النقطة الأولى منها: ما هو الدين؟ ما هو تعريف الدين؟
تعريف الدين عند الفقهاء: هو لزوم حق في الذمة. فإذا لزم في ذمة الإنسان حق مالي لأخيه الآخر فإنه يسمى ديناً، وقد يكون الحق غير مال.
وأما قولنا: (لزوم حق)؛ فإنه يخرج ما ليس بلازم، وهو الشيء الذي قد يكون مطلوباً من الإنسان على سبيل الاستحباب، أو على سبيل الإكرام، فإن هذا لا يسمى ديناً، وإنما الدين لابد أن يكون شيئاً لازماً للإنسان.
وقولنا: (لزوم حق) لو كان الملزم به غير حق فإن هذا الإلزام باطل، ولا يكون ديناً على الإنسان.
وقولنا: (في الذمة) يخرج إذا أعطى الإنسان الشيء في الحال، فلو أن أحداً طلبك شيئاً فأعطيته لم يسم هذا ديناً؛ لأنك أبرأت ذمتك بالحال، فإذا تعلق الحق بالذمة سمي ديناً، فالدين هو لزوم حق في الذمة، وهذا يشمل الحقوق المالية كما أشرت، مثل: القرض. لو أقرضتك مالاً، كأن أعطيتك ألف ريال على أن تردها إلي فيما بعد، هاهنا يكون وقع في ذمتك دين لي بألف ريال، واسمه الخاص .. يسمى (قرضاً).
إذاً: القرض هو أحد أنواع الدين، ولكنه لفظ خاص، فالقرض عقد خاص يتميز بأنه عقد إرفاق. يعني: ليس المقصود من القرض الاستغلال، أو أن أعطيك مالاً لتعطيني أضعافه، وإنما المقصود بالقرض هو إرفاق وإحسان، ولهذا سماه الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم قرضاً، فقال تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [البقرة:245]، وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [الحديد:18] فسماه الله تعالى: قرضاً حسناً، وهكذا قرضك لأخيك المسلم هو قرض حسن؛ لأنك لا تطلب من ورائه زيادة في المال، وإنما للرفق بأخيك، وسد فاقته وحاجته.
إذاً: القرض نوع من الدين، ولكنه عقد خاص، أو نوع خاص من الدين.
وكذلك ثمن المبيع، لو أعطيتك سلعة أو عيناً على أن تعطيني ثمنها بعد حين، سواء كان هذا الحين محدداً وهو ما يسمى بالعقد المؤجل، أو كان مطلقاً، تقول: آتيك به فيما بعد، فهذا ثمن لسلعة معينة أو مبيع، وهو أيضاً نوع من الدين.
ومثله أيضاً: ثمن التأجير، لو آجرتك بيتاً أو سيارة أو شيئاً بمال تدفعه إلي فيما بعد.
ومثله ثمن المتلف، لو أتلفت شيئاً فغرمت لي هذا المبلغ، لكنك لم تعطنيه حالاً وإنما وعدتني به فيما بعد.
أو ثمن الجناية، لو جنيت على أحد في عضو من أعضائه أو في عبده مثلاً أو ما أشبه ذلك فثمن الجناية إذا بقي في ذمتك فهو دين .. وهكذا.
وأيضاً: ثمن الصداق، صداق المرأة لو لم يعطها زوجها الصداق، أو أعطاها بعضه وأجّل بعضه يسمونه: صداق الآجل.
كل هذه أنواع من الديون تتعلق بذمة الإنسان يدفعها إلى مستحقها فيما بعد، فهذه ديون مالية، أو حقوق مالية.
وهناك نوع آخر من الدين والحق: وهو ما ليس بحق مالي، مثل: حقوق الله سبحانه وتعالى، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن من سألته عن الصيام: ( اقضوا الله فالله أحق بالوفاء ) إذاً: أحق بالوفاء، وسماه قضاءً، فالله تعالى له حق على عباده.
وفي حديث معاذ بن جبل : ( أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ فحق الله على عباده أن يعبدوه ويوحدوه ولا يشركوا به شيئاً ) فسماه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حقاً، مع أنه ليس حقاً مالياً، هو دين في ذمة الإنسان، وحق في رقبته وفي حياته لربه عز وجل.
وكذلك مثلاً لو أن إنساناً ترك صلاة ناسياً ثم ذكرها، فهي دين في ذمته، يقضيه أو ما يقضيه؟ يقضيه: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ).
وهكذا الحال بالنسبة للصيام.
وهكذا الحال بالنسبة للحج أو العمرة لو أفسدها.
وهكذا الحال بالنسبة للزكاة أيضاً باعتبار أن لها جانب حق لله سبحانه وتعالى، غير حق الفقير والمحتاج.
إذاً: هذه أنواع من الديون ليست مستحقات مالية في ذمة الإنسان، وإنما هي مستحقات معنوية، حقوق على الإنسان، ولذلك بعضهم يقول: هذا حق الله، وهذا حق العباد، وبعضهم قد يقول: هذه حقوق مالية، وهذه حقوق غير مالية.
وقد يسمي الفقهاء الدين بأسماء، مثل: الكالئ، من أشهر أسمائه: الكالئ، آخره همزة، وهذا اسم للدين، وقد ورد في حديث: ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ ) يعني: نهى عن بيع الدين بالدين، أو بيع المؤجل بالمؤجل، وهذا الحديث رواه الدارقطني وسنده ضعيف، فيه موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، وقال الإمام الشافعي رحمه الله: إن أهل الحديث يوهنونه، ولكن معنى الحديث أو معنى هذا الأثر صحيح إجمالاً، فإن الفقهاء متفقون على المنع من بيع الدين المؤجل بالدين من حيث الجملة، وإلا فإن لهذه المسألة صوراً عديدة أوصلها بعضهم إلى أكثر من عشر صور، بيع الدين بالدين سوف نأتي إليه إن شاء الله في مسألة البيوع؛ لأننا الآن نبحث في الزكاة، وإنما المقصود الإشارة إلى أن كلمة (الكالي) تطلق ويراد بها الدين. هذه المسألة الأولى.
في هذه المسألة عدة أقوال يمكن أن تصل بالاستقصاء والاستقراء إلى نحو عشرة أقوال للأئمة والسلف مبثوثة ومبسوطة في مراجعها، ككتاب الأموال لـأبي عبيد، وكتاب الأموال لـحميد بن زنجويه، وكتاب المغني لـابن قدامة والمحلى لـابن حزم .. وغيرها، لكن نذكر نحن خلاصة هذه الأقوال تقريباً في ثلاثة مذاهب:
إذاً: لا زكاة على الدين بحال من الأحوال في هذه الحالة، ولا زكاة على الدين إن كان قوياً أو ضعيفاً، أو كان بسبب حق أو غير ذلك، فهذا هو القول الأول: أنه ليس في الدين زكاة مطلقاً. وهذا منقول عن ابن عمر رضي الله عنه وعائشة وعكرمة وعطاء وإبراهيم النخعي والحكم بن عتيبة .. وغيرهم من السلف، وهو مذهب الشافعي في القديم، واختاره من الفقهاء المعاصرين الشيخ مصطفى الزرقا رحمه الله في مداخلاته في مجمع الفقه الإسلامي حول زكاة الدين.
ومأخذ هؤلاء في أنه لا زكاة في الدين أولاً: بعضهم ذكر حديثاً ردده بعض الفقهاء، وليس له أصل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يصح عن ابن عمر رضي الله عنه وغيره بمعناه، وهو أنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس على من أقرض مالاً زكاة ) وكما ذكرت هذا لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه أحد ممن يعتد بروايتهم، وأيضاً لم يذكر في شيء من كتب السنة المسندة، هذا أولاً.
ثانياً: حتى مع ذلك نحن نقول: إن هذا الحديث لا يدل على أن الزكاة ليست في الدين مطلقاً؛ لأن الحديث تكلم عن صورة واحدة من صور الدين وهي القرض، ( ليس على من أقرض مالاً زكاة ) فنقول: على فرض صحته؛ فإنه خاص بالقرض، والقرض يختلف عن غيره؛ لأن القرض فيه إحسان، فقد يقول قائل: إن القرض زكاته إقراضه للمحتاجين، بخلاف الديون الأخرى التي هي عن بيع أو شراء أو مصلحة للدائن، فإنها لا تقاس عليه.
وأما من حيث النظر فإنهم قالوا: ليس في الدين زكاة أيضاً؛ لأن الدين ناقص الملك أولاً، وقد ذكرنا في شروط المال الذي تجب فيه الزكاة سابقاً تمام الملك، فقالوا: الدين ناقص الملك؛ لأن صاحبه لم يضع يده عليه، فهو يملكه فعلاً، لكن الذي وضع يده على هذا الدين هو فلان، فالملك إذاً ناقص.
الأمر الثاني: ذكرنا أيضاً من شروط وجوب الزكاة في المال غير الملك: النماء، أن يكون المال نامياً، يعني: نامياً بالفعل أو نامياً بالقوة، نامياً بالفعل مثل: عروض التجارة تضارب بها وتبيع وتشتري فيزيد المال، أو بالقوة مثل الذهب والفضة؛ لأنه يفترض أن الذهب والفضة هي للبيع والشراء والمتاجرة، بينما الدين ليس نامياً، وإنما هو أشبه بالقنية كما يقولون، أشبه بالأشياء التي يقتنيها الإنسان في بيته كالأثاث والرياش والملابس .. ونحوها، ولهذا قالوا: إنه ليس في الدين زكاة. هذا قول.
وابن حزم رحمه الله ذهب إلى هذا القول في المال الحاضر، أنه إذا كان عندك مال حاضر أنت استدنته من غيرك فعليك زكاته، أما إذا كان المال غائباً عنك فلا زكاة فيه مطلقاً لا عليك ولا على صاحب المال.
إذاً: قول ابن حزم رحمه الله كأنه مرقع أو ملفق من القول الأول مع هذا القول، أنه إن كان المال حاضراً عند المدين فالزكاة عليه، وإن كان المال غائباً فلا زكاة على أحد منهما.
وهذا القول فيه ضعف، فيه ضعف من جهة أن الزكاة على مالك المال، هذا هو المعروف في قاعدة الشريعة، ونقل الزكاة من كونها على مالكه إلى كونها على مستثمره يحتاج إلى دليل، هذا أولاً.
وثانياً: أن الزكاة تفتقر إلى نية، وكون المستثمر سيخرجها معناه: أن المالك لم يكن نوى إخراج زكاة هذا المال الذي له.
القسم الأول: الدين على المليء، وقلنا قبل قليل: إن المقصود بالمليء الغني الباذل؛ لأنه قد يكون غنياً لكنه ثقيل لا يسدد الديون التي عليه ويماطل بها، فقالوا: إن المقصود بالمليء: الغني الباذل الذي يبذل ما عليه من حقوق.
فإذاً: القسم الأول: أن يكون الدين على مليء، وبعض الفقهاء يعبرون ويسمونه بالدين المرجو الأداء، فهذا فيه الزكاة كل سنة على مالكه على صاحبه على الدائن، وهذا القول ثابت عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم كـعمر وعثمان، فإن عمر رضي الله عنه جاء عنه كما في كتاب أبي عبيد : (أنه كان إذا أخرج العطاء للناس، أخذ الزكاة من شاهد المال عن الغائب والشاهد)، وهذا أيضاً فعل من عمر رضي الله عنه بمحضر من الصحابة، ولم ينكر عليه ولم ينقل له مخالف.
وكذلك عثمان رضي الله عنه، روى أبو عبيد وغيره عن عثمان أنه كان يقول: (إن الصدقة تجب في المال الذي لو شئت تقاضيته فتتركه حياءً أو مصانعة لصاحبه ففيه الزكاة).
وكذلك نقل هذا القول عن ابن عمر وجابر من الصحابة، ونقل عن جماعة من التابعين كـمجاهد وطاوس والزهري وقتادة وحماد بن أبي سليمان، وهو مذهب إسحاق بن راهويه والشافعي والحنابلة الإمام أحمد : أن الدين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أنه إن كان على مليء فهو يزكى كل سنة.
يبقى هنا السؤال: هل يزكيه مع ماله وهو دين، أم يزكيه إذا قبضه؟ هذان قولان وهما روايتان في مذهب الإمام أحمد، والأقرب والأرجح منهما أنه يزكيه إذا قبضه عن السنوات التي مضت؛ لأننا نقول: إن الزكاة مواساة، وليس من المواساة أن يطلب من صاحب المال أن يخرج زكاة الدين نقداً، بل يكفيه أن تكون زكاة الدين ديناً في ذمته، فإذا جاءه المال أخرج منه زكاته؛ لأنه أيضاً قد يتلف المال وقد يضيع وقد يتحول المليء إلى معسر .. إلى غير ذلك.
إذاً: فالأقرب في هذا أن الدين على مليء زكاته إذا قبضه عما مضى، هذا هو القول الراجح عند الحنابلة.
هذا النوع الأول، وتقريباً ليس فيه إشكال.
ومثله: الدين على الإنسان الجاحد، لو أن إنساناً جحد هذا المال وليس عندك بينة لا شهود ولا إثباتات ولا وثائق ثبت هذا الدين عليه، أو الدين على إنسان كبير وجيه يصعب عليك مطالبته، ويتهرب من سداده، وقد يلحق به بعض العلماء كـابن تيمية رحمه الله دين الولد على أبيه؛ لأن الولد يصعب عليه أن يذهب بوالده إلى المحكمة ليطالبه أو يحضر الشرطة، من أجل أن يأخذوا من والده دينه، فهذا يعتبر كله داخلاً في الدين على غير مليء.
الدين على غير مليء فيه تقريباً ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنوات، فلو بقي الدين مثلاً في ذمة صالح لك عشر سنوات ثم قبضته وجب عليك عندهم أن تزكيه عشر سنوات عما مضى، ولهذا قال علي رضي الله عنه لما سئل عن مال الضمار أو عن الدين المضنون، قال: [ إن كان صادقاً فليزكه إذا قبضه ] ولهذا كان هذا هو مذهب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وابن عباس وسفيان الثوري .
القول الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة وليس للسنوات كلها، فلو جلس الدين عند صالح عشر سنوات ثم رده إليك، فإنه يجب عليك حينئذ أن تزكيه مرة واحدة، تزكيه عن سنة واحدة، وهذا مذهب الحسن البصري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وميمون بن مهران والليث والأوزاعي .. وغيرهم.
القول الثالث: أنه ليس فيه زكاة مطلقاً، الدين على معسر ليس فيه زكاة، وإنما يستأنف به إذا قبضه حولاً جديداً، إذا تم له نصاب بنفسه أو كان بالإضافة إلى مالك الآخر يبلغ نصاباً، وإلا فليس فيه زكاة، وليس عليه زكاة لما مضى، وهذه إحدى الروايات في مذهب الحنابلة، وصححها طائفة من الأصحاب، وهو قول أبي حنيفة .
إذاً: الدين على المعسر فيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه يزكيه إذا قبضه لما مضى من السنوات.
الثاني: أنه يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة.
الثالث: أنه لا زكاة فيه، وإنما يستأنف به حولاً جديداً، يعني: إذا بقي عندك سنة بعدما قبضته وهو نصاب، فإنك تزكيه مثل غيره من الأموال.
حجتهم في أنه لا زكاة فيه أنه غير تام الملك كما ذكرنا، أنه خارج عن عهدة الإنسان وعن تصرفه وعن يده، أن الزكاة وجبت في مقابل الانتفاع وهو لا يستطيع أن ينتفع به، والنماء مفقود هنا كما ذكرنا، ولهذا كان القول الأقرب من هذه الأقوال الثلاثة -والله أعلم- أنه لا زكاة فيه مطلقاً، لا يزكيه عن السنوات الماضية كلها، ولا يزكيه حتى سنة واحدة، وإنما يستأنف به حولاً جديداً، وإن زكاه لسنة على سبيل الاحتياط فهذا جيد، لكن لا يظهر وجوب ذلك ما دام الدين على غير مليء.
أصله عن عوض، يعني: أعطيت ألف ريال ثم رددتها إلي بعد خمس سنوات، فهذه عن عوض، يعني: تعويض عن المبلغ الذي أخذت مني؛ لأن القرض ما ترد نفس المقرض وإنما ترد مثله، ولذلك ماذا يمكن أن نقول في تعريف القرض؟
هو أخذ مال ورد بدله أو مال مثله، يعني: من الأشياء التي لها مثل، فالقرض عبارة عن رد عوض.
هذا هو القسم الأول عند المالكية.
وكذلك الهبة، لو وعدتك بأنني سوف أعطيك مثلاً سيارة، لو وعدتك بهذا وماطلتك أربع سنوات ثم دفعتها إليك، فهل يجب عليك أن تزكي السيارة الأربع السنوات الماضية؟ لا. لماذا؟ لأنك لم تملكها، وكان بإمكاني أني أتراجع عن هذا الوعد، الوعد هذا غير ملزم، وإنما الهبة تلزم بالقبض، الهبة تلزم إذا قبضتها، فهذا أيضاً دين عن غير عوض.
ويلحق به المالكية أشياء أخرى أيضاً، مثل: الصدقة من المتصدق، لو وعد واحد إنساناً أن يتصدق عليه، أو قال: عندي لك كذا، أو سأرسل صدقة، ولكنها لم تصل إليه إلا بعد حين مثلاً.
يلحقون به أرش الجناية من الجاني، يلحقون به صداق المرأة، يلحقون به الصلح عن دم الخطأ، فهذه الأشياء يعتبرونها كلها ديناً عن غير عوض، ولذلك يرون أنه ليس فيها زكاة مطلقاً، وإذا قبضها استقبل بها حولاً جديداً.
النوع الأول: دين على مليء وهو الغني الباذل، وهذا الدين حكمه: يخرج زكاته كل سنة، لكن لا يلزم إخراجها حتى يقبض المال.
القسم الثاني: الدين على المعسر ونحوه، فهذا قلنا باختصار: أن فيه ثلاثة أقوال: إما يزكيه كل سنة، أو يزكيه سنة واحدة، أو لا زكاة فيه، والأقرب أنه لا زكاة فيه إلا أن يحتاط لذمته ودينه.
القسم الثالث: هو الدين المؤجل غير الحال، والدين المؤجل أضعف من الدين الحال، ولذلك قال الحنابلة كما ذكر ابن قدامة في المغني وفي المقنع أيضاً، وقال الشافعية كما ذكر النووي قالوا: إن الدين المؤجل بمنزلة الدين على المعسر.
وبناءً على هذا نستطيع أن نقول: إن الدين المؤجل فيه ثلاثة أقوال: إما أنه يزكيه إذا قبضه عما مضى، أو يزكيه إذا قبضه لسنة واحدة، أو ليس فيه زكاة مطلقاً.
والذي أرى أنه أقرب فيما يتعلق بالدين المؤجل على وجه الخصوص، أن نقول: إن الدين المؤجل إذا قبضه يزكيه لسنة واحدة، وقد يقول قائل: لماذا رجحنا في الدين على المعسر أنه ليس فيه زكاة، بينما الدين المؤجل تزكيه لسنة واحدة؟ فأقول: لأن الغالب أن الدين المؤجل إنما وضع له الأجل مقابل زيادة في الثمن، يعني: بعت عليك بالتقسيط، فالسلعة التي تباع مثلاً بستين ألف ريال بعتها عليك إلى سنة بثمانين.
أو بعتها عليك بخمس وسبعين ألف ريال، ولذلك نقول: إن هذا التأجيل هو مقابل زيادة في الثمن، ففيها نوع من النماء، فيها نوع من المتاجرة، فيها نوع من المصلحة للمالك، يقابل ذلك أنه يطلب منه أن يزكيه سنة واحدة، لماذا لا يزكيه كل سنة؟ لأن السنوات قد تطول وتأكل المال، بعض الأقساط قد تستمر إلى عشر أو خمس عشرة سنة، فلو طلب منه أن يزكيه كل سنة لأكل هذا أصل المال وفائدته.
فالقول بأنه يزكيه لسنة قول فيه توسط، مع أن المسألة من مسائل الفروع التي اختلف فيها أهل العلم، وإنما كان سبب اختلافهم أنه لم يرد فيها في كتاب الله العزيز نص، ولا في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يقع فيها إجماع من أهل العلم، فاختلف فيها الصحابة واختلف فيها من بعدهم كما ذكرنا.
قال: [ أو مال يمكن خلاصه ] يعني: ليس على مليء، ولكن يمكن خلاصه، يمكن له أن يطالب به حتى يحصل عليه.
[ كالمجحود الذي له به بينة ] من شهود أو وثيقة، يمكن بها أن يحصل على ماله.
[ والمغصوب الذي يتمكن من أخذه ] بخلاف المغصوب الذي لا يستطيع أخذه إذا كان صاحبه قوياً أو منيعاً عزيزاً غالباً، أو رئيساً لا يستطيع مطالبته، ولا يستطيع أخذ المال منه، فهذا ليس فيه زكاة إذا كان مجحوداً بلا بينة، أو مغصوباً ممن لا تستطيع أخذه منه، وإنما إذا كان يمكن إثباته بوجود البينة، أو يمكن أخذه ولو مغصوباً بقدرتك على ذلك، فهذا فيه الزكاة، ولهذا قال: [ فعليه زكاته إذا قبضه لما مضى ].
قال: [ وإن كان متعذراً كالدين على مفلس، أو على جاحد ولا بينة له به، أو على مغصوب ولا يستطيع استخلاصه منه، والضال الذي لا يرجى وجوده ] مثل المال الذي غرق في البحر مثلاً، أو ضاع في صحراء بعيدة، أو تقادم عهده .. أو ما أشبه ذلك، فإن هذا لا زكاة فيه، فهو في حكم المعدوم.
والمهم أنه يجمع على صدُقات بضم الدال كما في القرآن الكريم، ويجمع أيضاً على صدقات، والمقصود أن الصداق حكمه حكم الدين كما ذكر المصنف، فهو نوع من الدين، لكن لو نظرنا، قبل قليل ذكرنا الأقوال عند المالكية، وأن الدين عندهم إما أن يكون ديناً مقابل عوض، أو يكون ديناً من غير عوض، فبالنسبة للصداق عند المالكية هو دين بعوض أو دين بغير عوض؟
هم يعتبرونه من الدين الذي بغير عوض -وهذا فيه نوع من الرفق بالمرأة- لأن المرأة إذا حصلت على صداقها من زوجها على هذا لن يكون عليها أن تزكيه، بل تأخذه وتستقبل به حولاً جديداً، بينما ابن تيمية رحمه الله نقل عن المالكية أنهم يرون أنه دين بعوض، ولذلك يوجبون فيه زكاة سنة.
اختلف العلماء في الصداق ماذا يجب فيه؟ فقيل: إنه لا زكاة فيه كما ذكرنا عن المالكية، وقيل: يستقبل به زكاة سنة كما نقله ابن تيمية رحمه الله، يعني: أنه يزكيه لسنة مضت كما نقله ابن تيمية عن المالكية، والمؤلف أشار بقوله: (وحكم الصداق حكم الدين) إلى أن المسألة يجري فيها الخلاف، فإن كان الزوج مليئاً فواجب على الزوجة أن تزكيه لكل سنة، إن كان الزوج معسراً جرت فيه الأقوال الثلاثة: إما أن تزكيه لكل سنة، أو تزكيه لسنة، أو لا زكاة فيه، وعلى الذي رجحناه يكون الراجح: أن المرأة ليس عليها زكاة صداقها إذا كان زوجها معسراً.
وأضعف الأقوال كما ذكر الشيخ ابن تيمية رحمه الله أضعف الأقوال مطلقاً في موضوع الصداق هو القول الذي يوجب على المرأة أن تزكيه لكل سنة، حتى ولو كان ديناً على زوج معسر؛ لأنه زوج ومعسر، هو لو كان مليئاً لماطلها، فكيف وهو معسر؟
ومثله أيضاً: لو كان لديك رصيد من الفضة قدره سبعمائة جرام، وعليك دين قدره مائة جرام، فهذا ينقص النصاب أو لا ينقصه؟ يعني: يلغي النصاب أم يبقى النصاب؟ لا، ما يلغيه، سبعمائة إذا أخذت منها مائة تبقى ستمائة، وقلنا: نصاب الفضة ستمائة.
إذاً: إذا كان الدين يلغي النصاب، ويصبح المال الذي عندك أقل من النصاب فلا زكاة عليك مطلقاً، أو كان الدين ينقص النصاب ويبقى عليك ما يوجب الزكاة .. لكن ما كان في مقابل الدين فلا زكاة فيه.
المسألة هذه فيها قولان لأهل العلم:
القول الأول وهو ما أشار إليه المصنف بقوله: [ فلا زكاة فيه ] يعني: إذا كان عليك دين يقابل المال الذي عندك، فإنك تخصم الدين من المال ولا تزكي ما يقابل الدين، حتى لو أن الدين استغرق مالك كله فإنه لا زكاة عليك حينئذٍ، مثلما لو كان عندك مليار ريال وعليك دين مليار، فحينئذ على هذا ليس عليك زكاة.
هذا هو القول الأول: أن الدين يمنع وجوب الزكاة مطلقاً، وقولنا: (مطلقاً) نقصد في الأموال الظاهرة والأموال الباطنة.
ما هي الأموال الظاهرة وما هي الأموال الباطنة؟
الأموال الظاهرة: هي الزروع والثمار والثروة الحيوانية أو بهيمة الأنعام، هذه تسمى أموال ظاهرة؛ لأنها عند العرب على الأقل كانت معروفة ومرئية، بينما الأموال الباطنة هي الأثمان النقود وعروض التجارة، فهذه تسمى باطنة.
إذاً: هؤلاء يقولون: لا زكاة في مال باطن ولا ظاهر إلا بعدما يصفي الدين الذي عليه، وهذا القول هو قول جماعة من السلف كـعطاء الخرساني والحسن وسليمان بن يسار وميمون بن مهران وإبراهيم النخعي والثوري والليث بن سعد وإسحاق بن راهويه وهو رواية عن الإمام أحمد : أن الدين يمنع الزكاة مطلقاً في المال الظاهر والباطن. لماذا؟ قال لك: لأن ذمة الإنسان مشغولة بالدين، فملكيته لهذا المال ملكية ناقصة وليست ملكية تامة.
ثانياً: لأن صاحب الدين ومالكه مطالب بزكاة دينه كما ذكرنا، فلا يمكن أن نطالب صاحب الدين بزكاته، ونطالب المدين بالزكاة أيضاً، فكأن المال حينئذ يكون أخرج منه زكاتان: أخرج منه مالكه زكاة، وأخرج مستثمره زكاة أخرى، فلابد أن يخصم الدين إذاً عما يملكه هذا الإنسان.
ثالثاً: قالوا: لأن المدين في الغالب أنه فقير ومحتاج، وقد يدفع له من الزكاة كما في قوله تعالى: وَالْغَارِمِينَ [التوبة:60] فكيف ندفع له من الزكاة ونطالبه أن يزكي في الوقت نفسه؟
رابعاً: استدلوا أيضاً بما رواه أبو عبيد وغيره وابن أبي شيبة أيضاً وسنده صحيح على شرط الشيخين عن عثمان رضي الله عنه: [ أنه خطبهم على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم ] فهذا دليل على أن الدين يخصم من مال الإنسان قبل أن يخرج الزكاة، وقد جاء في رواية عند أبي عبيد، جاء في رواية أظنها في الموطأ أنه قال: [ أراه -يعني شهر رمضان- هذا شهر زكاتكم ]، وعند أبي عبيد ما يدل على أن الشهر هذا هو شهر المحرم، ليس مشكلاً الشهر، المهم أن هذا الأثر عن عثمان كان في ملأ من الصحابة ومحضر وعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يدل على أن الدين يمنع زكاة الأموال الظاهرة والباطنة. هذا هو القول الأول.
القول الثاني أظنه أصبح واضحاً: هو أن الدين يمنع زكاة الأموال الباطنة، ولا يمنع زكاة الأموال الظاهرة، فإذا كان عندك مثلاً زروع أو ثمار أو كانت عندك بهيمة الأنعام، فإنك تخرج زكاتها بالكامل من غير النظر إلى كون ذمتك مشغولة بدين أو غير مشغولة.
أما إذا كانت الأموال التي عندك أموالاً باطنة كعروض التجارة أو النقدين، فإنك لا تخرج زكاتها إلا بعدما تخصم منها مقدار الدين. والدليل على ذلك من وجوب:
الأول: أن الأموال الظاهرة تتشوف إليها نفوس الفقراء؛ لأنهم يرونها ويصبحونها ويمسونها، فتتعلق بها نفوسهم وتستشرفها، فيكون في إخراج زكاتها جبر لخواطرهم وتعزية لهم، بخلاف الأموال الباطنة فإنهم لا يدرون عنها ولا تتعلق بها نفوسهم، هذا سبب أو وجه.
الوجه الثاني: أنهم قالوا: هذا قد يكون نوعاً من الاستدلال بالمنقول، أنهم قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين كانوا يبعثون السعاة إلى الناس لأخذ زكاة أموالهم، فكانوا يأخذون زكاة الأموال الظاهرة التي هي بهيمة الأنعام والزروع والثمار، من دون أن يسألوا الملاك إن كان عليهم ديون أم لا، بينما الأشياء الأخرى وكل إلى الإنسان أن يتولى إخراج زكاتها، فينظر فيما عليه من دين فيستبعده.
الوجه الثالث: أنهم قالوا: إن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما قاتل المرتدين قاتلهم على منع زكاة الأموال الظاهرة، بخلاف الأموال الباطنة.
إذاً: الأموال الظاهرة تعامل عند هؤلاء شرعاً معاملة مختلفة عن المال الباطن، ولهذا أوجبوا الزكاة في المال الظاهر ولو كان مقابله ديناً، ولم يوجبوا ذلك في المال الباطن، وهذا القول بالتفصيل، أنا ذكرت أظن أصحاب القول الأول.
القول الثاني بالتفصيل هو قول مالك والشافعي والأوزاعي وهو أيضاً رواية عن الإمام أحمد رحمه الله. طيب.
الراجح في هذا -والله سبحانه وتعالى أعلم- أن الدين يمنع الزكاة مطلقاً؛ لأن التفريق بين الأموال الظاهرة والباطنة لم يرد فيه نص شرعي، وكما لاحظتم ورأيتم لما سألناكم عن الأموال الظاهرة كان بعضكم يقول: عروض التجارة؛ لأن أوضاع الناس تغيرت، وأصبحت ربما الماشية وبهيمة الأنعام أصبحت باطنة؛ لأنه لا أحد يعرف إن كان عندك رعية من الإبل أو البقر أو الغنم في المرعى والصحراء، بينما عروض التجارة أصبحت بمرأى ومسمع من الناس، فهي أولى أن يطلق عليها الآن أن تكون أموالاً ظاهرة.
إذاً: الظهور والخفاء أمر نسبي، ويتغير من مكان إلى مكان ومن زمان إلى زمان، ولم يرد في الشرع تحديد، ولو قلنا بهذا للزم أن يكون الدين غير مانع للزكاة في المال الظاهر ولا في المال الباطن، ولذلك الأولى أن نقول بأن الدين يمنع الزكاة في المال الظاهر والمال الباطن، والله سبحانه وتعالى أعلم.
الجواب: حقيقة أنا أشعر أن هذه الأحداث ربما إن أردت أكون صريحاً معكم أنها أكبر حتى من يعني تفكيرنا الآن، ولذلك التريث والأناة في التعليق عليها في تقديري أمر جيد.
نحن شاهدنا الآن الحلقة الأولى، وأيضاً أقول لكم بصراحة: الولايات المتحدة الأمريكية لم تعط فرصة لأحد من العرب والمسلمين، بل ولا من المستضعفين في العالم كله تقريباً إلا أن يكرهها ويبغضها ويشمت بها؛ لأن الأسلوب الذي سلكته في التعامل والتعاطي مع قضايا العرب والمسلمين أسلوب في غاية السوء، يعني: في فلسطين دائماً الضحية هو المجرم ويوصى بضبط النفس، بينما الطرف الآخر ربما يحرض على ممارسة نوع من العدوان.
في قضايا المسلمين هناك تجاهل كبير، بل آخرها في مؤتمر دوربان في جنوب إفريقيا كيف انسحبت من مؤتمر محاربة العنصرية؛ لما كان يتوجه إلى إدانة الصهيونية، واعتبارها شكلاً من أشكال التمييز العنصري.
عدوان الأمريكان على المسلمين في مواقف كثيرة جداً، أظنه ملفاً طويلاً لا يتسع المجال للحديث عنه، ولهذا لا غرابة أن تجد أي مسلم بادي الرأي ربما يشعر بنوع من شعور معين تجاه مثل هذه الأحداث، حتى قبل أن يفكر ويتعقل ويتأمل: ماذا وراء الحدث؟ لكنني حقيقة البارحة واليوم أطرح على نفسي مجموعة كبيرة من التساؤلات، وأشعر أننا في مرحلة أسلوب، ما يمكن أن نسميه بطرح الأسئلة لا غير الآن، على سبيل المثال: من وراء هذا الحدث؟ هذا سؤال كبير، هناك عشرات الجهات من الجيش الأحمر الياباني، إلى الصرب الذين يحملون ثأراً ضد الولايات المتحدة، إلى اليمين الأمريكي المتطرف داخل أمريكا، إلى بعض الجهات الفلسطينية الموتورة من أمريكا، إلى بعض الجهات العربية والإسلامية .. إلى غير ذلك، يعني: قائمة طويلة كلها محتمل أن تكون وراء هذا الحدث، ويمكن أن تشترك فيه أكثر من جهة أيضاً، لكن بدون شك أن وسائل الإعلام الغربية، وتصريحات حتى بعض الجهات المسئولة أصبحت تتجه إلى نوع من إلقاء المسئولية والتبعة على جهات وأطراف عربية وإسلامية، وهذا حقيقة لو ثبت سوف يكون بداية مأساة، نسأل الله أن يكفي المسلمين شرها، يعني: الأمريكان ضربوا اليابان بالقنابل النووية بسبب ألفين قتيل على إثر هجوم ياباني، فالآن أعداد القتلى أعداد مخيفة جداً، ربما في (البنتاجون) القتلى أظن أكثر من ثمانمائة فقط مثلاً، فكيف بالقتلى في (أبراج مركز التجارة) والعمائر المجاورة له التي انهارت، فضلاً عن القتلى الذين في الطائرات، يعني: أعتقد أن عد هؤلاء سوف يستغرق أسابيع، وسوف تصبح أرقاماً خيالية جداً، أما الخسائر المادية والخسائر المعنوية والآثار النفسية المدمرة والتبعات والتداعيات الدولية شيء مذهل، وأمام هذا هم أمام امتحان؛ ليثبتوا هيبتهم ويستعيدوا قوتهم، ولو كانت القضية تتوقف على عمل محدود لهان الخطب، لكنني حقيقة أضع يدي على قلبي وأنا أتخيل، وقد مررت بصبيحة هذا اليوم على أطفالي وعلى بناتي ووجدتهم يغطون في نوم عميق، فرجف قلبي وأنا أتخيل أنه ربما هناك عشرات الآلاف من البيوت الإسلامية البريئة، التي ربما تنتظر عقاباً لشيء لم تفعله هي، ولم تشارك فيه بحال من الأحوال، فهذا يجعل الإنسان يكتفي بأن يدعو الله سبحانه وتعالى: أن الله عز وجل يكفي المسلمين شر عواقب هذه الأمور، ويحفظهم في ذراريهم وفي أموالهم وفي دمائهم وفي أعراضهم وفي أسرهم وفي دولهم، إنه على كل شيء قدير.
ونسأل الله أن تكون العاقبة إلى خير، حتى على المدى البعيد، يعني: أعتقد أنه على المدى القريب سوف تكون نبرة الانتقام والانفعال والغضب هي السائدة، هذا لا شك فيه، لكن ربما على المدى الطويل يبدأ هناك نوع من إعادة النظر في طريقة التعاطي مع القضايا الدولية، إما أن يكون هناك نوع من الانكفاء على الداخل، وأن يكون التدخل في الخارج في حدود معينة، أو أن يكون هناك معايير دقيقة منضبطة، تضمن ألا تكون هناك ثارات بالحجم الضخم الذي يعرض قوتهم ووحدتهم وأمنهم للخطر، هذه أمور لا يستطيع الإنسان أن يتحدث فيها كما ذكرت، الكلام العادي وكلكم سمعتموه في الإذاعات، وربما شاهده بعضكم وقرأه في الصحف، أو سمعه على الأقل من الآخرين، فهو كلام لا أظن أن هناك حاجة ولا مصلحة في كوني أعيده عليكم، لكني فقط أدعوكم إلى أن تبتهلوا إلى الله سبحانه وتعالى في ركوعكم وسجودكم ودعائكم: أن يحفظ الله سبحانه وتعالى المسلمين، وأن يحفظ نساء المسلمين، يحفظ صبيان وأطفال المسلمين الأبرياء، يحفظ شيوخهم الركع، يحفظ أطفالهم الرضع، يحفظ أرضهم من المخاطر، فقد سمعت بالأمس مثلاً: أن هناك تحضيراً أو تهيئاً أنه ممكن يكون هناك نوع من الحرب البيولوجية كما يسمونها، وهذا قد يكون حقيقة وقد يكون نوعاً من الإيهام وقد يكون نوعاً من الاحتياط، الله سبحانه وتعالى أعلم به، لكننا متأكدون أن القوم لن يشعروا أن هذا الأمر من السهولة، بحيث إنه يمكن أن يتعامل معه بضبط نفس مثلاً أو باعتدال، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وليس عندي أكثر مما قلت لكم، أحياناً بعض الأشياء يمكن يكون صعب أن الإنسان يقول فيها بشيء، حقيقة فيها أشياء حتى أمس سمعت مثلاً: هناك مسلمون في الطائرات كثير، وبالتأكيد أنه في ضمن القتلى مسلمون كثير، لكن لا شك أيضاً هؤلاء لا يقاسون عدداً بغيرهم، وأيضاً هناك أبرياء كثر، يبقى أنه بغض النظر عن هذا وذاك، إلا أنه يبدو أنه كان المقصود من العمل -بغض النظر عن الجهة الفاعلة- أنه كان المقصود ضرب السيادة الأمريكية، ضرب الرمز الأمريكي، ضرب الاقتصاد الأمريكي، ضرب الأمن، وهذا لا شك أنه تحقق إلى حد بعيد، ولذلك تجمع المصادر على أن الضربة كانت ضربة مسددة ومدروسة وغريبة ومدهشة، حتى كان هناك ذهول شديد وعجب أن يكون هناك فعلاً جهة -وأنا واحد من هؤلاء- كان هناك ذهول أن يكون هناك جهة أي جهة تستطيع أن تقوم بمثل هذا العمل بهذه الدقة وهذه السرعة.
والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر