المصنف رحمه الله في باب المواقيت لما ذكر ميقات المدينة والشام ومصر والمغرب واليمن ونجد والمشرق، قال: [ فهذه المواقيت لأهلها ولكل من يمر عليها ].
[ولكل من يمر عليها] يعني: من غير أهلها، مثل الشامي لو مر بـالمدينة، ثم مر بميقات ذي الحليفة وهو سيمر فيما بعد بـالجحفة أو قريباً منها، فهل يجب عليه أن يحرم كأهل المدينة من ذي الحليفة أو يسعه أن يؤخر إحرامه إلى الجحفة؟
الشافعية والحنابلة وإسحاق بن راهويه يرون أنه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأول، يعني: من ذي الحليفة، بل ذكر النووي هذه المسألة في شرح صحيح مسلم وذكرها في شرح المهذب في المجموع، وقال: بالاتفاق؛ أنه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأول بالاتفاق، واستدرك عليه جماعة هذه الكلمة؛ لأن الخلاف في المسألة مشهور، والذي أعلمه من طريقة النووي رحمه الله في المجموع وغيره أنه يقصد اتفاق فقهاء الشافعية، ولا يعني بذلك اتفاق العلماء، فإن مثل النووي رحمه الله لا يجهل أن في هذه المسألة خلافاً ذائعاً مشهوراً، ولكن مما يستدرك عليه رحمه الله أنه حتى الشافعية ذهب بعضهم كـابن المنذر إلى أن هذا ليس بواجب، وأنه يجوز له أن يؤخر إحرامه إلى الميقات الثاني، وهذا مذهب الحنفية؛ فإنه يستحب عندهم أن يحرم من الميقات الأول، ولو أخر إحرامه إلى الميقات الثاني وسعه ذلك، وفي مذهب المالكية تفصيل يطول ذكره، فيستدرك هذا ويصحح ما سبق على لساني بالأمس مخالفاً لذلك.
[من منزله دون الميقات] يعني: الذين قدموا على الميقات من الآفاق؛ من مصر .. من الشام .. من المغرب .. من خراسان .. من أوروبا .. من أمريكا، هذه مواقيتهم، وهؤلاء يسمون بلغة الفقهاء .. ما اسمهم؟ الآفاقيون، أو الأفقيون، بمعنى: أنهم قدموا من الآفاق.
لكن بقي من ليس آفاقياً، ولكنه في داخل حدود المواقيت، فما حكمه؟ هذا ما بينه المصنف بقوله: [ومن منزله دون الميقات]، وهذا يشمل تقريباً أربعة أصناف من الناس:
وما أحاط بها داخل ما يسمى بالأميال فهو حرم أيضاً. وقد ضرب على حدوده بالمنار منذ القديم، فإنه قد جاء في حديث صحيح: ( أن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ) كما في صحيح البخاري : ( أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض )، فالله تعالى جعل مكة حرماً آمناً منذ خلقها. وفي صحيح مسلم من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة )، فكيف نجمع بين تحريم إبراهيم وبين أن الله حرمها؟.
مداخلة: ...
الشيخ: إبراهيم دعا بالأمن اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا [البقرة:126]، لكن التحريم؟ أجود ما ظهر لي في الجمع بين هذين الحديثين: هو أن نقول: إن معنى تحريم إبراهيم لـمكة أنه أظهر هذه العلامات وحددها، فهي كانت حرماً يوم خلق الله السماوات والأرض منذ الأزل، لكن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وضع حدود الحرم وبين معالمه، وأشهر ذلك وأذكره في الناس، وقد جاء في بعض الروايات: ( أن جبريل عليه الصلاة والسلام ذهب بـإبراهيم وأراه حدود الحرم وعينه )، وهذا ليس بغريب ولا بعيد؛ لأن هذا تحديد رباني، فالحرم له أحكام تخصه فيما يتعلق بالصيد .. فيما يتعلق بالشجر .. فيما يتعلق حتى ببركة العبادة فيه وغير ذلك، فلابد أن يكون له توقيت وتحديد رباني إلهي، ولذلك هذا يدعم ويقوي أن جبريل عليه الصلاة والسلام أوقف إبراهيم على حدود الحرم فحدها إبراهيم، ثم كان العرب يتوارثون هذه الحدود حتى إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فجددها الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ثم عبد الملك بن مروان .. وهكذا ظل الولاة يجددونها حتى لا تندرس ولا تغيب، فهذه هي حدود الحرم.
ومع ذلك فقد اختلف العلماء في حدودها، فيذكر كثير منهم حدوداً، على سبيل المثال خليل المالكي -وهو صاحب المختصر في الفقه المالكي - ذكر حدوداً للحرم قال: إن من جهة المدينة أربعة أميال أو خمسة إلى التنعيم، ومن جهة العراق ثمانية أميال، ومن جهة عرفة تسعة، ومن جهة جدة عشرة أميال.
وضبطها بعضهم بعلامة وليس بعدد الأميال، وجمع ذلك في بيتين من الشعر يقول:
إن رمت للحرم المكي معرفة فاسمع وكن واعياً قولي وما أصف
ما هي العلامة؟
اعلم بأن سيول الأرض قاطبة إذا جرت نحوه من دونه تقف
فيقول: علامة الحرم أن السيول إذا جرت نحو الحرم تقف دونه. بسبب الوديان، فيقف السيل دون حدود الحرم، وهذا القيد ليس مطلقاً، وإنما هو أغلبي كما ذكره الزرقاني وغيره، وإلا فالسيل قد يدخل الحرم من جهة التنعيم ومن جهة غيره، خصوصاً أن الحدود كلها -كما ذكرت- عبارة عن وديان.
وقد كتب فضيلة الشيخ عبد الله بن بسام رسالة لطيفة في حدود الحرم، وهي مطبوعة، واجتهد في تحديد هذه الحدود وقال: إن هذا هو أول كتاب يكتب فيما أعلم في التاريخ في حدود مكة .
وكذلك الشيخ عبد الملك بن دهيش له كتاب اسمه الحرم المكي الشريف والأعلام المحيطة به، وهو مطبوع أيضاً.
طبعاً الشيخ عبد الله بن بسام لما يقول: إنه أول كتاب، يقصد أنه أول كتاب أُلِّف خصيصاً في هذه المسألة، وإلا فإن معظم العلماء الذين كتبوا في تاريخ مكة كـالأزرقي والفاكهاني وأبي الطيب الحسني التقي الفاسي وغيرهم وكذلك المحب الطبري، فإنهم يذكرون حدود الحرم، وبعضهم يعتني بذلك عناية كبيرة، وإنما مراد الشيخ -حفظه الله- أن رسالته هي مؤلف خاص ومستقل في حدود الحرم دون غيرها من التفاصيل المتعلقة بـمكة .
وقد وجدت في كتاب العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين لـأبي الطيب الحسني المكي -كما ذكرت- أنه ذكر اختلاف العلماء في حدود الحرم؛ أربعة أميال .. خمسة أميال .. أقل .. أكثر، واستطرد في ذلك، ثم خلص إلى هذه النتيجة. يقول: (وقد اعتبرت مقدار الحرم من جهته المعروفة بحبل مقدر على ذراع اليد)، كما ذكرنا سابقاً في ذي الحليفة وبعده عن المدينة، يقول: (وهو المعتبر في مسافة القصر على ما ذكره المحب الطبري فنذكر ذلك، وهو أن من جدر باب الحرم -باب المسجد الحرام- المعروف بباب بني شيبة إلى العلمين اللذين هما علامة حد الحرم في جهة عرفة سبعة) بتقديم السين كي لا يقع التصحيف أو التحريف فتكون تسعة، يقول: (سبعة وثلاثين ألف ذراع ومائتي ذراع وعشرة أذرع وسبعي ذراع اليد، ومن عتبة باب المَعلاة أو المُعلاَّة إلى العلمين المشار إليهما خمسة وثلاثون ألف ذراع وثلاثة وثمانون ذراعاً وثلاثة أسباع ذراع بذراع اليد، أما حد الحرم من جهة العراق فإن من جدر باب بني شيبة إلى العلمين اللذين بجادة طريق وادي نخلة سبعة وعشرون ألف ذراع ومائة ذراع واثنان وخمسون ذراعاً باليد، ومن عتبة باب المعلاة إلى العلمين المشار إليهما خمسة وعشرون ألف ذراع وخمسة وعشرون ذرعاً باليد، وأما حد الحرم من جهة التنعيم، فإن من جدر باب المسجد الحرام المعروف بباب العمرة إلى أعلام الحرم في هذه الجهة التي بالأرض لا التي بالجبل اثني عشر ألف ذراع وأربعمائة ذراع وعشرين ذراعاً باليد، ومن عتبة باب الشبيكة إلى الأعلام المشار إليها عشرة آلاف ذراع وثمانمائة ذراع واثنا عشر ذراعاً. أما حدود الحرم من جهة اليمن فإنه من جدر باب المسجد الحرام المعروف بباب إبراهيم إلى علامة حد الحرم في جهة اليمن أربعة وعشرون ألف ذراع وخمسمائة ذراع وتسعة أذرع بتقديم التاء وأربعة أسباع ذراع ...) إلى آخر ما ذكر.
وهذا حقيقة أنا أعتبره نوعاً من التبكيت لأنفسنا أن نظل نحن في هذا العصر الذي تقدمت فيه وسائل الاتصال والعلم والتقنية؛ نظل نعتمد على ما كتب في القرن مثلاً السابع أو الثامن أو التاسع في بعض الحدود والمعالم التي يمكن ضبطها بدقة متناهية.
طيب، إذاً الخلاصة أن للحرم حدوداً ومعالم معروفة، وأن ما كان داخل هذه الحدود فإنه يتمتع بفضائل الحرم المعروفة.
ومن فضائل الحرم كما هو معروف أن الصلاة تضعف فيه، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة )، فهل هذا خاص بالمسجد المحيط بالكعبة أم هو يشمل الحرم كله؟
في المسألة رأيان معروفان: مذهب الحنفية -المشهور عنهم- والمالكية والشافعية أن المضاعفة تعم جميع الحرم، وهذا هو الذي نختاره لأدلة، منها: أدلة القرآن الكريم، فإن الله تعالى ذكر لفظ المسجد الحرام في القرآن الكريم في مواضع، كما في قوله: وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ [الحج:25]، وكذلك قوله سبحانه: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1]، وإنما أسري به من بيت أم هانئ على قول أكثر المفسرين، فلفظ المسجد الحرام في القرآن الكريم يطلق -على الراجح- على الحرم كله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لما كان بـالحديبية يختلف إلى الحرم فيصلي فيه، ثم يرجع إلى مكانه بـالحديبية، وفي ذلك أحاديث، وأما ما ورد أنه سماه مسجد الكعبة، فهذا لا غرابة فيه؛ لأن الحرم كله يسمى مسجد الكعبة أيضاً، ولا يلزم أن يكون هذا نصاً على المسجد المبني الذي لا يدخله الجنب.
على كل حال في المسألة أقوال أوصلها الزركشي إلى سبعة أقوال هذا أحدها، والثاني: أن المقصود الحرم، والثالث: أن المقصود الكعبة وما يحيط بها، والخلاف في المسألة ذائع ومشهور.
إذاً: الخلاصة أن الحرمية من أهل الحرم يحرمون من مكانهم.
في المسألة خلاف مشهور لـمالك وغيره، وفي مذهب الشافعية قولان، والأقرب والراجح عند الحنابلة والشافعية، وهو الأصح دليلاً أن المكي يحرم من مكانه سواء كان حجه مفرداً أو قارناً أو متمتعاً، والعبرة بإحرام الحج وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، ولم يؤمر أحد من المكيين أن يخرج إلى الحل ليعتمر منه لحجه.
فنقول: المكي يحرم -على الراجح- من بيته، سواء كان إحرامه مفرداً أو قارناً أو متمتعاً.
أيضاً هذه المسألة فيها اختلاف، فبعضهم يرى ألا يحرم المكي إلا مفرداً .. لا يجوز له أن يجمع الحج والعمرة، ويستدلون بقوله تعالى في سورة البقرة: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ ... [البقرة:196] إلى قوله تعالى: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196]، فقالوا: إن المقصود التمتع: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، وبناء عليه قالوا: لا يحل للمكي أن يجمع الحج والعمرة، بل يجب عليه أن يفرد الحج وحده، وهذا القول فيه نظر، والأقرب أن قوله: ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [البقرة:196] ما يتعلق بالهدي: فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ [البقرة:196]، هذا لمن لم يكن أهله حاضر المسجد الحرام. أما المكي فإن له أن يحرم متمتعاً أو قارناً أو مفرداً وليس عليه هدي، وإنما الهدي على من جمع الحج والعمرة في سفر واحد وهو الأفقي كما ذكرنا، أما المكي فلا يشمله ذلك. طيب، ولذلك قال: [ حتى أهل مكة يهلون منها لحجهم].
واليقين أن أئمة المذاهب الأربعة على خلافه، وهو المشهور عند الأمة كافة؛ أن المعتمر يخرج إلى أدنى الحل، قد يخرج للتنعيم كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن أبي بكر أن يخرج بـعائشة فيعمرها من التنعيم، والحديث في الصحيحين من حديث جابر، وهو في البخاري أيضاً من حديث عائشة، وكذلك من حديث ابن عباس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
والخلاصة في هذه المسألة؛ أن الشرع أراد أن يجمع المعتمر بين الحل والحرم، وهكذا الحاج، فالحاج بطبيعة الحال يخرج إلى الحل، متى يخرج إلى الحل؟
مداخلة: ...
الشيخ: في عرفة، فإن عرفة حل، ليست من الحرم، فالحاج يخرج إلى عرفة يوم عرفة، فيكون جمع في نسكه بين الحل والحرم، يعني: صار عنده نوع من السفر والتنقل، وهذا مطلوب ومقصود في النسك، أما المعتمر فليس عنده خروج إلى عرفة، وإنما عنده طواف وسعي وحلق أو تقصير، فلذلك شرع له وأوجب عليه أن يحرم بالعمرة من أدنى الحل، يحرم بها من الحديبية أو من التنعيم أو من الجعرانة أو من عرفة أو من أي مكان آخر في الحل، يجمع في نسكه بين الحل والحرم.
وهذا تقريباً ما توافق عليه أهل العلم وحكاه بعضهم إجماعاً .. حكى بعضهم الإجماع على هذه المسألة. طيب.
قال: يحرم من حذو المواقيت الأخرى، والمقصود بالحذو ما يكون موازياً له أو مساوياً له في المسافة بينه وبين الحرم، فإذا كان قريباً من السيل أحرم على بعد مرحلتين، وهكذا المواقيت الأخرى، هذا معنى الحذو.
والدليل على ذلك قصة عمر رضي الله عنه وهي في صحيح البخاري -وقد ذكرتها بالأمس-: [ أن أهل العراق -لما فتح المصران- قالوا: إن قرناً جور عن طريقنا، فقال عمر رضي الله عنه: انظروا حذوها من طريقكم ]، ولم يعرف لـعمر رضي الله عنه مخالف من الصحابة، فكان هذا إجماعاً على طريقة بعض الفقهاء، فقالوا: إنه لم يخالَف، وبناء عليه فإن من مر بمكان لا ميقات فيه يحرم حذو أحد المواقيت المعروفة.
لو مر بموضع يتردد بين ميقاتين فماذا يصنع؟
قالوا: يحرم من حذو أقربهما إليه، فإن كان عارفاً بذلك ومجتهداً فبها، وإلا فبإمكانه أن يسأل أهل البلد وأهل المعرفة وأهل الخبرة عن مثل هذا، وإذا لم يتيسر له هذا ولا ذاك فإنه يحتاط ويحرم قبل الموضع الذي يشك فيه، حتى يكون أحرم على بينة وبصيرة.
وهل يجوز له أن يحرم قبل ذلك بمسافة بعيدة، كأن يحرم من بلده الذي أنشأ منه الحج؟ هذا فيه خلاف سوف أذكره بعد قليل؛ لأن المؤلف رحمه الله قد أشار إليه.
طيب، إذاً: يحرم من حذو أقربها إليه.
إنما الإشكال فيمن دخل الحرم وهو قاصد إلى مكة لأي غرض كان، هل يجوز له أن يدخلها بغير إحرام أم لا يجوز؟ المؤلف يقول: [لا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات غير محرم] يجب أن يحرم من الميقات.
[إلا أن يدخلها لقتال مباح] طبعاً القتال المحرم لا شك أنه لا يجوز له أن يسافر له أصلاً، ولا يدخل مكة ولا غيرها، والله تعالى يقول: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، فمجرد نية الإلحاد وسفك الدم الحرام في الحرم هذا يعاقب عليه بالعذاب الأليم فضلاً عن فعله، لكن لو كان لقتال مباح أو مشروع.
[ أو حاجة تتكرر ] مثل الحطاب أو البستاني المزارع ونحوه ممن يترددون، ومثلهم أصحاب سيارات الأجرة الذين يترددون بشكل يومي ونحوهم ممن يكون عمله داخل مكة، وهو يتردد عليها، فمثل هؤلاء يقول المؤلف: يجوز لهم الدخول بغير إحرام؛ لأنهم يترددون عليها بشكل مستمر.
وأما من يدخل الفينة بعد الأخرى فإنه لا يجوز له الدخول إلا بإحرام حتى لو لم يكن ناوياً للحج ولا للعمرة، وهذا الذي قاله المؤلف هو قول المالكية وقول الحنفية أيضاً، بل قول الحنفية أشد من ذلك.
وأما الإمام الشافعي رضي الله عنه وعنهم جميعاً فإنه رخص لمن لم يرد الحج والعمرة أن يدخل مكة غير محرم، وهذا هو القول الراجح، فمن دخل مكة لتجارة أو زراعة أو دراسة أو زيارة أو عيادة مريض أو صلاة على جنازة أو لغير ذلك من الأغراض الأخرى ولم يكن من نيته حج ولا عمرة؛ فإنه يجوز له أن يدخل الحرم ومكة غير محرم. هذا قول الشافعي، وهو الأصح دليلاً.
وأدلة هذا القول: قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي سقناه: ( ممن أراد الحج أو العمرة )، فقد نص على أن الحكم خاص بمن أراد الحج أو العمرة أو أحدهما.
أيضاً من الأدلة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر )، وفي صحيح مسلم : ( على رأسه عمامة سوداء )، ومن المعلوم أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يحرم عام فتح مكة، وكذلك لم ينقل أن أحداً من أصحابه الذين كانوا معه قد أحرموا بالعمرة، فدل هذا على أنه لا يلزم أن يكونوا محرمين.
إذاً: الراجح أنه لا يلزمه ذلك.
وهاهنا سؤال: لو أن إنساناً كان متردداً في نيته، وهذا كثيراً ما يرد السؤال عنه، إنسان عنده عمل عسكري أو عنده دورة معينة، ويقول: إن وجدت فراغاً سوف أحرم، وإن لم أجد فراغاً لم أحرم، فدخل ثم وجد فراغاً بعد ذلك، هل نقول: يجب عليه أن يخرج إلى الميقات باعتبار أن النية كانت موجودة عنده، أو نقول: لا يجب عليه، وإنما يحرم من مكانه، نعم؟
مداخلة: ...
الشيخ: لا يجب، هذا هو الراجح، بل هو الصحيح، أنه لا يجب عليه؛ لأن ذلك الهم الذي كان عنده ليس نية جازمة وإنما كان شكاً وتردداً، وإنما الواجب على من نوى وعزم وأنشأ الحج والعمرة أن يرجع إلى الميقات فيحرم منه.
إذاً: إذا أراد النسك أحرم من موضعه ومكانه الذي هو فيه.
لكن لو فرضنا أنه أحرم من دون الميقات .. لما جاوز ووصل إلى حدود الحرم أحرم بالحج والعمرة، فهاهنا ماذا عليه؟ المؤلف يقول: [إن أحرم من دونه فعليه دم، سواء رجع إلى الميقات أو لم يرجع]، إذا أحرم من دون الميقات .. تجاوز الميقات ثم أحرم، فعليه دم سواء رجع أو لم يرجع، وهذا قول الأكثرين، أنه إذا أحرم من دون الميقات ولم يعد إليه فعليه دم، بل نستطيع أن نقول: إنه في هذه الحالة مذهب الأئمة الأربعة، وخالف في ذلك بعض السلف، فقد نقل عن الحسن وعطاء والنخعي أنه ليس على من جاوز الميقات شيء فإن كان مقصودهم رضي الله عنهم أنه يجوز له مجاوزة الميقات من غير إحرام فلا شك أن هذا مخالف لظواهر الأدلة التي ذكرناها، وما حدد الرسول صلى الله عليه وسلم المواقيت إلا ليحرم عندها الناس. أما إن كان مقصودهم أنه ليس عليه شيء، يعني: ليس عليه دم فهذا قول قوي، ومن أسباب قوته ووجاهته عندي -والله تعالى أعلم- أن الذين أوجبوا الدم على من جاوز الميقات بغير إحرام احتجوا بما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: [ من ترك نسكاً فعليه دم ]، وأثر ابن عباس هذا روي مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والمرفوع منكر ولا يصح، وإنما الصحيح أنه عن ابن عباس من قوله هو، وكذلك رواه مالك في الموطأ عن أيوب السختياني عن سعيد بن جبير عن ابن عباس موقوفاً من قوله: [ من ترك ] أو قال: [ من نسي ] روايتان في الموطأ [ فعليه دم ]، لكن قول ابن عباس هذا وإن كان أخذ به الجمهور من الخلف والسلف ولم يخالف فيه إلا من ذكرنا، فقول ابن عباس رضي الله عنه فيمن ترك نسكاً، لكن من تجاوز الميقات وأحرم بعد ذلك فهو لم يترك النسك وإنما أخره عن وقته، فهذا لا يصح فيه -والله أعلم- أن نقول: إنه ترك النسك، ولكن نقول: إنه أخر النسك عن وقته المحدد، فهذا ما يتعلق بهذه المسألة.
وطبعاً هذه المسألة فيها اضطراب، وأكثر العلماء والمفتين في هذا الزمان، وأكثر الفقهاء يرون أن عليه دماً، والمسألة فيها سعة إن شاء الله، فإن كان الواقع في الخطأ غنياً موسراً لا يشكل عليه فإنه يُفتى بالدم، وقد أُفتي بالدم في مسائل كثيرة في الحج على ما هو معروف، أما إن كان فقيراً أو محتاجاً فإنه يترخص له في ذلك على ما ذكرته واستظهرته.
المسألة فيها قولان مشهوران:
القول الأول: مذهب الحنفية أنهم يستحبون أن يحرم من بلده؛ لأنهم يقولون: هذا فيه تطويل فترة الإحرام، وفيه أجر وثواب، وهي أكثر مشقة وأعظم أجراً: ( وأجرك على قدر نصبك ) كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم لـعائشة رضي الله عنها، فهذا مذهب الحنفية. وقد استدلوا بآثار مروية عن علي رضي الله عنه: [ أنه سأله رجل في قوله تعالى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، قال: ما إتمام الحج؟ قال: أن تُحرم من دويرة أهلك ]، وهكذا نقل عن عمر رضي الله عنه، ونقل عن جماعة من الصحابة؛ عمران بن حصين أحرم من بلده، وابن عباس وابن مسعود روي عنهم ذلك ووكيع، فقالوا: إن هذا دليل على أن الأفضل والسنة أن يحرم من بلده؛ من خراسان أو من موسكو أو من سيبيريا . طبعاً البلاد التي هي شديدة البرودة تتجمد فيها الأطراف، فيأتي محرماً، هذا فيه مشقة عظيمة جداً على الناس، فأصلاً هم لم يقولوا: بأن هذا واجب، إنما قالوا: يستحب له.
أما القول الثاني: وهو مذهب الجمهور وهو الصحيح؛ أنه لا يشرع له ولا يستحب، بل يكره أن يحرم من بلده؛ وذلك لأدلة كثيرة، وهذا هو مذهب الأئمة الثلاثة، وهو مذهب أكثر الصحابة، وهو الصحيح عن عمر رضي الله عنه، فإنه أنكر على عمران بن حصين وقال: [ يتحدث الناس أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من بلده ]، وكذلك هو مذهب ابن مسعود ومذهب جمهور الصحابة.
والدليل على أن هذا هو الراجح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أحرم أهل من ذي الحليفة، وكذلك الصحابة معه، فإنهم لم يحرموا من دويرة أهلهم، وإنما أهلوا من الميقات الذي حدده لهم الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم ما معنى هذه المواقيت: إذا كان الإنسان يحرم قبلها! وإنما كانت المواقيت حتى تكون مكاناً للإهلال والإحرام، وهذا معروف، بل هو قطعي من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أنه أهل وأصحابه من هذه المواقيت؛ من ذي الحليفة، فلذلك نقول: السنة أن يحرم منها، وقد أنكر الصحابة رضي الله عنهم على من أهل من دويرة أهله كما ذكرنا.
أما ما نقل عن عمر وما نقل عن علي أنه يحرم من دويرة أهله، فنقول: إن صح هذا عنهم وفيه نظر، فإن أسانيده لا تخلو من مغمز، لكن لو صح هذا عنهم لقلنا: إن المقصود بأن يهل من دويرة أهله، يعني: أن ينوي الحج، وليس أن يدخل في النسك، وبينهما فرق، فلو أن إنساناً مثلاً جاء إلى مكة بغير نية الحج ثم أحرم منها لم يكن نوى الحج من بلده، فيكون مقصودهم أن ينوي وينشئ الحج من بلده، لا أن يدخل في الإحرام من بلده، ومن المعروف أنه لو دخل في الإحرام من بلده لترتب على ذلك أن يجعل على نفسه حرجاً في احتمال أن يقع في شيء من محظورات الإحرام وهي كثيرة، وقد يحتاج إلى التحلل، فلذلك كان ما نقل عن عمر وعن علي رضي الله عنه محمولاً على هذا المحمل، وقد يكون عمر وعلي أفتيا به على وجه آخر، مثلما يتعلق بالمكي فإنه يحرم من دويرة أهله كما ذكرنا، ولذلك نقول: أهل عمر رضي الله عنه من ذي الحليفة . و علي رضي الله عنه أهل من ذي الحليفة. فهم أهلوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام من ذي الحليفة، فكيف يفعلون هذا ويقولون غيره؟
ثم إن معنى: وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196] واضح على ما ذكرناه بالأمس وذكرنا فيه القولين للمفسرين.
إذاً: الأفضل ألا يُحرم قبل الميقات، ولكن لو أحرم قبل الميقات فلا نقول: إن إحرامه باطل، ولكن نقول: أنه خالف السنة، وإحرامه صحيح. ولذلك يقول: [ فإن فعل فهو محرم ]، يعني: إحرامه صحيح، ويلزمه أن يمضي في إحرامه، ويتمه.
[أشهر الحج] هذا انتقال من المصنف رحمه الله من المواقيت المكانية إلى المواقيت الزمانية كما ذكرنا بالأمس: المواقيت نوعان: مكانية وزمانية. المكانية هي ما انتهينا منه الآن: ذو الحليفة والجحفة وقرن وغيرها.
أما المواقيت الزمانية فهي الأزمنة التي يوقع فيها الحج.
وقبل أن ندخل فيما ذكره المصنف من مواقيت الحج فإننا نذكر مواقيت العمرة.
قالوا: ميقات العمرة السنة كلها، وقد كان العرب في الجاهلية يحرِّمون العمرة في أشهر الحج، ويقولون: إنها من أفجر الفجور، ويقولون: إذا انسلخ صفر وبرأ الدبر وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر.
وكانوا ينسئون الشهور في قضية انسلخ صفر، فقد يكون المعنى: انسلخ ذو الحجة. وبرأ الدبر: الذي يصيب الإبل .. النقب الذي يصيب الإبل من السفر. وعفا الأثر حلت العمرة لمن اعتمر.
فلما جاء الإسلام أبطل هذه العقيدة الفاسدة، ولذلك أحرم النبي صلى الله عليه وسلم بالعمرة في أشهر الحج، فجميع عمر النبي صلى الله عليه وسلم كانت في أشهر الحج .. النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر في أشهر الحج مبالغة في مخالفة ما كان عليه المشركون من تحريم العمرة في أشهر الحج .
وكذلك شرع النبي صلى الله عليه وسلم قرن الحج مع العمرة، وقال: ( دخلت في الحج إلى يوم القيامة )، والتمتع والقران كلها تسمى قراناً من منطلق أنه أدى نسكين في سفر واحد؛ وسيأتي تفصيل هذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا وأمر أصحابه به وبالغ في أمره لهم على ما هو معروف، وسيأتي تفصيله.
إذاً: العمرة مواقيتها السنة كلها، ولكن الإمام أبا حنيفة رحمه الله يرى أنه لا يجوز له أن يعتمر في يوم عرفة وأيام التشريق، يعني: خمسة أيام تقريباً يرى تحريم العمرة فيها، وطبعاً هذا للمكيين الذين يريدون الحج، وهكذا الإمام أحمد فإنه روي عنه رواية بنحو ذلك؛ أنه يرى ألا يعتمر في هذه الأيام الخمسة، وأما ما سوى ذلك فإن السنة كلها محل للاعتمار.
أما من الجهة الشرعية فإن تكرار العمرة في سفر واحد لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه، إنما كان من أمر عائشة ؛ فإنها أحرمت بحج وعمرة في نسكها، ثم لم يطب خاطرها، حتى قالت: ( يا رسول الله! ترجعون بنسكين وأرجع بنسك واحد! وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا هويت شيئاً مال إليه، فقال لـ
ولذلك نقول: من كان أمره أو ظرفه مثل ظرف عائشة فإنه يجوز له أن يذهب ويحرم بالعمرة من غير كراهة ولا إشكال.
أما من كان بغير هذه المثابة، فإننا لا نأمره بالعمرة ولا ننهاه عنها، ولكن قال بعض السلف: إن بقاءه في مكة وطوافه بالبيت وصلاته ركعتين أفضل من عمرته، فبدلاً مما يذهب كذا كيلو متر ويتعب ويعود قالوا: يطوف بالبيت أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، يعني: ثلاثة أطوفة أو أربعة فهذا خير له وأفضل؛ لأن العمرة في حقيقتها إنما هي طواف، وهذا لو أخبر به كثير من الناس لاقتنعوا؛ لأن بعض الناس قد يأتي من مسافات بعيدة، ويقول: أريد أن أكرر العمرة: واحدة لي وواحدة لأمي وواحدة لأبي وكذا ..، فنقول له: العمرة حقيقتها الطواف بالبيت، فبإمكانك أن تطوف، وعلى بال ما ذهبت إلى الحل وأحرمت ثم رجعت تكون قد طفت أربعة أو خمسة أطوفة، خصوصاً إذا لم يكن في هذا تضييق ومشقة على الناس.
فنقول: تكرار العمرة في السفر الواحد غير مشروع، ولكن لا نثرب على من فعله، ولا نحجر على الناس أمراً واسعاً. أما تكرار العمرة في أسفار متعددة فلا حرج فيه، فلو أن إنساناً سافر ثم رجع مع أصدقائه، وبعد يومين أو ثلاثة سافر أهله إلى مكة فذهب معهم فإنه يستحب له أن يحرم بعمرة حينئذ.
وحجتهم أن الإنسان يحرم بالحج في شوال أو في ذي القعدة وهذا بإجماعهم أنه جائز، وأما ذو الحجة فقالوا: عشرة أيام؛ لأن طواف الزيارة يكون في اليوم العاشر الذي هو يوم العيد .. يوم الحج الأكبر، فيوم الحج الأكبر هو نهاية الأيام عندهم. هذا قول.
القول الثاني: أن أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة أو القَعدة بفتح القاف، وذو الحجة. فهذه الأشهر الثلاثة كلها أشهر حج؛ لقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، قالوا: هي ثلاثة، وهذا أقل الجمع، وهذا أيضاً مروي عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب عروة بن الزبير وعطاء ومجاهد والزهري، وهو الرواية المشهورة عن الإمام مالك ؛ وذلك للآية وللنقل أيضاً عن بعض الصحابة.
وابن تيمية رحمه الله اعتبر أن ما نقل عن بعض الصحابة بأن ذا الحجة كله من أشهر الحج؛ اعتبر أن هذا من باب التغليب، وأنه لا يعارض القول الثاني أن المقصود عشرة أيام فقط.
القول الثالث: أن أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة .. ليال فقط، وهذا أيضاً نقل عن بعض الصحابة، وهو مذهب الشافعي والثوري . وحجتهم أن الوقوف بـعرفة ينتهي في آخر الليل .. في آخر مزدلفة، فلو طلع عليه الفجر من يوم العيد ولم يقف بعرفة فقد فاته الحج، فقالوا: هذا نهاية أيام الحج.
هذه أهم الأقوال الثلاثة في مسألة أشهر الحج.
السؤال المهم هنا: ما هي فائدة أو ثمرة هذا الخلاف؟
أما في البداية فمن المتفق عليه أن أشهر الحج تبدأ بشوال، ولذلك الذي أحرم في يوم العيد الأول من شوال يوم عيد الفطر، نقول: إنه أحرم في أشهر الحج، وإحرامه صحيح.
لكن لو أحرم قبل ذلك؟ ففيه كلام، بعضهم يرى أن إحرامه باطل وأنه يفسخه عمرة، وبعضهم يرى أن إحرامه صحيح وإن كان هذا محرماً، وبعضهم يرى أن إحرامه صحيح وليس في ذلك تحريم.
و الأقرب -والله أعلم- أن إحرامه صحيح، ولكنه آثم بتقديم الإحرام بالحج؛ لأن الله تعالى يقول: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، ثم يقول: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ [البقرة:197]، فقوله: فِيهِنَّ [البقرة:197]، يعني: في هذه الأشهر المعلومات، ومن أحرم في رمضان فإنه لم يحرم في أشهر الحج.
إذاً: هذا الأمر الأول ما يتعلق بالبداية أنه محل اتفاق؛ أن بداية أشهر الحج هو الأول من شوال.
أما فيما يتعلق بالنهاية وهي التي فيها الإشكال والخلاف، فنقول: إن بعض الفقهاء ذكروا أن فائدة أو ثمرة هذا الخلاف فيما لو حلف إنسان على أشهر الحج، يعني: لو حلف رجل ألا يدخل بيت فلان طيلة أشهر الحج، فمتى يحل من يمينه أو يتحلل من يمينه؟ هنا يأتي الخلاف، بعضهم يقول: إلى نهاية ذي الحجة، وبعضهم يقول: إلى العاشر أو ليلة العاشر. لكن هذا غريب أن يكون هذا هو ثمرة هذا الخلاف، نحن نقول: لماذا سميت أشهر الحج؟ قال بعضهم: سميت أشهر الحج لأن أعمال الحج تنتهي بها، وبناء على ذلك وجد قول رابع في المسألة: وهو أن أشهر الحج إلى الثالث عشر، يعني: إلى نهاية أيام التشريق؛ لأنها هي الأيام التي يوقع فيها رمي الجمار، وقالوا: إن طواف الحج يجوز له أن يؤخره بحسب هذا الخلاف، فلو قلنا: إن أشهر الحج هي الأشهر الثلاثة جاز له أن يؤخر طواف الحج إلى آخر ذي الحجة، وهذا ذكره الترمذي وغيره أنه آخر الأيام، وأنه لا يحل لأحد أن يؤخر طواف الحج إلى ما بعد ذي الحجة، ولكن يبدو أن المسألة لا تخلو من خلاف؛ أن يوقع الإنسان طواف الحج بعد ذي الحجة، فيبقى أن الخلاف في هذه المسألة يسير؛ لأنه لا يترتب عليه كبير مسائل.
إذاً: لا خلاف فيما يتعلق بأول أشهر الحج، وإنما الخلاف يتعلق بآخر هذه الشهور.
الجواب: إذا خرج المتمتع من مكة بعدما أدى العمرة فهنا له أحوال:
الحال الأولى: أن يرجع إلى بلده، مثلما لو كان من أهل الرياض، فلما أدى العمرة رجع إلى الرياض، ثم أنشأ سفراً جديداً للحج، فهذا الأصح أنه ينقطع تمتعه ويعتبر مفرداً، وليس عليه هدي إلا إذا كان خروجه بقصد التهرب من الهدي، فإنه يعامل بنقيض قصده.
أما إن خرج دون ذلك ففي المسألة أقوال: بعضهم يحدها بأن يكون دون بلده أياً كان، وبعضهم -وهم الحنابلة- يحدونها بالسفر إذا كان دون مسافة قصر فإنه لا يضر.
والأقرب أنه إذا لم يرجع إلى بلده فإنه باقٍ على تمتعه، والله أعلم.
الجواب: الأخ فاهم أن معنى ترك النسك أي: النية، لا، حقيقة ليس مقصودي بترك النسك ترك النية؛ لأنه (إنما الأعمال بالنيات)، فلو لم ينو الإحرام لم يجزئ إحرامه أصلاً، وهذا قال به سعيد بن جبير فإنه نقل عنه أن قال: [ من ترك الإحرام بطل حجه ]، ولعل كلامه محمول على من ترك الإحرام، يعني: ترك نية الدخول في النسك. أما الكلام الذي نتحدث فيه فهو ليس من ترك النية، وإنما ما هي المسألة التي كنا نبحثها؟
مداخلة: ...
الشيخ: من تجاوز الميقات بغير أن ينوي أنا أقصد من تجاوز الميقات بغير أن يحرم أخر الإحرام، سواء قلنا: إنه أخر نية الإحرام إلى ذلك الوقت، أو قلنا: إنه ناوٍ، وهو أصلاً ما جاء إلا للإحرام، لكنه لم يلبس ثيابه ولم يتجرد من المخيط ولم يكشف رأسه إلى غير ذلك.
فإذاً نقول: إن النية لا إشكال فيها، والإحرام بها واجب ولا يمكن أن يقبل العمل إلا بها، لكن هذا الإنسان أخر، مجرد تأخير.
الأخ في النهاية يقول: الحق أنني لم أفهم المسألة. نعم مسألة الإحرام ستأتي إن شاء الله في الأسبوع القادم، وهي الباب الذي وقفنا عليه: ما معنى الإحرام؟ والحنابلة يقولون: الإحرام هو نية الدخول في النسك. وهذا صحيح، ولكن كثير من الناس يقصدون بتجاوز الميقات ويفهمون منه أنه تجاوز الميقات ولم يتجرد من المخيط، وقد يكون ناوياً للنسك، لكنه لم يحدد هذه النية إلا في موضع معين، وحتى لو أنه أخر النية -كما ذكر الأخ السائل- فإنه لم يدخل في النسك إلا بعدما نوى .. لم يدخل في النسك عمرة أو حجاً إلا بعدما نوى، لكنه أخرها عن محل المواقيت.
الجواب: هذا ذكرناه، وأنه يجوز له ذلك.
الجواب: نعم، هناك حديث: ( أن عبداً وسعت له في رزقه وترك الحج خمسة أعوام فهو محروم ) أو نحو ذلك، والحديث لا يحضرني درجته الآن، وأظن أنه صححه بعض المعاصرين، لكن يحتاج إلى تأمل ومراجعة فيما يتعلق بإسناده.
والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر