المواقيت: جمع ميقات، وهو وقت العبادة أو مكانها.
والمواقيت عند العلماء فيما يتعلق بالحج، وطبعاً معروفة في الشريعة: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، ووقت النبي صلى الله عليه وسلم، وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [المرسلات:11]، يعني: ضُرب لها أجل معلوم، وقد جاءت المواقيت في القرآن الكريم بالمعنى الزماني ولا أعلم أنها جاءت بالمعنى المكاني في القرآن
فالمواقيت في الحج نوعان: مواقيت زمانية، ومواقيت مكانية.
بدأ المصنف رحمه الله تعالى بالمواقيت المكانية، فقال: [ ميقات أهل المدينة ذو الحليفة ]، إذاً: المواقيت المكانية من حيث تعريفها لم يعتن به الفقهاء كثيراً؛ لأنها معروفة، ويمكن أن نعرفها باختصار أن الميقات المكاني هو: المكان المعين شرعاً لابتداء الإحرام، والإحرام: هو الدخول في النسك.
وهذه المواقيت المكانية منصوص عليها في غير ما حديث، وأشهر هذه الأحاديث ما رواه ابن عباس رضي الله عنه وخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرن، ثم قال صلى الله عليه وسلم: هن لهن، ولمن مر عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة، ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ، حتى أهل مكة يهلون من مكة )، هذا حديث ابن عباس عند البخاري ومسلم .
ومثله حديث ابن عمر أيضاً عندهما، وفيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، ويهل أهل الشام من الجحفة، ويهل أهل نجد من قرن -ذكر هذه الثلاث- ثم قال
أذكر عن شيخنا الشيخ: صالح البليهي رحمة الله عليه: أنه كان يلقننا في الصغر بيتاً جمعت فيه المواقيت الأربعة مع الميقات الخامس الذي هو ميقات أهل العراق، يقول:
عرق العراق يلملم اليمن وبذي الحليفة يحرم المدني
للشام جحفة إن مررت بها ولأهل نجد قرن فاستبن
ويبدو أن هذا الأمر تقريبي ليس على سبيل الدقة، والتقديرات كما ذكر ابن تيمية وغيره رحمهم الله تتفاوت بتفاوت الطرق واختلافها، فقد يكون ما بين المدينة وذي الحليفة أو ما بين ذي الحليفة ومكة وهكذا بقية المواقيت يكون هناك أكثر من طريق، فبعضهم يقيس من هذا الطريق وبعضهم يقيس من ذاك، ولهذا يقع تفاوت في حساب المسافة.
أما بعد ذي الحليفة الذي هو ميقات أهل المدينة عن مكة فهو أبعد المواقيت كلها على الإطلاق عن مكة، ولذلك قال المتقدمون: إنها تبعد عن مكة عشر مراحل. ويقول فضيلة الشيخ عبد الله البسام حفظه الله: إن المسافة بين ذي الحليفة ومكة أربعمائة وثلاثون كيلو متر، وهي تقع بطبيعة الحال شمال مكة، وتقع إلى الجنوب الغربي من المدينة المنورة، وتعرف الآن عند العوام بـأبيار علي سبة إلى أسطورة أو خرافة أن علياً نزل في ذلك البئر وقاتل الجن فيه، وهذه خرافة، وعلي رضي الله عنه غني عنها وشجاعته مما لا تحتاج إلى دليل.
النووي -رحمه الله- ضبطه -كما ذكرت- بسكوت الراء: قرن المنازل، وقال: هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم والمحدثين والفقهاء وأهل اللغة، وغلط الأئمة الإمام الجوهري صاحب الصحاح في اللغة العربية؛ لأنه ضبطه بفتح الراء وقال: إن أويس القرني الذي ورد في مسلم خبره أنه من هذه القرية، والصواب: أن أويس من قبيلة قرن من مراد كما هو واضح في السياق النبوي، وأن هذه البلدة أو هذه القرية هي بسكون الراء كما ذكرت.
وقد جاء تحديد ذات عرق في حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه أبو داود والنسائي وغيرهم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل العراق ذات عرق )، ولكن هذا الحديث وإن صححه جماعة إلا أن الأقرب أنه ليس بقوي، ولذلك أنكره الإمام أحمد على أفلح بن حميد أحد رواته وأعلّوه .
والصحيح في ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: [ لما فتح هذان المصران -يعني: الكوفة والبصرة - جاءوا إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل نجد قرن المنازل، وإن قرناً جور عن طريقنا -يعني: بعيدة أو شاقة ليست على طريقهم- فقال لهم عمر رضي الله عنه: انظروا حذوها من طريقهم، فوقّت عمر رضي الله عنه أو حد لهم ذات عرق ]، هذه رواية البخاري .
وفي بعض الروايات: أنهم نظروا واختلفوا ما بين ذات عرق أو غيرها، فحدد لهم عمر رضي الله عنه ذات عرق .
إذاً نقول: إن الراجح أن هذا التحديد اجتهاد من عمر رضي الله عنه باعتبار أن ذات عرق محاذية لـيلملم ومحاذية لـقرن المنازل، وإن كان كثير من العلماء كالحنابلة والحنفية وكثير من الشافعية قالوا: إن تحديد ذات عرق هو بنص من النبي صلى الله عليه وسلم، لكني رأيت المحققين والمتقدمين من الأئمة والشافعي نفسه رضي الله عنه كما في كتاب الأم : ينصون على أن تحديد ذات عرق كان اجتهاداً من عمر رضي الله عنه، لم يأت فيه نص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم. واجتهد بعضهم وقالوا: كان هناك نص وكان هناك اجتهاد وهذه من موافقات عمر، والذي يظهر لي أن الأمر كان اجتهاداً من عمر رضي الله تعالى عنه، ولذلك ابن عمر رضي الله عنه مع أنه ذكر قصة أهل العراق لم يذكر الحديث المرفوع، ولا أن عمر احتج به، بل إن ابن عمر قال: لم يكن عراق يومئذٍ. قالوا له: في العراق ؟ قال: لم يكن عراق يومئذ، يعني: ما كان هناك مسلمون في العراق .
وهذا بالنسبة للمتقدمين، ونصوص الفقهاء كانت متكاثرة.
أما المعاصرون فقد ذهب جماعة منهم -وخصوصاً من المالكية- إلى مثل هذا، فالشيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله وهو من أكابر العلماء والفقهاء ذكر الاختلاف في هذا، ورجح الإحرام من جدة كما ذكرنا وغيره .
القول الثاني في المسألة: أن أهل الجو يحرمون إذا نزلوا إلى الأرض في أي مكان نزلوا سواءً نزلوا في جدة أو في غيرها، وهذا الذي أفتى به مجموعة من الفقهاء المعاصرين منهم من ذكرت الشيخ الطاهر بن عاشور والشيخ محمد الحبيب بن الخوجة وهؤلاء من فقهاء تونس الأكابر، والشيخ عبد الله التنون وهو من فقهاء المغرب، والشيخ عبد الله بن زيد آل محمود وهو معروف من شيوخ قطر رحمهم الله جميعاً والشيخ عبد الله الأنصاري أيضاً، وكذلك لجنة الفتوى بالأزهر، والشيخ مصطفى الزرقا والشيخ فقيه كبير من فقهاء الشام من سوريا وهو عالم جليل عضو في المجمع الفقهي وغيره من المجامع العلمية، وقد كتب في ذلك رسالة مطولة وانتصر فيها انتصاراً كبيراً لهذا الرأي وإن كان اجتهاده محل الاحترام، وذكر من الأدلة شيئاً كبيراً.
و يبقى القول الثاني الذي يرى أن المسافر بالطائرة مثل المسافر بالبر يبقى له قوة الدليل؛ لأن قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( هن لهن ولمن مر عليهن )، فإنه يقال: إن الذي يأتي بالطائرة قد مر على هذه المواقيت، وكذلك قول عمر رضي الله عنه: [ انظروا حذوها من طريقكم ] فإنه يدل على أن المحاذاة معتبرة، والمحاذاة في الجو نظير المحاذاة في البر، ولذلك أميل إلى القول الذي عليه الأكثرون وهو: أن المسافر بالطائرة يحرم في الطائرة إذا حاذى الميقات، وهذا الذي عليه أكثر المجامع الفقهية كما ذكرت وصدر فيه قرار أيضاً من هيئة كبار العلماء.
أما أنها لأهلها فهو ظاهر، يعني: المدني يحرم من ذي الحليفة، والنجدي يحرم من قرن المنازل، واليمني يحرم من يلملم إذا مر بها.
وأما قوله: [ ولمن مر عليها ].
يعني: من غير أهلها، كما نص عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه.
ثم هاهنا إشكال: إذا مر الإنسان بالميقات وميقاته وراءه، يعني: لو أن رجلاً من أهل الشام ذهب إلى المدينة ثم مر بـذي الحليفة، وميقاته أمامه، هل يجب عليه أن يحرم من ذي الحليفة بحكم أنه أصبح كأهل المدينة، أو نقول: يجوز له أن يتجاوز ذا الحليفة ويحرم من الجحفة أو من رابغ ؟
هذه المسألة فيها اختلاف بين أهل العلم:
الحنفية والحنابلة أيضاً يقولون: لو مر بميقات وميقاته بعده فإحرامه من الميقات الأبعد من مكة أفضل، يعني: إحرامه من الميقات الأول أفضل وأحوط؛ لأنه استغرق فيه وقتاً للعبادة؛ ولأنه أحوط وأبرأ للذمة. وهذا قول أبي حنيفة وأحمد وتقريباً نقول: هو قول المالكية، وإن كان المالكية عندهم بعض التفصيل.
القول الثاني للشافعية يقولون: إنه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأول، واستدل الأولون -الذين هم الأحناف- بعموم الأحاديث الواردة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هن لهن ولمن مر عليهن من غير أهلهن )، كما استدلوا بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر وهذا سند صحيح بل هو سلسلة ذهبية: [ أن ابن عمر رضي الله عنه أهل من الفرع ]، وهو في الموطأ والفرع: مكان بين ذي الحليفة وبين مكة، فقالوا: هذا دليل على أنه يجوز له أن يتجاوز ميقاته وأن يحرم من الميقات الآخر.
والاستدلال بأثر ابن عمر فيه نظر؛ لاحتمال أن يكون ابن عمر لم ينو الإحرام إلا آنذاك، وأن نقول: إن الفرع ليس ميقاتاً لأهل المدينة وابن عمر من أهل المدينة فكان حقه أن يحرم من ذي الحليفة، إلا أن يكون معذوراً في ذلك وهو ظاهر.
فالاستدلال إذاً بأثر ابن عمر ليس بقوي، لكن يبقى أن عموم حديث ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما يدل على أنه يجوز له أن يترك ميقاتاً ليحرم من الميقات الذي بعده؛ لأنه لو أحرم من الميقات الآخر لا نقول: إنه جاوز الميقات بغير إحرام.
والله تبارك وتعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين، والحمد لله...
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر