وسوف نمر سريعاً على الموضوع؛ نظراً لطوله وتشعب مباحثه.
المسألة الأولى: قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب: الجنائز ].
الجنائز: جمع جنازة بفتح الجيم أو بكسرها، يقال: جِنازة إذا كانت على الأرض، فإذا رفعت على النعش قيل لها: جَنازة.
والمقصود بهذا الباب ما يتعلق بالجنائز من الأحكام، سواء في ذلك غسلها، أو الصلاة عليها، أو دفنها أو ما يخص ذلك من الأحكام، وقد شرع الله تبارك وتعالى للمسلمين هذه الأحكام المتعلقة بالجنازة وفعلها المسلمون من زمان النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وجرت عادة الفقهاء أنهم يسبقون الحديث عن الجنائز بمسائل نعرض لها عرضاً خاطفاً، منها:
والذي يظهر أن هذا يختلف بحسب الأحوال والأشخاص والمقامات والله تعالى أعلم، ولكن مما ينبغي أن يعلم أنه لا يجوز التداوي بحرام، كشرب الخمر مثلاً، أو شرب الدم، أو أكل الميتة، أو الخنزير.. أو ما أشبه ذلك، فإن الله تعالى لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها.
ومنها أخذت جماعة من أهل العلم كـالطبري وأهل الظاهر وغيرهم القول بوجوب الوصية على كل إنسان، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال -كما في حديث ابن عمر وهو في الصحيح-: ( ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي به، يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة )، وهو دليل على تأكد الوصية في حق من له شيء يريد أن يوصي به، فيوصي أهله وأولاده بطاعة الله تعالى وتقواه ومراقبته، ويوصي بما له وما عليه من الأشياء.
هذا يكون لكل إنسان، حتى ولو كان صحيحاً شحيحاً، فإن الموت قد يأتي بغتة.
وقد جاء في هذا أحاديث منها: حديث أم سلمة، وهو في صحيح مسلم في موت أبي سلمة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم حضره، فلما رأى عينيه شاخصتين قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر، ثم أغمض النبي صلى الله عليه وسلم عينيه ) فكان ذلك سنة، وقد جاء فيه حديث قولي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بذلك، كما في حديث شداد بن أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر، فإن البصر يتبع الروح )، ولأن ذلك أبعد عن قبح المنظر.
وقوله: [ وشد لحياه ]، أي: بخرقة أو خيط أو نحوها إلى رأسه أو عصابة؛ وذلك لئلا ينفتح فمه ويقبح منظره، ويدخل فيه الماء عند غسله، وهذا لم يرد فيه شيء بخصوصه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه أمر حسن لا يقال بأنه سنة، إنما هو عمل حسن.
[ وجعل على بطنه مرآة أو غيرها ]، يعني: شيء ثقيل؛ لئلا ينتفخ بطنه ويقبح منظره بذلك أيضاً، وهو الآخر ليس فيه سنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكنه من الأعمال الحسنة العادية التي لا يقال بأنها مشروعة أو مستحبة.
قال: [ ثم يعصر بطنه ]، أي: أنه يعصر بطنه بيده عصراً رفيقاً خفيفاً حتى يخرج ما في بطنه من الأذى؛ لئلا يخرج بعد ذلك فيلوث الكفن ويؤثر فيه ويفسده.
قال: [ ثم يلف على يده الخرقة فينجيه بها ]، أي: أن الغاسل يضع على يده الخرقة فينجيه أي: يغسل موضع النجاسة بيده ويصب عليه الماء؛ وذلك لأنه لا ينبغي له أن يباشر ذلك بيده، ولا أن يمس عورته، ولا أن ينظر إليها، فإن ذلك الأصل أنه كله محرم في حال الموت، كما هو محرم في حال الحياة.
وقد جاء ما يدل على أن الحي والميت سواء، كما في حديث: ( كسر عظم المسلم ميتاً ككسره حياً )، والحديث عند أحمد وغيره، وسنده لا بأس به إن شاء الله تعالى.
فقوله: (ومواضع الوضوء منها)، هذا في مقام الوضوء لها، وكذلك نجد أن الحي إذا اغتسل فإنه يتوضأ قبل ذلك، على ما سبق تقريره في باب الغسل، فكذلك الميت ينبغي أن يوضأ قبل الغسل.
البداءة بالأيمن ثم الأيسر فيها عموم حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره، وفي شأنه كله ).
وأيضاً جاء في حديث أم عطية المتفق عليه في غسل ابنته رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ابدأن بميامنها ) جمع يمين، فيغسل اليمين ثم الشمال، اليدين وغيرهما، يبدأ بمواضع الوضوء كما سبق، ثم ينتقل إلى بقية البدن.
أي: أنه يغسله أول مرة ويعمل ما يسبق من عصر بطنه وغسله وغسل أعضائه، ثم يفعل ذلك ثانية وثالثة حتى يرى أنه قد اكتفى وأنقى؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لـأم عطية .. وحديثها أصل في صفة غسل الميت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً -كما جاء في رواية- أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ).
فدل على أنه يغسل وتراً بحسب ما يرى الغاسل من الحاجة؛ ثلاثاً، فإن لم يكف غسل خمساً، فإن لم يكف غسل سبعاً، فإن لم تجزئ غسل أكثر من ذلك، إن رأى حاجة إلى أكثر من ذلك.
[فإن لم يستمسك فبطين حر] يمنع خروج ما في بطنه وجوفه.
[ويعيد وضوءه] بعد ذلك؛ لأن الوضوء انتقض بهذا الذي خرج منه، ولا يعيد الغسل خلافاً لمن ذهب إليه من الفقهاء وقالوا بإعادة الغسل، فإن ذلك مما لا دليل عليه، بل يكفي أن يغسل الموضع وإن عاد وضوءه فهذا حسن.
[وإن لم ينق بثلاث] يعني: في الغسل [زاد إلى خمس أو إلى سبع]، كما سبق في حديث أم عطية رضي الله عنها، وإن زاد عن سبع فلا حرج؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك ).
فإن هذه الأشياء ينبغي أن يبالغ في غسلها أكثر من غيرها، وكذلك يجعل فيها الطيب؛ لما سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأم عطية ومن معها: ( واجعلن في الغسلة الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور )، وهذا نوع من الطيب، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس المتفق عليه في شأن المحرم، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ولا تمسوه طيباً )؛ وذلك لأنه محرم، فدل بمفهومه على أن غير المحرم يمس الطيب، ويوضع الطيب في مغابنه خاصة وفي سائر بدنه.
أما تخصيص مواضع السجود فقد يكون ذلك لشرفها، كما يمكن التعليل بذلك، لكن لا دليل عليه؛ لا دليل على تخصيص مواضع السجود، أما المغابن فنعم؛ لأنها أماكن الاتساخ والتلوث فتطييبها وارد وحسن، وكذلك تطييب البدن كله فهو كذلك، أما مواضع السجود فإنه لا يثبت فيها شيء، ولذلك قال: [وإن طيبه كله كان حسناً].
وفيما يتعلق بالطيب أيضاً قد جاء فيه أحاديث عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم: [ أنهم أمروا من غسلهم أن يطيبهم ]، وجاء في حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيه ضعف.
قال الفقهاء: ويجعل ذلك في أكفانه لأنه من أجزاء بدنه وكذلك ما تساقط منه، ولا أعلم أصلاً في ذلك.
الأصل في الأكفان الثلاثة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كفن كما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها: ( كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب بيض سحولية -من اليمن - ليس فيها قميص ولا عمامة )، أي: أنه لم يكفن في قميص ولا عمامة، هذا هو التفسير الصحيح، وقال بعضهم: المعنى فضلاً عن القميص والعمامة، وهذا ليس بجيد، وإنما الصواب أن المعنى: ثلاثة أثواب بيض هي كل الكفن، أما القميص والعمامة فلم يكفن النبي صلى الله عليه وسلم فيها، ولهذا جرت السنة ألا يكفن الميت في قميص ولا في عمامة، فإن هذه من ثياب الحي.
فيدرج فيها إدراجاً يوضع أطولها أسفل، ثم يوضع الذي دونه فوقه، ثم الذي دونه، ثم يحمل الميت ويوضع فوقها مستلقياً، ثم يرد عليه أطراف أعلاها الذي يباشر بدنه ويكون شعاراً عليه، ويثنى طرفه على شقه الأيمن، ثم يرد الطرف الآخر على الأيسر، ثم الثاني مثل ذلك، ثم الثالث مثل ذلك، فإن احتاج الأمر إلى أن يعقد خوف أن ينتشر أو يسقط عنه فعلوه، ثم يحلونه في قبره كما ذكر غير واحد.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: [ أحب إلي أن يكون الكفن في قميص كقميص الحي له كمّان وفي إزار ].
فدل على أن ذلك جائز، وأنه لا يلزم أن يكون الكفن في ثلاثة أثواب لا قميص فيها ولا غيره، بل لو كُفِّن في إزار ورداء، ثم لف عليهما لفافة تشمل البدن كله جاز ذلك.
فالمقصود -إذاً- في الكفن أن يكون عليه ثوب يغطي كل بدنه، والكفن مشروع واجب أن يغطى به بدن الميت بإجماع المسلمين، إلا أن يعجزوا عن ذلك فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها، ولهذا جاء في صحيح البخاري في قصة مصعب بن عمير رضي الله عنه: ( أنهم لم يجدوا ما يكفنونه فيه إلا بردة، إذا غطوا بها رأسه ظهرت رجلاه -كما قال
فإن لم يوص [ فالأب ] لأنه أقرب إليه وأحن عليه، [ ثم الجد ] لأنه أب، وقد سماه الله تعالى في القرآن أباً وإن علا، ثم الابن؛ لأنه يأتي بعده، ثم ابن الابن وإن نزل.. وهكذا [ ثم الأقرب فالأقرب من العصبات ] من الأخ والعم .. ونحوهما، ثم ذوي الرحم كالخال .. ونحوه؛ وذلك لأنه هو اللائق في مراعاة القرابة.
وكذلك الحال بالنسبة للمرأة، سواء فيمن يصلي عليها أو فيمن يغسلها، ثم أمها بعد ذلك، [ثم الجدة] وبعد الأم الجدة وإن نزلت؛ لأنها بمنزلة الأم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( الجدة بمنزلة الأم)؛ وهي تسمى أماً، [ ثم الأقرب فالأقرب من نسائها].
قال: [ ثم يكبر الثانية ويصلي بعدها على النبي صلى الله عليه وسلم ]؛ وذلك لمشروعية الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم عموماً، وإنكاره عليه الصلاة والسلام على من صلى ولم يصل عليه، كما في حديث فضالة بن عبيد، وقد سبق في صفة الصلاة، وكما في حديث أبي بن كعب : ( كم أجعل لك من صلاتي؟ ).. إلى غير ذلك من العمومات.
وقد جاء في ذلك أيضاً حديث خاص عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن السنة أن يكبر، ثم يقرأ الفاتحة، ثم يكبر ويصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، والحديث رواه الشافعي وفيه ضعف، ولكن له شواهد كثيرة يتقوى بها.
وفيما يتعلق بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فأفضل ذلك الصلاة الإبراهيمية: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
ولو اكتفى بقوله: اللهم صل على محمد، كفى ذلك وتحققت به السنة.
[ ثم يكبر ]، ويدعو للميت بما أحب من خيري الدنيا والآخرة، وليس في ذلك دعاء مخصوص، وإن كان الاقتصار على ما ورد أفضل، وأصح ما ورد في ذلك ما جاء في حديث عوف بن مالك عند مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة قال: فحفظت من دعائه )؛ وهو دليل على أنه جهر بالدعاء حتى يسمعه من وراءه ويحفظوه، وإن كان الأصل المخافتة.
فكان من دعائه صلى الله عليه وسلم: ( اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وزوجاً خيراً من زوجه، وأعذه من عذاب النار، ومن عذاب القبر برحمتك .. -أو كما قال صلى الله عليه وسلم حتى قال
ومثل ذلك الدعاء الآخر، وقد جاء في حديث لا بأس بإسناده: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا، وحاضرنا وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا، وذكرنا وأنثانا، إنك تعلم منقلبنا ومثوانا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام ومن توفيته فتوفه على الإيمان )، وهو حديث حسن الإسناد رواه أبو إبراهيم الأشهلي عن أبيه.
ولو زاد على ذلك من الأدعية من جنس هذه الأدعية للميت، فإن ذلك حسن، وينبغي إن كان الميت امرأة ألا يقول: (وزوجاً خيراً من زوجه)، بل يدعو لها بسائر الدعاء خلا ذلك، والدعاء هاهنا هو مقصود الصلاة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وهو حديث صحيح، قال: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )، فينبغي أن يبالغ في الدعاء، ويخلص فيه، ويصدق فيه، فإن ذلك هو الشفاعة لهذا الميت من قبل إخوانه من الأحياء، وهو مقصود الصلاة.
وقوله: (اللهم اغسله بالماء والثلج والبرد) هذا مبالغة في الدعاء، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في دعاء الاستفتاح: ( اللهم اغسلني بالماء والثلج والبرد )؛ لأن هناك من الأوساخ ما لا يزول إلا بهذه الأشياء مجتمعة؛ ولأن المعصية لها حرارة في البدن، فناسب أن تطفأ بالماء وبالثلج وبالبرد، فإن ذلك يطفئ حرها.
وقوله: (أعذه من عذاب القبر) المقصود بعذاب القبر ما يصيب الميت من العذاب في قبره، ومن ذلك فتنة القبر، وهي سؤال الملكين.
(ومن عذاب النار، وافسح له في قبره)، فإنه جاء في حديث البراء عند أبي داود وأحمد وسنده جيد: ( أن الميت إذا كان صالحاً فإنه يفسح له في قبره مد بصره )، ولذلك قال: (وافسح له في قبره، ونور له فيه).
قال: [ ثم يكبر ]، أي: بعد الدعاء.
[ ويسلم تسليمة واحدة عن يمينه ]؛ لأن هذا هو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال كما في الحديث الصحيح عند أهل السنن: ( وتحليلها التسليم ).
ولو سلم تسليمتين عن يمينه وشماله، فإن ذلك حسن، كما في عموم الحديث السابق: ( وتحليلها التسليم )، فهي كالصلاة العادية لو سلم فيها تسليمتين عن يمينه وشماله، لم يكن في ذلك شيء، بل ذلك حسن.
ولكن القول بوجوب التكبيرات كلها لا أعلم له دليلاً، فإنما ينبغي أن يقال: إن الواجب من ذلك تكبيرة الإحرام.
وينبغي أن يقال أيضاً: إن النية واجبة، بل هي شرط للصلاة، ومثله أيضاً: القيام للجنازة فإنه معلوم متفق عليه، وهو إجماع من المسلمين القيام أثناء صلاة الجنازة، وهكذا بقية شروط الصلاة، كالطهارة، ولو عاجله ذلك جاز له أن يتيمم إذا خاف فوات الجنازة كما سبق، واستقبال القبلة .. ونحو ذلك، وكذلك قراءة الفاتحة فإن حديث عبادة يدل على وجوبها، وأما الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فلا أعلم دليلاً على وجوبها في صلاة الجنازة، وإنما هي من جنس الدعاء، وأما السلام فهو واجب؛ لحديث: ( وتحليلها التسليم ).
فيترشح من ذلك أن الواجب تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والدعاء للميت، والسلام.
فإذا أدرك مع الإمام مثلاً التكبيرة الثانية كبر تكبيرة الإحرام وقرأ الفاتحة، فإذا كبر الإمام كبر معه وصلى على النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كبر الإمام كبر معه ودعا للميت، فإذا كبر الإمام ثم سلم كبر معه.. المهم أنه يعتبر أن ما أدركه هو أول صلاته، فإذا كبر الإمام وكان مسبوقاً كبر معه وقرأ الفاتحة، فلو فرضنا أن الإمام سلم مثلاً بعد هذه التكبيرة، فإنه يكبر مرة أخرى ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويتجوز في ذلك، ثم يكبر ثالثة ويدعو، ثم يكبر الرابعة ويسلم، ويخفف في ذلك كله حتى لا ترفع الجنازة قبل أن يتم صلاته.
وقول المؤلف رحمه الله: (صلى على القبر إلى شهر)، أما الصلاة على القبر فقد ثبت في الصحيح من أحاديث كثيرة جداً، منها حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبر منبوذ فصلى عليه )، ومعنى: (قبر منبوذ) قيل: إنه قبر بعيد، وقيل: إن الرجل منبوذ، يعني: أنه كان رجلاً مجهول النسب، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه خلفه.
وأما التحديد إلى شهر فإنه لا دليل على ذلك، وإن كان هذا أقصى ما نقل: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على أم
والصواب والله تعالى أعلم ما اختاره جماعة من الفقهاء أن الصلاة بالنية -الصلاة على الغائب- إنما تكون على من لم يصلّ عليه في بلده، كحال النجاشي، فإنه لم يصل عليه في بلده؛ ولهذا صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وكان يصلي على أصحابه جميعاً حتى على الأطفال الصغار، وقد دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على صبي من الأنصار، كما جاء ذلك في الصحيح.
فالصلاة على الميت فرض كفاية على الصحيح من أقوال أهل العلم، وقيل: إنها سنة، وهو قول لبعض فقهاء المالكية، كما ذكره القرطبي في شرحه لـمسلم .
والصواب: أنها فرض كفاية، وهو يشبه إجماع أهل العلم، لم يخالف فيه إلا القليل، بل حكاه بعضهم إجماعاً.
[ أو المحترق، أو لكون المرأة بين رجال ] يعني: لا توجد امرأة تغسلها.
[ أو الرجل بين نساء فإنه ييمم ] قياساً على حال الحي؛ لأن هذه طهارة عجز فيها عن الماء فيعدل إلى بدله وهو التيمم.
وقال بعض أهل العلم: إذا عجز عن الغسل فإنه لا يلزمه شيء، وإنما التيمم للحي يفعله بنفسه، ولا حرج أن يقال بالتيمم حينئذ؛ لأن تيميم الميت يقوم مقام الحي، والحي نفسه لو يمم أجزأه ذلك عند عجزه، فكذلك الميت، وقد جاء في ذلك آثار عن جماعة من السلف.
[ وكذلك أم الولد مع سيدها ] فإنه يغسلها وتغسله كذلك، فهما بمقام الزوجين؛ لأن كل واحد منهما يستمتع بالآخر.
وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة جداً تدل على أن سنة الشهيد أنه لا يغسل ولا يصلى عليه، بل يدفن في ثيابه حتى يوافي يوم القيامة بهذه الثياب، التي يأتي يوم القيامة ولون دمه لون الدم وريحه ريح المسك؛ لما في ذلك من الفضل والكرامة.
وقد جاء ما يخالف ذلك: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج -كما في رواية
والحديث متفق عليه، وهذا يجمع فيه بلونين من الجمع: إما أن يقال: إنه مخير في الشهيد أن يصلي عليه أو لا يصلي، وهذا قال به جماعة، أو يقال: إن صلاته صلى الله عليه وسلم لم تكن صلاة على الميت باستقبال القبلة والتكبير، وإنما كانت دعاء، وهذا أقرب أنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم، فإن من المعروف أنه خرج إلى البقيع قبل أن يموت صلى الله عليه وسلم بليال، ثم دعا لهم، وقال: ( ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم ) ودعا لهم دعاءه للأموات، وهذا هو الأقرب في حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه.
قال: [ وينحى عنه ] يعني: عن الشهيد [ الحديد والجلود .. ونحوها من عدة الحرب، ثم يزمل في ثيابه ]؛ وذلك لأن هذه الأشياء التي تكون عليه لا تعلق لها بكفنه فتزال عنه، وقد جاء فيها حديث رواه أبو داود عن ابن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينزع عن شهداء أحد الحديد، وأن يدفنوا في ثيابهم بدمائهم). وجاء في ذلك أحاديث عديدة يشهد بعضها لبعض.
ولهذا قال المؤلف هاهنا: (والمحرم يغسل بماء وسدر)؛ لتنظيفه وتطييبه، ويفعل به كما يفعل بالحي من حيث عصر بطنه وإمرار اليد عليه وتكرار الغسل .. ونحو ذلك.
[ ولا يلبس مخيطاً ] بخلاف غير المحرم، فإنه يجوز ذلك كما سبق.
[ ولا يقرب طيباً ]؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تمسوه طيباً )، وقوله: ( ولا تحنطوه ).
[ ولا يغطى رأسه ]؛ لقوله: ( ولا تغطوا رأسه ولا وجهه ).
[ ولا يقطع شعره ولا ظفره ]؛ لأنه بمنزلة المحرم الحي في جميع ذلك، فلم ينقطع إحرامه بالموت؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( يبعث يوم القيامة ملبياً )؛ وذلك في قصة الرجل الذي سقط يوم عرفة من راحلته، أو وقصته فمات.
فهذا معنى قوله: (يستحب دفنه في لحد).
[ وينصب عليه اللبن نصباً، كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم ]، كما هي سنة المسلمين، كما نقل عن سعد بن أبي وقاص .. وغيره.
قال بعض الفقهاء: التعزية إلى ثلاثة أيام، واستدلوا: ( بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهم أن يبكوا بعد ثلاث كما ذهب إلى آل جعفر بعد ثلاث لما قتل
والصواب: أنه لا يتحدد ذلك بحد، بل ما دام الداعي إلى التعزية موجوداً فإنها مشروعة، يعني: إذا كان التأثر على أهل الميت شديداً، عزوا ولو بعد ثلاث.
وبكى صلى الله عليه وسلم في أحوال عدة، وقال في حديث لما رفع له الصبي فدمعت عيناه، قالوا: ( هذا وأنت رسول الله؟! قال: هذه رحمة وضعها الله في قلوب عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء ) والحديث أيضاً في الصحيح، فالبكاء من غير رنة صوت ولا صياح ولا نحيب ولا نبذ ولا نياحة جائز.
وقال بعضهم: يجوز قبل الموت ولا يجوز بعده، وهذا رواية عند أحمد وهو مذهب الشافعية؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا وجب فلا تبكين باكية ) كما في البخاري : ( فإذا وجب فلا تبكين باكية ) يعني: إذا مات.
والصواب: أن البكاء إذا غلبه لا شيء عليه، لكن لا يجوز الندب ولا النياحة ولا شق الجيوب ولا ضرب الخدود، ولا الدعاء بدعوى الجاهلية، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود المتفق عليه: ( ليس منا من شق الجيوب، وضرب الخدود، ودعا بدعوى الجاهلية ).
وكذلك قال الله تعالى في البيعة: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ [الممتحنة:12] فإن المقصود بـ(المعروف) هاهنا طاعته بعدم النياحة؛ ولهذا قالت إحدى النساء -أم عطية أو غيرها- كما في صحيح البخاري : ( يا رسول الله إن فلانة أسعدتني فأريد أن أسعدها، فذهبت فجلست عندها وعزتها، وناحت معها قليلاً، ثم جاءت فبايعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ).
وزيارة القبور سنة إذا كانت على الطريقة الشرعية، بعيداً عن التعلق بالمقبورين أو دعائهم أو سؤالهم، أو أفضى ذلك إلى نياح أو صياح .. أو ما أشبه ذلك، فإذا سلم من ذلك كله فهو مستحب، حتى قبور الكفار، إذا كان فيها اعتبار، أو يزورها ولا يدعو للموتى؛ لأن الكافر لا يجوز الدعاء له، ومما يدل على ذلك ما رواه مسلم أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( استأذنت ربي أن أزور قبر أمي فأذن لي، واستأذنته أن أستغفر لها فلم يأذن لي ) نص عليه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، وغيره من الفقهاء.
وفيما يتعلق بزيارة القبور فيها كلام يطول، لكن أنا لا أستطيع أن أواصل أو أطيل في شرحها.
والخلاصة في ذلك: أنه هناك أشياء لا خلاف فيها، مثل: الدعاء، الدعاء للميت متفق عند أهل العلم على مشروعيته وفضله، وأنه ينفع الميت؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أو ولد صالح يدعو له )، ولأن المسلمين اتفقوا على مشروعية صلاة الجنازة وهي دعاء، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) فهو إجماع.
ومثل ذلك أيضاً: الصدقات المالية أو العبادات المالية كالصدقة والتبرع، فإنها تصل إليه، قال ابن المبارك كما في مقدمة صحيح مسلم : [ ليس في الصدقة اختلاف ]، ونقل غير واحد الإجماع على ذلك.
ثم اختلفوا في أشياء من العبادات الأخرى كالصلاة على الميت، والتصدق عنه بالقراءة والحج عنه، وفي الحج خلاف شاذ، والجماهير على وصوله وجوازه.. وغير ذلك.
والصواب: أن كل ما صنعه الإنسان من الأعمال الصالحة ونوى أجرها للميت فإنه ينفعه ذلك بإذن الله تعالى ويستفيد منه الحي أيضاً أجراً إن شاء الله؛ لحسن عمله ورفقه بأخيه المسلم، ومحبته الخير له، ويصل الثواب إلى الميت إن شاء الله تعالى.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة : ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )، فقوله: ( أو ولد صالح يدعو له )، هذا لا يعني أنه لا ينتفع بغير ذلك، وإنما النبي صلى الله عليه وسلم قال -وهذه فائدة عزيزة قد لا يجدها الإنسان في كثير من المواضع- النبي عليه الصلاة والسلام قال في الحديث: ( انقطع عمله ) يعني: العمل الخاص به الذي هو سببه المباشر؛ وإنما ذكر الولد خاصة؛ لأن الولد من عملك أنت، فالولد من كسبك كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه، وإن ولد الرجل من كسبه )؛ فقوله: ( أو ولد صالح يدعو له ) لأن هذا من كسبه، فهو من عمله، فنص عليه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: إنه لا ينتفع بعمل الآخرين في هذا الحديث، إنما هنا قال: (انقطع عمله) هو الخاص، إلا من هذه الأشياء: صدقة جارية سبلها في حال حياته، أو علم ينتفع به تركه، أو كان من ولده من نسله من ذريته تعب في تربيته فهو يدعو له؛ ولهذا لو دعا له غير الولد ألا ينفعه ذلك؟ بلى ينفعه؛ وإنما نص على الولد؛ لأنه من عمله، ولم يقل: إنه لاينفعه عمل الآخرين، ولذلك لو دعا له الآخرون نفعه ذلك أيضاً، فدل ذلك دلالة واضحة على أنه ينتفع بعمل الآخرين في غير ما ذكر في هذا الحديث، ومن ظن أن الحديث دليل على أنه لا يصل إلى الميت غير هذه الأشياء الثلاث، كما استظهره جماعة من الفضلاء الكبار في هذا الزمن دليل على أنه لا ينتفع الميت فقد أبعد في المعنى، وإنما المعنى الصواب ما ذكرته وقررته.
وكذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لبعض أصحابه أن يتصدقوا عن أمهاتهم، كما في الرجل الذي قال: ( إن أمي افتلتت نفسها، وأظن أنها لو تكلمت تصدقت، فأذن له النبي عليه السلام فقال: أشهدكم أن حائطي المخراف صدقة ) والحديث صحيح رواه أهل السنن وأحمد وغيره.
وكذلك المرأة التي ذكرت أن أباها لا يستطيع الحج، فحجت عنه .. وغير ذلك، والصيام سئل النبي صلى الله عليه وسلم في الصيام عن الميت فأذن به عليه الصلاة والسلام، وأمر به صلى الله عليه وسلم، وقال: ( من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه ).
فدل ذلك على أن كل قربة من صوم أو حج أو عمرة أو طواف أو قرآن .. أو غير ذلك مما يفعله الحي وينوي أجره للميت فإن ذلك يصله إن شاء الله تعالى.
أسأل الله تعالى لنا ولكم التوفيق، وأسأله أن يجمعنا وإياكم على خير في مناسبات أخرى، وبارك الله تعالى في هذه الدورة التي سببت لنا أن نتعرف على وجوهكم ونشاهدكم ونجد سماعكم، ونأنس بكم طيلة هذه الأسابيع الخمسة.
ونسأل الله تعالى بأسمائه وصفاته ألا يكلنا إلى عملنا، فإنه إن وكلنا إلى عملنا وكلنا إلى ضعف وفقر ومسكنة، وأن يغفر لنا بفضله ومنه وحوله وقوته وكرمه، هو أهل التقوى وأهل المغفرة، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو على كل شيء قدير.
فاللهم اغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا إنك أنت الغفور الرحيم، واجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً وتفرقنا بعده معصوماً، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً، واختم بالصالحات أعمالنا يا حي يا قيوم! واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، واختم بالشهادة آجالنا وبالسعادة أعمالنا إنك على كل شيء قدير، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر