأصل فيها الجواز ما أمر بالوفاء بها.
الدليل الثاني أو القسم الثاني: الأحاديث النبوية، مثل قول الرسول عليه الصلاة والسلام ( آية المنافق ثلاث ) وذكر: ( إذا عاهد غدر )، فهذا دليل على وجوب الوفاء بالعهود والعقود، وكذلك حديث عقبة في البخاري وغيره: ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) فقالوا: هذا دليل على أن أولى العقود بالوفاء هي شروط عقد النكاح، وهو دليل أيضاً على أن ما سواها من العقود جائز، وكذلك الشروط.
والدليل الثالث: أن هذا هو الأصل -كما ذكرنا- أن هذه من العادات التي الأصل فيها الإباحة والإذن والجواز، فمن قال بالمنع فهو المطالب بالدليل، وهذا استدلال قوي.
الدليل الرابع: الآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم في معاملاتهم وأقوالهم، كما في قول عمر رضي الله عنه: (مقاطع الحقوق عند الشروط)، وكذلك ما ورد عن ابن مسعود وصهيب وغيرهم في كونهم أجروا عقوداً ووضعوا فيها شروطاً لم يكن فيها نص.
الدليل الخامس: المعقول، فإن حاجة الناس القديمة والمتجددة مسلمهم وكافرهم، برهم وفاجرهم، عربهم وعجمهم إلى إجراء هذه العقود وإلى إجراء هذه المعاملات، وأنه يتعلق بها مصالح، ويقوم كثير منها على التراضي بين الطرفين والمصلحة المشتركة، فالمعقول يدل على أن مثل هذا مما ينبغي أن يكون الأصل فيه الإذن والأصل فيه الجواز.
ونحن عندما نتحدث عن الشروط -الشروط في البيع- فهذا معروف. يعني: كوني أبيع شيئاً وأشترط كذا، أما أصل العقد الشرعي -كما ذكرنا- قواعد شرعية، ذكرنا كثيراً منها.
وشروط البائع مثل: كونه لابد من أن يكون جائز التصرف، أو أنه لا يجوز بيع الخنزير، أو بيع الخمر، أو لا يجوز بيع الحر.. هذه قواعد شرعية، هاه! إذاً: الكلام هو في الشرط في البيع، كوني أشترط عليك شيئاً، مثلاً: أبيع لك سيارة وأشترط أن تذهب بي إلى الرياض مثلاً.
(مبادلة مال): يعني شيئاً يتموله الإنسان ويملكه ولو كان في الذمة، سواء كان ناجزاً أو كان في الذمة.
أو مبادلة منفعة مباحة مثل: عبور طريق، كونه يأذن لك بعبور طريق لغرض أو مصلحة معينة.
بمثل ذلك: يعني مالاً بمال مثلاً، سواء كان بعين أو بنقد أو بغير ذلك أو بدين كما هو معروف، (وعلى التأبيد) يعني: للأبد، يخرج منه مثلاً عقد الإجارة؛ لأن عقد الإجارة عقد مؤقت.
والحكم التكليفي في البيع: أن الأصل فيه الإباحة؛ لقول الله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن أفضل المكاسب فقال: ( وكل كسب حلال )، أو شيء من هذا، والحديث كما ذكرنا أنه ضعيف، لكن يغني عنه ما هو ثابت في السنة بل متواتر من تعامل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالبيع، كقصة عائشة كما ذكرنا، وبيع الرسول عليه الصلاة والسلام وشراءه من اليهود، وتبايع الأنصار فيما بينهم .. إلى غير ذلك من المعاملات التي تدل على أن الأصل في عقد البيع هو الإباحة.
وهذا فيما يتعلق بالأفراد، لكن على مستوى الأمة لا شك أن إجراء عقود البيوع وتوفر السلع التي يحتاجها الناس يعتبر من فروض الكفاية، التي يجب أن يوجد في المسلمين وأمصارهم ومجتمعاتهم من يأتي بهذه الأشياء، إما تصنيعاً، أو توريداً، أو توفيراً، أو نقلاً، أو ما أشبه ذلك، فهذا من الواجبات العامة على الأمة مما يسمى بفروض الكفايات.
لكن قد يطرأ على حكم البيع طارئ ينقله عن الإباحة إلى غيرها، فقد يتحول من الإباحة إلى الاستحباب، مثلما لو أقسم عليك إنسان أن تبيع عليه سلعة وأنت لا ضرر عليك في بيعها، فحلف عليك أن تبيع عليه، هذا مستحب وليس بواجب.
وقد يكون الوجوب مثلما إذا طلب منك سلعة أن تبيعها عليه وهو مضطر إليها وأنت ليس عندك ضرورة، فيجب عليك أن تبيعها له حينئذ.
وقد ينتقل إلى الكراهية، وذلك كما إذا باع الإنسان الأشياء المكروهة، فإن بيع المكروه مكروه، وبعضهم قال أيضاً: البيع والشراء من الإنسان الذي يكون غالب ماله أنه سحت أو حرام، فقالوا: هذا أيضاً يدخل في البيع المكروه، وهكذا مثلاً بيع الفرس عند من يقول بكراهية أكلها.. وما أشبه ذلك.
القسم الرابع: أنه قد ينتقل إلى التحريم، وهذا كثير، مثل بيع الأشياء المحرمة: بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام .. وما شابه ذلك.
وهذه التقسيمات كثيرة جداً، لكن انتقينا منها بعض ما تمس الحاجة إليه.
وهذا ذكرنا فيه كما أفادنا الأخ جمعان .. أين جمعان ؟ أي نعم.
طبعاً ماطلناه في الجائزة فلا بأس، فهذا من المماطلة، ومطل الغني ظلم.
ذكرنا من أقسام البيع باعتبار موضوع البيع، أي: باعتبار السلعة المقايضة، وهي بيع سلعة بسلعة كمن يبيع مثلاً سيارة بسيارة أو سيارة بأرض، وهذا ربما يكون أقدم نموذج من نماذج البيع.
القسم الثاني: الصرف، وهو بيع نقد بنقد، يعني: بيع ريالات بدولارات، أو دنانير، أو جنيهات .. أو ما أشبه ذلك، هذا نوع من البيع ولكنه نوع خاص وله اسم خاص وهو: الصرف، وله أيضاً شروط خاصة.
القسم الثالث: هو السلم، ذكر بعضهم السلم، وقصدوا بالسلم: أن تبيع سلعة آجلة بثمن حال، يعني: تعطيه فلوساً الآن ليرد لك الثمن بعد سنة مثلاً عيشاً، أو قمحاً، أو قهوة .. أو شيئاً آخر، هذا يسمى بيع السلم.
والقسم الرابع: وهو البيع المطلق، وهو ما ليس بذلك وإن كان في إدخال السلم في هذه الأشياء نظر، فلو قلنا: إنها المقايضة، والصرف، والبيع المطلق، يمكن يكون هذا أفضل وأكثر انسجاماً في التقسيم، نقول: هناك المقايضة: بيع سلعة بسلعة، هناك الصرف: وهو بيع نقد بنقد، هناك البيع المطلق: وهو ما سوى ذلك من بيع السلعة بثمن، سواء كان حالاً أو مؤجلاً.
منها بيع المساومة: أن تأتي إلى السلعة فتسومها، ثم تتفق مع صاحبها على القيمة دون أن تعرف قيمتها الأصلية عنده، وهذا يسمى بيع المساومة.
ومنها بيع المزايدة: وهو أن يعرض الرجل السلعة ويزيد الناس فيها واحداً بعد الآخر، وهذا ما نسميه نحن الآن في منطقتنا بالخراج، وأصبحت كلمة الحراج رمزاً للأصوات المرتفعة، ولذلك إذا صار المدرس سمح وحبيب وصار الطلاب يرفعون أصواتهم في الفصل يقول لهم: هي حراج؟! لأن الكل يتحدثون، فهكذا الحراج ترتفع الأصوات، والمتقدمون يسمونه: سوق من يزيد!
القسم الثالث: المناقصة، وهي عكس المزايدة: وهي أن يقول الإنسان: أريد سلعة معينة من يوفرها لي، فيعرض مثلاً أن فلاناً أنه يوفر هذه السلعة بهذه الشروط بهذا الثمن، وآخر ينقص عن ذلك حتى ترسوا المناقصة عليه هو، فهذا يسمى بيع المناقصة.
القسم الرابع: ما يسمى ببيوع الأمانات: وبيوع الأمانات أنواع، أيضاً ممكن نقول إنها أربعة بيوع، منها: بيع المرابحة، كأن أقول لك: هذا البرنامج ما اسمه؟ تستطيعون تقرءون عنوانه الآن؟
الفتاوى الاقتصادية -وخلونا بين قوسين نسوي دعاية لهذا البرنامج- هذا البرنامج: (الفتاوى الاقتصادية) عملته شركة حرف، فيه ألف وأربعمائة فتوى اقتصادية.. أعتقد أنها قليلة، ألف وأربعمائة ليست شيئاً بالقياس إلى ضخامة المشكلات التي يعانيها المسلمون في الاقتصاد الآن، لكن يظل أنه عمل جيد.
هذه الفتاوى الاقتصادية تنتظم في أكثر من ثلاثة وعشرين جهة قامت بإعداد هذه الفتاوى، منها: مجامع فقهية مثل المجمع الفقهي بـجدة، والمجلس الفقهي التابع لرابطة العالم الإسلامي مثلاً، والمجمع الفقهي في الهند، منها مؤتمرات اقتصادية أو مصرفية أو فقهية إسلامية، مثل المؤتمر الإسلامي الأول والثاني والثالث للمصرف الإسلامي، ومثل مؤتمر الزكاة الأول في الكويت، ومنها بنوك إسلامية، مثل: بنك الراجحي، بيت التمويل الكويتي، بيت الزكاة الكويتي، بنك فيصل المصري، وهكذا مجموعة من البنوك الإسلامية التي قامت بـ..، وكذلك مجموعة بنوك في السودان وفي غيرها.
الدول التي تنتظم هذه المواقع: السعودية، قطر، الكويت، البحرين، مصر، السودان، الأردن، الهند .. وغيرها، فلذلك نقول: إن هذا البرنامج مفيد للباحث المعاصر وإن كانت ألف وأربعمائة فتوى تعتبر قليلة بالقياس إلى ضخامة المهمة وخطورتها.
المهم عندما يكون عندي هذا البرنامج، وأريد أن أبيع عليك بيع الأمانات، فإذا فرض أني شريت هذا البرنامج بألف ريال، فبيع المرابحة هو أن أقول: أبيع عليك هذا البرنامج بألف وخمسمائة ريال، هذا يعتبر نوعاً من الجشع، دعنا نقول: ألف وخمسين، هذا بيع مرابحة.
طيب لو أردت أن أبيعه عليك بيع مواضعة، أقول: هذا البرنامج اشتريته بألف وهو لك بخمسمائة، فلا مانع، هذا بيع مواضعة، يعني: أني وضعت لك من الثمن.
لو بعته عليك برأس المال فقلت لك: هو بألف وخذه بألف، هذا يسمى التولية، يعني: وليتك السلعة بثمنها.
القسم الرابع: هو بيع التشريك، أن أقول: إن هذا بألف وسوف أعطيك نصفه بخمسمائة، هو نوع من التولية لكنه تشريك، وقد يكون التشريك بأكثر أو أقل، يعني: تشريك مع المرابحة، أو تشريك مع المواضعة، يعني تشترك معي بالنصف وأربح عليك، أو أنزل لك، فهذا يسمى بيع التشريك.
إذاً: هذا تقسيم البيوع باعتبار طريقة تحديد الثمن.
هناك بيع يكون الثمن فيه مؤجلاً، يعني: السلعة موجودة والثمن تعطيني إياه بعد فترة، أو على أقساط، فهذا مؤجل الثمن.
هناك مؤجل المثمن: وهو السلم: أن تعطيني الثمن الآن وتأخذ السلعة بعد سنة -بعد أجل معلوم- فهذا السلم.
هناك القسم الرابع: وهو مؤجل الطرفين، مؤجل الثمن والمثمن، وهذا يسمى بيع الكالي بالكالي، ويسمى بيع الدين بالدين، وهذا جاء فيه حديث لكنه ضعيف، وإنما أجمع الفقهاء على معناه.
وذكرت أن إجماع الفقهاء على معناه لا يعني.. لأنه بيع الدين بالدين، بيع الكالي بالكالي ذكر الفقهاء له حوالي ثمان صور أو أكثر من هذا.
النوع الوحيد المتفق عليه كما ذكر ابن تيمية وابن القيم رحمهما الله هو ما يسمى عند المالكية الدين بالدين المبتدي أو الابتدائي، ويقصدون به أن تبيع سلعة في خيالك بثمن في خيالي ولا يوجد شيء، مثل أن أقول: يا تركي ! سوف أبيع عليك سيارة (هايلكس) بعد سنة موديل كذا مواصفاته كذا، وتقول لي أنت: وأنا أعطيك الثمن بعد سنتين مثلاً ستون ألف ريال، فهنا البيع: الثمن عبارة عن دين، والسلعة عبارة عن دين، فهذا ربما هو أخص وأوضح صور بيع الدين بالدين، وهي التي ذكر جماعة من الفقهاء الإجماع على تحريمها، ونص ابن القيم وابن تيمية على أن هذه هي الصورة الوحيدة التي وقع عليها الإجماع، أما صور بيع الدين بالدين الأخرى فمنها ما هو محل خلاف.
البيع المنعقد: مثلما أبيع عليك بيتاً بمال والشروط مكتملة، فهذا بيع منعقد، لكن عندما يبيع البعيد على البعيد بيته مثلاً أو لحم الخنزير، فهذا البيع باطل، أو يبيع عليه حراً ويأخذ ثمنه، فهذا البيع باطل، أو يبيع عليه ما أشبه ذلك من المحرمات التي لا يجوز بيعها.
القسم الثاني: العقد أو البيع الصحيح ويقابله الفاسد، وهذا اصطلاح خاص بالحنفية، خلافاً للأئمة الثلاثة، فالفاسد والباطل عندهم واحد، أما الأحناف فيرون هناك الصحيح يقابله الفاسد، وعندهم فرق لطيف بين الفاسد والباطل.. الباطل يكون فاسداً من أصله كبيع الميتة، بينما البيع الفاسد عندهم مأذون فيه أصلاً؛ لكن طرأ الخلل في شرطه، قالوا مثل: البيع المسكوت عن ثمنه، أبيع عليك مثلاً هذا الجهاز.
طبعاً هذا بيع الفضولي موقوف على إجازة الرجل، لكن أبيع عليك دون أن يسمي ثمنه، فقالوا: هذا بيع فاسد، وصلاح البيع موقوف على تحديد الثمن، أن يكون هذا الجهاز بمائة ريال.
القسم الثالث: البيع النافذ، ويقابله البيع الموقوف، وهذا هو مثلما ذكرنا تماماً، مثل أن أبيع هذا الجهاز شريطة موافقة المالك، فهذا بيع موقوف على موافقته.
القسم الرابع: البيع اللازم، ويقابله البيع الجائز، والبيع الجائز هو ما وجد فيه نوع من الاستثناء أو ما يسمونه بالخيار، أن أبيع عليك هذه السيارة ولي الخيار لمدة ثلاثة أيام أو أكثر على القول الراجح: أن الخيار يجوز أكثر من ثلاثة أيام، فأشترط أن لي الخيار لمدة أسبوع، فهذا البيع جائز وليس بلازم.
وذكرنا أن الجمهور والأئمة الثلاثة يرون أن المبيع له ثلاثة أركان:
الصيغة (صيغة العقد)، ودعنا من الصيغة ما هي، لكن الركن الأول هو الصيغة.
الثاني: المتعاقدان.
الثالث: محل البيع، ولا يقصدون بمحل البيع: مكانه الذي أجروا فيه العقد، وإنما يقصدون بمحل البيع السلعة التي وقع عليها موضوع البيع، الحاجة التي تبايعوا بها.
إذاً: لو لم يوجد عاقد هل يوجد بيع؟ لا. هذا دليل على أنه ركن.
لو لم يوجد سلعة هل يوجد بيع؟ لا.
لو لم يوجد عقد هل يوجد بيع لا؛ لأنه صيغة.
إذاً قالوا: هذا دليل على أنها أركان؛ لأن الركن جزء من الماهية كما يقول العلماء، ركن الشيء جزء منه، عندما نقول مثلاً: السجود ركن في الصلاة، معناه: أنه جزء منها، بخلاف الشرط الذي يكون قبلها، فالركن جزء من الماهية، فقالوا: إن هذه الأشياء تعتبر أركاناً في عقد البيع.
أما الأحناف فيرون أن الركن الوحيد في عقد البيع هو الصيغة، صيغة البيع، العقد، الإيجاب والقبول .. أو ما أشبه ذلك، أما ما سوى ذلك فلا يعتبرونها أركاناً، لكن بعض المتأخرين كالشيخ مصطفى الزرقا توسطوا وسموا هذه الأشياء مقومات البيع، ويبدو لي أن الخلاف لفظي في هذه المسألة لا يترتب عليه نتيجة فنتجاوزه.
الشرط الأول: أن تكون الصيغة مفهومة، فلو لم تكن مفهومة لم تكن صيغة؛ لأنه ينبني على التراضي: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] والتراضي لا يعرف إلا بأن يكون مفهوماً، سواء بلفظ أو بإشارة أو بحال، المهم أن تكون صيغة العقد مفهومة.
الشرط الثاني: أن تكون متوافقة، لو أقول مثلاً: اشتريت منك الساعة بخمسين، وتقول: بعتها بستين، هل يوجد توافق في الصيغة حينئذ؟ معناه: لا يوجد إيجاب وقبول.
ولو قلت: اشتريتها بخمسين وقلت: أعطيك إياها بأربعين، فهل يصلح؟ هاه! يصلح؛ لأنه يعني أنك تنازلت عن عشرة ريال، فهنا يوجد توافق ضمني.
الشرط الثالث: أن تكون متصلة، بمعنى: ألا يكون هناك فاصل بينهما طويل عرفاً، بحيث يكون الإنسان قد أوجب بعد المغرب وذاك وافق بعد العشاء، فكان بينهما فاصل طويل، فهذا الفاصل يبطل الاتصال بينهما ولا يعد إيجاباً وقبولاً شرعياً.
هل يجب أن تكون العقود منصوصاً عليها (بعت، اشتريت)، أم أنه يجوز البيع والشراء بكل ما دل على الرضا؟
ذكرنا فيها ثلاثة أقوال، أصحها: أن البيع ينعقد بكل ما دل على المقصود منه من قول أو فعل، فينعقد باللفظ عربياً كان أو أعجمياً، وهذا واضح لا إشكال فيه وهو محل إجماع، تقول: بعت، وأقول: اشتريت، هذا لا إشكال فيه.
ينعقد أيضاً بما سوى ذلك من الأقوال التي تدل على المقصود ولو لم يكن بلفظ البيع أو الشراء.
ينعقد بالأفعال الدالة على ذلك.
ينعقد بالأحوال.
من الأفعال مثلاً: بيع المعاطاة، وبيع المعاطاة خلاصته أنك تضع شيئاً وتأخذ شيئاً، مثلما يحدث الآن في ماكينات بيع المرطبات وغيرها، وفي كثير من المحلات تضع مالاً وتأخذ السلعة وتمضي؛ بناءً على ثقة متبادلة أو يسر هذه الأشياء أو تفاهتها، فهذا يعد بيعاً شرعياً نافذاً.
كذلك قد يكون ذلك بغير هذا بالكلية، مما يدل على الرضا، وقد تكون الحال تدل على الرضا أكثر مما يدل عليه المقال، وابن تيمية رحمه الله طوّل في هذه المسألة في القواعد النورانية الفقهية ووصل إلى هذه النتيجة، وهذا ينبغي أن يكون هو قول أكثر العلماء.
من أدلة رجحان هذا القول: أن الشريعة اكتفت بالتراضي: عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29] لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ [النساء:29] فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا [النساء:4].
ومن الأدلة أيضاً: أن هذه الألفاظ جاءت في الشريعة بغير حد، ولم يكن لها حد في اللغة، فيرجع فيها إلى ما يقتضيه العرف، وقد يكون جرى عرف الناس في وقت على ألوان من البيوع لم تكن موجودة، وهذا موجود الآن، فالآن الناس أصبحوا يتبايعون مثلاً عبر الإنترنت، وعبر وسائل الاتصال الحديثة، وبطرق مختلفة، وربما بعضهم لا يعرف بعضاً، ولا يعرف لغة البعض، فتجددت وتفتقت عبقرية التفكير البشري عن ألوان وأنماط من المبايعات والعقود والمعاملات لم تكن تخطر في بال السابقين، وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على الناس، ومن نعمة الله تعالى على البشر، فينبغي أن يكون الأمر أن الشريعة جاءت في هذه الألفاظ بغير حد، فيرجع فيها إلى عرف الناس وما تقتضيه أحوالهم ومقالاتهم.
الأمر الثالث أو الدليل الثالث: أن هذه من العادات كما ذكرت، والأصل في العادات الإذن والإباحة، وليس المنع والتوقيف.
وما حكم بيع الصبي؟
إذا كان يبيع أشياء تافهة أو يشتري فشاراً أو كاكاو أو حاجات تافهة فلا بأس بذلك، كما أن بيع الصبي إذا كان في شيء له قيمة مرهوناً أو مشروطاً بموافقة وليه، ويكون هذا من العقد الموقوف كما قلنا: هناك عقد نافذ وعقد موقوف، فهذا العقد موقوف على إجازة وليه أو وكيله أو والده.
إذاً: هذه صفة العاقد أن يكون جائز التصرف. وقلنا: لابد أن يكون هناك عاقدان: بائع ومشتر، وهناك حالات خاصة يتولى الشخص الواحد فيها طرفا العقد مثل: القاضي، والأب، والولي في بعض الحالات.
ذكرنا أن يكون جوازه شرعاً أو إباحته، أو أن يكون قابلاً شرعاً مثل: أن يبيع سلعة حلالاً، فلا يجوز بيع المحرم، بيع الخمر، بيع النجس عند من لا يجيز استعماله مثلاً وما أشبه ذلك، هذا الشرط الأول.
الشرط الثاني: أن يكون معلوماً بما يميزه عن غيره، فلا بد أن يكون المعقود عليه معروفاً معلوماً، أما لو باع شيئاً مجهولاً فإن ذلك لا يجوز، أو يترتب عليه الغرر والجهالة والخصومات، فقد يكون هذا يتوقع شيئاً وهذا يتوقع شيئاً آخر، والعلم يكون إما برؤية الشيء، أو رؤية مثله، أو يكون بوصفه وصفاً منضبطاً.
كذلك: أن يكون مقدوراً على تسليمه، فلو كان يبيع السمك في البحر، أو الطير في الهواء، أو يبيع عبداً آبقاً؛ فإن هذه الأشياء لا تجوز؛ لأن هذا الشيء غير مقدور على تسليمه.
وكذلك بيع المغصوب لا يجوز إلا أن يبيعه على الغاصب، أو يبيعه على أحد يستطيع أخذه من الغاصب، يكون أقوى منه، يعني أنفذ منه يداً وأقدر منه على ذلك، فيأخذ منه المبيع.
لو كان عند واحد حمام، الحمام هذه تطير في النهار وترجع في الليل، هل يجوز بيعها وهي في حالة الغياب إذا كانت سارحة؟
الصواب أنه يجوز، ما دام أنه جرت العادة أن هذه الأشياء تغدو وتروح .. ( تغدو خماصاً وتروح بطاناً )، فما دام أنها تعود إلى أوكارها أو وكناتها فيجوز بيعها، وإذا عادت سلمها لصاحبها.
كذلك: أن يكون مملوكاً، فلا يجوز أن يبيع الإنسان ما لا يملك، فإن باع الإنسان ما لا يملك فهذا يسمى بيع الفضولي، ويكون أيضاً من العقود الموقوفة غير النافذة؛ لأنه موقوف على إجازة صاحب السلعة.
كذلك: أن يكون موجوداً، أن يكون المبيع موجوداً، فلا بد من الوجود فلا يصح بيع المعدوم باتفاق الفقهاء، ومثال ذلك: أن يبيع الإنسان ثمرة قبل أن تخلق، وهذا طبعاً غير بيع السلَم؛ لأن بيع السلم ليس واقعاً على سلعة بعينها، وإنما واقع على نوع، أنك تجيب لي بعد سنة مائة سيارة بهذه المواصفات، لكن الكلام الآن عن بيع شيء بعينه، مثلما يكون عندي مزرعة وأبيع عليك رمان هذه المزرعة، وهذا لم يخرج بعد أصلاً، فهذا بيع معدوم، وبيع السلم غير محدد، لكن أنا أبيع عليك رمان مزرعتي قبل أن تنتج، قبل أن يخرج هذا الرمان، أو أبيع عليك إذا كان عندي قطيع من الحيوانات من الإبل أو البقر أو الغنم، أبيع عليك ما سوف تحمله هذه الحيوانات وتنتجه بعد سنة مثلاً، هذا أيضاً بيع معدوم، فلا يجوز بيع المعدوم؛ لأنه قد لا يوجد أصلاً.
كذلك: لا يحل بيع الملحق بالمعدوم، يعني: ليس معدوماً لكنه في حكم المعدوم، مثل ماذا؟ قالوا: مثل الحمل الحاضر في بطن الدابة، عندما يكون عندك الآن بقرة حامل، فتبيع الحمل في هذه الحالة، أو تبيع اللبن في الضرع قبل أن تحلبه، أو تبيع اللؤلؤ في الصدف قبل أن تستخرجه، فهذا يلحق بالمعدوم، فلا يحل بيعه.
طيب هناك حالة يحل فيها بيع هذه الأشياء متى؟
عندما تباع تبعاً، وهذا مما ينطبق عليه قول الأصوليين: إنه يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، فيجوز مثلاً أن تبيع الدابة وهي حامل، والقيمة روعي فيها الزيادة، أي أن الثمن ارتفع قليلاً، إذاً: الحمل بيع الآن ولكنه لم يبع بيعاً مستقلاً وإنما بيع تبعاً لأمه، وهكذا مثلاً اللبن في الضرع .. أو غيرها، فيكون بيعها تبعاً وليس استقلالاً، ولهذا قال العلماء: لا يجوز بيع الملاقيح، والملاقيح قيل: هو ما في البطون من الأجنة، وجاء عن ابن عباس رضي الله عنه كما ذكره مالك في الموطأ .. ذكره مالك عن ابن المسيب، وبعضهم رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولم أره مرفوعاً، لكن الصواب أنه من كلام سعيد بن المسيب : (أنه نهى عن بيع المضامين والملاقيح وحبل الحبلة).
قالوا: إن المضامين هو الجنين في بطن الأم، وأما الملاقيح فهي في ظهور الذكور، يعني لم تلقح بعد، فهذا تفريقهم بين المضامين والملاقيح، وبعضهم قال: إنهما بمعنى واحد أو متقارب.
بينما حبل الحبلة هو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية، والنهي عن بيع حبل الحبلة رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع حبل الحبلة، وهو بيع كان يتبايعه أهل الجاهلية ) يعني: يبيع الرجل البيع حتى تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها، يعني: ما باع عليه الحمل الموجود، وإنما باع عليه إذا ولد هذا الحمل ثم حمل وولد، فيبيع عليه الولد الثاني، فهذا بيع واضح الغرر، ولهذا جاءت الشريعة بتحريمه لما فيه من الغرر والجهالة.
ويستثنى من المعدوم ألوان من البيوع، منها: بيع السلم كما ذكرنا، فهو بيع معدوم لكنه غير محدد، ومنها بيع الثمر على الشجر عند ظهور البعض، كقصة الرمان الذي ذكرت لكم، أو غيره من الثمار إذا ظهر الثمر وبدأ نضجه، فهل يجوز بيعه قبل أن يتكامل؟ هاه!
يجوز. لماذا؟ لأنه تبع، يعني المبيع موجود، لكن الأشياء التي تنمو فيما بعد هذه تأتي تبعاً، فالبيع الأصلي وقع على الموجود، وما يخلق بعد ذلك أو يكبر أو يصلح بعد ذلك فهو تبع للأصل، فيجوز أن يبيع الإنسان الثمر بعد بدو صلاحه، وإن كان فيه ما لم يبد صلاحه، وإن كان فيه ما لم يوجد أصلاً ويوجد بعد ذلك، فهذا البيع أيضاً جاء تبعاً وليس استقلالاً كما قلنا: يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، فظهر بعضه وصلح بعضه فجاز بيعه.
والشيء الطريف أنهم قالوا في الفتاوى الهندية: ينعقد إجارة ابتداءً، يعني عقد الاستصناع ينعقد في الابتداء على أنه عقد إجارة، ويصير في الانتهاء بيعاً قبل التسليم بساعة.
إذاً: هو في البدء عبارة عن إجارة، وفي النهاية هو بيع، انظر كلام الفقهاء، الآن في العصر الحاضر وجد ما يسمى بالإيجار المنتهي بالتمليك، ما ينطبق كلام الفتاوى الهندية على الإجارة المنتهي بالتمليك، هو في البداية قالوا: إيجار، ويصبح تمليكاً قبل الاستلام بساعة، إذاً: هذا يدخل فيه موضوع الإيجار المنتهي بالتمليك.
وقد نص الفقهاء الشافعية والحنابلة على أنه لا مانع من الجمع بين الإجارة والبيع كما في الإنصاف مثلاً، وذكره ابن تيمية وقال .. ذكر ذلك في المجموع وكذلك في الشرح الصغير وابن قدامة وابن رجب وغيرهم، ونقلت نصوصهم في جواز الجمع بين عقد الإجارة وعقد البيع، لكن كأنه يظهر لي أن كلامهم ليس صريحاً في جواز جمعهما في عقد واحد يبدأ بإجارة وينتهي ببيع، وإنما مقصودهم أن يتوارد العقدان على محل واحد، ولا يلزم من ذلك أن يكونا عقداً واحداً يبدأ بالإجارة وينتهي بالتمليك، لكن يمكن أن يستأنس بكلامهم.
والأصل في العقود الجواز ما لم تصادم نصاً شرعياً أو تخالف المقصود من العقد كما قاله شيخ الإسلام، ولا نص في المنع من تقييد لزوم عقد البيع أو الهبة بالوفاء بأقساط الأجرة، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1].
هذا خلاصة ما ذكرت، وفي النهاية قلت: إذا كانت بعض عقود الإجارة المنتهية بالتمليك التي تجريها بعض الشركات والمؤسسات اليوم تخالف نصاً كالشروط التي يظهر فيها الظلم مثلاً للمستأجر، أو التي يتبرأ فيها المؤجر من ضمان العين التي لا تزال في ملكه، فإن هذه الشروط لا تقر، بل يمكن تعديل هذه الشروط وإصدار صيغة موافقة للقواعد الشرعية، لكن لا يحكم على العقد بالإبطال جملة وتفصيلاً دون تمييز بين أنواع العقود والشروط؛ لأن في ذلك مخالفة للأصل وهو: الجواز والحل.
طبعاً هذا الكلام في الإيجار المنتهي بالتمليك هو استطراد فيما يتعلق بموضوع الاستصناع، وأن من شروط السلعة أو من شروط المبيع أن يكون موجوداً.
لو باع الدار إنسان ثم خلع الأبواب والنوافذ والأشياء، فهل يكون هذا جائزاً له؟ نقول: هذا عرفاً ملتزم به.
والمكيفات؟ داخلة في البيع، هذا أمر عرفي، فإنه في مجتمعنا المكيفات غير داخلة في المبيع، ولهذا يقومون بخلعها ومصادرتها إذا باعوا البيت، فالأمر يعتمد على العرف في ذلك، وهكذا لو باع السيارة يدخل في بيع السيارة العجل الاحتياطي، وأيضاً يدخل في بيع السيارة بيع أدوات الإصلاح، عدة السيارة، هذه داخلة في البيع.
إذاً: الاستثناء من المبيع يجوز إذا كان المستثنى معلوماً منضبطاً؛ ولهذا أسأل: هل يجوز استثناء الحمل من الدابة؟
فيه قولان والجمهور على أنه لا يجوز استثناء الحمل من الدابة؛ لأنه غير منضبط، وكما لا يجوز بيعه كما ذكرنا قبل قليل فكذلك لا يجوز استثناؤه، يعني منفرداً، أنه لا يجوز استثناؤه، وقيل: يجوز، والقول بالجواز هو قول للإمام أحمد والحسن وإبراهيم النخعي وإسحاق وأبي ثور، وقد روى نافع عن ابن عمر : [ أنه باع جارية واستثنى ما في بطنها ]، قالوا: ولأنه يصح استثناؤه في العتق فصح في البيع.
والذي يظهر لي أنه يجوز الاستثناء؛ لأن الاستثناء هنا يتعلق بالبائع أن يستبقي له شيئاً، يعني لا يمضي عليه عقد البيع، فلذلك الأقرب أنه يجوز استثناء مثل هذا؛ لأنه استثناء واضح ومنضبط، ولا يلزم أن يكون مضمون، فهو لم يشتر هذا الحمل، ولو اشتراه لقلنا: لا يجوز شراؤه، لكن استبقاه لنفسه.
الجواب: أولاً: هي لا تسمى عملية اقتراض؛ لأن الاقتراض هو بالمال، والقرض بزيادة لا يجوز كما هو معروف بالاتفاق ( كل قرض جر نفعاً فهو ربا )، وإنما هذا نوع من التورق كما ذكر الأخ، فإذا كانت السلع موجودة عند هؤلاء الناس وباعوها على الزبون، ثم وكلهم أو فوضهم في أن يقوموا هم ببيعها له بحسب السعر وإعطائه قيمة المبيع، فالأصل في هذا العقد أنه جائز إذا لم ينطو على حيلة أو نوع من التلاعب، فإذا كان العقد يتم حقيقة والسلعة موجودة عندهم فالأصل في هذا العقد أنه جائز.
الجواب: هذا سؤال جيد، وهو من ضمن المواد التي يفترض أننا ألقيناها اليوم، ففي الدرس القادم إن شاء الله سوف أتحدث عن الضمان، وهل هو على البائع أو على المشتري، ومن أجل أن نضمن أن يكون الأخ السائل من المستمعين إن شاء الله في الجلسة القادمة، نؤجل الإجابة إلى ذلك الدرس.
الجواب: بالنسبة للطريقة الأولى كونهم يأخذون مجموعة أجهزة ويسددون بعد مدة مقابل حسم (3%) هذا جائز.
أما كونهم يطلبون أن يعطي الثمن مقدماً مقابل تخفيض بنسبة (5%) فأخشى أن يكون في هذا شيء، والأولى أن يكون تخفيض الشركة لمن يدفع الثمن مقدماً، بمعنى أن يكون البيع نقداً بنازل (5%)، أما من يتأخر أسبوعاً مثلاً يكون عليه زيادة مقابل الإرجاء في الثمن، بحيث يكون بيعهم الحال النقدي هو البيع الطبيعي المعتاد ليس فيه زيادة ولا نقص، أما الزيادة فيضعونها على من يتأخر في التسديد لمدة معينة، فبذلك يصح العقد.
الجواب: لا. الأصل براءة المسلمين، ولا يجوز اتهام أحد بغير حق.
الجواب: إذا كانت هذه الهدية مما تعلم أن صاحب المحل يرضى بها، وأنت أعطيته ترغيباً له مثلاً في تكرار الشراء أو ما أشبه ذلك من المصالح فلا بأس بذلك.
الجواب: لا أعتقد الأخ يقصد الغناء، يقصد الموسيقى، فالموسيقى الإنسان بإمكانه أن يتلافاها أو يتجنبها، لكن لو ترامى إلى أذنه شيء بغير قصده واختياره، فهذا يدخل في قاعدة أخرى سبق أن قررناها وهي: أن المؤاخذ هو المستمع وليس السامع .
الجواب: إن شاء الله إذا اكتمل الباب..، عادة الإخوة إنه إذا اكتمل الباب وضعوه في هذا الموقع.
الجواب: يقصد الأشياء التي تنبت في الشوارع وليست ملكاً لأحد، هذه يجوز للإنسان أن يستفيد منها بالأكل أو ما أشبه ذلك، أو إذا لم يكن هناك من ينتفع بها مطلقاً، فلا شك أن بقاءها ليس من مقصود الشارع، بقاءها هكذا لتضيع أو تفنى، فإن كان الناس يأخذونه، فيأخذ الإنسان بقدر ما يأخذ، أما إن كانت تترك ولا يستفيد منها أحد فلا بأس أن يأخذها الإنسان.
الجواب: مثلما ذكرنا، إن في المسألة ثلاثة أقوال للإمام مالك، قيل: بالركنية، وقيل: بالشرطية، وقيل: بالوجوب، وفيه تفصيل آخر، فالمقصود لو أن المصلي صلى وعلى ثوبه نجاسة، هذا هو كان السؤال؟
فعلى مذهب الجمهور نقول: صلاته باطلة إذا كان عالماً متعمداً؛ لأنه صلى بغير طهارة الثوب وهذا شرط.
لكن على القول الآخر يكون آثماً بهذا وصلاته صحيحة.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر