الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
الليلة السبت، التاسع عشر من شهر رجب من سنة 1422 للهجرة، عندنا الدرس الثاني من دروس الصيام: وهو عن أحكام المفطرين في رمضان، وبعض الفقهاء والمصنفين قد يعبرون عن هذا الباب بـ (عوارض الإفطار)؛ لأنه يقصد بهذا العنوان: الذين يباح لهم الفطر، ولا يتعرض الباب لمن أفطروا رمضان من غير عذر بالأصل، وإنما هو يعرض لمن يجوز أو يباح لهم الفطر، ويعرض أيضاً لمن أفطروا بصفة غير مباحة وغير مشروعة، ماذا يجب في حقهم.
وقد ذكر المصنف رحمه الله أنه: [ يباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام ]، ثم ذكر خمسة أقسام، ولكنه دمج اثنين منها في نوع واحد والأولى فصلهما، فقال: [ أحدها: المريض الذي يتضرر به ]، يعني: بالصيام.
[ والمسافر الذي له القصر ]، وهذان قسمان في الواقع لا يجمع بينهما إلا جواز الفطر لكل منهما، ولهذا جرت عادة الفقهاء والمصنفين أن يجعلوهم خمسة أقسام: الأول: المريض، وهكذا سوف نصنع.
- أيضاً: من أنواع المرض الذي يطيق صاحبه الصيام لكن الصوم يزيد في مرضه: أن يقرر الأطباء المعتمدون ولو طبيب واحد مأمون أن الصوم يزيد في مرض هذا الإنسان، فهذا الفطر أولى له، ولو صام أجزأه الصيام، ولذلك قيل للإمام أحمد : المريض بالحمى هل يفطر؟ قال رحمه الله: وأي مرض أشد من الحمى. وكذلك جاء عن الإمام أحمد في رواية أنه قال: المرأة إذا خافت على نفسها من اللوزتين فإنها تفطر.
- ومن أنواع المرض: أن يخشى التلف على بعض أعضائه كعينه مثلاً إن لم يداوها أو غيرها، أن يحتاج إلى علاج يتناوله، يأكله أو يشربه، فهذا أيضاً له الفطر.
- ومن أنواع المرض: أن يكون الصوم يؤخر برؤه، فيقررون مثلاً أنه لو صام تأخر الشفاء، إنما لو أفطر ربما يكون هذا أسرع في شفائه وعلاجه، فهذا أيضاً له الفطر.
بل بعضهم يكون صحيحاً، ولكنه يخشى بالصوم من المرض أو المشقة الشديدة أو الإجهاد الشديد، وذلك مثل ما ذكر ابن عباس رضي الله عنه قال: [ من به عطاش شديد ] لأن بعض الناس يكون فيه عطش شديد ومستديم بحيث لا يستغني عن الماء بحال من الأحوال، فإن هذا يفطر.
وكذلك الإمام أحمد سئل: عن الجارية إذا بلغت رمضان؟ فقال: تصوم، فإن كان يشق عليها أفطرت وقضت، يعني: لصغر سنها وعدم اعتيادها عليه، أو أن يكون فيها ضعف أو شدة حاجة أو ما أشبه ذلك، فالإمام أحمد رحمه الله قال: إنها تفطر وتقضي، ولم يذكر الأصحاب من الحنابلة عليها كفارة في هذه الحالة، كما سوف يرد بعد قليل. فهذه من أصناف الأمراض التي يباح للإنسان بموجبها الفطر.
أولاً: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فجعل حق المريض والمسافر القضاء وليس الأداء، أي ما قال: فمن كان مريضاً أو على سفر ولم يصم فعدة من أيام أخر، قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، كأن الله تعالى جعل القضاء بدلاً عن الواجب الأصلي الذي هو الصيام في الحال، ولذلك ذهب جماعة من السلف إلى أن المسافر لو صام في السفر لم يجزئه ذلك احتجاجاً بهذه الآية، وعلى فرض قولهم أن المريض كذلك؛ لأنهم قالوا: إن الله تعالى أوجب في ذمته عدة من أيام أخر، فيجب أن يصوم عدة من أيام أخر، وأفتى بعضهم: من صام في السفر عليه أن يقضي مكانها. سوف أشير إلى هذا في موضوع المسافر. فاحتجوا -إذاً- بالآية على أن الفطر للمريض أفضل.
كذلك احتجوا بالأمر الثاني الذي أشرنا إليه وهو: أن الإجماع قائم على جواز الفطر له، بخلاف الصوم؛ فإن هناك من لا يجيز ولا يبيح له الصوم.
الأمر الثالث: قالوا: إن هذه رخصة ( الله تعالى يحب أن تؤتى رخصه )، كما في الحديث المرفوع في المسند، والراجح أنه صحيح موقوف على جماعة من الصحابة.
كذلك حديث ابن عمر رضي الله عنه في قصر الصلاة، قال: ( صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته )، والحديث في مسلم، فقالوا أيضاً: الفطر للصائم وصدقة يجب على العبد أن يقبلها، هذه حجج من قالوا بأن الفطر أفضل.
لكن هناك أقوال أخرى وأدلة أخرى يترشح ويترجح منها أن المريض له أحوال:
الحالة الأولى: أن يكون الصوم يزيد في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يكون سبباً في تلف عضو من أعضائه، فهذا إما أن يقال: إن الصوم محرم في حقه أو مكروه بحسب حاله؛ لأن الله تعالى يقول: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، ويقول: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا )، فإن كان الصوم يضره ضرراً شديداً، أو يتلف عضواً من أعضائه أو يزيد في مرضه أو ما أشبه ذلك، أو يشق عليه مشقة تخرج عن حدود المعتاد فالفطر في حقه أفضل، والصوم إما أن يكون مكروهاً أو حراماً بحسب حاله.
الحالة الثانية: أن يكون الصوم لا يضر به ضرراً بيناً، ولكنه يشق عليه مشقة خارجة عن المعتاد، فالصوم والفطر في حقه جائز في هذه الحال.
الأمر الثالث: أن يكون الصوم لا يضر به، ولا يتعلق به شيء، فمثل هذا يتجه أن يقال بمنع الفطر وتحريمه عليه، مثل ما لو تصورنا أن إنساناً مثلاً يجد مرضاً في طرف أصبعه أو ظفره أو شيئاً من الأمراض التي لا يؤثر الصوم فيها ولا تسبب مشقة على الإنسان أو حرجاً أو تحوجه إلى تناول علاج أو نحوه، فهذه ثلاثة أحوال.
ومنها أيضاً: الحديث المتفق عليه عن أنس لما قال: ( إن كانوا في سفر وفيهم الصائم والمفطر، فالمفطرون سقوا الركاب ونصبوا الأبنية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذهب المفطرون اليوم بالأجر ).
ومنها أيضاً بل من أوضحها: ما رواه مسلم عن جابر أنه قال: (خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح إلى مكة فصام النبي صلى الله عليه وسلم حتى بلغ كراع الغميم فدعا بماء فرفعه ثم أفطر، فبلغه بعد ذلك أن ناساً من أصحابه قد صاموا، فقال صلى الله عليه وسلم: أولئك العصاة، أولئك العصاة )، فمثل هذه الأحاديث وغيرها كثير جداً يدل على الرخصة للمسافر بالفطر في رمضان.
والمسافر له ثلاثة أحوال:
الحال الأولى: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو مسافر، فهذا له الترخص بالفطر باتفاق العلماء ولا إشكال فيه.
الحال الثانية: أن يدخل عليه شهر رمضان وهو مقيم ثم يسافر، لنفترض أنه سافر في الليل مثلاً، فهل يفطر من الغد؟ أو يلزمه الصيام؟ طبعاً الجمهور من أهل العلم وهو قول الأئمة الأربعة: أن له الفطر، يعني: لو سافر الليلة مثلاً فإن له الفطر غداً ما دام أدركه الغد وهو مسافر، وهذا مذهب الجماهير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم، ولكن روي عن عبيدة السلماني وسويد بن غفلة وأبي مجلز، أنهم يقولون: لا يفطر، بل يجب عليه الصيام، لماذا؟ قالوا: لأن الشهر أهل عليه وهو مقيم، والله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، كأنهم رأوا أن المقصود بالشهر هنا الهلال، فكأنه قال: من شهد منكم الهلال، ولاشك أن قولهم مردود، يرد عليهم أولاً: الآية الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، يعني: بقدر ما أفطر، وهذا دليل على أنه قد يفطر بعض الشهر ويصوم بعضه، يدركه بعضه وهو مقيم ثم يسافر.
كذلك يرد عليهم بالحديث السابق أن النبي صلى الله عليه وسلم صام حتى إذا بلغ كراع الغميم أو الكديد فأفطر، فهذا دليل على أنه صلى الله عليه وسلم كان صائماً ثم أفطر، وقد جاء هذا عن جماعة من الصحابة كـأنس بن مالك رضي الله عنه وأبي بصرة الغفاري وغيرهم: أنهم صاموا ثم أفطروا في السفر، وكذلك عائشة، فلا شك أن القول الصحيح أن له الفطر ولو أدركه رمضان وهو مقيم ثم سافر.
لكن ننتقل للحالة الثالثة: وهي ما لو صام هذا اليوم ثم سافر في أثنائه، لو أنه تسحر وصام ثم سافر بعد الزوال أو قبله في اليوم نفسه فهل يجوز له أن يفطر هذا اليوم الذي سافر فيه أم يجب عليه أن يكمله ويصومه؟
هذه المسألة فيها قولان:
القول الأول هو الرواية المشهورة في مذهب الإمام أحمد وقول الشعبي وإسحاق وداود الظاهري وابن المنذر وجماعة من الفقهاء: أن له الفطر، له أن يفطر في أثناء ذلك اليوم الذي سافر فيه؛ وذلك أولاً: للآية الكريمة، لقوله: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وهذا يصدق أنه على سفر، وكذلك لحديث جابر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر )، ومثله أيضاً: حديث أبي بصرة الغفاري الذي رواه أبو داود وأحمد وغيرهم وفي سنده مقال، لكن فيه: [ أنه ركب في سفينة فدفع، فلما كان بعد ذلك أمر بغدائه فقرب إليه وقال لمن حوله: قربوا، فقال له بعضهم: إننا نرى بنيان البلد، فقال: أترغبون عن سنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ]، وهذا القول هو الراجح والأقرب؛ لأن المسافر أثناء اليوم يصدق عليه أنه مسافر وعلى سفر، وله التمتع بهذه الرخصة، إضافة إلى ما جاء في الحديث من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
القول الثاني: أنه لا يحق له الفطر في ذلك اليوم الذي سافر فيه وكان صائماً، بل يجب عليه أن يتم صيامه، وهذا قول الجمهور، فهو مذهب الزهري ومالك والشافعي والأوزاعي وأبي حنيفة وغيرهم؛ وذلك لأنهم غلبوا جانب الحظر وجانب الإقامة، قالوا: اجتمع في هذا اليوم الإقامة والسفر، فيغلب جانب الإقامة والحظر والمنع فيجب عليه أن يتمه، وكذلك لأنه شرع في فرض نواه فلا يجوز له أن يخرج منه، كما لو شرع في صلاة فريضة فإنه لا يجوز له قطعها، والأول أقوى كما ذكرنا، وأولى بالرخصة وأحق بها.
أولاً: لأن الله سبحانه وتعالى قال: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، وعلماء اللغة يعبرون عن هذا اللفظ: أَوْ عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، بأنه من الألفاظ الدالة على التمكن، مثلما تقول: فلان على الدابة، أي: أنه راكب عليها متمكن عليها، ولذلك لم يقل: أو مسافراً وإنما قال: عَلَى سَفَرٍ [البقرة:184]، مما يدل على التمكن والاستقرار على هذا السفر، والمقيم الذي نوى السفر لا يصدق عليه أنه متمكن من السفر، هذا أولاً.
الأمر الثاني: أن الله سبحانه وتعالى يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185]، والإنسان المقيم في البلد قد شهد الشهر، ولهذا يجب عليه الصيام.
الأمر الثالث: أن الرخصة معلقة بفعل السفر لا بنية السفر أو إرادته.
والأمر الرابع: أن هذا يفضي إلى نوع من العبث والفوضى؛ لأن الإنسان قد يفطر ويقول: أنا كنت ناوياً السفر، زيادة على أن المقيم في البلد ناوي السفر قد تنحل عزيمته، وقد يكون نوى السفر فأفطر ثم تغير رأيه وعزم الإقامة، ولهذا فالقول الصحيح -والله أعلم- أنه لا يجوز لمن نوى السفر أن يفطر إلا إذا سافر فعلاً وشرع في السفر وفارق بنيان البلد فحينئذٍ يجوز له أن يفطر، أما ما روي عن أنس والحسن، فإما أن يقال: بأنه محمول على حال معينة مثل أن يكون له وضع خاص، أو يقال: إنه رأي لهم لكنه مخالف للقول الراجح الذي عليه الأدلة.
نص المصنف على أن الفطر للمسافر أفضل كحال المريض، وذكرنا أن مأخذ المصنف يعتمد على أمور، منها أولاً قوله: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، ولذلك اعتمد البدل، ونقل عن جماعة من الصحابة: [ أن من صام وهو مسافر فعليه القضاء ]، وهذا جاء عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وابن عمر، وأبي هريرة، وعبد الرحمن بن عوف، وابن عباس وبعضه بأسانيد صحيحة، بل جاء مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الصائم في السفر كالمفطر في الحضر )، وقد رواه ابن ماجه من غير طريق، والصواب: أنه موقوف على عبد الرحمن بن عوف أو أبي هريرة.
وهذا يقود إلى الوجه الثاني من أوجه تفضيل الفطر وهو أن المفطر في السفر قد أصاب بإجماع العلماء، لا أحد يعيبه في ذلك أو يؤثمه، بخلاف الصائم فهناك من ينكر عليه ويؤثمه ويوجب عليه الإعادة، خصوصاً مع حديث: ( أولئك العصاة، أولئك العصاة ).
الأمر الثالث: الرخصة كما ذكرنا، و( صدقة تصدق الله بها عليكم ).
الأمر الرابع: النظر، وهذا يأتي في السفر، ويأتي في الصوم أيضاً، فإن المسافر الغالب أنه يلحقه مشقة، من الحل والترحال والتعرض للشمس والهواء والتعب والعناء ونصب الخيام وحمل الأمتعة وغير ذلك، ومثل هذا الغالب أنه يحتاج إلى الفطر، وأن الفطر أحسن له وأقوى لبدنه وأقدر له على خدمة إخوانه أو الاستغناء عن خدمة الآخرين، وأكثر اطمئناناً لنفسه، وأبعد عن سوء الخلق الذي يصاحب من يكون صائماً في مثل هذه الأحوال، وهذه المعاني كلها مطلوبة، لكن ورد ما يعارض هذا أيضاً من الصيام في السفر، فمن ذلك مثلاً ما جاء في صحيح مسلم عن جابر وأبي سعيد الخدري : ( أنهم كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، منهم الصائم ومنهم المفطر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولم يعب المفطر على الصائم )، وكونه لم يعب بعضهم على بعض دليل على أن الأمر مستوٍ بالنسبة لهم، ولو كان مكروهاً لعاب المفطرون على الصائمين، وكذلك ما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة حمزة بن عمرو الأسلمي وكان رجلاً صاحب سفر، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن شئت فصم، وإن شئت فأفطر )، فهذا نص صحيح في تخييره بين الفطر وبين الصيام.
وأيضاً ما رواه الشيخان عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و
والقول المعتدل في هذا أن نقول: إن غالب الناس في غالب الأحوال وغالب الأسفار يستحب لهم الفطر؛ للأحاديث، ولأن الفطر أرفق بهم وأرفق بحالهم وأحسن لهم، وفي ذلك قبول الرخصة التي رخص الله لهم، وترك التعمق والتنطع، وترك الغلو في الدين، ولذلك نقول أيضاً: من صام في السفر رغبة عن الرخصة وعزوفاً عنها ففطره أولى به، والصوم في حقه ليس بحسن بل هو مذموم؛ لأنه أعرض وترك الرخصة التي رخص الله تبارك وتعالى لعباده، لكن من صام لسبب آخر مثل أن يكون مترفهاً، والسفر لا يشق عليه، وكما نجد في العصر الحاضر أنه قد يسافر مثلاً في سيارة مكيفة، وقد ينام أثناء السفر في الطريق، أو يسافر أيضاً بطائرة ولا يستغرق السفر منه إلا وقتاً يسيراً ولا يشق عليه، فهو في حال السفر كهو في حال الإقامة من غير أن يتغير شيء في حقه، فهذا لا شك أن الفطر له جائز وإن كان مرفهاً، لكن قد نقول: إن الصوم في حقه أولى، وهذا مذهب الجمهور، مذهب الأئمة الثلاثة:
مالك والشافعي وأبي حنيفة، ولو لم يأت من ذلك إلا أنه أسرع في براءة الذمة، فإن كونه يصوم في وقت رمضان، وكونه يصوم مع المسلمين أحسن من كونه يؤجل الصيام وربما ثقل عليه، كما هو معروف من حال غالب الناس.
إذاً: نقول: إن الفطر جائز للمسافر بالاتفاق حتى لو سافر إن شاء الله بصاروخ لمدة دقائق فيجوز له أن يفطر، لكن بالنسبة لما هو الأفضل؟ نقول: الأفضل هو الأرفق في حقه، فإن كان الفطر أرفق فهو أفضل، وإن كان الصوم أرفق، فهو أسرع في براءة الذمة وأحب إليه أن يصوم مع الناس دون أن يلحقه في ذلك مشقة فيكون الصوم أفضل؛ جمعاً بين الأدلة.
هما روايتان في المذهب، والأقرب أن له الفطر؛ لأن الصيام إنما هو من طلوع الفجر، لكن لا يظهر الفطر لئلا يظن من لم يعرفه أنه مفطر من غير سبب.
لكن يفرق فيما إذا كان فطرها خوفاً على نفسها أو فطرها خوفاً على ولدها، فإن خافت على نفسها حاملاً أو مرضعاً، فهي تقضي ولا شيء عليها؛ لأنها تماماً في حكم المريض الذي يقضي وليس عليه شيء، يعني: يفطر الآن ويقضي إذا زال عذره وليس عليه كفارة، وهذا لا إشكال فيه وهو قول الجمهور.
أما إن أفطرت الحامل والمرضع خوفاً على ولدها، مثل الحامل أفطرت خوفاً على ولدها أنها لو لم تأكل ربما تضرر، أو أنها تحتاج إلى أن تتناول علاجاً لولدها مثلاً، وهكذا المرضع لو لم تأكل ربما جف ثديها ولم يجد الصبي ما يرضعه، فأفطرتا خوفاً على ولديهما، فالفقهاء الحنابلة هنا يقولون: إنها تفطر وتقضي وتطعم عن كل يوم مسكيناً، وهذا أولاً مأخوذ من الآية: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، لأنها تستطيع ولكنها أفطرت من أجل ولدها. وأيضاً: جاء هذا عن عمر وابن عباس وغيرهم؛ لأن إفطارها ليس خوفاً على نفسها ولكن خوفاً على ولدها، والكفارة في هذه الحالة على ولي الطفل، نقول: ما هو بالضرورة زوجها، قد تكون ترضع بالأجرة مثلاً ظئراً كما يقولون، أو ترضع غير ولدها، فنقول: إن الكفارة حينئذٍ على ولي الطفل على الصحيح، واختار ابن عقيل أن الكفارة على المرأة.
إذاً: هذا هو القول الأول في المسألة، إذا خافت على ولدها: أنها تفطر وتقضي وتطعم عن كل يوم مسكيناً.
وفي المسألة قول ثانٍ: أنها تفطر وتطعم وليس عليها قضاء. لاحظ هذا القول: أنها تفطر وتطعم عن كل يوم مسكيناً وهذا الإطعام يكفيها عن قضاء الصيام، وهذا جاء في أثرين صحيحين عن ابن عمر وابن عباس: أن عليها القضاء وليس عليها الصيام، وهذا القول في تقديري أنه ضعيف، أولاً: مخالف لقول الجمهور، الأئمة الأربعة وجمهور التابعين والفقهاء، ومن أهم الأدلة على ضعفه: الآية الكريمة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184].
ولا يعذر بالفطر من غير بدل إلا العاجز الذي لا يستطيع القضاء، مثل: المريض الذي لا يرجى برؤه، فهذا القول ضعيف، وإن كان صح عن ابن عمر وابن عباس كما ذكرت، لكنه قول لهما ولم يرفعاه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك كان القول الثالث في هذه المسألة في الحامل والمرضع إذا خافتا على الولد أنها تفطر وتقضي وليس عليها كفارة، وهذا مذهب أبي حنيفة وهو قول جماعة من التابعين كـعطاء والزهري والحسن وسعيد بن جبير والنخعي وغيرهم. وفي تقديري أن هذا القول: هو أعدل الأقوال وأحسنها، أن الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على ولديهما عليهما القضاء فقط وليس عليهما كفارة، فإن جمع الكفارة والقضاء عليهما فيه نظر، ولا دليل قوي عليه، حتى ابن عمر وابن عباس اللذين نقل عنهما الكفارة قالا بها بدون الصيام، بينما الفقهاء الذين يقولون: عليهم الصيام، يوجبون الصيام والكفارة معاً؛ ولهذا كان الأجود أن يقال: بأن عليهما القضاء وليس عليهما الكفارة؛ لأن السبب الذي أفطرتا به سبب شرعي، سواء تعلق بها أو تعلق بولدها، وهذا واضح جداً بالنسبة للحامل؛ لأن الولد الذي في بطنها يعتبر كعضو من أعضائها غير منفصل عنها، فهو كجزء منها، وربما تؤثر صحتها عليه وصحته عليها والعكس، فالقول بأن الحامل والمرضع إذا أفطرتا خوفاً على نفسيهما لهما حكم وعلى ولديهما له حكم آخر فيه نظر، والأجود أن يقال: إن لهما الفطر وعليهما القضاء فحسب، وهو مذهب أبي حنيفة ومن ذكرت من الأئمة.
وهذا للآية الكريمة: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ [البقرة:184]، وهو قول جماعة الصحابة رضي الله عنهم كـعلي وابن عباس وأبي هريرة وأنس، وجماعة من التابعين أيضاً كـسعيد بن جبير، وقول جماعة من الأئمة المتبوعين كـأبي حنيفة والأوزاعي والثوري وغيرهم، وهو أيضاً رواية عن الشافعي.
والإمام مالك رحمه الله يقول: العاجز عن الصيام لكبر أو مرض يفطر وليس عليه شيء؛ لأنه عاجز وقد سقط عنه التكليف ولا دليل على شغل ذمته بإطعام، وهذه رواية أخرى عن الإمام الشافعي، والإمام أحمد رحمه الله مذهبه كمذهب الأولين، ولهذا نص الإمام أحمد على من به شهوة جماع غالبة وشبق يخشى منه أن تتشقق أنثياه ولا يملك نفسه قال: له أن يفطر بالجماع ويطعم، وهاهنا نقول: إن الإطعام له وجه، ومذهب الجمهور جيد؛ لأن الآية الكريمة نصت على: أن الكبير الذي لا يطيق الصيام يطعم، وجاء هذا عن ابن عباس رضي الله عنه في أثر صحيح.
على قول المصنف: ليس عليه كفارة، وهو المذهب، وحكي عن الإمام مالك رحمه الله أن الكفارة عن كل فطر يهتك الصيام حتى لو كان بأكل أو شرب، وكذلك جاء عن عطاء والحسن والزهري والثوري والأوزاعي وإسحاق : أن الفطر بالأكل والشرب يوجب ما يوجبه الجماع، وهو الكفارة التي سوف نذكرها بعد قليل، وهذا مذهب أبي حنيفة .
ولاشك أن القول الراجح: أنه لا يجب بالفطر، بالأكل والشرب ونحوهما شيء غير القضاء، كما سوف نذكره.
والدليل الثاني: أنهم قاسوها على كفارة الظهار، وهي مثلها سواء بسواء، أن الله سبحانه وتعالى قال: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا [المجادلة:3]، ثم قال سبحانه: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا [المجادلة:4]، فكفارة الظهار مثل كفارة الفطر في نهار رمضان، وهي تلك على الترتيب، فهذه يجب أن تكون على الترتيب.
وفي رواية أخرى في المذهب: أنها على التخيير، وهي أيضاً رواية عن الإمام مالك، وحجتهم: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر المجامع أن يعتق رقبة، أو يصوم شهرين متتابعين، أو يطعم ستين مسكيناً، هكذا الحديث، وقالوا: إن (أو) دالة على التخيير بين هذه الخصال الثلاث، وجاء عن عائشة رضي الله عنها بنحو لفظ حديث أبي هريرة، وأيضاً قالوا: إنها تقاس على كفارة اليمين، بأن كفارة اليمين فيها التخيير بين ثلاث خصال، كما هو معروف في سورة المائدة.
والراجح هو القول الأول: أن الكفارة على الترتيب، أولاً: للحديث المنصوص عليه في صحيح البخاري وما يماثله من الأحاديث والشواهد.
أما الحديث الآخر في صحيح مسلم فهو كان اختصاراً أو رواية بالمعنى وليس قصة جديدة غير القصة الأولى، وكذلك أن قياس كفارة الفطر في نهار رمضان على كفارة الظهار وهي تماثلها في الخصال أولى من قياسها على كفارة اليمين. فإن لم يجد سقطت عنه؛ لقصة المجامع الذي ذكرناها قبل قليل.
الصورة الأولى: لو أنه جامع اليوم ضحى مثلاً، ثم كفر بعد الظهر، ثم جامع بعد العصر مرة أخرى، يعني: جامع مرتين في يوم واحد، لكنه كفر عن الأولى قبل الجماع الثاني، فبمثل هذه الحالة ما الذي يجب عليه؟ تجب عليه كفارتان، وإن كان الجماع في يوم واحد؛ لأنه كفر عن الأولى ولما كفر وجب عليه أن يمسك بقية اليوم؛ لأن الشهر له حرمة، وليس معذوراً بالفطر فكان واجباً عليه أن يمسك بقية اليوم، فلما لم يفعل وجامع مرة أخرى وكانت ذمته بريئة لأن الكفارة الأولى مضت؛ وجب عليه أن يكفر كفارة ثانية، وهذا واضح، وربما نقول: تكاد أن تكون هذه المسألة لا خلاف فيها.
الصورة الثانية: أن يجامع في أول اليوم ثم يجامع في آخره من دون أن يكفر، فهذا ماذا عليه؟ عليه كفارة واحدة؛ لأن حرمة اليوم الذي هتكه هو يوم واحد فقط، فليس عليه إلا كفارة واحدة.
الصورة الثالثة: أن يجامع اليوم، ثم يكفر عنه، ثم يجامع الغد، فماذا عليه؟ عليه كفارة أخرى، بغير خلاف أيضاً.
الصورة الرابعة: أن يجامع عدة أيام ولم يكفر فهذا هو الذي فيه خلاف مشهور في المذهب وغيره، فالمذهب في رواية نص عليها الإمام أحمد : أن عليه أكثر من كفارة، وفي رواية أنه سئل عن ذلك؟ فسكت ولم يجب. والقول الثالث: أنه ليس عليه إلا كفارة واحدة، وهذا هو الأقرب؛ لأن مسبب وموجب الكفارات كلها واحدة، وهو الجماع في نهار رمضان، فهي مثل الأيمان لو حلف أيماناً عدة على شيء ولم يكفر عن يمينه الأول فإنه لا يلزمه إلا كفارة واحدة، ولما في ذلك أيضاً من المشقة العظيمة، فإنه لو ارتكب عدة أيام ربما لزمه على ذلك أن يصوم ثمانية أشهر، يعني: شهرين متتابعين ثم شهرين متتابعين وهكذا، بغض النظر عن كون هذا أمر استثنائياً؛ لأنه إنما يقع لمن هتك حرمة الشهر، إلا أن الدليل على أنه ما دام موجب الكفارات واحداً وهو الفطر في نهار رمضان ولم يكفر عن الأولى؛ فإن الأقرب من الأقوال: أنه يجزئه عن ذلك كفارة واحدة.
قد يقول قائل: ما معنى هذا الكلام: [من لزمه الإمساك فجامع فعليه كفارة]؟
يقصد المصنف رحمه الله في هذا: أنه يجب على من كان صائماً ثم أفطر بالجماع وهذا معروف، لكن يجب أيضاً على من لزمه الإمساك، مثل المجامع الذي جامع ثم كفر، هذا قلنا: يجب عليه أن يمسك بقية يومه؛ لأنه ليس معذوراً بالفطر، فلو جامع مرة أخرى نقول: أيضاً عليه كفارة ثانية، ومثله أيضاً: الصور الأخرى التي يقول البعض بأنه يجب عليه أن يمسك فيها، إذا قلنا مثلاً: بأن المسافر إذا قدم إلى البلد وجب عليه الإمساك، أو الحائض إذا طهرت وجب عليها الإمساك أو ما أشبه ذلك، أو الصبي إذا بلغ وجب عليه الإمساك في أثناء اليوم، فإذا قلنا بوجوب الإمساك على هؤلاء فوقع أحد منهم في الجماع فعليه كفارة، هذا على قول المؤلف رحمه الله.
لو أنه أخر القضاء إلى شهر ثالث أيضاً من غير عذر ماذا نوجب عليه؟ نوجب عليه إطعام مسكين واحد، يعني: لو أخره عدة رمضانات ليس عليه إلا إطعام يوم؛ لأنه فوت القضاء عن محله وإن كان آثماً بالتأخير، ولا يجوز له ذلك، بل يجب عليه أن يقضيه قبل رمضان الآخر.
وهكذا يقول المصنف: [ إلا أن يكون الصوم منذوراً فإنه يصام عنه، وكذلك كل نذر طاعة ]، يعني: يفعل عن الميت.
الجواب: نعم، يجوز الفطر بالإجماع، لكن الأفضل هذا فيه التفصيل، ونقول: غالب الناس حتى مع الترفيه الأفضل في حقهم الفطر حتى لو سافر في طائرة، لأن ذهابه إلى المطار وتغيير المألوف وتعرضه للشمس وبعض المواقف والسفر والحركة وحمل الأمتعة وما أشبه ذلك، فإن كثيراً من الناس يلحقهم به نوع من الأذى والمشقة.
الجواب: هذا مذهب الجمهور، مذهب الجمهور أنهم يحددون السفر بمسافة كما ذكرنا، وهناك القول الآخر الذي اختاره ابن تيمية وجمع من المحققين: أن العبرة بمسمى السفر، ولاشك أن المقصود طبعاً ما ينتهي إليه، وإلا فإن المسافر الذي ينوي أن يذهب مسافة بعيدة أو يفطر بمجرد خروجه من البلد ومفارقته لعامر البلد، ومن الممكن أن نقول بالضبط باللغة المفهومة الآن: إذا تجاوز الحزام الدائري مثلاً على البلد يكون قد تجاوز البلد، والله أعلم.
الجواب: نعم، نقول: الكفارة تجب بكل إيلاج في القبل أو الدبر، وسواء كان الوطء في حلال أو في حرام، لكن لو أنزل بغير إيلاج، كاستخدام العادة السرية مثلاً هل عليه كفارة؟ لا، ليس عليه كفارة، إلا على قول من يوجب الكفارة بكل فطر تنتهك به حرمة الشهر كما ذكرنا، وإلا فالقول الراجح: أنه لا تجب الكفارة إلا على من جامع في نهار رمضان بحلال أو حرام كما ذكرنا، وأما من أنزل بغير ذلك فليس عليه كفارة، وإنما عليه الإثم وعليه القضاء، إلا أن يكون هذا في النوم، يعني: في الاحتلام فهذا لا يضره وصومه صحيح.
الجواب: أما إن كانت مائة وخمسة وثلاثين، فالظاهر أن هذا يعتبر سفراً على مذهب الجميع، يعني: أن مائة وخمسة وثلاثين كيلو تعد سفراً.
الجواب: هو مقيد بالعرف، والجمهور حدوه باثنين وثمانين كيلو متراً، وقول الجمهور وإن كان ليس عليه دليل صريح، لكنه على الأقل مريح من جهة أنه واضح، يسهل على كل الناس أن يفهموه وأن يطبقوه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر