التطوع مأخوذ من الطاعة، وذلك لأن المصنف سوف يتحدث عن بعض الأعمال التي هي من الطاعات لكنها طاعات مستحبة أو مسنونة غير واجبة.
فالمقصود بالتطوع إذاً هو ما يعمله الإنسان من العبادات تقرباً من غير الفريضة، وهذا في الأصل يشمل نوافل الصلاة أو غيرها، لكن المقصود هنا نوافل الصلاة.
وقد ذكر الله تعالى هذا المعنى في القرآن الكريم كما في قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] فهذا يشمل التطوع في الحج، وكما في قوله تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ [التوبة:79] فهذا يشمل المتطوع في الصدقة والزكاة، وكذلك التطوع في الصلاة، جاء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( من صلى لله ثنتي عشرة ركعة تطوعاً من غير الفريضة )، فدل على أن المقصود بالتطوع: الأعمال المسنونة غير المفروضة، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة ما بين فريضة وتطوع، منها الصلوات المفروضات.
كم عدد ركعات الصلاة المفروضة؟ كم عددها؟ سبع عشرة ركعة، والباقي ثلاث وعشرون ركعة هي تطوع.
والعلماء إذا أطلقوا لفظ التطوع فهم يقصدون به كل الصلوات المشروعة من غير إلزام ولا إيجاب، ولكن بعض الفقهاء -كالشافعية- يقصدون بالتطوع معنىً خاصاً، وهو ما لم يرد فيه نقل بذاته، ما لم يرد فيه نص بذاته من السنن والمستحبات في الصلوات فهو عندهم تطوع، أما ما ورد فيه نقل خاص أو نص خاص -كالسنن الرواتب مثلاً أو الكسوف أو الخسوف- فقد يسمونها سنناً أو مستحبات، ولكنهم لا يسمونها تطوعاً.
وهذه السنن الرواتب تتعلق بالصلوات المفروضات، فهي قبلها أو بعدها، قبلها فتكون كالمقدمة والتمهيد لها، أو بعدها فتكون كالخاتمة لها، وفيها تهيؤ لصلاة الفريضة أو تكفير عما قد يكون في صلاة الفريضة من الخلل أو العيب أو النقص.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه السنن الرواتب بقوله وفعله وحث عليها، وجاء من ذكر النصوص في فضلها ما لم يرد في سواها، ولهذا ذهب أكثر أهل العلم إلى أن السنن الرواتب أفضل من جميع التطوعات الأخرى من قيام الليل أو من غيره، وذلك لما جاء فيها من الفضيلة والأجر والمحافظة عليها.
وقد أسلفت قبلاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة ما بين فرض ونفل، من ذلك السنن الرواتب التي هي ثنتي عشرة ركعة.
كما جاءت هذه الركعات من قوله صلى الله عليه وسلم، فقد قال كما في الحديث المتفق عليه: ( من حافظ على ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة )، وجاء ذلك من حديث ميمونة رضي الله عنها وعائشة وغيرهما.
وهذه الركعات الثنتا عشرة فيها أربع قبل الظهر وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر. فهذه اثنتا عشرة ركعة هي السنن الرواتب.
وقد ذهب جمهور أهل العلم إلى مشروعية هذه الركعات الثنتي عشرة، كما جاء في حديث عائشة وميمونة وغيرهما، وحديث ابن عمر يدخل فيها ضمناً، لأنه حفظ عشراً من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يمنع أن يكون لم يطلع على ما زاد على ذلك، واطلعت أمهات المؤمنين كـعائشة وميمونة على أكثر من هذا؛ لمعرفتهما بخصوصية أحوال النبي صلى الله عليه وسلم وما يفعله في بيته. هذا مذهب جمهور أهل العلم.
وخالف في ذلك الإمام مالك رحمه الله فكان لا يرى مزية أو خصوصية لهذه السنن الرواتب اللهم إلا الوتر وإلا ركعتي الفجر، ومذهب الجمهور هو الصحيح؛ أن هذه السنن الرواتب صلوات مستحبات فاضلات جاء فيها من الأحاديث والأقوال والفضائل ما لم يرد في غيرها، فأما الفعل فحديث ابن عمر أنه حفظها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: من فعله والله أعلم، وأما القول فكما في حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما، وكلاهما صحيح. فتستحب المحافظة على هذه الركعات، وألا يخل الإنسان بها.
بل بلغ من محافظة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليها أنه كانت إذا فاتته قضاها كما يقضي الصلاة المفروضة، فقد فاتته راتبة الظهر البعدية بسبب انشغاله بوفد عبد القيس استقبالهم ودعوتهم، فقضاها بعد العصر مع أنه وقت نهي، كما جاء في الصحيحين في حديث أم سلمة رضي الله عنها وغيرها، وكذلك فاتته راتبة الفجر فقضاها بعد طلوع الشمس.
فالمقصود أنه يقرأ الفاتحة ومعها سورة، لكنه كان يخففها، وما ذلك إلا لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي صلاة الليل ويطيل القيام، فإذا برق الفجر وبزغ صلى هاتين الركعتين الخفيفتين، اللتين تكونان كالتمهيد لصلاة الفجر التي كان صلى الله عليه وسلم يطيلها ويحسنها ويتأنق فيها، فهذه هي الحكمة في تخفيف هاتين الركعتين.
والمقصود أن فعل هاتين الركعتين في البيت أفضل من فعلها في المسجد، بل إن فعل جميع التطوعات في البيت أفضل منها في المسجد، إلا ما دل الدليل على مشروعيته في المسجد وهي أنواع.
ما يشرع فعله في المسجد: الأصل أن كل التطوعات تفعل في المسجد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المتفق عليه: ( أفضل صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة )، والباب الذي عندنا اليوم اسمه (باب صلاة التطوع)، إذاً: هو من غير المكتوبة، فالأفضل في هذا الباب أن يفعل في المسجد، كذا؟ لا، الأفضل أن يفعل في البيت.
يستثنى من ذلك مسائل مما يشرع فعله في المسجد: أولاً: صلاة الكسوف، أو نقول بشكل عام: ما تشرع له الجماعة، كالكسوف والخسوف والعيدين وغيرهما والجنازة.
الثاني: صلاة القدوم من السفر عند من يقول باستحبابها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ( كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين) كما في حديث كعب بن مالك المتفق عليه.
الثالث: صلاة ركعتين بعد ارتفاع الشمس لمن قعد في المسجد يذكر الله تعالى حتى ترتفع الشمس، فيستحب له أن يصلي بعد ذلك ركعتين خفيفتين قبل أن يخرج من المسجد.
الرابع: الركعتان بعد الطواف، ركعتا الطواف، فإن السنة فعلهما في المسجد خلف المقام، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وفعل.
الخامس: تحية المسجد؛ لأنها إنما تشرع لدخول المسجد لا غير.
السادس: الصلاة في مسجد قباء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من أتاه ماشياً وصلى فيه .. أنه صلى الله عليه وسلم (كان يأتي مسجد قباء كل سبت ويصلي فيه ركعتين)، وجاء في ذلك فضيلة كبيرة.
فهذه الصلوات وما شابهها تفعل في المساجد، أما ما سواها فالأصل أنها تفعل في البيوت، ومن ذلك فعل ركعتي السنة قبل الفجر في البيت كما سبق.
وصلاة هذه السنن في البيت فيها فوائد عديدة، منها: طرد الشياطين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان لا يدخل البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة ).
ومنها: نزول الملائكة.
ومنها: بعد البيوت عن مشابهة القبور، لقوله عليه السلام في حديث ابن عمر : ( صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبوراً ).
ومنها: البعد عن الرياء، وأن ذلك أقرب إلى الإخلاص وحضور القلب.
ومنها: تعويد الأهل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم، فإن الله تعالى جاعل من صلاة المرء في بيته خيراً ).
وذهب الأحناف إلى أنها واجب لكنه غير مفروض، هي واجب غير فريضة، فعندهم الواجب ما ثبت الأمر به من دون أن يكون ذلك أمراً قطعياً كالأمر في القرآن الكريم مثلاً، فهو عندهم واجب لكنه ليس مفروضاً. والصواب مذهب الجمهور؛ أن الوتر سنة في حق الأمة مؤكدة وليس بواجب عليهم.
وقال بعضهم: إنما هو واجب على حفظة القرآن وطلاب العلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فأوتروا يا أهل القرآن )، فخص أهل القرآن الذين هم حفاظ القرآن وتلاته وقراؤه والذين استدرجوه بين جنوبهم، فخصهم بهذا الأمر، وذلك حتى يتعاهدوا القرآن ويقرءوه ويرددوه لئلا ينسوه، والصواب أن قوله: ( يا أهل القرآن ) يعني: يا أهل الإسلام، فكل الأمة داخلة في هذا الأمر، وهو أمر استحباب لا أمر إيجاب؛ لأدلة كثيرة من أقواها وأشهرها قصة الأعرابي كما في الصحيحين، لما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( خمس صلوات، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا، إلا أن تطوع )، وهذا الحديث أيضاً يصلح أن يدخل في تعريف التطوع باب صلاة التطوع ( قال: لا، إلا أن تطوع )، فدل على أنه ما ليس بواجب فهو تطوع.
فإذا دخل وقت صلاة الفجر ذهبت عامة صلاة الليل والوتر، لكن يجوز للإنسان أن يقضي الوتر بعد طلوع الفجر وقبل الصلاة، ويقضيه بهيئته ثلاث ركعات كما ثبت ذلك عن جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم؛ أنهم كانوا يقضون الوتر إذا استيقظوا قبل الصلاة كما تقضى الصلوات الأخرى، فإذا استيقظ الإنسان بعد أذان الفجر ولم يوتر فإنه يوتر بثلاث ركعات قضاءً؛ لأن الوقت قد انتهى، ولكنه يقضيه على هيئته، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، لا كفارة لها إلا ذلك )، أو إذا استيقظ يعني. وجاء في حديث: ( من نام عن وتره فليصله إذا ذكر أو استيقظ ) وهو حديث رواه أهل السنن.
أما إذا لم يصل الوتر إلا بعد طلوع الشمس فإنه لا يقضيه بهيئته، لكنه يصليه مثنى مثنى؛ لأن هذا فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا غلبه على صلاة الليل نوم أو وجع صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة ).
إذاً: إن قضى الوتر قبل صلاة الفجر قضاه بهيئته ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة، فإن لم يقضه إلا بعد طلوع الشمس فإنه يصليه مثنى مثنى؛ أربعاً أو ستاً أو ثمانياً أو عشراً أو ثنتي عشرة ركعة، هذا أصح ما قيل، وعليه تجتمع الأدلة.
أما حديث النهي عن البتيراء فهو ضعيف، وعلى صحته فإنه يحمل على معنىً خاص؛ جمعاً بينه وبين الأحاديث الأخرى، فقد يحمل على النهي عن التنفل بركعة واحدة في سائر الأوقات في غير الوتر، أو يحمل على أن ذلك دليل على أفضلية ألا يقتصر على ركعة واحدة، بل أن يصلي ثلاثاً كما قال المصنف، وذلك أدنى الكمال أو ما أشبه ذلك.
قال: [وأكثره إحدى عشرة] أكثر الوتر إحدى عشرة ركعة، وهو الذي كان يحافظ عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في حديث عائشة المتفق عليه قالت: ( ما كان صلى الله عليه وسلم يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة ) وفي رواية: (على ثلاث عشرة ركعة)، فهذا أكثر الوتر، ويمكن أن يصليه بطرق مختلفة، فيمكن أن يصلي ثلاثاً، ويمكن أن يصلي خمساً أو سبعاً أو تسعاً أو إحدى عشرة ركعة، ويمكن أن يصلي هذه الركعات الإحدى عشرة بتسليم واحد، ويمكن أن يصليها بتسليمات مختلفة يسلم من كل ركعتين، ثم يوتر بواحدة أو ثلاث أو خمس أو سبع أو ما أشبه ذلك، وقد جاء ذلك كله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما جمع هذه الطرق أو عدداً منها الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في زاد المعاد وغيره من أهل العلم.
الصورة الأولى: أن يصلي الثلاث سرداً بتسليم واحد ولا يجلس بينها، بل يصليها سرداً، لا يجلس في التشهد بينها ولا يسلم بينها، وهذا نقل جماعة من أهل العلم الإجماع من الصحابة على جواز ذلك وفعله، وهو جائز عند جميع أهل العلم فيما أعلم أنه يجوز أن يصلي الوتر ثلاثاً، وهو داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي أيوب : ( من أحب أن يوتر بثلاث فليفعل )، والحديث رواه أبو داود وله شواهد.
الصورة الثانية: أن يجلس بعد الثنتين ويتشهد ولا يسلم ثم يقوم إلى الثالثة، فيكون ذلك كصلاة المغرب، وهذا نقل عن بعض السلف كـأنس بن مالك رضي الله عنه وغيره، وقال به بعضهم، وكرهه آخرون؛ لأن فيه تشبهاً بصلاة المغرب، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( لا تشبهوا بصلاة المغرب ).
الصورة الثالثة -وهي ما أشار إليه المؤلف-: أن يصلي ثلاث ركعات بتسليمتين، فيصلي ركعتين ثم يسلم ثم يصلي ركعة ثالثة، وهذا هو الذي استحبه الإمام أحمد وغيره وفعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم والصحابة، حتى كان ابن عمر يسلم بعد الثنتين، ويأمر ببعض حاجته ثم يصلي الركعة الثالثة، وذلك أفضل؛ لأن فيه زيادة عمل، وفصلاً بين الثنتين والواحدة، وهو أكثر المنقول عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعن صحابته رضوان الله تعالى عليهم، ولهذا كان ما اختاره المصنف صواباً من أن الثلاث بتسليمتين أفضل.
وكان يرفع يديه أيضاً كما في سنن البيهقي من حديث عمر رضي الله عنه بسند صحيح: (أنه كان يرفع يديه في قنوت الوتر).
وجاء ذلك من حديث الحسن رضي الله عنه عند الترمذي، قال: وهو أحسن ما روي في قنوت الوتر، وسنده جيد، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم علمه أن يقول بعدما يرفع رأسه من الركوع: ( اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت )، فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم الحسن، وهو أحسن ما يقال في القنوت، ولا مانع أن يزيد عليه من الدعاء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه في آخر التشهد، قال: ( ثم ليتخير من المسألة ما شاء )، وفي لفظ: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به )، فلا بأس أن يدعو الإنسان بما أحب من خير الدنيا والآخرة.
وكذلك جاء قنوت عمر رضي الله عنه، وهو ما يسمى بسورة الحفد، جاء من حديث أُبي رضي الله عنه وهو في مصحفه: (أن عمر رضي الله عنه كان يقنت بها: اللهم إنا نستعينك ونستهديك، ونؤمن بك ونتوكل عليك، ونثني عليك الخير كله، ونشكرك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك، اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق)، وقد أضاف إليها عمر رضي الله عنه: (اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ويحاربون أولياءك)، وذلك لأنه بعث البعوث إلى قتال النصارى في الشام الروم وغيرهم فناسب أن يدعو بهذا الدعاء، ففيه دليل على اختيار الدعاء المناسب للحال والمقام، فهذا هو القنوت.
وأيضاً: جاء في حديث علي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول آخر القنوت: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبعفوك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ) كما عند أبي داود وغيره وسنده جيد، ويدعو بين ذلك بما أحب، ويرفع يديه كما سبق.
ثم إذا رفع يديه وانتهى من الوتر هل يمسح بهما وجهه أو لا يفعل؟
جاء في ذلك حديثان حسنهما بعض أهل العلم، ولذلك قالوا باستحباب ذلك، وضعفهما آخرون فقالوا: لا يثبتان. والحديثان أقرب إلى الضعف، فلا يثبت مسح الوجه باليدين، لكن لو فعل أحد لم يكن عليه في ذلك حرج، ولا يقال: إن ذلك من البدع؛ لأنه جاء فيه أحاديث، فمن مسح فإنما تأول ثبوت هذه الأحاديث عنده، وقد ( مسح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجهه وجسمه بيديه لما أوى إلى فراشه، وقرأ: قل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق وقل أعوذ برب الناس )، ووضع يده على الموضع الذي يؤلمه، وقال: ( أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد وأحاذر ). فهذا له أصل في الشرع، فلا يقال ببدعية مسح الوجه باليدين، بل من فعله متأولاً ثبوت الأحاديث عنده فلا حرج عليه في ذلك إن شاء الله تعالى.
والأصل في التطوع المطلق أن يسلم فيه من كل ركعتين؛ لأن هذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو أكثر ما نقل عنه، أكثر ما نقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم وأكثر السنن، فتجد -مثلاً- صلاة تحية المسجد ركعتين، صلاة الكسوف ركعتين، الخسوف ركعتين، صلاة العيد ركعتين، الرواتب ركعتين ركعتين، صلاة الطواف ركعتين، صلاة الوضوء ركعتين، صلوات الضحى ركعتين ركعتين، صلاة الليل كان يصليهما مثنى مثنى كما سوف يأتي، وهكذا معظم التطوعات المنقولة عن النبي صلى الله عليه وسلم ركعتين ركعتين، ولهذا ذهب أكثر أهل العلم إلى أن الأفضل أن يتنفل الإنسان ركعتين ركعتين في الليل والنهار، ولو تطوع بأكثر من ذلك فسلم من أربع لم يكن عليه في ذلك حرج إن شاء الله تعالى لعدم النهي عن ذلك أيضاً.
وكيف نوفق بين هذا وبين ما ذكرناه قبل قليل من أن الرواتب أفضل؟
إما أن يقال: إن الرواتب أفضل ثم تأتي بعد ذلك صلاة الليل. أو يقال: حتى رواتب الليل أفضل من رواتب النهار، وصلاة الليل المطلقة أفضل من صلاة النهار المطلقة، وهذا هو القول المعتدل، أن يقال: إن الرواتب أفضل من مطلق صلاة الليل إلا الوتر، والرواتب الليلية أفضل من الرواتب النهارية -والله تعالى أعلم- لهذا الحديث: ( أفضل الصلاة بعد المكتوبة صلاة الليل )، قال: [وتطوع الليل أفضل من تطوع النهار].
وصلاة آخر الليل مشهودة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( تشهدها الملائكة وهي أفضل) .
والأقرب أن السنة أن يصلي ركعتين ركعتين، ولو صلى أربعاً جاز له ذلك في ليل أو في نهار لعدم الدليل على منع ذلك، والأصل في التطوع الجواز، وقد جاء في حديث ابن عمر رضي الله عنه: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، جاء في زيادة عند أهل السنن وأحمد وغيرهم: ( صلاة الليل والنهار مثنى مثنى )، فلفظة: (والنهار) هذه رواها أحمد وأهل السنن، وهي زيادة شاذة، سندها صحيح لكنها شاذة، فقد روى الحديث عن ابن عمر نحو ست عشرة نفساً كلهم رووه عنه: (صلاة الليل مثنى مثنى)، إلا علي بن عبد الله الأزدي البارقي فإنه زاد هذه اللفظة: (والنهار مثنى مثنى) فشذ بها من بين جميع الرواة، وخالفه في ذلك خمسة عشر راوياً فلم يذكروا هذه اللفظة، ولهذا حكم الأئمة المتقدمون الكبار الجهابذة بأنها زيادة شاذة وإن صح إسنادها، ولا عبرة بمن صححها اغتراراً بظاهر الإسناد.
ويجوز أن يصلي قاعداً حتى من غير عذر بالنسبة للنفل التطوع إجماعاً، يجوز له أن يصلي قاعداً إجماعاً، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري : ( من صلى قائماً فهو أفضل، ومن صلى قاعداً فله نصف أجر القائم ).
أما قوله عليه السلام لعمران : ( صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب ) فهذا في الفريضة. وقالت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنه لم يمت حتى كان كثير من صلاته وهو جالس بعدما أسن وثقل )، صلى الله عليه وآله وسلم، وكان ربما قرأ جالساً فعند الركوع قام فركع عن قيام، ويجوز أن يركع ويسجد وهو جالس، يومئ بالركوع ثم يسجد سجوداً تاماً كالمعتاد.
فإذا صلى قاعداً فكيف يفعل؟ قيل: يجلس كجلوسه في الصلاة. وقيل: يتربع، يصلي متربعاً كما جاء عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى متربعاً ) وهو في سنن النسائي .
طيب. إذاً: المسألة التاسعة عشرة: [ما تسن له الجماعة] وما تسن له الجماعة يسن له المسجد غالباً كما سبق في صلاة الكسوف والخسوف، فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها في المسجد، ومنها ما لا يسن له المسجد كصلاة الجنازة، فإنه يسن لها الجماعة ولا يسن لها المسجد، فلو صلاها في غير المسجد جاز ذلك، ولم تكن صلاة الجنازة تصلى في المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولهذا لما طلبت عائشة جنازة أن توضع في المسجد تصلي عليها فاستغرب الناس فقالت: ( ما أسرع ما نسي الناس! ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على
وكذلك العيد صلاها النبي صلى الله عليه وسلم في الجبانة في الصحراء، خارج المدينة.
والمقصود أن ما يسن له الجماعة من التطوعات منها ما يسن له المسجد كالعيدين عند من يقول بسنيتهما، وصلاة الكسوف والخسوف ونحوها، ومنها ما لا يسن له المسجد بعينه بل تصلى في أي مكان.
الحادية والعشرون: قال: [وهي عشرون ركعة بعد العشاء في رمضان] لأن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم عشرين ركعة كما نقل ذلك من حديث السائب بن يزيد، وسنده صحيح. وجاء في رواية أخرى إسنادها صحيح أيضاً عند البيهقي وغيره أنه جمعهم على عشر ركعات، وإن قال بعضهم: إن هذه الرواية شاذة.
على كل حال! صلاة القيام في رمضان هي من النوافل المطلقة، فإن صلى عشرين ركعة بعشر تسليمات جاز، وإن صلى أكثر من ذلك جاز. وقال بعضهم: ستاً وثلاثين ركعة، وقيل: أربعين ركعة، وقيل أكثر من ذلك، ولكن إن صلى واقتصر على ما جاء في الحديث المتفق عليه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم: ( ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ) كان هذا هو الأولى والأقرب إلى إصابة السنة، خاصة أنه إذا صلى إحدى عشرة أو ثلاث عشرة فإنه سوف يطيلها ويتأنق فيها ويتم ركوعها وسجودها، ويكون ذلك أيضاً خفيفاً على الناس بحيث يصلون الصلاة كلها، ويحضرون الوتر مع الإمام، ولو زاد على ذلك لم يكن فيه حرج ولا مخالفة للسنة، لأن النبي عليه السلام لما سأله الأعرابي: ( كيف ترى في صلاة الليل؟ قال: مثنى مثنى )، يعني: ما دمت تصلي وتسلم من كل ركعتين فصل ما شئت، ولو صلى خمسين أو ستين لم يكن عليه في ذلك حرج، وقد كان من السلف من يصلي ستين ركعة، ومنهم من يصلي مائة ركعة.
وقد كسفت الشمس على عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة، وقيل: أكثر من ذلك، والأقرب أن الكسوف كان مرة واحدة، لأن معظم الروايات تتفق على ذلك؛ أنها كسفت يوم موت إبراهيم بن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الناس: ( انكسفت لموت
المقصود أن صلاة الكسوف مشروعة، وقد صلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأمر بها فقال: ( إذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم ) أي: يزول.
قال: [فإذا كسفت الشمس أو القمر فزع الناس إلى الصلاة] للحديث السابق، وقال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، ولهذا ذهب جماعة من أهل العلم إلى مشروعية صلاة الآيات، يعني: الكسوف منها، والخسوف منها، ومثلها صلاة الزلزلة -مثلاً- أو البراكين أو أي آية تقع في الناس من الأمور الخارقة والمخالفة للمألوف، فإنه يشرع للناس أن يفزعوا فيها إلى الصلاة، وهذا هو اللائق المناسب بالمعاني المعتبرة في الشرع: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، وكذلك قال عليه السلام: ( إذا رأيتم شيئاً من ذلك فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم ).
وأما قوله: [إن أحبوا جماعة] فإن ذلك هو الأفضل، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عائشة، كما في الصحيحين: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( خرج حينما كسفت الشمس، فبعث منادياً ينادي: الصلاةَ جامعة، الصلاةَ جامعة ) ويجوز: (الصلاةُ جامعة) أيضاً (الصلاةَ) يعني: احضروا الصلاة، ويجوز: (الصلاةُ) مبتدأ، ( وخرج إلى المسجد فصف الناس وراءه، وصلى بهم ركعتين بأربع ركوعات وأربع سجدات )، وكذلك حديث أسماء الطويل في البخاري وهو معروف، يعني: حديث عائشة في قصة أسماء رضي الله عنها.
المهم أنه فعله النبي صلى الله عليه وسلم وصلى بهم جماعة، فالسنة أن يصلوا جماعة، لكن لو صلوا فرادى جاز، أو من فاتته صلاة الجماعة ولم يزل الأمر استحب لهم أن يصلوا فرادى.
ومن فاتته ركعة منها كيف يقضيها؟
يقضيها بهيئتها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فليصلها إذا ذكرها )، فيقضيها بركوعين كما فعل الإمام، هذه صفة صلاة الكسوف، وهي أصح ما ورد.
وقد جاء في صحيح مسلم أيضاً عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلاها بثلاث ركوعات وأربع ركوعات وخمس ركوعات، يعني: في كل ركعة، ولكن الأقرب أن ذلك -والله تعالى أعلم- فيه نظر؛ لأن الغالب أن الكسوف حصل مرة، وصلاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مرة، فيحمل ما سوى ذلك على ضرب من التأويل أو الترجيح، ويقال: السنة الثابتة أنه صلى ركوعين في كل ركعة، والظاهر أن النبي عليه السلام صلى صلاة الكسوف مرة واحدة.
والاستسقاء مشروع بالصلاة أو غيرها، وقد استسقى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر كما في حديث أنس في الصحيحين: (لما جاء الأعرابي وسأل النبي صلى الله عليه وسلم، طلب منه أن يستسقي وقال: إن البلاد قد أجدبت، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وقال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. فما نزل من المنبر -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وآله وسلم- إلا والمطر يتحادر من لحيته، قال: فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً ) يعني: أسبوعاً كاملاً، ( ثم دخل رجل من الباب نفسه وقال: يا رسول الله! انقطعت الطرق وكثرت الأمطار، فادع الله يمسكها عنا، فرفع يديه إلى السماء وقال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، فانقشعت وخرجوا يمشون في الشمس ).
وقد استسقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واستسقى بأصحابه، وكذلك لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم خرج الناس، فقام عمر وقال: (اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بالعباس، قم يا عباس قم يا عم رسول الله. فقام العباس ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة. ثم توسل إلى الله تعالى ودعا واستغاث وبكى وبكى الناس، فسقوا) كما قال حسان:
خرج الإمام وقد تتابع جدبنا فسقى الإمام بغرة العباس
والتوسل المقصود هنا التوسل بدعائه لا غير كما هو ظاهر من السياق.
وقال أبو طالب في مدح النبي صلى الله عليه وسلم:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يعوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في خيرة وفواضل
وقد جاء في حديث طريف عند أهل السنن وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم ( ذكر أن سليمان خرج يستسقي فوجد نملة على ظهرها تستسقي وهو خرج بقومه، فقال: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ) وذهبت هذه الكلمة مثلاً.
فالمعنى: أنه يخطب خطبة تناسب المقام، وليست كخطبة الجمعة، ولو خطب خطبتين فلا حرج أيضاً؛ لأن ذلك جائز على أقل الأحوال، وبعضهم يرى أنه مستحب وأن الخطبة كخطبة الجمعة.
قال: [ويكثر فيها] يعني: الخطبة [من الاستغفار وتلاوة الآيات التي فيها الأمر به] الأمر بالاستغفار، كقوله تعالى: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا [نوح:10-11]، وهذه الآية مناسبة لواقع الحال حيث طلب السقيا، وقوله: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [هود:3].
وقال بعضهم: يؤمرون أن ينفردوا بحيث إذا نزل بهم بلاء أو عقاب لم يشمل المسلمين معهم.
وسجود التلاوة وما سبق إنما وضعه المصنف بناءً على اختياره، ومثله أيضاً صلاة الكسوف وغيرها بناءً على الاختيار أن هذا كله من النوافل، وهو كذلك، وإن كان هناك من أهل العلم من يذهب إلى أن بعض هذه الأشياء واجبات وليست نوافل، لكن المؤلف جعلها في باب التطوع بناءً على اختياره أنها نوافل، والأمر كما ذهب إليه رحمه الله؛ أن هذه الأشياء كلها نوافل ليس شيء منها واجباً، ومن ذلك سجود التلاوة فهو تطوع كما سوف أذكره بعد قليل.
في آخر الأعراف سجدة، في قوله: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ [الأعراف:206].
في سورة الرعد: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الرعد:15].
الثالثة: النحل، في قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:49-50].
الرابعة: سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:107-109].
الخامسة: في مريم، في قوله تعالى: إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا [مريم:58].
السادسة: في الحج، نعم. في الحج ثنتان، الأولى في قوله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ [الحج:18] إلى آخر الآية. الثانية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77].
الثامنة: في سورة الفرقان، في قوله تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا [الفرقان:60].
التاسعة قبل السجدة، في سورة النمل، في قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ [النمل:25].
العاشرة في سورة السجدة، (الم تنزيل السجدة)، في قوله تعالى: إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا [السجدة:15]. كم ذكرنا؟ العاشر الآن؟ عشر.
الحادية عشرة: في سورة النجم، في قوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [النجم:62].
نعم، فصلت. الحادية عشرة؟ لا، في سورة فصلت، في قوله تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، يسجد عند هذا الموضع كما صح ذلك عن عمر، ومناسبة السجدة التي قبلها.
الثانية عشرة: السجدة كما ذكرنا، (الم تنزيل السجدة).
الثالثة عشرة: الانشقاق: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ .
الرابعة عشرة: العلق، (اقرأ) في قوله: وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ [العلق:19].
هذه كم؟ أربع عشرة سجدة، والمؤلف قال كم؟ قال: [فيها أربع عشرة سجدة]، هي ما ذكرنا. وهذه رواية في مذهب الإمام أحمد وغيره أن السجدات أربع عشرة، وهو قول عند الإمام الشافعي ومالك وغيره.
الرواية الثانية عند أحمد -وهو مذهب مالك وهو الصحيح- أن السجدات خمس عشرة.
الخامسة عشرة ما هي؟ هي سجدة (ص) عند قوله تعالى: وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ [ص:24]، وهو أيضاً مذهب أبي حنيفة، ولهذا يستحبون السجود أو حتى الركوع عند هذه الآية؛ لأنه قال: وَخَرَّ رَاكِعًا [ص:24].
فالسجدات خمس عشرة سجدة، وإنما لم يذكر بعضهم سجدة (ص) لأن ابن عباس قال: [ليست من عزائم السجود]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنها توبة نبي سجد ) مرة، والمرة الأخرى ( رآهم تهيئوا للسجود فسجد وقال: رأيتكم تهيأتم فسجدت، وإنما هي توبة نبي سجدها داود شكراً )، هكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عباس قال: [ ليست من عزائم السجود (ص) ]، فبعضهم حمل هذا على أنه لا يسجد فيها، والواقع أن قوله: [ ليست من عزائم السجود ] يدل على أن غيرها آكد منها، ولكن السجود كله أصلاً ليس واجباً، وكونها توبة نبي لا يمنع أن يسجد فيها، فهل سجد النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً لتوبة آدم؟ هل سجد النبي صلى الله عليه وسلم لتوبة يونس؟ لا، إنما سجد لتوبة داود بمناسبة قوله: وَخَرَّ رَاكِعًا [ص:24].
وكونه سجدها شكراً -داود عليه السلام- لا يمنع أن نسجدها نحن أيضاً شكراً لله تعالى على توبته على نبيه، وطلباً للتوبة أيضاً وسجوداً عند هذا الموضع، فالصواب أنها موضع يستحب السجود فيه في الصلاة وفي غيرها.
المسألة الثالثة والثلاثون: قال: [في الحج منها اثنتان] كما سبق بيان موضعهما، وقد جاء ذلك في حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عقبة بن عامر وحديث عمرو بن العاص، وفي حديث عقبة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعم -يعني: في الحج اثنتان- فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) والحديث رواه أبو داود وأحمد، وإسناده لا بأس به، قال: ( فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما ) وهذا دليل على آكديتهما.
وماذا يقول إذا سجد؟ أولاً: يقول مثلما في السجود المعتاد: سبحان ربي الأعلى، سبوح قدوس، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي، وما أشبه ذلك مما يقال في سجود الصلاة.
ومما يستحب أن يقال في سجود التلاوة كما جاء في الحديث الصحيح: ( اللهم اكتب لي بها عندك أجراً، وضع عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، وأدخلني بها الجنة )، وكذلك من الدعاء الوارد الثابت أن يقول: ( سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره، تبارك الله أحسن الخالقين ).
قال في المسألة السادسة والثلاثين: [وإذا رفع رأسه] أي: استحب له أن يكبر، وهذا لم يثبت فيه شيء، ولهذا قال الإمام أحمد: [ما أدري ما التكبير، ما أدري ما التسليم]. قال بعض أهل العلم: لا يشرع له التكبير، وقال أكثرهم -وهو رواية في المذهب-: يستحب له أن يكبر إذا رفع. والدليل على مشروعية التكبير إذا رفع قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي مضى معنا: ( تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم )، فقالوا: وكذلك تكبيرات الانتقال، قالوا: هي تكبير لانتقال أو ذكر لانتقال، فاستحب له أن يكبر.
قال ابن القيم : لو لم يرد فيها نص لكان القياس يقتضيها ويدل عليها. فيستحب للإنسان إذا تجددت له نعمة أن يسجد لله تعالى ويشكر الله تعالى على نعمته، والله تعالى أعلم.
في الغد إن شاء الله عندنا باب ساعات النهي وعندنا باب الإمامة، لا يتسع الوقت للأسئلة، فدعوها معكم للغد إن شاء الله تعالى، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر