الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على خاتم النبيين، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذه ليلة الجمعة الخامس والعشرين من ذي القعدة من سنة 1422 للهجرة.
والباب الأول عندنا اليوم هو باب ما يفعله بعد الحل.
وقد ذكرنا بالأمس ما يتعلق بصفة الحج وغيره، واستطرد المؤلف فيها ثم انتقل إلى ما يفعله بعد الحل، وهو تابع في حقيقته لصفة الحج، ولكنه متميز بأنه يفعله بعد التحلل الأول.
فقال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم يرجع إلى منى، ولا يبيت لياليها إلا بها]، يعني: بعدما يكون طاف طواف الإفاضة يرجع إلى منى ويبيت فيها ليالي منى، وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر بمنى، فيبيت ليالي التشريق بمنى كما ذكر.
وما يتعلق بحكم المبيت سوف نعرض له بعد قليل في الباب الذي يليه، لكنه يشير الآن أيضاً إلى ما ينبغي فعله.
قال: [فيرمي بها] يعني: يرمي في هذه الأيام أو لياليها [فيرمي بها الجمرات بعد الزوال من أيامها] وهذا فيه إشارة إلى أن الرمي يكون بعد الزوال، وقد سبق أن ذكرت هذا في العام الماضي، وأعيده اليوم بشيء من الإيضاح.
وكذلك جاء في الموطأ عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: (لا ترمِ الجمار حتى تزول الشمس).
ومثله عن عمر رضي الله عنه وسنده جيد، وقالوا: هذا أمر، وإن كان من صاحب، وليس أمراً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لكن هو أمر في مسألة تعبدية، وقد يكون مبناه على التوقيف، هذا هو قول الجمهور.
والقول الثالث: أنه يجوز رمي الجمار مطلقاً قبل زوال الشمس، وهذا قول عطاء وطاوس من السلف، وقال في الفروع وهو من كتب الحنابلة: قال: وجوز ابن الجوزي الرمي قبل الزوال، وابن الجوزي أيضاً من فقهاء الحنابلة ومصنفيهم.
وقال في الواضح: ويجوز الرمي بطلوع الشمس، إلا ثالث يوم، وأطلق في منسكه أيضاً أن له الرمي من أول يوم، وأنه يرمي في اليوم الثالث كاليومين قبله، ثم ينفر، وعنه: يجوز رمي متعجل قبل الزوال، وينفر بعد ذلك، ونقل ابن منصور : إن رمى عند طلوع الشمس متعجلاً ثم نفر، فكأنه لم ير عليه في ذلك دماً أو لم ير عليه شيئاً وجزم به الزركشي .
الدليل الأول منها: قالوا: القياس على يوم النحر، فإنه في يوم النحر يرمي الجمرة قبل الزوال، فكذلك بقية الأيام ينبغي أن تكون مثله؛ لأن باب الرمي عندهم واحد.
الثاني: قالوا: عدم ثبوت النهي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما هو مجرد فعل، والفعل كما هو معروف لا يدل بذاته على الوجوب، وغاية ما يدل عليه الاستحباب والسنية، ولذلك كون الصحابة رضي الله عنهم كانوا يتحينون؛ لأنهم كانوا حريصين على الخير، فيختارون أفضل الأوقات.
الدليل الثالث: القرآن الكريم في قوله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203].
قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بذكر الله تعالى في الأيام المعدودات وهي أيام التشريق، ولاشك أن الرمي من الذكر، ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها كما عند أهل السنن والدارمي بسند لا بأس به أنها قالت: (إنما جعل الطواف بالبيت ورمي الجمار، والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله تعالى).
وجاء عنها -كما سوف يأتي- أنها ترى أن القصد من الرمي هو الذكر، وإحياء التكبير، فلذلك قال هؤلاء: إن الله سبحانه وتعالى جعل الأمر مرهوناً باليوم (فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ)، واليوم لا يبدأ بعد الزوال، وإنما يبدأ قبل ذلك، فكل ذكر فهو مشروع فيه، وقالوا: كما أنه يحلق في الأيام كلها، وينحر في الأيام كلها، ويطوف في الأيام كلها، فكذلك ما يتعلق بأمر الرمي.
ومن الاستدلال أيضاً: وهذا استدلال ذكره الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى وقوى به هذا القول -وهو الرمي قبل الزوال- قول الرجل للرسول عليه الصلاة والسلام -وهو في صحيح البخاري -: ( رميت بعدما أمسيت، فقال عليه الصلاة والسلام: لا حرج )، وقال: إن المساء يكون بعد الزوال. فقال: هذا دليل على أن ذلك الرجل تحرج من الرمي بعد المساء، وكأنه استقر في نفسه الرمي قبل المساء، يعني: قبل الزوال.
وهذا الشيخ رحمه الله قوى هذا الاستدلال، ورأى أنه من أقوى الأدلة على صحة الرمي قبل الزوال، وإن كان في الاستدلال نظر؛ لأنه قد يقال: إن هذا في يوم العيد -والله أعلم- وقد يقال: إن المقصود في المساء يعني: الليل، والمسألة تحتمل أطول من هذا.
كذلك من الأدلة -وربما يكون هو الخامس- ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من الرخصة في تأخير رمي الجمار إلى اليوم الأخير، ثم يرميها في نفس اليوم، في يوم واحد، فقالوا: إذا جاز أن يؤخرها إلى اليوم الأخير، فمعنى ذلك: أنه ليس لها توقيت منضبط، لا يجوز تقدم عنه ولا تأخر، فيجوز أن يرميها قبل الزوال بناءً على ذلك، وهذه الرخصة التي هي تأخير رمي الجمار إلى اليوم الأخير، يعني: توسع فيها العلماء وخصوصاً علماء الحنابلة، قال في الإنصاف : إنها جائزة بلا خلاف، أن يؤخر رمي الجمرات إلى اليوم الأخير.
على كل حال: خلاصة ما ذكره أهل العلم، وقد كتب أحد العلماء وهو الشيخ ابن محمود رسالة في ذلك، وعلق عليها الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمهم الله جميعاً تعليقاً لطيفاً نشر في كتاب مختصر جمعت في بعض رسائل الشيخ عبد الرحمن أظن باسم المجموعة المفيدة أو نحو ذلك.
فيقول: [(يرمي) كل جمرة بسبع حصيات]، يعني: يرميها واحدة بعد الأخرى، والرمي في معنى القذف وليس في معنى الوضع في الحوض أو على الحجارة، وإنما يرميها رمياً، يعني: يقذفها قذفاً بيده أو نحو ذلك، ولابد من سبع حصيات كما فعله النبي عليه الصلاة والسلام.
ثم يتقدم إلى الجمرة الثانية فيرميها مثل ذلك، لكن يجعلها عن يمينه، ثم يتقدم إلى الثالثة فيرميها -كما وصفنا بالأمس- ثم يتقدم بعد الثانية فيدعو الله سبحانه وتعالى كما دعاه بعد الأولى.
أما بعد الجمرة الثالثة فإنه لا يدعو، وذلك لأنه يكون قد انتهى من هذه العبادة، والسنة أن الدعاء يكون أثناء العبادة وليس بعدها، ولهذا يستحب للمصلي أن يدعو الله تعالى في أثناء صلاته، وليس بعد السلام، وهكذا قال العلماء في هذا الموضع، قالوا: يدعو بعد الأولى وبعد الثانية؛ لأنه في أثناء عبادة، وأما بعد الثالثة فيكون قد فرغ من العبادة فينصرف ولا يدعو، وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وقال بعضهم: إنه تأخر أو ترك الدعاء للضيق أو وجود الضيق والمشقة على الناس وضيق المكان. والله تعالى أعلم.
وهذا هو قول أحمد كما ترون، وهو مذهب الشافعي أيضاً، وهو قول الإمام مالك في المكي دون الآفاقي، فالإمام مالك يرى أنه إن كان الإنسان مكياً وغربت عليه الشمس وهو بمنى لزمه المبيت والرمي من الغد، هذا قول مالك .
وأما أبو حنيفة فقال: له أن ينفر، يعني: حتى بعد الغروب، ولكن ذلك في حقه مكروه ما لم يطلع عليه فجر اليوم الثالث، فإن طلع عليه الفجر وهو بمنى لزمه البقاء ورمي الجمرة في ذلك اليوم.
هذا الحكم ليس فيه نص مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه من غربت عليه الشمس في ذلك حديث لا يصح وإنما هو من قول عمر رضي الله عنه أنه قال: (من غربت عليه الشمس لزمه المبيت)، هو من قول عمر، وجاء أيضاً عن ابن عمر رضي الله عنهما.
ولذلك نقول: إن من الأفضل: ألا يخرج الإنسان إذا غربت عليه الشمس، إلا أن يكون قد استعد للخروج، فإن البعض قد يتهيأ للخروج، ولكنه ينشغل مثلاً برفع الخيام، ووضع الأثاث أو يأخذه الطريق أو يمسكه زحام السيارات فلا يخرج، فهذا لاشك في أن له أن يخرج ولو غربت عليه الشمس؛ لأنه تأخر بغير اختياره، فلا حرج عليه في ذلك.
لكن القول الآخر الذي ذكرناه عن أبي حنيفة وذكرناه عن مالك فيما يتعلق بالآفاقيين أنهم ما دام عندهم نية الخروج ونية الانصراف، فيرون أن النية كافية ولو أدركهم الغروب فتأخروا فليس عليهم المبيت وليس عليهم الرمي من الغد -وليس في هذا كما ذكرت لكم- حديث عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: [وإن كان مفرداً خرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة منه]، فهاهنا يكون المفرد بعدما انتهى من الحج يأتي بعمرة، لكنها بعد الحج وليست قبله، لو كانت قبله ماذا يكون؟ يكون متمتعاً، ولو كانت معه يكون قارناً، فهنا المفرد عليه أن يأتي بعمرة بعد حجته، ويأتي بها من التنعيم، وهذا قول الحنابلة -كما رأيتم- وهو قول الشافعية وأحد القولين في مذهب مالك.
والقول الآخر: أنه لا يستحب له ذلك، والواقع أن هذا العمل ليس عليه دليل من السنة، ولا أعلم أيضاً عليه دليلاً من فعل الصحابة رضي الله تعالى عنهم، اللهم إلا عائشة أحرمت من التنعيم، ولكنها كانت قارنة؛ لأنها اعتمرت وحجت، ومع ذلك رأت أنها لم تأتِ بعمرة مفردة، فذهبت بعد ذلك واعتمرت من التنعيم .
ولهذا لا نقول: إن هذا العمل بدعة؛ لثبوته عن عائشة رضي الله عنها وبإذن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لكن لا نقول أيضاً: إنه سنة؛ لأنه لم يؤمر بذلك من أفردوا الحج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع أنه ثبت في الأحاديث الصحاح كحديث ابن عمر وعمران وغيرهما أن منهم من أحرموا بالحج مفرداً.
قال: [ثم يأتي مكة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر -يعني: للعمرة- فإن لم يكن له شعر استحب أن يمر الموسى على رأسه]؛ لأنه يفترض أنه قد حلق للحج، وما بين هذا وبين عمرته شيء، وقد تم حجه وعمرته أيضاً.
ولذلك قال: [لكن عليه وعلى المتمتع -يعني: على القارن وعلى المتمتع- دم؛ لقوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ [البقرة:196]]، وهذه الآية نص واضح في إيجاب الهدي على القارن وعلى المتمتع؛ لأن العلماء يقولون: إن التمتع والقران يشتركان في الحكم من حيث أنهما جميعاً يعدان من التمتع، فإن فيهما تمتعاً بجمع العمرة والحج في سفر واحد، ولهذا يقولون: هناك تمتع عام وهناك تمتع خاص، فأما التمتع العام فيدخل فيه القران، وهو جمع الحج والعمرة في سفر واحد.
وأما التمتع الخاص: فهو الذي يحرم بالعمرة، ثم يفرغ منها، ثم يحرم بالحج من عامه.
وهذا نص واضح كما ذكرت، ولكن مع ذلك خالف فيه داود الظاهري، فلم ير عليه هدياً.
والحديث الآخر: ( أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت، غير أنه خفف عن الحائض والنفساء ).
قال المصنف: [فإن اشتغل بعده بتجارة أعاده]، وهذا القول بالإعادة هو قول عطاء، والثوري، والشافعي، والحنابلة: أنه إذا اشتغل بعده بتجارة ذات معنى أعاده، لكن كونه اشترى شيئاً وهو عابر، هذا لا يضر ولا يعد من التجارة، كمن يشتري لعباً لأطفاله أو هدايا أو ما أشبه ذلك، لكن إن اشتغل بتجارة وطال المكث عرفاً أعاده.
وقال الإمام مالك : لا يعيده حتى يمكث يوماً وليلة بعد طواف الوداع بـمكة، يعني: يلزمه أن يعيده مرة أخرى.
وقال أبو حنيفة : إذا طاف طواف الوداع، لا يعيده ولو مكث شهراً؛ لأنه يرى أن طواف الوداع كأنه إكمال مشاعر الحج أو توديع أعمال الحج، وبعد ذلك إذا بقي بـمكة أو انصرف فالأمر بالنسبة له سيان.
فـأبو حنيفة لا يرى عليه إعادة مهما مكث، أما مالك فيرى الإعادة إذا مكث يوماً وليلة، وأما عند الحنابلة والشافعية وهو قول عطاء، والثوري كما ذكرت: فيرون أنه يعيده إذا طال به المكث لتجارة أو غيرها أيضاً.
قال: [فيلتزم البيت ويقول: اللهم هذا بيتك وأنا عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك، وسيرتني في بلادك حتى بلغتني بنعمتك إلى بيتك.. إلى قوله: وارزقني طاعتك ما أبقيتني واجمع لي بين خيري الدنيا والآخرة إنك على كل شيء قدير]، هذا الدعاء موجود في معظم كتب الحنابلة، وهو أيضاً موجود في معظم كتب الشافعية، وإنما ذكره الإمام الشافعي في كتابه الإملاء، وفي المختصر أيضاً، وقال النووي : اتفق الأصحاب كما في المجموع على أنه مستحب.
وقال الشيرازي : إنه روي عن بعض السلف، وذكره الإمام ابن تيمية عن ابن عباس، ولكنه لا يصح، ولهذا نقول: إنه لا معنى لتخصيص هذا الدعاء في الملتزم ولا في غيره، بل يدعو بما أحب من خيري الدنيا والآخرة.
قال: [ويدعو بما أحب، ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمن خرج قبل الوداع رجع إليه إن كان قريباً] من خرج من مكة قبل أن يوادع، قبل أن يطوف طواف الوداع، رجع إن كان قريباً، والقول بأنه يرجع هو قول عطاء، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور والحنابلة -كما رأيتم- قالوا: يرجع إن كان قريباً، وما حد القرب؟ متى نقول: إنه قريب؟
قال بعضهم: حد القرب: هو مسافة القصر، كما نص عليه الإمام أحمد في رواية عنه.
وقال عطاء : إن الطائف قريب. هذا قول. والقول الثاني عن الثوري : أن حد القرب: الحرم، فما لم يخرج من الحرم، يعني: أميال الحرم المعروفة فهو قريب، فإن خرج إلى الحل، فإنه يكون بعيداً حينئذٍ.
وعلى كل حال: رجع أو لم يرجع، فإنه سيأتي حكم طواف الوداع، وهل على تاركه شيء، وإن كان بادئ ذي بدء أنه ليس على تاركه دم على القول الصحيح كما ذكرناه غير مرة.
[ويستحب لهما] أي: للحائض والنفساء [الوقوف عند باب المسجد والدعاء] وهذا لا بأس به، وإن كان لم يرد فيه شيء، ولم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر به صفية ولا غيرها ممن حاضت، وإنما خفف عنهم طواف الوداع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر