الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
[باب: ما يفسد الصوم].
ويدخل في هذا الباب ما يفسد، وعادة يذكرون معه ما لا يفسد الصوم، من باب الاستطراد؛ لأنهم إذا ذكروا ما يفسد ذكروا ما يظن أنه يفسد الصوم وليس كذلك.
وقوله: (باب ما يفسد الصوم) يشمل ما يوجب الكفارة وما لا يوجبها، فهو أعم مما يوجب الكفارة، وقد ذكر المصنف رحمه الله في هذا الباب تقريباً أربع مسائل:
الأول: الأكل، قال: (من أكل)، والأكل مفطر بالكتاب والسنة والإجماع.
فأما الكتاب ففي قوله تعالى: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187].
وأما السنة فما لا يحصى من الأحاديث التي تدل على أن أصل الصوم هو الامتناع عن الأكل والشرب والجماع ونحوه، هذه أصول المفطرات، مثل ماذا الأحاديث؟ مثل: ( من نسي فأكل أو شرب وهو صائم فليتم صومه )، وسيأتي الحديث وهو متفق عليه.
أيضاً: الحديث القدسي وهو أيضاً في البخاري : ( يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي )، هذا في الصائم، أيضاً: ( من لم يدع قول الزور -متفق عليه- والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )، وهلم جراً.
فالأحاديث كثيرة جداً في بيان أن الأكل من المفطرات، وكذلك أجمع العلماء عليه إجماعاً قطعياً من حيث الجملة، وإنما أقول: من حيث الجملة؛ لأنه قد ينقل عن بعض السلف الشك في أشياء محددة أنها ليست أكلاً أو ليست شرباً، فهذا باب آخر، لكن كل ما اتفق على أنه أكل أو شرب فهو من المفطرات.
والشرب أيضاً مفطر بالكتاب كما ذكرنا: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، والسنة كما في الأحاديث السالفة وغيرها، وإجماع العلماء القطعي على أن الشرب من المفطرات.
وفي الأكل والشرب إذا تعمدهما في نهار رمضان الكفارة مع القضاء، والفقهاء الذين يقولون: إن عليه إن أكل أو شرب متعمداً الكفارة.
المالكية والحنفية.
إذاً: السعوط هو اسم للدواء الذي يوضع في الأنف، أو يستنشق مع الأنف، وقوله: (أو استعطى) لا يعني قصره على الدواء فقط، بل المقصود: أن كل ما دخل إلى جوفه عن طريق الأنف فهو مفطر، والدليل على ذلك: حديث لقيط بن صبرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، والحديث رواه الخمسة، رواه أهل السنن والإمام أحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي وابن حجر وغيرهم وهو حديث صحيح، وأيضاً الترمذي قال: حديث حسن صحيح.
وجه الدلالة من الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال له: ( بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، دل على أن وصول الماء إلى الجوف عن طريق الاستنشاق يؤثر على الصيام، وإلا لما استثنى المبالغة حال الصيام، وهذا القول هو مذهب جماهير أهل العلم، وقد نقل عن بعضهم: أنه لا يفطر بالاستنشاق عن طريق الفم، وقد نسب بعضهم هذا القول إلى الشيخ ابن تيمية رحمه الله ولم أجده في شيء من كتبه، بل نصوصه في الفتاوى وفي رسالة حقيقة الصيام وفي الاختيارات وفي غيرها تدل على أنه يقول بقول الجمهور في أن وصول الماء أو السعوط أو الدواء إلى الجوف عن طريق الأنف أنه من المفطرات.
لكن جاء في مصنف ابن أبي شيبة عن إبراهيم النخعي : أنه لم ير بالسعوط بأساً، وكذلك ابن حزم في المحلى رد على الجمهور القائلين بالتفطير بالاستنشاق والسعوط، إذا وصل الماء إلى جوفه أو السعوط، رد عليهم بأن هذا ليس له أصل، وهذا أيضاً هو قول داود الظاهري، وهو مذهب الظاهرية وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء ولم يسمهم.
إذاً: الجمهور من الأئمة الأربعة وهو اختيار ابن تيمية : أن السعوط ونحوه مما يصل إلى الجوف عن طريق الأنف فهو مفطر، وهذا هو الصحيح؛ لحديث لقيط بن صبرة .
المقصود بالجوف: المعدة [أو أوصل إلى جوفه] أي: المعدة وما يتصل بها؛ لأنهم قد يطلقون ذلك ويقصدون به مثلاً حتى الدماغ؛ لأنهم يقولون: إن له منفذاً متصلاً بالمعدة.
والمقصود بقوله: (أو أوصل إلى جوفه شيئاً)، يعني: أي شيءٍ كان، سواءً كان شيئاً مغذياً كالأكل أو الشرب أو العلاج أو غيرها، أو كان شيئاً غير مغذٍ مثل: الحصى، أو التراب، أو الأنبوب، أو الحبل، أو الأشياء التي لا تستخدم كغذاء، هذا ظاهر كلام المصنف.
وهذا الذي ذكره المصنف كقاعدة عامة: أن ما يصل إلى الجوف -أي: إلى المعدة- فهو مفطر، هذا مذهب أبي حنيفة والشافعي ونص عليه الإمام مالك ؛ لأن هذا عندهم في معنى الأكل والشرب المنصوص عليه، فإن قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [البقرة:187]، نص في الأكل والشرب، ويدخل فيهما ما في معناهما مما يصل إلى الجوف، وقد شغب على هذا المعنى الإمام ابن حزم رحمه الله، فقال في المحلى منكراً على الجمهور هذا القول قال: وما علمنا أكلاً ولا شرباً يكون على دبر أو إحليل، يعني: يدخل من الدبر مثلاً أو من الإحليل وهو الذكر، أو أذن أو عين أو أنف أو من جرح في البطن، أو جرح في الرأس، وما نهينا قط عن أن نوصل إلى الجوف بغير الأكل والشرب ما لم يحرم علينا إيصاله، يعني: المحرمات كمحرمات الصيام وغيره هذا شأنها آخر، وهذا الكلام الذي اختاره ابن حزم كأن الإمام ابن تيمية أيضاً مال إليه في كتابه: حقيقة الصيام، وهي رسالة مطبوعة مع الفتاوى، وطبعت مستقلة باسم حقيقة الصيام، وذكر ابن تيمية رحمه الله وجوهاً لهذه المسألة نحو ستة وجوه، من أبرزها:
أنه قال: إن الصوم من دين المسلمين العام الذي يلزم به كل مسلم إذا توفرت فيه الشروط كما سبق، وهذا يعني: أن الدواعي تتوفر على معرفة أحكام الصيام وعلى بيانها للناس، فبين الرسول صلى الله عليه وسلم لهم كل ما يتعلق بالصيام، ومن هذا بيان المفطرات، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بين أن هذه الأشياء من المفطرات فلا نقول بتفطيرها.
أما الاستنشاق كما في حديث لقيط فإن ابن تيمية رحمه الله يقول: إن الاستنشاق لو لم يرد فيه نص لكان يجب أن يكون مفطراً؛ لأنه أكل أو شرب، وهو منفذ طبيعي لمادة مغذية مقوية يستفاد منها، فقد ورد النص أيضاً على وفق القياس، فهذا من الوجوب.
أيضاً ابن تيمية رحمه الله يقول: إن قياسهم هذه الأشياء على الأكل والشرب قياس غير صحيح ويفتقر إلى تحديد مناط الحكم، فهل مناط الحكم في المفطرات كونها تصل إلى الجوف؟ هذا لم يرد فيه دليل، هل مناط الحكم يعني أن تصل إلى الجوف فقط؟ ليس فيه دليل، هل مناط الحكم كونها تصل من منفذ طبيعي فقط؟ هذا أيضاً ليس عليه دليل وإنما الشيخ رحمه الله يرى أن الأمر يدور على وصول الغذاء المقوي للبدن. ذكر طبعاً وجوهاً كثيرة لكن هذه أهمها.
إذاً: ما ذكره ابن تيمية رحمه الله في هذا القول وذهب إليه من قبل ابن حزم هو أيضاً قول جيد وقوي؛ لأن إلحاق هذه الأشياء بالأكل والشرب فيه نظر كبير من حيث القياس.
ما هي الأشياء التي تدخل تحت هذه الكلمة، وهي كلمة: (أوصل إلى جوفه شيئاً)؟ منها مثلاً: ما يسمونه بالحقنة، وكلمة الحقنة الآن قد يظن البعض أو تنصرف في أذهانهم إلى الإبرة التي يحقن بها الإنسان، بينما الحقنة عند المتقدمين تطلق على دواء يوضع في دبر الإنسان، يوضع في وعاءٍ يسمى المحقنة، ثم يوضع في دبر الإنسان، فهذه الحقنة عند الجمهور مفطرة؛ لأنهم يعتبرون أن الدبر منفذ طبيعي متصل بالجوف، بينما يرى ابن تيمية رحمه الله وابن حزم ومن وافقهم أنها ليست مفطرة، وليس كل من قال بوصول الشيء إلى الجوف يقول بالتفطير بالحقنة، وإنما كقاعدة عامة، وإلا فـأبو حنيفة والشافعي لا يرون التفطير بالحقنة، أما مالك رحمه الله والحنابلة فيرون أنها تفطر.
كذلك مما يدخل تحت هذه الكلمة العامة: الكحل، والكحل قد يصل إلى الجوف وقد يجد طعمه في حلقه وهو غير مفطر عند الشافعية والحنفية، ومن باب أولى عند ابن حزم واختيار الشيخ ابن تيمية رحمهم الله جميعاً، بل الشافعي في الأم قال: لا أعلم أحداً كره الكحل، ونص في مصنف ابن أبي شيبة عن جماعة من السلف كـعطاء وكـإبراهيم النخعي والحسن والزهري وأنس بن مالك وغيرهم أنهم كانوا لا يرون بأساً بالكحل للصائم، ولكن أيضاً نقل ابن أبي شيبة عن قوم أنهم كرهوا الكحل، نقل هذا عن حماد بن سلمة وأبي هلال وقتادة .
إذاً: هناك من السلف من كره الكحل للصائم.
وقد جاء في الكحل حديثان متعارضان كلاهما ضعيف فجاء في سنن أبي داود : عن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروح عند النوم، وقال: ليتقه الصائم ).
الإثمد معروف، فهو نوع من الكحل، من أجود أنواع الكحل، والمروح هو المخلوط بشيء من الطيب بالرائحة الطيبة، يعني: الذي يخلط بالطيب هذا معنى المروح، وقال: ( ليتقه الصائم )، لكن هذا الحديث ضعيف، قال أبو داود : حديث منكر، وفي سنده مجاهيل.
ويعارض هذا الحديث أيضاً ما رواه الترمذي بسند ضعيف أيضاً عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: ( اشتكيت عيني فسألت النبي صلى الله عليه وسلم، وقلت له: أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: نعم )، قال الترمذي : هذا الحديث ليس بالقوي ولا يصح في الباب شيء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: وفيه أبو عاتكة، وهو منكر الحديث كما قال البخاري .
إذاً: لا يصح في الكحل للصائم شيء، لا في كونه مفطراً ولا في كونه غير مفطر، وإنما ذكرنا ما هو أصل القاعدة وهو أنه لا يفطر بالكحل، حتى لو وجد طعمه في حلقه فإن الأصل عدم التفطير به.
ما يقطر في الإحليل وهو الذكر هل يدخل في هذا أو لا يدخل؟
بعضهم قد يذكره استطراداً والأكثرون حتى من الحنابلة يرون أن ما يقطر في الذكر ليس داخلاً أصلاً فيما يصل إلى الجوف، لأن الذي يقطر في الذكر يذهب إلى المثانة، والمثانة غير متصلة عندهم بالجوف، ولهذا يقولون: إنه لا يفطر.
كذلك مما ذكروا أنه يصل إلى الجوف مداواة الجائفة والمأمومة، والجائفة: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، يعني: لو جرح إنسان إنساناً جرحاً وصل إلى جوفه، وصل إلى معدته .. إلى بطنه، ثم وضع الدواء في هذا الجرح فإن الطبيعي أن الدواء يصل إلى الجوف.
كذلك قالوا: مداواة المأمومة، والمأمومة: هي أيضاً جرح يكون في الرأس ويصل إلى الدماغ، يخترق العظم ويصل إلى الدماغ، ولا تكون المأمومة إلا في الرأس، فقالوا: إنه إذا داوى المأمومة فإن هذا الدواء يصل إلى الدماغ فيكون بذلك مفطراً، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
الإمام مالك يقول: لا يفطر دواء الجائفة والمأمومة، وهو قول الظاهرية كما أسلفنا واختيار ابن تيمية .
هناك أشياء عديدة تدخل تحت قول المصنف: (أو أوصل إلى جوفه شيئاً)، ربما جمعها ابن قدامة في هذا النص، يقول: (سواءً وصل من الفم على العادة أو غير العادة كالوجور واللدود)، ما هو الوجور بفتح الواو؟
الوجور: هو ما يوضع في الفم، وقد يوضع غالباً من غير اختيار الإنسان مثلاً: يحقن أو يوضع في حلقه دواء أو شيء من هذا القبيل، هذا يسمى وجوراً.
قال: (كالوجور اللدود) واللدود أيضاً يوضع في الفم لكنه يوضع عن طريق شق الفم، فهذا الذي يوضع في طرف الفم يسمى اللدود، وإذا وضع في وسط الفم فهو الوجور.
قال: (أو من الأنف كالسعوط، أو ما يدخل من الأذن إلى الدماغ، أو ما يدخل من العين إلى الحلق كالكحل، أو ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة، أو ما يصل من مداواة الجائفة إلى جوفه، أو من مداواة المأمومة إلى دماغه، فهذا كله يفطر؛ لأنه واصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل).
هذا كلام ابن قدامة وقد ذكرنا ما على هذا الكلام من الاعتراض، ونقلنا مذهب الإمام ابن حزم وتعقيب ابن تيمية رحمهم الله على ذلك.
قال المصنف: (أو استقاء)، يعني: استدعى القيء، والقيء: هو إخراج ما في جوفه، سواء استدعاه بإصبعه أو بتعمده بأي طريقة كانت؛ لأن هناك أكثر من طريقة للاستقاءة، بعضهم قد يستقي بشم شيء معين أو ما أشبه ذلك.
والكلام في الأذن مثل الكلام في الكحل، والمختار أنها لا تفطر.
وحجة هذا القول: ما رواه أهل السنن عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من ذرعه القيء فلا شيء عليه، ومن استقاء عامداً فليقض )، (ذرعه القيء) يعني: أصابه من غير قصده جاءه من غير اختياره، فهذا ليس عليه شيء، وأما من تعمد القيء فعليه القضاء، وهذا الحديث كما قلت: رواه أهل السنن وأحمد وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم، ولكن أعله كثير من أئمة الحديث، فأعله الإمام البخاري والإمام أحمد والبيهقي وذكروا أنه قد وهم فيه بعض رواته، وهو الأقرب أن الحديث معلول ليس بقوي.
ومما يدل أيضاً على أن تعمد القيء يفطر ما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد عن ثوبان : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فأفطر، فسئل عن ذلك، فقال: صدق أنا صببت له وضوءه )، والحديث صححه الإمام أحمد وغيره وفيه أيضاً مقال يسير.
المقصود: أن من تعمد القيء فعليه القضاء، وقد نقل الخطابي وابن المنذر الاتفاق على هذا، وأما من ذرعه القيء وأصابه بغير إرادته فليس عليه قضاء وسوف نعرض لهذه النقطة أيضاً بعد قليل.
والراجح قول الجمهور: أن من تعمد الاستمناء في نهار رمضان فسد صومه وعليه القضاء، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم، بل قول الله عز وجل فيما رواه النبي عليه الصلاة والسلام: ( يدع شهوته وطعامه وشرابه من أجلي )، ولا شك أن الذي تعمد الاستمناء لم يدع شهوته من أجل الله تبارك وتعالى ففسد بذلك صومه.
وهذا هو الصحيح من المذهب الحنبلي: أنه إذا قبل امرأته فأمذى، أو لمس امرأته فأمذى أن عليه القضاء، وهذا أيضاً مذهب الإمام مالك، وفي رواية أخرى في المذهب: أنه لا يفطر بالمذي، يعني: لو قبل امرأته فأمذى أو لمسها فأمذى أنه لا يفطر بذلك، وهذه الرواية اختارها جماعة من أكابر الحنابلة كـالآجري وابن مفلح صاحب الفروع وابن تيمية وجمع من المحققين وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي، وروي عن جماعة من السلف كـالحسن والشعبي والأوزاعي .
قالوا: لأن المذي خارج لا يوجب الغسل فهو أشبه بالبول، وليس عليه غسل، وليس عليه قضاء، بل صومه صحيح.
ولا شك أن هذا هو الراجح والدليل على ذلك: ما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، قالت: وكان أملككم لإربه )، والمقصود بالإرب: الحاجة، وقيل: العضو، والمعنيان متقاربان.
فالمقصود: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولا شك أن الإنسان إذا فعل هذا فهو مظنة أن يقع منه المذي، وترك الاستفصال -كما يقول الأصوليون- في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، وإن كان ليس هناك مقال، ولكنه فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فنقول: إن القبلة جائزة للصائم وكذلك المباشرة، والمقصود بالمباشرة: أن تمس بشرته بشرتها، هذا معنى المباشرة، فهذا جائز للصائم، ولو ترتب عليه خروج المذي فصومه صحيح، لكن إن كان يخشى من أن يتمادى به الأمر إلى الجماع أو يخشى من خروج المني فيتقيه، ولو أمنى بسبب القبلة أو المباشرة لوجب عليه القضاء.
ويقول ابن قدامة : [بغير خلاف نعلمه] يعني: في مسألة من خرج منه المني.
أما الحاجم: فهو صاحب المحجمة والذي يقوم بهذا العمل.
المحتجم يفطر؛ لأنه خرج منه الدم وهذا قد يسبب له ضعفاً وعجزاً فهو أشبه ما يكون بمن قاء أو استقاء عامداً ونحو ذلك.
وأما الحاجم؛ فلأنه يمص هذه المحاجم، وهذا مظنة أن يصل من الدم شيء إلى حلقه.
وهو يفطر عند الإمام أحمد وعامة أصحابه بالنسبة للمحتجم، أما الحاجم فهو أيضاً يفطر في رواية عند أحمد، وهذا القول بفطر الحاجم والمحجوم هو قول غالب فقهاء أهل الحديث كـإسحاق بن راهويه وابن المنذر وعطاء والحسن وغيرهم، ونقل عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يحتجمون ليلاً ويتجنبون الحجامة بالنهار، نقل هذا عن ابن عمر وابن عباس وأنس وغيرهم، ومن أقوى الأدلة في هذا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، وهذا الحديث جاء عن نحو خمسة عشر صحابياً، وهو حديث صحيح.
ومن أصح ما ورد فيه: حديث شداد بن أوس وثوبان ورافع بن خديج وجاء عن آخرين من الصحابة كما ذكرت كـبلال وعائشة وأبي هريرة وأسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب وسعد بن أبي وقاص وأبي موسى وعبد الله بن عمر وابن عباس وصفية وغيرهم، فطرقه كثيرة جداً، هذا القول الأول.
القوال الثاني: أنه لا يفطر لا الحاجم ولا المحجوم وهذا -تقريباً- مذهب الجمهور، هو مذهب مالك من المتبوعين والثوري وأبي حنيفة والشافعي، وهو أيضاً مذهب ثابت عن جماعة من الصحابة كـأبي سعيد الخدري رضي الله عنه وعائشة وابن مسعود وأم سلمة، وبعض التابعين كـعروة وسعيد بن جبير وغيرهم.
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم، واحتجم وهو صائم )، ولكن هذا اللفظ -وإن كان في البخاري - إلا أن الإمام أحمد قد أنكر هذا، وجماعة من الأئمة أعلوا هذا، وقالوا: الصواب أنه احتجم وهو محرم، أما زيادة وهو صائم فلا تثبت، وآخرون أثبتوها.
ومن الأدلة أيضاً على جواز الحجامة للصائم: حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: ( أرخص النبي صلى الله عليه وسلم بالحجامة للصائم )، والحديث رواه النسائي وابن خزيمة وسنده صحيح، لكن اختلف في وصله وإرساله كما يقول الحافظ ابن حجر، وقوله: "أرخص" دليل على أنه كان ممنوعاً ثم أرخص فيه، فهذا حجة لمن قالوا: بأن آخر الأمرين هو الرخصة بالحجامة للصائم.
وأيضاً لحديث أنس المتفق عليه أنه سئل: (أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال: لا، إلا من أجل الضعف)، يعني: لم يكونوا يكرهون الحجامة؛ لأنها تفطر ولكن كانوا يكرهونها خشية أن يضعف الصائم فيفطر.
ومما روي أيضاً في هذا الباب ما رواه أبو داود عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة للصائم وعن المواصلة -يعني: الوصال في رمضان- ولم يحرمهما؛ إبقاءً على أصحابه )، يعني: إرعاءً عليهم أو رفقاً بهم، وقوله: (إبقاءً على أصحابه) متعلق بقوله (نهى) يعني: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجامة؛ رفقاً بأصحابه؛ لأن الإنسان إذا احتجم يضعف عن الصيام، وهكذا الوصال في رمضان أو في الصيام، إذا واصل فإن الإنسان قد يضعف فيكون النهي ليس نهي تحريم، وإنما هو نهي كراهة. وهذا الحديث حديث أبي داود قال ابن حجر : إسناده صحيح، وجهالة الصحابي لا تضر.
وأما حديث: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، فقد أجاب الجمهور عنه بأجوبة كثيرة، منها:
قول بعضهم: بأن الرسول عليه الصلاة والسلام مر على رجلين وهما يغتابان: حاجم ومحجوم، فقال: ( أفطر الحاجم والمحجوم )، يعني: بسبب الغيبة وهذا ضعيف، ضعيف سنداً أولاً، وضعيف لأن الرسول عليه الصلاة والسلام علق الفطر بالحجامة، وضعيف لأن الغيبة لا تفطر ربما باتفاق العلماء أو ما يشبه الاتفاق.
بعضهم أجاب: بأن المعنى أفطر، يعني: قارب الفطر وكاد أن يفطر؛ لأن الغالب أنه إذا احتجم فإنه يضعف عن مواصلة الصيام، وقد يحتاج إلى الأكل أو الشرب، وهذا أيضاً ليس بقوي؛ لأنه إن صح في حال المحجوم فليس بواضح في حال الحاجم؛ لأنه لم يستخرج منه شيء.
وقيل: إنه منسوخ، وهذا ممكن وإن كان ابن حزم رحمه الله وغيره ممن كتبوا في الناسخ والمنسوخ ذكروا فصولاً طويلة في هذا، وبعضهم قال بنسخ هذه بتلك، وهذا الذي اختاره ابن تيمية رحمه الله؛ لأنه ممن يقول بالتفطير بالحجامة، وبعضهم قال بأن الإذن بالحجامة للصائم هو الناسخ.
و الذي أميل إليه والله تعالى أعلم: أن الحجامة لا تفطر، وأن الحديث لابد من حمله على أحد وجوه التأويل، وقد يكون من ذلك: القول بالنسخ؛ لما ذكرناه من مذهب الجمهور والنقل عن جماعة من الصحابة؛ ولما أسلفناه ونقلناه عن ابن تيمية رحمه الله من أن مسائل الصيام من القضايا العامة التي تحتاجها الأمة، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم، بل أمهات المؤمنين كـعائشة وأم سلمة يحتجم عندهم ناس في الصيام ولا ينكرن عليهم، ونص النبي صلى الله عليه وسلم على عدم النهي عن ذلك إلا من باب الإرعاء والرفق بأصحابه، وحديث أبي سعيد أيضاً، ولأنه ما يتعلق بالحاجم لا يظهر أيضاً وجه أن يكون مفطراً، واحتمال أن يكون وصل إلى حلقه شيء هذا مجرد احتمال وليس أمراً مؤكداً، ولو وصل إلى حلقه بغير الحجامة شيء لأفطر به، فلا بد من حمل الحديث على أحد وجوه التأويل أو النسخ.
بغض النظر عن القول الراجح في موضوع الحجامة ما يتعلق بإخراج الدم من الإنسان بالطرق الحديثة، سواءً كان إخراجه للتحليل أو لغيره هل يلتحق بالحجامة أو لا يلتحق؟
بعضهم ألحقوه بالحجامة؛ لأنه استخراج للدم من العروق على وجه يضر بالإنسان ويضعفه.
وآخرون رأوا أنه لا يلتحق به؛ لأنه قد يكون في الحجامة معنىً لا يوجد في هذه الأشياء، وهذا عندي أقرب.
ولذلك نقول يقيناً: إنه فيما يتعلق بالحاجم لا نقول: إن من يستخرج الدم مثلاً عن طريق الإبرة أنه يفطر بهذا؛ لأنه لا تعلق له بشيء من ذلك، ولا يصل إلى جوفه يقيناً أو حلقه من ذلك شيء، فنقول: حتى على القول بأن الحجامة تفطر فينبغي قصر الأمر على الحجامة وما يماثلها.
أما استخراج الدم للتحليل أو غيره بطريقة مختلفة، وقد يكون كمية قليلة فإن الأقرب أنه لا يفطر؛ حتى على قول القائلين بالتفطير، ولذلك ينص بعضهم على الجرح اليسير ولو خرج منه قطرات يسيرة، وأن هذا لا يضر ولا يلحق بالحجامة.
كذلك إخراج الدم للتبرع.
انتهى المؤلف من المفطرات، لكن فاته الجماع.
ولهذا ذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة إلى أنه ليس عليه قضاء، وصومه صحيح، وهو مذهب الحنابلة والشافعية والحنفية، وقال مالك : يفطر، لماذا؟ قال: لأن ما لا يصح الصوم مع جنسه عمداً فلا يصح الصوم مع جنسه سهواً، فالأكل والشرب وكذلك الجماع لا يصح الصوم معها عمداً، فكذلك لا يصح الصوم معها سهواً، ولا شك أن مذهب الجمهور هو الصحيح، وأن قياس الإمام مالك رحمه الله هو قياس في مقابلة النص.
المجامع هل يقبل منه النسيان.. أن يجامع ناسياً؟
ممكن، وعلى كل حال فالمجامع فيه كلام خاص، وابن تيمية رحمه الله ذكر في المجامع ثلاثة أقوال:
القول الأول: إذا جامع ناسياً فليس عليه قضاء ولا كفارة وهذا قول الشافعي وأبي حنيفة وأكثر العلماء أنه ليس عليه قضاء ولا كفارة؛ للنسيان.
القول الثاني: أن عليه قضاء يوم مكانه وليس عليه كفارة، وهذا قول مالك .
القول الثالث: أن عليه القضاء والكفارة، يعني: يكون النسيان على هذا القول غير معتد به في موضوع الجماع، وكأنهم يقولون: إنه يبعد أن ينسى الصيام؛ لأنه بالنسبة للأكل والشرب ربما يبتلع شيئاً وهو ناسٍ ولا يتذكر إلا بعدما يكون استقر في جوفه، لكن بالنسبة للجماع قالوا: إن من المستبعد أن يقع النسيان منهما معاً طيلة فترة الجماع، ولذلك كان المشهور عن الإمام أحمد أنه لا يقول بالنسيان في الجماع.
و القول الأول أرجح: أنه ليس عليه قضاء ولا كفارة إذا كان ناسياً، وهذا الذي اختاره ابن تيمية رحمه الله، والأدلة على ذلك، يعني الآيات الكريمات: رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة:286]، لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، وكذلك: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ [الأحزاب:5]، وما أشبه هذا.
فالله سبحانه وتعالى لم يؤاخذنا بالنسيان في شيء سواءً فيما يتعلق بالصوم أو فيما يتعلق بالإحرام، أو فيما يتعلق بغيرها، ومن فعل هذه الأشياء أو غيرها ناسياً فهو بمنزلة من لم يفعل، ليس عليه إثم وليس عليه إعادة ولا كفارة ولا شيء.
أن يكون مختاراً، فالمكره ليس عليه قضاء، ومن أدلة أنه ليس عليه قضاء حديث: ( من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ) عند من يقول بتصحيحه، وكذلك الآيات الواردة في الإكراه: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ [النحل:106]، وما أشبه ذلك مما يدل على أن المكره ليس عليه قضاء.
والإكراه يكون بشيئين:
الأول: ما يسميه الأصوليون والفقهاء بالإكراه الملجئ: وهو ما لو مسك إنسان إنساناً ثم فتح فمه وصب فيه الماء مثلاً وهو صائم، فهذا لا إشكال ولا خلاف في أنه ليس عليه قضاء وصومه صحيح، هذا يسمونه إكراهاً ملجئاً.
النوع الثاني: هو التهديد أو الإكراه غير الملجئ مثل أن يقول له: اشرب هذا الماء وإلا سجنتك أو ضربتك أو قتلتك أو ما أشبه ذلك، فهذا يعتبر نوعاً آخر من الإكراه، وهو أيضاً الصحيح أنه ليس عليه في هذه الحالة قضاء.
لا؛ لأنه أولى من الناسي، فالنائم أولى بالعذر من الناسي، ومثله أيضاً لو أغمي عليه وشرب أو أكل في هذه الفترة فهو معذور في حكم الناسي وفي حكم النائم.
ومثله أيضاً: الدخان إذا وصل إلى حلق الإنسان، ونحن نعلم أن الصحابة والتابعين والأمة كلها كانوا يصومون ويوقدون النيران ويأتي الدخان إلى أفواههم وإلى أنوفهم ويدخلها، ولم ينقل أنهم كانوا يتحرزون من ذلك أصلاً ولا يقع لهم به فطر؛ لأن هذا يشق التحرز منه وهو بغير اختيار الإنسان.
ولذلك قال العلماء أيضاً: إنه لا بأس للإنسان الصائم أن يشم الروائح الطيبة ولا يؤثر هذا في صيامه، وليس الشم من المفطرات.
قال: [أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء]، يعني: بسبب المضمضة أو بسبب الاستنشاق؛ وذلك لأنه معذور بالمضمضة والاستنشاق، بل مأمور بها في الوضوء وفي الغسل أيضاً، فإذا فعل ذلك حتى لو بالغ في المضمضة والاستنشاق فوصل إلى حلقه بسببهما شيء؛ فإنه ليس عليه في ذلك قضاء وصومه صحيح.
قال: [أو فكر فأنزل]، يعني: فكر في الجماع فحصل منه إنزال المني، فهذا لا يفطر عند الجمهور، والدليل على ذلك: ما رواه السبعة، الستة ومضافاً إليهم الإمام أحمد : عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله عفا لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )، فلو أنه بمجرد التفكير أنزل فليس عليه قضاء.
طيب! سؤال: لو تعمد التفكير؟ بعض الناس قد يركز تفكيره حتى يقع منه الإنزال هل عليه قضاء؟
أيضاً نقول: ليس عليه في ذلك قضاء، مجرد التفكير ليس عليه فيه قضاء. وهذا نقل الإجماع عليه.
قال: [أو قطر في إحليله]، وذكرنا أن الإحليل المقصود به: الذكر، وذلك لما ذكرناه قبل قليل من أن ما يقطر في الإحليل إنما يذهب إلى المثانة، والمثانة عندهم ليست متصلة بالجوف أو بالمعدة، ولذلك فإنه لا يفطر وليس بينهما منفذ.
النقطة الرابعة: قال: [أو احتلم]، وهذا بالاتفاق: أن من احتلم في نومه وهو صائم فصومه صحيح.
قال: [أو ذرعه القيء]، وهذا أيضاً ذكرناه: أن من ذرعه القي فليس عليه قضاء؛ لأنه غير متعمد، لم يفسد صومه.
ما هو الفرق بين الأولى: عليه القضاء، والثانية: لم يفسد صومه؟ ما الفرق بينهما؟
بالنسبة للظن يقول: عليه القضاء مطلقاً، والشك فصّل: أحياناً يقضي وأحياناً لا يقضي.
الجواب: أن المصنف رحمه الله في المسألة الأولى، قال: [ومن أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً فعليه القضاء]، هذا -المسألة الأولى- في من أكل يظن الوقت ليلاً سواءً الفجر يظن أنه لم يطلع أو المغرب يظن أن الشمس قد غابت، ثم بان له واتضح له وعلم بعد ذلك أنه كان غالطاً، وأن الليل قد خرج وطلع الفجر أو أن الشمس لم تغرب، هذه المسألة الأولى.
يعني: رجل أكل في الفجر يظن أن الفجر باق فتبين له أنه أكل بعد طلوع الفجر، هذه المسألة الأولى.
ومثله أيضاً لو أكل قبل غروب الشمس يظن أن الشمس قد غربت، ولما أكل كان عندهم غيم ذهب الغيم ورأى الشمس هذا أكل يظنه ليلاً فبان نهاراً.
قال: [فعليه القضاء]، يعني: من غير كفارة، ولكن من غير تفصيل أيضاً، سواءً كان الفجر أو المغرب؛ لأنه تبين له أن الحقيقة وواقع الحال خلاف ما كان يظن، وهذا قد نقل بعدة أسانيد عن عمر رضي الله عنه، نقله عبد الرزاق وسعيد بن منصور، ونقل عن أبي سعيد الخدري وابن مسعود .
وجاء في صحيح البخاري : عن أسماء رضي الله عنها قالت: ( أفطرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم غيم ثم طلعت الشمس )، فسئل هشام -أحد رواة الحديث هشام بن عروة - أمروا بالقضاء؟ قال: (أو بد من قضاء؟)، يعني: لابد من القضاء، فهذا دليل على أنه يقضي، وهذا قول أكثر أهل العلم كما ذكرنا، والظاهر أنه مذهب الأئمة الأربعة.
وفي المسألة قول آخر: وهو أنه ليس عليه قضاء، وهذا قول عروة ومجاهد والحسن وإسحاق، واختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن هذا الإنسان اجتهد وسعه، ومما استدلوا به: أنه لم ينقل في قصة أسماء أنهم أمروا بالقضاء، وقالوا: إن قول هشام : (لم يكن بد من قضاء)، هذا من اجتهاده هو وفقهه هو، وليس نقلاً عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فرجع الحديث إلى أنهم لم يؤمروا بالقضاء.
إذاً: هذه المسألة الأولى: وهي ما إذا أكل يظن أن الليل باقٍ فبان أنه أكل في النهار، فهذا عليه القضاء سواءً كان الأمر متعلقاً بطلوع الفجر أو بغروب الشمس.
أما المسألة الثانية فهي قوله: [ومن أكل شاكاً]، الآن انتقلنا إلى إنسان شك ولم يتبين له خلاف ما شك فيه أو خلاف ما ظنه، (شاكاً في طلوع الفجر لم يفسد صومه)، يظن أن الفجر لم يطلع وأكل، فهذا لا يفسد صومه، لماذا لا يفسد صومه؟
قالوا: لأن الأصل بقاء الليل، هو لا يزال ليلاً، فالأصل بقاء الليل حتى يتيقن من طلوع الفجر، وهذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وأكثر أصحابه؛ لأن الأصل بقاء الفجر.
ومما يستدل به على ذلك أيضاً حديث عدي بن حاتم الذي رواه البخاري ومسلم وأهل السنن وغيرهم: ( أنه لما نزل قول الله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [البقرة:187]، وضع عند وسادته خيطين أبيض وأسود، يأكل وينظر إليهما حتى تبين له أحدهما من الآخر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن وسادك إذاً لعريض )، ولم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء.
فالمقصود إذاً: أن هذا كان شاكاً في الوقت أو في الحكم فليس عليه إعادة، وليس عليه قضاء.
وهكذا العكس لو أنه عند غروب الشمس أكل وهو يظن أن الليل قد دخل، وأن الشمس قد غربت فما الحكم في هذه الحالة؟ نقول: عليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار.
فنقول: في الفجر صومه صحيح؛ لأن الأصل بقاء الليل، وفي الغروب صومه فاسد وعليه القضاء؛ لأن الأصل بقاء النهار، ولا يجوز له أن يفطر إلا بعدما يتيقن من ذلك، وهذا قول ابن عباس أيضاً، وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبي حنيفة، وروي عن جماعة من الصحابة.
أعني: أنهم يفرقون بين من شك في طلوع الفجر أو شك في غروب الشمس فلا قضاء عليه في الأولى وعليه القضاء في الثانية.
وهناك قول آخر للإمام مالك : يرى أن عليه القضاء في الحالين، سواءً شك في طلوع الفجر أو في غروب الشمس، ولو لم يتبين له فإن عليه القضاء، قال: لأن الأصل بقاء الصوم في ذمته -لاحظ استنباط الإمام مالك -، وهذا الذي شغلت به الذمة من الصيام لا يزول ولا يسقط بمجرد الشك حتى يتيقن من أنه أدى ما عليه، ولا شك أن قول الجمهور في هذه المسألة هو الراجح، والله تبارك وتعالى أعلم.
إذاً المسألة الأولى: إنسان ظن، ثم تبين له خلاف ما كان يظن، فهذا مطلقاً نقول: عليه القضاء.
المسألة الثانية: إنسان شك ولم يتبين له شيء، أو قل: ظن ولم يتبين له شيء خلاف ظنه، فأكل مثلاً يظن الفجر باقٍ وصام، نقول: صومه صحيح، بينما الإمام مالك يقول له: عليك القضاء لماذا؟ لأنه كان يجب عليك أن تمسك في وقت الشك.
الجواب: عليه أن يتوقف عن الجماع ويمسك كما لو أكل وسمع المؤذن، علماً أن العبرة هي بطلوع الفجر وليس بالأذان؛ لأن بعض المؤذنين قد يؤذنون قبل الوقت احتياطاً أو يؤذنون حسب التقويم، وقد يراعى في التقويم نوع من الاحتياط، والله سبحانه وتعالى يقول: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ [البقرة:187]، يعني: ربط الأمر بماذا؟
حتى لم يربطه بطلوع الفجر، وإنما ربطه بالتبين لنا، يعني: بالشيء المحسوس، ولهذا بعض العلماء يرون أن الأمر فيه شيء من السعة لو أنه أكل بعد الفجر بيسير، يعني: بعد التقويم المعلن بدقائق فإن هذا لا يضر.
الجواب: إذا كان هذا البخاخ فيه مواد تصل إلى المعدة أو الجوف فإنه يفطر بها، أما إذا لم يكن فيه إلا مواد تصل إلى الرئة، فقد أفتى جماعة من العلماء بأنها لا تفطر؛ لأنها ليست أكلاً ولا شرباً ولا في معناها، إضافة إلى الحاجة الملحة لأصحاب الربو لمثل هذا.
الجواب: بقايا السواك أو بقايا الطعام في الفم يلفظها الإنسان، لكن لو ذهبت من غير قصده فليس عليه فيها شيء، وخصوصاً الأشياء الصغيرة التي يصعب على الإنسان أن يتحرز منها، وقد نص الفقهاء على أن هذه الأشياء اليسيرة لا تضر بالصوم.
الجواب: إن كانت مكرهة فليس عليها كفارة، وبعض الفقهاء يقولون: ليس عليها كفارة مطلقاً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر الرجل بالكفارة ولم يأمر المرأة، ولكن إذا كان الإكراه إكراهاً، يعني: مثلما ذكرنا بالتهديد، وإن هددها بالضرب أو بشيء من هذا القبيل مما يقدر عليه فهنا يأتي الخلاف: هل تفطر بهذا أو نقول: إنه ليس عليها قضاء؛ لأنها مكرهة، لكن إن طاوعته فعليها القضاء؛ لأنه قد يهددها بهذا فتقبل ثم يتحول الأمر إلى أن تستمتع بالجماع معه، ففي هذا الحالة نقول: عليها أن تقضي.
الطلاق تهديد إذا عرفت أنه جاد في إيقاعه فهو شيء كبير عليها ولذلك إن هددها بالطلاق، فقد يقال: إنه ليس عليه كفارة، لكن عليها القضاء والله أعلم.
الجواب: لا. ليس عليه في ذلك فطر، الصحيح: أنه لا يفطر بذلك، لكن إن كان يستطيع أن يستخرجه فعليه أن يخرجه إلا إذا كان هذا قد يفضي إلى وسواس؛ لأن كثيراً من الناس يصبح عنده وسوسة في إخراج الريق مع أن الريق لا يفطر ولو جمعه أيضاً وبلعه لم يفطر بذلك.
والنخامة أيضاً لا يفطر الإنسان بها وإن كان بعض الفقهاء يقولون: بأنه لا يجوز له أن يبتلعها، وهذا لم يذكروا عليه أيضاً دليلاً، والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر