قال رحمه الله تعالى: [باب الساعات التي نهي عن الصلاة فيها].
المسألة الأولى في الساعات التي نهي عن الصلاة فيها، وذلك أن الأصل في الصلوات أنها جائزة كل وقت، ولهذا ذكر المصنف رحمه الله تعالى فيما مضى التطوع المطلق الذي يصليه العبد في كل وقت، لأن الأوقات كلها أوقات عبادة وطاعة، والعمر يغتنم في الطاعات والقربات إلى الله تعالى، فالأصل أن كل ساعة أدركها الإنسان من العمر فهي ساعة عبادة يستحب له أن يتقرب إلى الله تعالى فيها بما أحب وما استطاع مما شرعه الله عز وجل، ولكن الله تعالى بحكمته نهى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في أوقات معينة بخصوصها، لما في ذلك من مشابهة المشركين الذين يتحينون ويتحرون الصلاة في أوقات بذاتها سجوداً لأصنامهم، أو سجوداً للشمس، أو لغير ذلك، ولأن القاعدة العامة في الشريعة: النهي عن مشابهة المشركين؛ فقد نهى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة في ساعات بعينها.
وهي المسألة الثانية؛ فإن الصلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس منهي عنها في أحاديث كثيرة جداً، منها: حديث ابن عباس رضي الله عنه المتفق عليه: ( شهد عندي رجال مرضيون وأرضاهم عندي
ومنها: حديث أبي سعيد الخدري وهو متفق عليه أيضاً: ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس ) .
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لا صلاة بعد الفجر -وفي رواية: بعد صلاة الفجر- حتى تطلع الشمس ) والأحاديث في هذا كثيرة معلومة.
وقوله: (بعد الفجر) يحتمل: أن يكون المعنى: بعد طلوع الفجر، فعلى هذا يستثنى من ذلك ركعتا الفجر، السنة، فإنه يستحب صلاتهما بالإجماع، وكذلك فريضة الفجر فإنها واجبة في هذا الوقت لا في غيره.
ويحتمل أن يكون المعنى: بعد صلاة الفجر، فيكون ابتداء النهي بعد الصلاة.
وبكل من القولين قال بعض أهل العلم، ووجد له من النصوص ما يؤيده ويسنده.
والراجح الذي عليه عامة أهل العلم وعامة النصوص الشرعية: أن وقت النهي لا يبدأ إلا بعد الصلاة، أما ما قبل الصلاة فليس وقت نهي.
ولهذا يستحب إيقاع الركعتين فيه، وإن كان لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي فيه إلا هاتين الركعتين، ولكنه ليس وقت نهي، فلا تشمله أحكام النهي.
ومما يؤيد ذلك: أنه جاء في أحاديث عدة: ( لا صلاة بعد صلاة الفجر حتى تطلع الشمس ) .
وجاء في حديث آخر صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صليت الفجر ) -حديث عمرو بن عبسة ( إذا صليت الفجر فأمسك حتى تطلع الشمس ) فدل على أن الأمر معلق بالصلاة.
ومما يقوي أن الأمر معلق بالصلاة: أنه فيما يتعلق بصلاة العصر يبدأ النهي بعد الصلاة للدليل والاتفاق، فينبغي أن يكون الفجر كذلك أيضاً، وهذا يقوي جانب من قالوا: إن النهي لا يبدأ إلا بعد صلاة الفجر، فمن لم يصل الفجر لم يشمله النهي حتى يصلي، ولو كان غيره قد صلى.
أي: بعد بزوغ الشمس وظهور قرنها من الأفق.
[حتى ترتفع قِيد رمح] بكسر القاف، أي: قدر رمح في نظر الرائي، والرمح من عدة الحرب المعروفة عند العرب، وهذا المقدار يشمل جزءاً صغيراً قليلاً من الوقت ربما يقدر بنحو عشر دقائق أو أزيد من ذلك قليلاً، وهو وقت متصل بالذي قبله لا فاصل بينهما، وإنما نص عليه لأسباب:
منها أولاً: أنه جاء فيه أحاديث بخصوصه، كحديث عقبة بن عامر الأنصاري رضي الله عنه أنه قال -كما في صحيح مسلم -: ( ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا ) وذكر: ( إذا بدا حاجب الشمس حتى ترتفع، أو قال: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع )، وحديث ابن عمر رضي الله عنه: ( إذا بدا حاجب الشمس حتى ترتفع )، وهذا الوقت -كما أسلفت- متصل بالذي قبله، لكن نص عليه في هذه الأحاديث بخصوصه، ولهذا ذكره الفقهاء.
الأمر الثاني: أن من الفقهاء من قسم أوقات النهي إلى قسمين: نهي مخفف، ونهي مغلظ، فجعل هذه الأوقات القصيرة نهياً مغلظاً، منها: بعد بزوغ الشمس حتى ترتفع، ووقت الزوال، وعند غروبها حتى تغرب، فلهذا نص عليه الفقهاء، وبعضهم يجعله وقتاً واحداً بعد صلاة الفجر حتى ترتفع الشمس قدر رمح.
وعلى كل حال فقد جاء فيه أحاديث كما ذكرت: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه أيضاً.
أي: وقت الزوال، عند توسط الشمس في كبد السماء، فإنه يكون نهياً يمسك فيه عن الصلاة حتى تزول الشمس، أي: تذهب إلى الجهة الأخرى من السماء، وهذا أيضاً وقت يسير جداً يقدر بنحو خمس دقائق أو قريباً من ذلك، وهو وقت الزوال الذي يخيل للرائي أن الشمس فيه قد توقفت في كبد السماء، وتوقف الظل، فلا يقلص ولا يزيد، فهو وقت نهي أيضاً عند جماعة من أهل العلم، وقد جاء فيه أحاديث صحاح، منها: حديث عقبة بن عامر قال: ( ثلاثة أوقات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا، قال: وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل ) والحديث في مسلم .
( وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل ) يعني: كأن يقال: تتوقف الشمس حتى تميل إلى جهة الغروب.
وجاء أيضاً في حديث الصنابحي وغيره ذكر ذلك، وهذا وقت النهي ثبتت به الأحاديث، وعده طائفة من الفقهاء، ولم يذكره آخرون، منهم جماعة من الحنابلة كـالخرقي وغيره لم يعد هذا وقت نهي، وبعض المذاهب لا يعرفونه نهياً، لكن الأحاديث وردت فيه، فينبغي اعتباره واعتماده.
وهذا وقت نهي ثابت معروف، كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري : ( لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس )، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه وحديث ابن عباس وغيرهم، وهذا الوقت مقيد بصلاة العصر، فإنه يبدأ بعد الصلاة مهما أخرها، ولو صلى غيره فإن العبرة بصلاته هو، ولذلك يستحب لمن أراد صلاة العصر أن يصلي قبلها ركعتين أو أربعاً؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله امرءاً صلى قبل العصر أربعاً )، وجاء في ذلك أحاديث عدة، منها: حديث علي وأم حبيبة وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم في صلاة أربع قبل العصر، ويستحب له أن يصليها ولو أخر الصلاة؛ لأن النهي معلق بما بعد صلاته هو بالاتفاق وبالدليل، ولهذا قال: ( لا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس ) وهذا معنى قوله هنا: (حتى تتضيف الشمس بالغروب).
يعني: إذا بدأت الشمس بالغروب وسقطت في المغرب حتى تختفي وتغيب بالكلية، وهذا وقت يسير أيضاً قريب من وقت بزوغ الشمس وطلوعها، وقد جاء فيه أحاديث، منها: حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه -الذي أسلفته- وفيه قوله: ( وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب )، وهو أيضاً داخل في عموم الأحاديث الأخرى، كما في قوله: ( ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس ) أي: حتى يتم غروبها، فهو وقت نهي أيضاً كما في النصوص كلها.
وهذه الأوقات الأصل النهي عن الصلاة فيها في كل وقت، الأصل النهي عن الصلاة فيها كما سوف يأتي تفصيله وبيانه، ولكن مما ينبغي أن يعلم: أن من أهل العلم من قال: إن يوم الجمعة لا يكون وقت الزوال فيه وقت نهي، وقد جاء في ذلك حديث: ( إلا يوم الجمعة ) وهو ضعيف، والصواب: أن يوم الجمعة كغيره، ولا دليل على استثنائه، لكن من كان داخل المسجد يتنفل يوم الجمعة فإنه يصلي ما كتب الله تعالى له حتى يدخل الإمام، ولا يلزمه أن يتحرى وقت النهي ولا أن يسأل عنه ولا أن ينظر فيه.
أي: أن الإنسان لا يشرع له أن يتحرى هذه الأوقات والساعات فيصلي فيها تطوعاً مطلقاً من غير سبب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة فيها وقال: ( لا صلاة بعد الفجر حتى تطلع الشمس، ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس )، وهذا نفي بمعنى النهي، فإن قوله: ( لا صلاة ) أي: لا تصلوا، ولهذا نص عليها في حديث عقبة، قال: ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا ) فجاء فيها النهي والنفي، ولهذا لا ينبغي ولا يجوز للإنسان أن يتحرى الصلوات في هذه الأوقات؛ لما في ذلك من مشابهة المشركين، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن الشمس تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار ) فنهى عن مشابهتهم في ذلك لما في التشبه بهم من مقاربتهم ومشاكلتهم خاصة في أبواب العبادات أيضاً.
فهذا مستثنى، فإن إعادة الجماعة جائزة في جميع الصلوات، سواءٌ في ذلك صلاة الفجر إذا أقيمت وهو في المسجد، فإنه إذا سبق أن صلى فإنه يصلي معهم، وكذلك العصر إذا أقيمت وهو في المسجد وقد سبق أن صلى فإنه يصلي معهم، وكذلك المغرب إذا أقيمت وقد سبق أن صلى فإنه يصلي معهم ولو كانت ثلاثية، والدليل على ذلك أحاديث كثيرة جداً، منها: حديث أبي محجن وهو عند أحمد وغيره وهو حديث حسن، ومنها: حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه رضي الله عنه: ( أنه كان في مسجد الخيف في منى هو ورجل من قومه فصلى النبي صلى الله عليه وسلم الفجر فرآهما فأمر بهما، فجيء بهما تُرعد فرائصهما، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! صلينا في رحالنا، قال: إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما الإمام فصليا معه، فإنها لكما نافلة ) فأمرهما بالصلاة مع أنهما كانا في صلاة الفجر.
وكذلك في قصة الرجل الذي دخل والنبي صلى الله عليه وسلم قد صلى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من يتصدق على هذا فيصلي معه؟ ) دليل على أن الفجر والعصر وغيرها من الصلوات يعيدها الإنسان إذا أقيمت الجماعة وهو في المسجد، أو كان لذلك سبب مطلقاً.
وحديث يزيد بن الأسود حديث صحيح رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح. ورواه أبو داود والنسائي وأحمد وغيرهم من أهل العلم، وهو دليل على أن الجماعة إذا أقيمت وأنت في المسجد وقد صليت قبل فإنك تنضم إلى هذه الجماعة ولو كان وقت نهي كالفجر أو العصر، ومثله أيضاً بقية الصلوات الأخرى.
أي: بعد الطواف، فإنه يستحب للعبد أن يصليها كل وقت بعد العصر أو بعد الفجر وفي غيرهما من الأوقات، وما زال المسلمون يطوفون في هذه الأوقات ويصلون راتبة الفجر في مثل هذه الأزمنة المتطاولة، ولم يرد توقف عند الطواف في هذا الوقت، ولا ترك لركعتيه حتى ترتفع الشمس أو حتى تغرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه جبير بن مطعم : ( يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى -وفي رواية: وصلى- أية ساعة شاء من ليل أو نهار ) والحديث رواه الترمذي وقال: حسن صحيح، وهو كما قال . فقال: ( لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار ) .
التاسعة: قال: [والصلاة على الجنازة].
ذكره ابن المنذر إجماعاً أن الصلاة على الجنازة جائزة بعد الفجر وبعد العصر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أسرعوا بالجنازة، فإن كانت صالحة فخير تقدمونها إليه، وإن كانت غير ذلك فشر تضعونه عن رقابكم ) فدل على مشروعية إيقاع صلاة الجنازة بعد الفجر وبعد العصر، وما زال المسلمون أيضاً يصلون على الجنائز بعد هذه الأوقات من غير نكير.
العاشرة: [وقضاء السنن الرواتب في وقتين منه: بعد الفجر وبعد العصر].
وهذا اختيار المصنف رحمه الله تعالى كما هاهنا، ونقله عنه جماعة منهم ابن تيمية وغيرهم، حيث إنه رأى أن الرواتب لا تقضى إلا بعد الفجر وبعد العصر، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة منها حديث قيس بن قهد رضي الله عنه -بالقاف-: ( أنه صلى راتبة الفجر بعد صلاة الفجر وأقره على ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم )، كما جاء في ذلك حديث رواه أحمد وأبو داود وغيرهما، وصلى جماعة من الصحابة بعد الفجر ولم ينكر عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فدل على أن ذلك جائز، أما بعد العصر فقد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كما في حديث أم سلمة : ( أنه فاتته راتبة الظهر بسبب انشغاله بوفد عبد القيس، فصلاها بعد العصر في بيته )، كما في صحيح مسلم وغيره، فسألته أم سلمة فقال: ( إن وفد عبد القيس شغلوني عن الصلاة بعد الظهر فهما هاتان ) .
وقد جاء في حديث في سنده شيء أنها قالت: ( يا رسول الله! أنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا )، ولو صح لكان دليلاً على الخصوصية، لكنه لم يصح، فدل على أن ذلك عام، وهو الذي اختاره المصنف وغيره، وهو مذهب جيد وقول راجح: أن للإنسان أن يقضيهما.
ومن المعلوم أن الرواتب تصلى في البيت، فكذلك قضاؤها يكون في البيت، فإذا فاتت الإنسان سنة الفجر قضاها بعد الصلاة، وإذا فاتته راتبة الظهر قضاها بعد العصر أيضاً.
ولو قضى الرواتب في غير هذين الوقتين جاز أيضاً، فإنها تقضى في سائر الأوقات، وإنما لم يذكروا وقت بزوغ الشمس ووقت غروبها ووقت الزوال؛ لأنها أوقات يسيرة جداً لا يضر التريث والانتظار والتأخير فيها.
الحادية عشرة: [ويجوز قضاء المفروضات].
يعني: في كل وقت بلا استثناء، سواء بعد الفجر، أو بعد العصر، أو وقت طلوع الشمس، أو زوالها أو غروبها، خلافاً لـأبي حنيفة رحمه الله؛ فإنه لا يرى ذلك إلا فريضة الوقت في يومها، والصواب: أن الصلوات المفروضات تقضى في كل حال وبكل وقت من غير استثناء، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك ) ولم يستثن من ذلك وقتاً من وقت، وقد صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في حديث أبي قتادة وقال: ( إنه ليس في النوم تفريط، إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى دخل وقت الصلاة الأخرى ).
والصواب: أنه يجوز قضاء الصلوات الفوائت المفروضات في كل وقت وبكل حال.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر