الأصل أن المؤمن له أن يعبد الله تعالى في كل حين ووقت بصلاة وغيرها؛ لأن الأوقات كلها أوقات طاعة وعبادة، والعمر يغتنم في الطاعات والقربات إلى الله تعالى، ولكن الله تعالى بحكمته نهى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في أوقات وساعات مخصوصة؛ لما في ذلك من مشابهة المشركين الذين يتحرون هذه الأوقات لعبادة أصنامهم والسجود لها، أو للشمس وغيرها، وبما أن مخالفة المشركين من أهم مقاصد الشريعة فقد جاءت بالنهي عن الصلاة في هذه الأوقات مخالفة لهم، وعدم التشبه بهم في شيء من عباداتهم.
علة النهي عن الصلاة في ساعات معلومة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: [باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها].
المسألة الأولى في الساعات التي نهي عن الصلاة فيها، وذلك أن الأصل في الصلوات أنها جائزة كل وقت، ولهذا ذكر المصنف رحمه الله تعالى فيما مضى التطوع المطلق الذي يصليه العبد في كل وقت، لأن الأوقات كلها أوقات عبادة وطاعة، والعمر يغتنم في الطاعات والقربات إلى الله تعالى، فالأصل أن كل ساعة أدركها الإنسان من العمر فهي ساعة عبادة يستحب له أن يتقرب إلى الله تعالى فيها بما أحب وما استطاع مما شرعه الله عز وجل، ولكن الله تعالى بحكمته نهى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في أوقات معينة بخصوصها، لما في ذلك من مشابهة المشركين الذين يتحينون ويتحرون الصلاة في أوقات بذاتها سجوداً لأصنامهم، أو سجوداً للشمس، أو لغير ذلك، ولأن القاعدة العامة في الشريعة: النهي عن مشابهة المشركين؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في ساعات بعينها.
النهي عن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهي خمس: بعد الفجر حتى تطلع الشمس].
وقوله: (بعد الفجر) يحتمل: أن يكون المعنى: بعد طلوع الفجر، فعلى هذا يستثنى من ذلك ركعتا الفجر، السنة، فإنه يستحب صلاتهما بالإجماع، وكذلك فريضة الفجر فإنها واجبة في هذا الوقت لا في غيره.
ويحتمل أن يكون المعنى: بعد صلاة الفجر، فيكون ابتداء النهي بعد الصلاة.
وبكل من القولين قال بعض أهل العلم، ووجد له من النصوص ما يؤيده ويسنده.
والراجح الذي عليه عامة أهل العلم وعامة النصوص الشرعية: أن وقت النهي لا يبدأ إلا بعد الصلاة، أما ما قبل الصلاة فليس وقت نهي.
ولهذا يستحب إيقاع الركعتين فيه، وإن كان لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي فيه إلا هاتين الركعتين، ولكنه ليس وقت نهي، فلا تشمله أحكام النهي.
ومما يقوي أن الأمر معلق بالصلاة: أنه فيما يتعلق بصلاة العصر يبدأ النهي بعد الصلاة للدليل والاتفاق، فينبغي أن يكون الفجر كذلك أيضاً، وهذا يقوي جانب من قالوا: إن النهي لا يبدأ إلا بعد صلاة الفجر، فمن لم يصل الفجر لم يشمله النهي حتى يصلي، ولو كان غيره قد صلى.
النهي عن الصلاة بعد طلوع الشمس حتى ترتفع قيد رمح
الثالثة: قال: [وبعد طلوعها حتى ترتفع قيد رمح].
أي: بعد بزوغ الشمس وظهور قرنها من الأفق.
[حتى ترتفع قِيد رمح] بكسر القاف، أي: قدر رمح في نظر الرائي، والرمح من عدة الحرب المعروفة عند العرب، وهذا المقدار يشمل جزءاً صغيراً قليلاً من الوقت ربما يقدر بنحو عشر دقائق أو أزيد من ذلك قليلاً، وهو وقت متصل بالذي قبله لا فاصل بينهما، وإنما نص عليه لأسباب:
الأمر الثاني: أن من الفقهاء من قسم أوقات النهي إلى قسمين: نهي مخفف، ونهي مغلظ، فجعل هذه الأوقات القصيرة نهياً مغلظاً، منها: بعد بزوغ الشمس حتى ترتفع، ووقت الزوال، وعند غروبها حتى تغرب، فلهذا نص عليه الفقهاء، وبعضهم يجعله وقتاً واحداً بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح.
وعلى كل حال فقد جاء فيه أحاديث كما ذكرت: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه أيضاً.
وجاء أيضاً في حديث الصنابحي وغيره ذكر ذلك، وهذا وقت النهي ثبتت به الأحاديث، وعده طائفة من الفقهاء، ولم يذكره آخرون، منهم جماعة من الحنابلة كـالخرقي وغيره لم يعد هذا وقت نهي، وبعض المذاهب لا يعرفونه نهياً، لكن الأحاديث وردت فيه، فينبغي اعتباره واعتماده.
النهي عن الصلاة بعد العصر حتى تتضيف الشمس بالغروب
قال في الخامسة: [وبعد العصر حتى تتضيف الشمس بالغروب].
وهذا وقت نهي ثابت معروف، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس )، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وحديث ابن عباس وغيرهم، وهذا الوقت مقيد بصلاة العصر، فإنه يبدأ بعد الصلاة مهما أخرها، ولو صلى غيره فإن العبرة بصلاته هو، ولذلك يستحب لمن أراد صلاة العصر أن يصلي قبلها ركعتين أو أربعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً )، وجاء في ذلك أحاديث عدة، منها: حديث علي وأم حبيبة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم في صلاة أربع قبل العصر، ويستحب له أن يصليها ولو أخر الصلاة؛ لأن النهي معلق بما بعد صلاته هو بالاتفاق وبالدليل، ولهذا قال: ( لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ) وهذا معنى قوله هنا: (حتى تتضيف الشمس بالغروب).
النهي عن الصلاة إذا تضيفت الشمس حتى تغرب
السادسة: قال: [وإذا تضيفت حتى تغرب].
يعني: إذا بدأت الشمس بالغروب وسقطت في المغرب حتى تختفي وتغيب بالكلية، وهذا وقت يسير أيضاً قريب من وقت بزوغ الشمس وطلوعها، وقد جاء فيه أحاديث، منها: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه -الذي أسلفته- وفيه قوله: ( وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب )، وهو أيضاً داخل في عموم الأحاديث الأخرى، كما في قوله: ( ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) أي: حتى يتم غروبها، فهو وقت نهي أيضاً كما في النصوص كلها.
وهذه الأوقات الأصل النهي عن الصلاة فيها في كل وقت، الأصل النهي عن الصلاة فيها كما سوف يأتي تفصيله وبيانه، ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن من أهل العلم من قال: إن يوم الجمعة لا يكون وقت الزوال فيه وقت نهي، وقد جاء في ذلك حديث: ( إلا يوم الجمعة ) وهو ضعيف، والصواب: أن يوم الجمعة كغيره، ولا دليل على استثنائه، لكن من كان داخل المسجد يتنفل يوم الجمعة فإنه يصلي ما كتب الله تعالى له حتى يدخل الإمام، ولا يلزمه أن يتحرى وقت النهي ولا أن يسأل عنه ولا أن ينظر فيه.
حكم الصلاة في هذه الساعات وما يستثنى منها
السابعة: قال المصنف: [فهذه الساعات التي لا يصلى فيها تطوعاً إلا في إعادة الجماعة إذا أقيمت وهو في المسجد].
وكذلك في قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يتصدق على هذا فيصلي معه؟ ) دليل على أن الفجر والعصر وغيرها من الصلوات يعيدها الإنسان إذا أقيمت الجماعة وهو في المسجد، أو كان لذلك سبب مطلقاً.
وحديث يزيد بن الأسود حديث صحيح رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم من أهل العلم، وهو دليل على أن الجماعة إذا أقيمت وأنت في المسجد وقد صليت قبل فإنك تنضم إلى هذه الجماعة ولو كان وقت نهي كالفجر أو العصر، ومثله أيضاً بقية الصلوات الأخرى.
وقد جاء في حديث في سنده شيء أنها قالت: ( يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا )، ولو صح لكان دليلاً على الخصوصية، لكنه لم يصح، فدل على أن ذلك عام، وهو الذي اختاره المصنف وغيره، وهو مذهب جيد وقول راجح: أن للإنسان أن يقضيهما.
ومن المعلوم أن الرواتب تصلى في البيت، فكذلك قضاؤها يكون في البيت، فإذا فاتت الإنسان سنة الفجر قضاها بعد الصلاة، وإذا فاتته راتبة الظهر قضاها بعد العصر أيضاً.
ولو قضى الرواتب في غير هذين الوقتين جاز أيضاً، فإنها تقضى في سائر الأوقات، وإنما لم يذكروا وقت بزوغ الشمس ووقت غروبها ووقت الزوال؛ لأنها أوقات يسيرة جداً لا يضر التريث والانتظار والتأخير فيها.