الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اليوم الأربعاء ليلة الخميس، العاشر من شهر رجب لسنة (1422هـ).
وكالمعتاد اليوم عندنا درس في الفقه، وبالذات في أحكام الزكاة، ومن يجوز دفع الزكاة إليه.
في الأسبوع الماضي تكلمنا عن إخراج الزكاة وما يتعلق بها من الأحكام، ثم آلت النوبة إلى من يجوز دفع الزكاة إليه، وهم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:60]، ففي هذه الآية الكريمة المحكمة بالاتفاق والإجماع ذكر الله سبحانه وتعالى الأصناف الثمانية الذين تصرف الزكاة إليهم، وبإجماع العلماء لا يجوز صرفها إلى أحد خارج هؤلاء الأصناف الثمانية، وقد روى أبو داود عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً سأله من الزكاة، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إن الله تعالى لم يرض فيها بحكم نبي ولا غيره حتى قسمها بنفسه، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] إلى آخر الآية )، والحديث ضعيف، فيه عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي، وهو متكلم فيه، ولا يقبل تفرده في مثل هذا، فلذلك فالحديث ضعيف.
يلاحظ في الآية الكريمة أن الله سبحانه وتعالى عبَّر عن المستحقين للزكاة بتعبيرين، ففي أول الآية قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، فاللام هنا تدل على الملكية أو الاختصاص: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60]، يعني: وللمساكين، وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ [التوبة:60]، هؤلاء الأربعة عُبِّر عنهم باللام، بينما في الذين بعدهم اختلف التعبير وجعل لفظ (في) وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، والظاهر والله أعلم أن المعنى: وفي الرقاب وفي الغارمين وفي سبيل الله وفي ابن السبيل، هكذا يبدو من سياق الآية واتصالها.
فما هو السر في اختلاف حرف الجر واختلاف التعبير؟
أقرب ما يقال -وعليه جماعة من المفسرين- أنه بالنسبة للأقسام الأربعة الذين تصرف إليهم الزكاة على سبيل التملك، ولهذا قال ابن قدامة: إنه إذا أخذها أحد منهم فإنه يملكها ولا تخرج منه بحال من الأحوال. مثل: الفقير إذا أعطي من الزكاة فقد ملكها، وهكذا المسكين، بينما الفئة الثانية أو المجموعة الثانية: الأصناف الأربعة الباقية فإن المصرف هاهنا ليس على سبيل الملكية، وإنما على سبيل الجهة، يعني: وتصرف الزكاة في الرقاب، يعني: في مصرف الرقاب، وفي الغارمين وهو مصرف أصحاب الديون، وفي سبيل الله؛ الجهاد وما يتعلق به، وفي مصرف ابن السبيل.
فإذاً: الاختلاف هنا في اللفظ وفي الاستعمال والله أعلم يتبعه اختلاف في المعنى، فالأصناف الأربعة الذين في أول الآية، وهم الفقراء، والمساكين، والعاملون عليها، والمؤلفة قلوبهم، هؤلاء تعطى لهم الزكاة كأشخاص ويتملكونها، بينما الفئة الثانية لا، يعني: في الرقاب مثلاً العبد لا يملك الزكاة، وإنما قد يعتق بالزكاة مثلاً، أو يساعد على قضاء دين كتابته من الزكاة.
وهكذا مثلاً الغارمون؛ فالغارم لا يتملك المال بالضرورة، وإنما قد يعطى المال لصاحب الدين؛ لسداد دين الفقير.
وهكذا في سبيل الله، فإنه لا يلزم من ذلك أن يعطى المجاهد بنفسه مالاً، بل قد يكون صرف المال في هذا المصرف مثلاً لآلات الحرب أو لترتيبها .. أو لغير ذلك من المقاصد، ويأتي إعطاء المجاهدين ضمن هذا.
وهكذا ابن السبيل أيضاً، فالظاهر والأقرب، وإن كان يحتمل أنه معطوف على الفئة الأولى، لكن يحتمل وهو الأقرب أن يكون معطوف على الفئة الثانية، ويكون مصرف ابن السبيل باعتبار أن ابن السبيل كما سوف يأتي قد يكون غنياً، وإنما هو في بلد وماله في بلد آخر، فيعطى من الزكاة لا على سبيل التملك المطلق له، ولهذا لو مثلاً وصل بلده ومعه شيء من الزكاة وهو غني، وجب عليه أن يرده ويتخلص منه، فهذا من أسرار الفرق في التعبير بين المجموعتين.
الله سبحانه وتعالى لما قسم الزكاة على هذه الأصناف، كان هذا إشارة إلى أهمية توزيع الزكاة وإعطائها لمستحقيها؛ لأن من المهم وقد جمعت الزكوات وأخذت من الأغنياء ومن في حكمهم. من المهم أيضاً أن يكون هناك صرف صحيح لها؛ لتصل إلى مستحقيها، لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم )، يأتي ذِكُرها بعد قليل.
المقصود أن الله سبحانه وتعالى يؤكد على موضوع إيصال الزكاة لصاحبها؛ لأن الهدف أصلاً من العملية كلها؛ من جمع الزكاة ومن أنصباء الزكاة وما يتعلق بها، الهدف هو تحقيق الكفاية: إغناء الفقير .. إغناء المسكين، سداد دين المدين .. مساعدة المجاهدين، فلو أخذت الزكاة مثلاً ولم تصل إلى مستحقيها لكانت مغرماً في الحالة هذه؛ لأن الغني غرم وأخرج هذا المال، والفقير أو المستحق لم يتمكن من الحصول عليها.
ولهذا اعتنى القرآن الكريم بذكر أصحاب الزكاة والمستحقين لها، والتنصيص عليهم، والتأكيد عليهم، حتى كان من ضمن الأصناف: العاملين عليها؛ الذين يقومون بجمع الزكاة وحياطتها وحراستها وإيصالها لمستحقيها.
طيب، نمر على هذه الأصناف.
بينما الصنف الثاني وهم المساكين، قال: [وهم الذين يجدون ذلك، ولا يجدون تمام الكفاية] الفقهاء تقريباً ثلاثة أقسام: منهم قسم وهم قليل يقولون: إن الفقراء والمساكين شيء واحد. وهذا ضعيف؛ لأن الله سبحانه وتعالى لم يفرق بينهم إلا وبينهم اختلاف.
والصواب أن الفقراء والمساكين كما قال أكثر العلماء هم صنفان، وإن كان النوع واحداً؛ يجمعهم الحاجة، ولكنهم صنفان، أحدهما أشد حاجة من الآخر.
ولذلك يقول بعض أهل العلم كـابن تيمية رحمه الله وغيره: إن الفقير والمسكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، مثل: اسم الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا. ما معنى هذه الكلمة؟ معنى هذا المصطلح أنه إذا ذكر الفقير والمسكين معاً -كما في الآية- أصبح لكل واحد منهما معنى خاص غير المعنى الذي للآخر، بينما لو ذكر أحدهما يكفي عن الآخر، فإذا قلت أنا مثلاً: أعطوا الفقراء، يدخل المسكين أو ما يدخل؟ يدخل فيه. ولو قلت: أعطوا المساكين، يدخل الفقراء أو ما يدخلون؟ يدخلون، لكن لو قلت: أعطوا الفقراء والمساكين، في الحالة هذه يكون للفقير معنى وللمسكين معنى آخر، هكذا موضوع الإيمان والإسلام، يقولون: الإيمان والإسلام إذا اجتمعا افترقا. إذا قلت مثلاً: الإيمان دخل فيه الإسلام؛ لأنه لا يتصور وجود إيمان بدون صلاة ولا زكاة ولا صوم ولا حج، وإذا قلت: الإسلام دخل فيه الإيمان؛ لأنه لا يتصور واحد مسلم ويصلي وهو لا يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لكن إذا قلت: الإيمان والإسلام مثل حديث جبريل : ( ما الإيمان؟ .. ما الإسلام؟)، في الحالة هذه يصبح للإيمان معنى خاص، وهو الأعمال الباطنة، وللإسلام معنى خاص، وهو الأعمال الظاهرة.
إذاً: الفقير والمسكين حين الاجتماع كما في هذه الآية يُحمل كل منهما على معنى، فما معنى كل منهما؟
المعنى الأول أو الاحتمال الأول، وهو مذهب الحنابلة والشافعية: قالوا: إن الفقير أشد حاجة من المسكين.
دليلهم على ذلك. قالوا: أولاً: أن الله سبحانه وتعالى بدأ به في الآية: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، وثنى بالمساكين، فقالوا: هذا دليل على أن الفقير أشد حاجة من المسكين، ولهذا بدأ الله تعالى به، والبداءة لا تكون عبثاً، لابد أن يكون لها معنى. هذا من استدلالهم.
من استدلالهم أيضاً: الحديث الوارد أو الأحاديث الواردة، فقد ورد مثلاً في أحاديث كثيرة جداً أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من الفقر، مثل ماذا تذكرون من الأحاديث؟ ( اللهم إني أعوذ بك من الفقر ).
وأيضاً في الحديث الآخر الذي في صحيح مسلم الحديث الطويل الذي فيه: ( أنت الأول فليس قبلك شيء، والآخر فليس بعدك شيء ..) في آخر الحديث قال: ( اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر )، وهذا باب طويل موجود في الأذكار، استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الفقر، ولكن لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ من المسكنة، بل ورد عنه أنه قال عليه الصلاة والسلام: ( اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين )، لكن هذا الحديث ضعيف، بل ابن تيمية رحمه الله بالغ، وقال: هو كذب واختلاق، وفي مقابل ذلك بالغ واندفع الشيخ الألباني رحمه الله فصحح الحديث بمجموع طرقه، والواقع أن الحديث ضعيف جداً، بل منكر، وقد رواه أبو داود والترمذي، والترمذي ضعفه فقال: حديث غريب. وهو لا يطلق هذه الكلمة إلا على ما كان ضعيفاً من الأحاديث، وفي سند الترمذي الحارث بن النعمان وهو منكر، ورواه ابن ماجه من طريق آخر أيضاً فيه مناكير وجهالة، وله طرق لكن كلها منكرة، فهي لا يزداد الحديث بها إلا ضعفاً.
فالخلاصة أن حديث: ( اللهم أحيني مسكيناً ) لا يصح، بل هو ضعيف أو ضعيف جداً.
مما يستدل به أيضاً على أن الفقير أشد من المسكين قالوا: الاستدلال .. اللغة .. الاشتقاق؛ لأنهم قالوا: الفقير هو الإنسان الذي كسرت فقار ظهره، فيسمى فقيراً أو مفقوراً .. فقرات الظهر كسرت عنده. أما المسكين فهو مشتق من السكون، فهو الإنسان الساكن الذي لا يتحرك، وأيهما أشد ضعفاً؟ الفقير على حسب هذا الاشتقاق، ولذلك قال هؤلاء: الفقير أشد حاجة من المسكين، وبالتالي قالوا: الفقير يجد نصف الكفاية فأقل، يعني: إما أنه لا يجد شيئاً أو يجد أقل من النصف، النصف فأقل، هذا عندهم فقير، إن وجد أكثر من النصف فهو عندهم مسكين.
الاتجاه الثاني: وهو اتجاه الحنفية والمالكية، قالوا على نقيض ذلك: إن الفقير أحسن حالاً من المسكين.
ومما استدلوا به في ذلك أن المسكين ... يعني: قوله تعالى: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ [الكهف:79] فقالوا: هؤلاء يملكون سفينة، ومع ذلك سماهم: مساكين، فدل على أن أمرهم أحسن من ذلك.
القول الثاني على النقيض. قالوا: المسكين أشد حاجة من الفقير، وهو مذهب الحنفية والمالكية، ومما استدلوا به قوله تعالى في سورة البلد: أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16]، فقالوا: إن قوله تعالى: مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ [البلد:16] يدل على أنه لاصق بالتراب من شدة الفقر، وهذا وصف قوي، وكذلك احتجوا بقول مجموعة من أئمة اللغة كـابن قتيبة والفراء وثعلب .. وغيرهم، أنهم قالوا: إن المسكين أشد حاجة في اللغة من الفقير.
الخلاصة أن الفقير والمسكين صنفان لنوع واحد.
هذا الخلاف بين الفقهاء في تعريف أيهما أشد حاجة، حقيقة أعتقد أنه خلاف لفظي لا طائل من ورائه، ولا ثمرة من ورائه؛ لأن كلا الصنفين ممن تحق له الزكاة، وكلا الصنفين ممن يحتاج الزكاة لفقره وعوزه .. لحاجته الضرورية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح وغيرها. فالخلاف في أيهما أشد حاجة خلاف لفظي ربما لا يكون وراءه ثمرة. والله تعالى أعلم.
أما الغني فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يعطى، ولا يسمى فقيراً، ولا يسمى مسكيناً، وإن كانوا لم يتفقوا على تعريف ما هو الغني، أو من هو الغني؟
والصواب أو الأقرب أن الغني هو من يجد كفايته وكفاية من يمونه أو يعوله، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الصدقة: ( لا حظ فيها لغني ).
خلاصة المسألة أن فيها قولين:
القول الأول: أنه يعطى ما يكفيه ويكفي من يمونه لمدة سنة واحدة، لمدة سنة كاملة، لماذا؟
قالوا: أولاً: لأن الزكاة تتكرر كل سنة، فينبغي أن يعطى من الزكاة هذه السنة، وإذا استغرق ما عنده يعطى من الزكاة العام القادم .. وهكذا، فيعطى نفقة سنة كاملة هو ومن يحتاج إليه، يعني: من تجب عليه نفقته كزوجته وأولاده وأبويه الفقيرين .. ونحو ذلك.
الدليل الثاني أيضاً: قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كما في الحديث؛ حديث عمر رضي الله عنه في صحيح البخاري : ( أنه كان يدخر لأهله نفقة سنة، أو قوت سنة )، فقالوا: هذا دليل على أن الإنسان يأخذ قوت سنة كاملة من الزكاة. هذا هو القول الأول، وهو مذهب الجمهور.
القول الثاني: وهو مذهب الشافعية المنصوص عنهم وقول عند الحنابلة أنهم قالوا: يعطى ما يكفيه ويكفي من يمونه طيلة عمره إلى النهاية، يعني: ما يخرجه من دائرة الفقر والفاقة إلى دائرة الغنى، ويحصل له به الكفاية على الدوام، وقد يكون هذا العطاء أن يعطى ما يستعين به على طلب الرزق، مثلاً: يعطى ضيعة يقوم بتعميرها وتثميرها والاستفادة منها .. يعطى سيارة له يقوم باستخدامها وتأجيرها، وأخذ ما يأتيه عن طريقها .. يعطى آلة يقوم بها من خلال الصناعة .. أو غير ذلك.
المهم أنه قد يعطى من الزكاة ما يكفيه طيلة عمره، أو يعطى آلة أو وسيلة يستطيع من خلالها أن يحصل على رزقه وقوته وقوت من يمونه، وهذا كما ذكرت قول للشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد .
ومن أدلتهم على ذلك: أنهم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى أمر بصرف الزكاة إليهم، فهم مستحقون للزكاة إلى أن يخرجوا من هذا المسمى؛ يخرج من كونه فقيراً أو يخرج من كونه مسكيناً.
وأيضاً ورد في هذا نصوص عن الصحابة، مثل ما روى أبو عبيد مثلاً وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: (إذا أعطيتم فأغنوا) أو نحواً من ذلك، وكان يتعهد أنه سوف يعطيهم ما يغنيهم، ولا يخرج الإنسان عن حد الفقر بمجرد ما يكون عنده قوت يوم أو شهر أو سنة.
ولعل الأقرب -والله تعالى أعلم- من هذه الأقوال أن القول الأول أولى بالاعتبار من حيث الجملة؛ لأن المحتاجين كثير، والفقراء كثير، ولو أعطيت الزكاة لنفر منهم قليل بحيث يستغني طيلة عمره، لربما كان في ذلك إجحاف بآخرين لا يجدون الكفاية والقوت.
فنقول: إن هذا يعتمد بحسب الأحوال، فالأصل والغالب من أحوال الناس أن عطاءهم لسنة يكفي، بحيث توزع الزكاة على عدد كبير من المحتاجين، وربما كثير من الناس يكون لديه نوع من الطمع، فلو أعطي كثيراً لأسرف في العطاء، وربما لا يحسن التصرف فيه، وربما يصرفه في مصارف مختلفة، وربما يعطى آلة ليصنع بها فيبيعها مثلاً ويستثمر ثمنها .. إلى غير ذلك مما لا يضمن عطاء الناس له.
فنقول: إن اعتماد القول الأول أنه يعطى نفقة سنة أجود، لكن هذا القول ليس عليه نص صريح، بحيث لا يمكن الخروج منه، يمكن الخروج منه إذا كان هناك مصالح خاصة في أحوال معينة، أو أشخاص لهم وضعية محددة، ولذلك ربما يعطى الإنسان من الزكاة على سبيل المرتب الذي يصرف له شيئاً فشيئاً، ويستمر له دون أن يعطى هذه الأموال، وقد لا يحسن استخدامها.
نقول: إذا ادعى وهو مستور الحال يقبل ادعاؤه، ويعطى من الصدقة، إلا أن يكون ظاهره بخلاف ذلك، بمعنى لو عرف أنه إنسان غني وثري، ويعرف له أشياء كثيرة من الممتلكات، ثم ادعى بعد ذلك أنه فقير، فحينئذ لا تقبل دعواه؛ لأن الظاهر بخلافها، فهنا يكون قد بان كذبه.
فيما يتعلق بالمنكح الزواج، هل يعطى الإنسان إذا كان محتاجاً ما يستعين به على الزواج؟
القول الراجح: أنه نعم؛ لأن هذا نوع من الفقر، والزواج إحدى الضرورات التي لابد للإنسان منها، فلو لم يجد مثلاً المهر، أو لم يجد السكن، أو لم يجد الأشياء التي سيحتاجها في أمر الزواج، فإنه يعطى ذلك كله من الزكاة.
الجمهور: لا يعطى من الزكاة ما يذهب به للحج، أما الحنابلة هناك قول مشهور عنهم، فإنه يعطى من الزكاة ما يحج به، وقد استدل الإمام أحمد على أن الحج من سبيل الله، كما في الحديث: ( الحج من سبيل الله )، وهو عند أبي داود، وأقوى وأوضح منه في الدلالة الحديث الذي في البخاري : ( يا رسول الله! نرى الحج أفضل الجهاد، أفلا نجاهد؟ قال: لكُنَّ أو لكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة )، فسماه جهاداً وهو في سبيل الله، ولذلك ذهب الإمام أحمد إلى أن الإنسان الذي لا يجد ما يحج به حج الفرض، يعطى من الزكاة ما يحج به.
وعند الشافعية قول آخر ليس ببعيد من هذا، وإن كانوا ينصون على أنه لا يعطى للحج، لكن عند الشافعية قول: أن ابن السبيل إذا أراد السفر وعزم على السفر يعطى من الزكاة، حتى قبل أن يسافر، فالحاج إذا أراد الحج وليس عنده ما ينفقه عليه وما يقوم بكفايته، فإنه يعطى عندهم من الزكاة، وبهذا نستطيع أن نقول: إن هذا القول للحنابلة والشافعية.
والعامل على الزكاة يعطى من الزكاة، حتى ولو كان غنياً؛ لأنه لم يعط لفقره، وإنما أعطي عوضاً عن عمله، ولذلك يشترط -كما ذكر المصنف رحمه الله- في الساعي ألا يكون له اسم في الديوان، فإن كان له اسم كما ذكره الشارح وليس المؤلف، فإذا كان له اسم في الديوان فإنه لا يعطى، بمعنى إذا كان له مرتب فلا يعطى من الزكاة، لكن لو لم يكن له راتب، فإنه يعطى من الزكاة بقدر ما يفرض له الإمام باجتهاده قل أو كثر، يعني: من باب المعروف، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: الأول منهم: الغازي في سبيل الله، الثاني: العامل عليها، الثالث: الغارم، الرابع: رجل اشتراها بماله -يعني: اشترى الزكاة-. الخامس: رجل كان له جار فقير فتصدق عليه من الزكاة فأهدى لجاره )، وهذا الحديث بهذا اللفظ ضعيف، فإنه جاء من طريق عطاء بن يسار مرسلاً، وجاء عن طريق عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، وجاء من طريق ثالث أيضاً، وكلها عند أبي داود، ولذلك الحديث مضطرب فلا يصح، وإن كانت معانيه صحيحة كما سوف يأتي الإشارة إليها.
فالمقصود أن العامل على الزكاة يعطى إذا لم يكن له اسم في الديوان.
بعض الجهات الخيرية الآن كالمؤسسات الإسلامية توكل أقواماً يجمعون التبرعات، فهل لها أن تعطيهم راتباً من هذا؟
نعم، إذا جاز أن يعطى من الزكاة المفروضة، فأن يعطى من التبرعات وغيرها من باب أولى، فيجوز لهذه المؤسسات أن تعطي الذين يسعون في جمع التبرعات قدراً من المال مرتباً معلوماً.
طيب، وهل يجوز لها أن تعطيهم نسبة .. بعض الجهات ما تعطيهم مبلغاً محدداً، تعطيه نسبة، تقول مثلاً: المبلغ الذي تقوم بجمعه لك منه (2%) مثلاً، هل يجوز هذا؟
الظاهر أيضاً أنه يجوز لا مانع؛ لأن هذا نوع من الإجارة أو العمل عليها، فسواء كان هذا أو هذا .. الظاهر أنه يجوز، لكن الغالب أن الأول أفضل؛ لأنه أكثر تحديداً وظهوراً، وربما يستطيع الإنسان أن يجمع مبالغ طائلة أحياناً لم تكن في الاعتبار، فتكون النسبة وإن كانت قليلة إلا أنها يترتب عليها مبالغ هائلة، كما أن هذا ربما يوجد عند بعض الباذلين وبعض المحسنين، ربما يوجد عندهم تردد وشك وتراجع عن الإنفاق؛ لأنه إذا جاء إنسان وحاول أن يقنعه بالتبرع، ويقول: هذا مشروع طيب وهذا كذا وهذا كذا، فقالت له نفسه: هذا ترى يحاول إقناعك؛ لأن عنده نسبة معينة، فيضعف عن البذل وعن العطاء في مثل هذه الحالة، بخلاف ما إذا كان المبلغ محدوداً يعرف أنه سواء أعطى أو لم يعط، يعني: راتبه حاصل له، وفي مقابل ذلك البعض قد يقول: إن الإنسان إذا فرض له نسبة يكون أكثر اجتهاداً، لكن أميل إلى أنه يفرض له راتب معين.
والمؤلفة قلوبهم سهم باق عند الأئمة الثلاثة: مالك وأحمد والشافعي ؛ يرون أن هذا السهم باقٍ على المذهب المشهور، خلافاً لـأبي حنيفة الذي يرى أن السهم هذا توقف وانتهى بعز الإسلام.
والأقرب والله أعلم أن العلماء كلهم متفقون على بقائه؛ لأن الآية ليس فيها نسخ، وإنما كلام أبي حنيفة مثل ما نقل عن عمر رضي الله عنه لما قال لهم: (إن الله أعز الإسلام)، المقصود أن الأئمة لما يقولون: إن هذا السهم قد انقطع. يقصدون انقطع في فترة من الفترات بعز الدين وعز الإسلام والمسلمين، فلم يعد هناك حاجة إلى تأليف قلوب هؤلاء، وإلا فالواقع أن السهم باقٍ والآية محكمة، ولذلك إذا وجد ضعف في الإسلام والمسلمين في مكان أو زمان، واحتاج الأمر إلى أن يصرف من الزكاة لتأليف قلوب هؤلاء أو أولئك فإن هذا جائز، والأمر باقٍ، ليس منسوخاً والعبرة بالحال.
المؤلفة قلوبهم تقريباً أربعة أصناف:
القسم الأول: المسلم الذي يعطى لتثبيت إيمانه، يعني: مسلم حديث الإسلام، في دينه رقة وضعف، ويحتاج إلى أن نعطيه حتى يقوى إيمانه ويثبت، وربما يكون هناك ناس يحاولون صرفه عن الدين، فلما نعطيه يلين قلبه للإسلام، وقد قال صفوان : ( إن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطاني وإنه أبغض الناس إلي، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي )، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم عيينة بن حصن والأقرع بن حابس .. وغيرهما، يعني: كان يعطيهم عطاء عظيماً كما هو معروف، وأحاديثهم في البخاري ومسلم . فهذا القسم الأول: مسلم حديث الإسلام يعطى لتقوية إيمانه وتثبيت قلبه.
القسم الثالث: مسلم يعطى ولو كان قوي الإسلام لترغيب نظرائه، يعني: شيخ قبيلة أسلم وحسن إسلامه فيعطى حتى يسلم شيوخ القبائل الأخرى؛ لأنهم تتألف قلوبهم بهذا العطاء وهذا المال.
وبعض الإخوة .. كان عندي أحد الإخوة من .. كان قساً وأسلم وأصبح داعية في إفريقيا، وأظنه من فرنسا أو من دولة أخرى .. المهم أنه كان يقول لي: أنا غير مقتنع كيف أعطي إنساناً من أجل أن يسلم؛ يعني: الإسلام قناعة في القلب؟ فكيف أعطيه من أجل أن يسلم؟! قلت له: الحقيقة العطاء هذا مهم؛ لأن غالبية الناس لا يفكرون بالأمور بطريقة سليمة وموضوعية، هو يفكر وعنده عقبات تحول بينه وبين الإسلام، فأنت بهذا العطاء تزيل العقبات، مثل ماذا؟ مثل كثير من الناس الذين يترددون في أمر الإسلام .. يحجمون عن الإسلام؛ لأن عنده خلفيات سيئة .. عنده مواقف سيئة، قال له أبوه شيئاً، وقالت له أمه شيئاً، ورأى مثلاً بعض التصرفات من المسلمين، فترتب على هذا أنه أصبح في قلبه كراهية لهذا الدين، فلما نعطيه، بهذا العطاء تزول هذه الكراهية، ويصبح قلبه مستعداً لتقبل الحق، يصبح مثل المرآة، وعطاؤنا له مثل الجلاء الذي أزال ما في هذه المرآة من الصدأ، فانعكست عليها الصورة بشكل صحيح.
القسم الثالث من المؤلفة قلوبهم: هو الكافر الذي يعطى لترغيبه في الإسلام، نعطيه المال -كما ذكرت- لنرغبه في الإسلام، وندعوه إلى الدخول فيه، ونزيل ما قد يكون في قلبه من الموانع والعوائق والعقبات.
القسم الرابع من الكفار: وهو من نعطيه لكف شره عن المسلمين، مثل أن نعرف أنه يستعد لغزو المسلمين، والمسلمون فيهم ضعف وعجز وذلة وقلة، فيعطى من المال لتثبيطه، أو يكون هناك تحالف ضد المسلمين، فيعطى هذا ويعطى هذا، حتى ينفض هذا التحالف وينقض، يعني: ينتقض، فمثل هذا جائز.
إذاً: المؤلفة قلوبهم أربعة أصناف: منهم صنفان من المسلمين، وهو المسلم الذي يعطى لتثبيته، أو لإسلام نظيره، ومنهم صنفان من الكافرين، وهو من يعطى لتأليف قلبه على الإسلام، أو يعطى لدفع شره عن المسلمين.
والرقاب تنقسم إلى ثلاثة أقسام تقريباً:
القسم الأول: المكاتبون، يعني: الذي عليه دين كتابة: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ [النور:33]، فلو أن السيد كاتب عبده، يعني: لو طلب منه العبد المكاتبة كاتبه إذا كان صالحاً، فإذا كاتبه على مبلغ معين من المال وأقساط يعطيها لسيده جاز للمسلمين، بل شرع لهم أن يعطوا هذا المكاتب من الزكاة ما يسدد به ديون الكتابة وأقساطها ونجومها. فهذا هو القسم الأول يعطى من الزكاة عند الجمهور، خلافاً للإمام مالك الذي لا يرى ذلك.
القسم الثاني من الرقاب: هو عتق الرقيق المسلم، يعني: إذا افترضنا وجود أرقاء مسلمين نأخذ زكاة ونذهب إلى أسواق النخاسة كما يسمونها، ونشتري الأرقاء المسلمين بمال الزكاة ونعتقهم، وهذا هو مذهب مالك ورواية عن الإمام أحمد رحمهم الله.
فشراء الأرقاء من الزكاة وارد وداخل في قوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60].
القسم الثالث: وهو أن نعتق الأسرى، أو نفك أو نفتدي الأسرى المسلمين الذين يوجدون في سجون الكفار أو في أيدي المشركين، فإذا اعتقل أو أسر المشركون أعداداً من المسلمين في حرب أو غدر أو غيرها، ووجدوا عند الكفار، فإنه يؤخذ من مال الزكاة ويفتدى به هؤلاء المسلمون من أجل إعتاقهم؛ لأن هذا نوع من العتق، وهو داخل في قوله: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60].
فإذاً: المقصود بالغرم هو الدين.
والغارمون ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: يسميه الفقهاء: الغارم لنفسه أو لمصلحته، وهو إنسان اشترى مثلاً شيئاً لبيته، أو اشترى بيتاً أو اشترى أرضاً، أو اشترى طعاماً، أو اشترى سيارة .. أو ما أشبه ذلك من مصالحه الخاصة، فهذا إذا لم يكن عنده سداد للدين يجوز إعطاؤه من الزكاة، بشرط ألا يكون هذا الغُرم في أمر محرم. فلو كان غرماً في شراء خمر أو في مخدرات .. أو في غير ذلك من المعاصي والمحرمات، هل يجوز أن يعطى من الزكاة؟ لا يجوز إلا في حالة واحدة، وهي إذا تاب، نعم، يعني: لو واحد مثلاً جاءنا وقال: والله أنا كنت متورطاً في المخدرات وركبتني ديون، والحمد لله استقام والتزم واهتدى وتاب الآن، ولكن هذه الديون الذي عليه يطالب بها، ولا يستطيع الفكاك منها، وإلا بعض هذه الأشياء قد تكون مالاً .. قد لا يكون الدين هذا صحيحاً، لكن في حالات أخرى أيضاً ربما لا يستطيع الخلاص، ففي مثل هذه الحالة يمكن أن يدفع له من الزكاة لسداد دينه، على القول الراجح، هذا القسم الأول.
الصنف الثاني: هو الغارم لإصلاح ذات البين، مثل إنسان دفع مالاً للصلح بين فئتين من المسلمين .. بين قبيلتين من القبائل .. بين جماعتين من الجماعات .. بين حزبين من الأحزاب .. بين دولتين من الدول، فحاول الصلح بين طائفتين من المسلمين، ودفع مالاً لهذا الصلح، وترتب على هذا المال أنه ركبته ديون.
طيب! لو كان غنياً هل يجوز أن يعطى من الزكاة؟
نعم، الغارم لإصلاح ذات البين يعطى حتى لو كان غنياً؛ لأن غرمه ليس لمصلحة نفسه، وإنما لمصلحة المسلمين العامة، فهو يعطى حتى لو كان من الأغنياء، وهو أحد الأصناف الخمسة -كما مر في الحديث- الذي يعطى حتى مع الغنى، ولذلك مما يستدل على هذا حديث قبيصة، وهو في صحيح مسلم : ( لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وطلب منه زكاة، قال: أقم عندنا، ثم قال له: يا
الصنف الثالث: هو الضامن، يعني: ليس بغارم بنفسه، لكنه ضمن إنساناً .. كفله في دين، فإذا كفلت الإنسان، ليست كفالة حضورية، وإنما كفالة غُرم، يعني: أنك تقوم مقامه وتسدد عنه .. إذا كفلت هذا الإنسان وأنت غني، هل تسدد عنه أو لا تسدد؟ تسدد، ولذلك الدعوى الآن ترفع ضد المدين نفسه أو ضد الكافل والضامن؟ سواء بسواء، فلو كان هذا الكافل غنياً نقول: يسدد من ماله؛ لأنه في حكم المدين الأصلي ولا يسدد من الزكاة، لكن لو كان الضامن قال: أنا فقير أيضاً، في الحالة هذه نقول: يجوز لك أن تأخذ من الزكاة وتسدد الدين، وإن كان الدين ليس عليك، وإنما على من ضمنته وكفلته.
طيب هاهنا سؤال فيما يتعلق بالغارمين: هل يجوز سداد دين الميت من الزكاة؟
قد يسأل سائل: لماذا يختلف الفقهاء في هذه المسألة؟
نعم، يختلفون؛ لأنه كما قلنا: الزكاة تمليك: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، والميت لا يملك، ولهذا ذهب الجمهور: الشافعية والحنفية والقول المشهور عند الإمام أحمد إلى أن الزكاة لا يسدد بها دين الميت.
والقول الثاني: وهو مذهب الإمام مالك وأبي ثور .
دعنا نصحح الأقوال: القول الأول: مذهب أبي حنيفة والحنابلة وقول عند الشافعية أنه لا يسدد دين الميت من الزكاة.
القول الثاني: وهو مذهب المالكية وأبي ثور وقول عند الشافعية أيضاً أنه يجوز سداد دين الميت من الزكاة، وهو القول الراجح وهو القول المختار. لماذا اخترنا هذا القول؟ لأن الآية كما ذكرنا .. الأصناف الأربعة جاءت على سبيل التمليك، بينما الأصناف الأربعة الباقية جاءت على سبيل الجهة لا على سبيل الشخص، ولم يكن فيها تمليك، ولهذا لا يلزم في المدين أن يملك الزكاة، بل قد تقول له: سوف أسدد دينك الذي عليك لفلان، وربما نقول: إن الميت أحق وأحوج بسداد دينه من الحي؛ لأن الحي قد يضرب في الأرض، وقد يغنيه الله سبحانه وتعالى، بينما الميت قد ارتهن بعمله، ولا سبيل إلى تغير حاله، فربما كان الميت أولى أحياناً بسداد دينه من الحي، ولهذا كان قول المالكية والقول الآخر عند الشافعية، بأنه يسدد دين الميت من الزكاة هو القول المختار.
ولهذا اختلف الفقهاء في تعريف المراد بسبيل الله في هذه الآية، تقريباً نستطيع بشيء من التسامح أن نقول: إنهم انقسموا إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: رأت قصر الأمر على الجهاد فقط، فتصرف الزكاة للمجاهدين في سبيل الله، وهذا كما ذكرنا هو بالاتفاق، ورأوا أنه لا يدخل فيه غيرهم.
طيب! في مقابل هذا القول الضيق قول آخر يرى أن المقصود بسبيل الله كل عمل خير، فيدخل فيه مثلاً تعبيد الطرق .. بناء الجسور .. بناء المساجد .. بناء المستشفيات .. بناء المدارس .. كل الأعمال الخيرة .. كل الأعمال الطيبة .. كل المصالح العامة تدخل عند هؤلاء في سبيل الله، وقد نسب ابن قدامة في المغني هذا القول لـأنس بن مالك ولبعض التابعين كـالحسن البصري، وفي النقل عنهم نظر؛ لأنه نقل عنهم أنهم قالوا: إن ما يصرف في الطرق أو في .. في سبيل الله، ولكن بالرجوع إلى كتاب الأموال لـأبي عبيد يبدو أنهم كانوا يتحدثون عن شيء آخر، حيث كان هناك ناس يقفون في الطرق يأخذون العشور ويأخذون الزكوات، فكان البعض يرى أن هذه الزكاة التي أعطيتها لهم لا تكفي، ولابد أن تخرجها مرة أخرى، فكان أنس والحسن يقولون: لا، تكفي هي في سبيل الله وتكفي.
إذاً: هم لم يكونوا يتحدثون عن إخراج الزكاة في سبيل الله، يعني: في الطرق، وإنما يقصدون أن ما يأخذه الجباة في الطرقات أنه معدود من الزكاة، وبناء عليه كأنه لا يصح عن أنس والحسن البصري أنهما يريان هذا الرأي، لكن هذا الرأي منقول عن بعض الفقهاء بالتأكيد، وبعض الطوائف كـالزيدية مثلاً والإثني عشرية .. وغيرهم، هذا هو القول المعتمد عندهم، وبعض أهل السنة هو عندهم هذا القول، فهو إذن قول منسوب لبعض الفقهاء، وإن كان لا يصح عن أحد معين فيما نعلم من أهل السنة، إلا أن بعض المتأخرين من الفقهاء قالوا به، بعض العلماء المتأخرين، وهذا القول في نظري أيضاً ضعيف لأسباب: منها: أن هذا القول لا يصبح للحصر في الآية الكريمة معنى، فإن الله سبحانه وتعالى قال: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ [التوبة:60]، وإنما كما هو معروف عند أهل اللغة أداة حصر تفيد إثبات الحكم للأشياء المذكورة، ونفي الحكم عما عداه .. نعم عما لم يذكر، فإذا قلنا: إن (في سبيل الله) يشمل كل أعمال الخير، لم يعد للحصر حينئذ معنى، هذا وجه.
الوجه الثاني الذي يضعف هذا القول: أنه لا يبدو هناك فائدة من ذكر الأصناف الثمانية، الله سبحانه وتعالى قال: لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ [التوبة:60]، فإذا قلنا: كل طرق الخير في الزكاة لم يعد هناك معنى كبير وفائدة كبيرة من تعداد هذه الأصناف الثمانية.
فهذا القول إذن ضعيف.
يبقى القول الثالث وهو القول الوسط، أننا نقول: إن قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ يشمل الجهاد، لكن ليس الجهاد بمعناه أو بمدلوله القتالي الخاص، وإنما الجهاد بمعناه الشرعي العام، كما ذكرنا في القرآن والسنة، فيدخل فيه مثلاً الجهاد القتالي بطبيعة الحال ومن باب الأولى وباتفاق العلماء كما ذكرنا، لكن يدخل فيه أيضاً التعليم فإنه من الجهاد .. يدخل فيه الدعوة فإنه من الجهاد .. يدخل فيه التربية .. يدخل في ذلك مثلاً .. قد يحتاج إلى نشر كتب .. قد يحتاج إلى إقامة مدارس ..قد يحتاج إلى بناء مثلاً وسائل إعلام لدعوة الناس إلى الإسلام، أو دعوة المسلمين إلى تعلم أمور دينهم، فيدخل هذا كله في الجهاد؟ لماذا يدخل في الجهاد؟ لأننا نقول: هدف الجهاد القتالي ما هو، يجاهد الناس من أجل نشر الدين .. من أجل دعوة الناس إلى الإسلام، فهذه الأشياء هي تحقق هدف الجهاد نفسه، بدعوة الناس إلى الإسلام، ولذلك نضرب مثلاً جدلاً، لو أسلم الناس كلهم هل نحتاج إلى أن نجاهدهم؟ لا، فالجهاد هو في الأصل لدعوة الناس إلى الإسلام، وهذه الأشياء تحقق دعوة الناس إلى الإسلام، فهي تحقق هدف الجهاد إذن.
إذاً: يدخل في المعنى العام للجهاد بطبيعة الحال: تحرير الأرض الإسلامية من سطوة وسلطة الكافرين، سواء كانوا من اليهود أو من الشيوعيين .. أو من غيرهم، فدعم المجاهدين في فلسطين .. في الشيشان .. في كل أرض يقاتلون فيها لتحرير بلادهم هو من الجهاد، وقد استظهر بعض الفقهاء المعاصرين لما تكلموا عند قوله تعالى: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60] تحرير الأرقاء، قالوا: يدخل في هذا مساعدة الذين يقاومون الاستعمار؛ لأنه تحرير شعوب بدلاً من تحرير أفراد، وفي نظري أن هذا القول ليس بقوي؛ لأننا نقول: إن مساعدة هؤلاء على التحرر من الاستعمار هي داخلة في بند آخر، وهو قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة:60]. نعم.
يدخل في هذا أيضاً العمل على إعادة الحكم بالشريعة الإسلامية، ولو كان على سبيل التدريج؛ لأن من أهداف الجهاد إقامة الشرع، وحكم الناس بحكم الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمساعدة من يسعون إلى إعادة الحكم بالشريعة بالطرق المختلفة، ولو كان هذا بالتدرج والخطوة بعد الخطوة، هذا أيضاً داخل في الجهاد في سبيل الله.
دعم النظام التعليمي الإسلامي .. دعم المؤسسات الدعوية في العالم الإسلامي .. دعم المدارس والجامعات والمعاهد في العالم الإسلامي، والتي تعتني بتعليم المسلمين أمور دينهم، أو ما يحتاجون إليه أيضاً من أمور دنياهم؛ كل ذلك داخل في الجهاد، وما كان في حكمه فهكذا.
تكلمنا قبل قليل عن الحج، وهل يدخل في سبيل الله؟ وذكرنا خلاصة الأقوال فيه.
الشرط الأول: أن يكون محتاجاً، أما لو كان عنده أموال في سفره فالأموال تكفيه.
الشرط الثاني: ألا يكون سفره سفر معصية، فلو كان مسافراً لمعصية .. لمحاربة الله ورسوله، أو لفجور، أو مثلاً استيراد مواد محرمة، أو لإقامة غير مشروعة .. أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا يعطى إلا في حالة واحدة، وهي إذا تاب كما ذكرنا قبل قليل في الغارمين، فلو تاب من سفره .. تاب من هذا ولم يستطع الرجوع إلا بإعطائه من الزكاة، فإنه يعطى، وقد يعطى في حالة واحدة، وهي ما إذا خيف عليه من الفتنة في دينه، فيعطى باعتبار أنه من المؤلفة قلوبهم، وهو في سبيل الله أيضاً .. وهو ابن السبيل، أو خيف عليه من الموت، يعني: هو على معصية، لكن أراد أن يعود، ويخشى إن لم يعط أن يموت، فلا شك أنه تستنقذ روحه بقدر من الزكاة يستطيع به الرجوع.
هنا سؤال، المصنف رحمه الله ذكر هذه الأصناف كلها بما لا حاجة إلى قراءته.
ثم قال: [ فهؤلاء هم أهل الزكاة لا يجوز دفعها إلى غيرهم ]، هذا بالاتفاق.
هذه المسألة: هل يجب توزيع الزكاة على الأصناف الثمانية، أو يمكن الاقتصار على صنف واحد؟
الإمام الشافعي رحمه الله يرى وجوب توزيع الزكاة على الأصناف الثمانية، يعني: يجب أنه إذا كان عندك زكاة أن تعطي كل واحد من هذه الأصناف، إلا العاملين عليها، فإنك إذا أخرجت الزكاة بنفسك انتهى سهم العاملين عليها، وبقي أن تصرفها في الأصناف السبعة.
ونقول تبعاً لهذا: إن الشافعي رحمه الله وغيره أيضاً من أهل العلم الذين يوافقونه في هذا القول، يرون أن الصنف الذي انقطع وانتهى مثل: وَفِي الرِّقَابِ [التوبة:60]، إذا انتهى سهم الرقاب لا يكلف الإنسان ما لا يطيق.
وأيضاً مثلاً إذا لم يجد ابن سبيل لا يكلف ما لا يطيق، وإنما يجب عليه أن يصرفها في الأصناف التي يتمكن من إيصالها إليهم، هذا قول الشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، ونقل عن عمر بن عبد العزيز والزهري وداود الظاهري، أنه لابد من تعميم الأصناف الثمانية، قالوا: لأن الله سبحانه وتعالى ذكرها كلها، فلابد أن تعممها جميعاً.
القول الثاني: أنه يمكن أن يقتصر على صنف واحد، بل ربما جاز له أن يقتصر على فرد واحد من هذا الصنف بحسب كثرة زكاته وقلتها، وهو مذهب الجمهور، فهو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد .. وغيرهم، وهذا القول هو الراجح، وله أدلة: من أدلتهم الحديث الذي ذكرناه مراراً، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم ) حديث معاذ بن جبل ذكرناه.
كذلك الحديث الثاني حديث ضمام بن ثعلبة : ( صدقة تؤخذ من أغنيائنا، فترد إلى فقرائنا )، كذلك الآية الكريمة التي حاولت أن أستذكرها سابقاً وهي قول الله تعالى: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة:271]، فنص على إيتائها الفقراء، وهم صنف واحد من الأصناف الثمانية، وقد يدخل معهم المساكين فنكون أمام صنفين فقط، فهذا دليل على أنه يمكن أن يعطى صنف واحد.
أما حديث سلمة بن صخر البياضي الذي ذكره المصنف رحمه الله تعالى هاهنا فإن الحديث فيه ضعف، فالحديث في سنده محمد بن إسحاق وهو صدوق مدلس، وقد عنعن في جميع ما وقفت عليه من طرق الحديث، فقد راجعته في مواضعه، في مسند الإمام أحمد والدارمي وابن ماجه وأبي داود وغيرهم، فلم أجده صرح بالتحديث، وقد وجدت العلماء .. جماعة منهم نصوا على ضعف الحديث؛ لعنعنة ابن إسحاق، ولذلك فالحديث ضعيف، لكن يكفي من الأدلة فيه ما مضى.
أما حديث قبيصة بن مخارق فهو صحيح في مسلم وقد ذكرته قبل قليل.
[ وإلى العامل قدر عمالته، وإلى المؤلف ما يحصل به تأليفه -يعني: تأليف قلبه- وإلى المكاتب والغارم ما يقضي به دينه ]، يعني: دين الكتابة أو الغُرم، سواء كان غُرماً لمصلحة نفسه أو غُرماً لمصلحة المسلمين العامة.
[ وإلى الغازي ما يحتاج إليه في غزوه، وإلى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده ]؛ لأنه غني كما ذكرنا.
[ ولا يزاد واحد منهم على ذلك].
[ وكذلك المسكين والمكاتب والغارم لنفسه ]؛ لأنه لو كان عنده من المال ما يسدد به دينه لم يعط.
[ وابن السبيل].
[وأربعة يجوز الدفع إليهم مع الغنى، وهم: العامل ]، العامل عليها؛ لأنه يعطى عوضاً.
[ والمؤلف ]، المؤلف قلبه على الإسلام يعطى ولو كان غنياً.
[ والغازي ]؛ لأنه يعطى لمصلحة المسلمين العامة.
[ والغارم لإصلاح ذات البين ]، يعطى أيضاً، ونقول: ابن السبيل يعطى أيضاً وإن كان غنياً، إذا صار عنده حاجة في سفره فيعطى ما يكفيه إلى أوان الرجوع، وقد جاءت هذه الأصناف الخمسة في الحديث الذي ذكرته لكم وأشرت إلى ضعفه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر