قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب: الغسل من الجنابة ].
والغُسل بضم الغين، (الغُسل): اغتسل يغتسل اغتسالاً وغسلاً، فهو اسم مصدر مأخوذ من الفعل اللازم: اغتسل يغتسل اغتسالاً وغسلاً بضم الغين.
أما بفتحها (الغَسل) فهو مأخوذ من الفعل المتعدي تقول: غسله يغسله غسلاً، تقول مثلاً: غسل رأسه يغسله غسلاً، بفتح الغين، هذا هو الغالب، ولذلك يقال: الغَسل للشيء المتعدي، غسل رأسه مثلاً، ويقال: (الغُسل) بالضم للأمر اللازم، كما تقول: اغتسل اغتسالاً وغسلاً.
والغسل: هو تعميم البدن بالماء بنية، وقول المؤلف رحمه الله تعالى: باب: الغسل من الجنابة المقصود بالجنابة هو: ما يوجب الطهارة الكبرى، وقد يقال: إن المقصود بالجنابة أحد الأمرين: إما خروج المني أو التقاء الختانين؛ لأنه قد يوجب الطهارة الكبرى ما ليس بجنابة كما سوف يأتي بعد قليل.
وإنما سميت الجنابة جنابة؛ لأنها توجب للإنسان أن يجتنب ويبتعد أماكن العبادة، وكذلك يبتعد عن العبادات التي تشترط لها الطهارة: كالصلاة والطواف وقراءة القرآن ونحوها، يقال: رجل جنب وامرأة جنب ورجال جنب ورجلان جنب، فهو اسم لا يتغير في المفرد والمثنى والجمع والمذكر والمؤنث، وقد يتغير فيقال: رجل جنب ورجلان جنبان ورجال جنبون .. وهكذا، ولكن الأول هو المشهور عند أهل اللغة، وهو الأكثر في الاستعمال.
وهذا يدل على أن هناك غسلاً واجباً وغسلاً غير واجب، فبدأ المصنف رحمه الله تعالى بالغسل الواجب، فنقول: الغسل قسمان: واجب ومستحب.
فأما الواجب فهو أربعة أقسام: أولها الغسل من الجنابة كما ذكر المصنف رحمه الله في ترجمة الباب، في عنوان الباب: الغسل من الجنابة؛ لقول الله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة:6]، وقال تعالى: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا [النساء:43]، وكذلك قال جل وعز: وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43]، فذكر الطهارة الصغرى والكبرى، ثم قال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43]، والمقصود بالجنابة الأمران اللذان ذكرهما المصنف، وهما: خروج المني والتقاء الختانين هذا أولاً.
الغسل الثاني الواجب: هو غسل الحيض، والنفاس مثله أيضاً، ولذلك الله تعالى قال: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222] ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222]، إذاً: ذكر في الآية شيئين، قال: وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة:222]، فما المقصود بالطهر هاهنا؟
المقصود بالطهر هنا هو الطهارة من الحيض بانقطاع الدم أو رؤية القصة البيضاء، ثم قال: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222]، فذكر العمل الذي تقوم به المرأة بنفسها وهو التطهر، والمقصود به هاهنا الغسل، ولهذا استدل بالآية على أن الرجل لا يجوز له أن يجامع زوجته إذا طهرت من الحيض حتى تغتسل: فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [البقرة:222].
وفي مسلم : أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لبعض زوجاته أمرها إذا طهرت ألا تطوف بالبيت حتى تطهر، في قصة عائشة لما حاضت قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ( ولا تطوفي بالبيت حتى تطهري )، وفي رواية لـمسلم قال: ( حتى تغتسلي )، فدل على أنه لابد من الغسل من الحيض.
الثالث في الغسل الواجب: هو غسل الميت، وبالنسبة لغسل الميت هل يعبر عنه بالضم على الأغلب، فيقال: غُسل الميت، أو يعبر عنه بالفتح، فيقال: غَسل الميت على حسب القاعدة اللغوية التي ذكرتها في مطلع الكلام؟ أيهما أقوى أن يقال: غُسل الميت، أو غَسل الميت؟
غَسل الميت بالفتح، لماذا؟ لأنه فعل متعد، تقول: الميت هل هو يغسل نفسه، يقال: اغتسل الميت اغتسالاً وغسلاً أو يغسله غيره؟
يغسله غيره، ولهذا يعبر عنه بالضم؛ لأنه من غَسل رأسه، وغَسل الشيء غسلاً، فهو بالفتح أرجح وأصح.
وغُسل الميت ما هو الدليل على وجوبه؟ ولا أظن في المسألة خلافاً، لكن الدليل من السنة على غسل الميت قول النبي صلى الله عليه وسلم في شأن الرجل الذي وقصته دابته بعرفة -والحديث متفق عليه-: (اغسلوه بماء وسدر ).
ومن الأدلة أيضاً قول النبي عليه الصلاة والسلام لـأم عطية ومن معها من النساء: ( اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً أو أكثر من ذلك إن رأيتن ذلك بماء وسدر ) إلى آخر الحديث، فهذا دليل على وجوب غسل الميت.
الغسل الرابع الواجب هو الغسل للدخول في الإسلام، وهذا هو المنصوص في مذهب الحنابلة، المنصوص من كلام الإمام أحمد أنه يجب على من دخل في الإسلام أن يغتسل سواء ارتد ثم عاد إلى الدين أو كان كافراً أصلياً دخل في الإسلام، فالمنصوص من المذهب أنه يجب عليه الغسل مطلقاً؛ وقولنا مطلقاً: يعني سواء أجنب في كفره قبل الإسلام أو لم يجنب، وسواء اغتسل أو لم يغتسل فإنه يجب عليه الغسل مطلقاً عند الحنابلة، واستدلوا لذلك بأدلة منها حديث قيس بن عاصم : ( لما أسلم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر )، وحديث قيس رواه أبو داود وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح، وصححه جماعة، قال النووي : هذا حديث حسن أيضاً، وقال ابن المنذر : هذا حديث ثابت.
فاحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل بماء وسدر، ومثله أيضاً حديث ثمامة بن أثال وأصله في الصحيح، ولكن عند أحمد وفي مصنف عبد الرزاق : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يغتسل ) وإلا فأصل الحديث في صحيح البخاري، فهذا دليل من قال بوجوب الاغتسال على من أسلم مطلقاً.
والقول الثاني: أنه لا غسل عليه مطلقاً، يعني: سواءً أجنب قبل الإسلام أم لم يجنب لا يجب عليه غسل، وهذا مذهب أبي حنيفة، واستدلوا بأن الإسلام يجب ما قبله، كما في حديث عمرو بن العاص وهو في صحيح مسلم : ( أن الإسلام يجب ما قبله، والتوبة تجب ما قبلها )، فالإسلام يكفر عنه كل شيء.
والقول الثالث: التفصيل وهو مذهب الشافعية، قالوا: إن أجنب في حال كفره وجب عليه إذا أسلم أن يغتسل، ولا يجزئه لو كان اغتسل في الجاهلية؛ لأن ذلك الغسل ليس غسلاً شرعياً يرفع الحدث، وإن لم يجنب فلا غسل عليه، واختار الإمام ابن تيمية رحمه الله -كما في الاختيارات -: أنه إن أجنب ثم اغتسل في حال كفره ناوياً بذلك رفع الحدث ارتفع حدثه ولا يجب عليه أن يغتسل وإلا وجب عليه الغسل.
هذه هي الأقوال المشهورة في مسألة الاغتسال، والظاهر -والله تعالى أعلم- أنه لا يجب الغسل على من أسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسلم في زمنه الخلق الكثير الذين يعدون بعشرات الألوف من الصحابة رضي الله عنهم، وكلهم قارفوا في حال جاهليتهم وكفرهم ولم يؤمر أحد منهم بالاغتسال، اللهم إلا أن يكون قارف في حال كفره ما يوجب الاغتسال، فحينئذ يؤمر بالاغتسال له لا لكونه كان كافراً؛ لأن -مثلاً- الجنابة موجبة للطهارة، سواءً كان في حال إسلامه أو كفره، فإذا أسلم وجب عليه أن يغتسل ويرفع حدثه الأول، أما إن لم يرتكب ما يوجب الطهارة الكبرى فلا غسل عليه.
هذه هي الأشياء الأربعة الموجبة للغسل، أما الغسل المستحب فسوف يأتي في آخر المجلس.
يعني هذا هو الموجب، وعرف المني بأنه هو الماء الدافق؛ والدليل على أن ذلك موجب للغسل قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن أبي سعيد الخدري : ( إنما الماء من الماء )، ما هو المقصود بالماء؟
الماء الأول ماء الاغتسال، والماء الثاني ماء المني، ( إنما الماء من الماء )، وهذا كما يقول البلاغيون: فيه جناس تام، يعني: استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم لفظاً واحداً لمعنيين مختلفين، فالماء الأول هو ماء الطهارة.. ماء الغسل، والماء الثاني هو الماء الذي يخرج من الإنسان وهو المني.
ويشترط لكون خروج المني موجباً للغسل أن يخرج بشهوة، فلو خرج لغير شهوة، كما إذا خرج مثلاً لمرض أو لأبردة، وهو شيء يصيب الإنسان في جوفه فيتسبب في خروج المني منه فإنه لا غسل عليه حينئذ في المشهور من مذهب الحنابلة، وهو الراجح إن شاء الله تعالى، وكذلك إذا كان الماء -أعني: المني- خرج من غير دفق، والغالب أن الدفق ملازم للشهوة، فإنه إذا خرج من غير دفق لا يوجب الغسل، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال له: ( إذا حذفت الماء فاغتسل )، وحديث علي رواه أحمد في مسنده، وسنده حسن، فقوله: ( إذا حذفت الماء ) يعني: قذفته، وهذا إشارة إلى الدفق، كونه دافقاً، ولا يكون الماء دافقاً إلا إذا خرج لشهوة، أما لو خرج لمرض أو أبردة أو غير ذلك فإنه لا يكون دافقاً، بل يخرج من غير دفق، وإذا خرج الماء -أعني: المني- في حال النوم فهل يوجب غسلاً؟
نعم يوجب غسلاً إذا خرج في حال النوم، وهو ما يسمى بالاحتلام، فإنه يوجب الغسل عند جميع أهل العلم، والدليل على ذلك ما روته أم سلمة : ( أن
أولاً: الإجماع، فإن الإجماع انعقد قبله على وجوب الغسل من خروج المني حال النوم.
الثاني: الحديث السابق فإنه صريح في أن الإنسان إذا رأى الماء في منامه فإنه يجب عليه الاغتسال.
سؤال: إنسان رأى في منامه أنه جامع، ثم استيقظ فلم يجد بللاً، فماذا عليه؟
ليس عليه شيء، قولاً واحداً.
سؤال آخر: إنسان لا يذكر احتلاماً، ولكنه استيقظ فرأى أثر المني على بدنه وثيابه فماذا عليه؟
عليه أن يغتسل، أيضاً قولاً واحداً وبإجماع أهل العلم.
سؤال ثالث: إنسان استيقظ فرأى على ثيابه رطوبة لا يدري ما هي، لم يتيقن أنها مني أو غيره، فماذا عليه؟
نقول: ليس عليه غسل؛ لأن الأصل براءة الذمة ولا نقول بإيجاب الغسل إلا بيقين.
إذاً: هذا هو الموجب الأول، وهو خروج المني، وهو الماء الدافق كما قال المصنف.
وإنما كان التقاء الختانين موجباً للغسل؛ لما رواه أبو هريرة وأخرجه الشيخان رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل )، وفي لفظ: ( وإن لم ينزل )، فمجرد التقاء الختانين موجب للغسل حتى ولو لم يكن ثَمَّ إنزال، وما معنى التقاء الختانين، هل معناه أن يلامس الختان الختان؟ هل معنى التقاء الختانين يعني: ختان الذكر وختان الأنثى أن يلامس أحدهما الآخر، هل هذا هو المعنى؟
ليس معنى التقاء الختانين أن يلامس أحدهما الآخر، وإنما المعنى عند جميع أهل العلم أن يجاوز الختان الختان، ولهذا جاء في لفظ للحديث: ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل )، أما مجرد الملامسة فلا توجب غسلاً عند جميع المسلمين، وهذا من الأحكام التي تخفى على كثير من الناس، إنما الذي يوجب الغسل هو تغييب الحشفة، إذا غيّب الحشفة في فرج المرأة أو في غيره وجب عليه الغسل وعليها أيضاً، أما مجرد الملامسة كما قد يفهم من قوله: ( إذا التقى الختانان )، فلا يوجب غسلاً.
ومثله أيضاً لو غيب جزءاً من الحشفة فإن ذلك لا يوجب الغسل إلا على رأي ضعيف مرجوح، والصواب أنه لا غسل إلا بتغييب الحشفة كلها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر: ( إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل ).
الجواب مكون من جزأين:
الأول: أن نقول: إن أحد الحديثين ناسخ للآخر، فأول الأمر: ( إنما الماء من الماء ) وكان في أول الإسلام لا يجب الغسل إلا بالإنزال، فلو أنه جامع امرأته ولم ينزل لم يجب عليه غسل، هذا كان في أول الإسلام، ثم نسخ هذا الحكم بالحكم الجديد، وهو: إيجاب الغسل بمجرد الإيلاج ولو لم يكن إنزال، وهذا هو المشهور عند أكثر أهل العلم.
الجواب الثاني: وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنه أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما الماء من الماء ) خاص بحال الاحتلام، فإنه من المعلوم أن الإنسان النائم لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنزل وخرج منه الماء.
فمن مجموع الأمرين يتكون الجواب وهو الجمع بين الحديثين.
وقد يقال: إن قوله: ( إنما الماء من الماء ) يعني: وإن كان هذا فيه الحصر في قوله: (إنما)، فيه الحصر، فهو صريح في حصر إيجاب الغسل بخروج الماء، وقد يقال: إنه مفهوم، وذلك الحديث الآخر منطوق فهو مقدم عليه، فهذا جواب ثالث وهو جيد أيضاً لا بأس أن يدرج.
إذاً: ذكر المصنف رحمه الله من موجبات الغسل اثنين:
الأول: خروج المني، وهو الماء الدافق.
والثاني: وهو التقاء الختانين، ولم يكمل ما بقي من موجبات الغسل كما أنه لم يكمل ما يتعلق بالأغسال المستحبة، فأما بقية الموجبات فذكرتها سابقاً، وأما الأغسال المستحبة فسوف أذكرها إن شاء الله تعالى.
إنما لو نوى غسلاً مسنوناً فهل يجزئه عن الواجب، أي: أنه لو نسي أن عليه جنابة واغتسل بنية غسل الجمعة فهل يجزئه ذلك عن الغسل الواجب؟
روايتان في المذهب، قيل: يجزئه ذلك وهو الذي ذكره صاحب الزاد وغيره: وإن نوى غسلاً مسنوناً أجزأ عن واجب وكذا عكسه، وقيل: لا يجزئه لأنه لم ينو رفع الحدث بذلك. والله تعالى أعلم.
الوجه الثاني: أن داخل الفم وداخل الأنف من ظاهر البدن الذي يجب غسله، كما سبق أن بينت ذلك في موضعه.
ثم إنه جاء في السنة ما يدل على ذلك كما في حديث علي رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا، قال
قال الحافظ ابن حجر : وإسناده صحيح، وهو من رواية حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب، وقد روى عنه وهو مختلط، ولكن هذا الحديث رُوي عنه قبل أن يختلط، ولذلك فإن القواعد والأصول أن هذا الحديث صحيح كما صححه ابن حجر وغيره، ولكن قال الحافظ : قيل إنه موقوف على علي رضي الله عنه.
وأقول: حتى ولو كان الحديث موقوفاً على علي رضي الله عنه فإنه في حكم المرفوع؛ لأن فيه وعيداً، والوعيد لا يكون إلا بتوقيف، أي: أن علياً رضي الله عنه لا يجرؤ على ذكر وعيد على خطأ إلا ويكون سمعه من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن ذلك مما لا يقال بالرأي، فإنه يقول: ( من ترك موضع شعرة من الجنابة عذبه الله بالنار كذا وكذا )، يعني: ذكر وعيداً نسيه الراوي رحمه الله.
إذاً: الظاهر أن الحديث متصل مرفوع صحيح الإسناد، وهو دليل على وجوب غسل أصول الشعر، وعلى وجوب إيصال الماء إلى الأنف؛ لأن في الأنف شعراً، ومثل ذلك الفم أيضاً، وهناك أدلةٌ أخرى غير هذه.
المقصود: أن المضمضة والاستنشاق واجب في الغسل كما هي واجب في الوضوء، وهذا أيضاً أحد الأقوال في المسألة، وقد سبق أن ذكرت غير ذلك في باب الوضوء.
فذكر المسنونات وأولها التسمية؛ لما سبق في الوضوء، فإنها إذا كانت مسنونة في الطهارة الصغرى فهي مسنونة أيضاً في الطهارة الكبرى؛ وذلك لأن الصغرى تدخل في الكبرى كما عُلم.
فأما الدلك فقال بعضهم: واجب، وهو قول في مذهب الحنابلة، وقيل: ليس بواجب وهو قول الجمهور، وهو الصحيح؛ أن الدلك ليس بواجب، وإنما هو يكون لتروية الشعر، ويكون لإسباغ الغسل والوضوء، فإذا تم ذلك بغير الدلك أجزأ، فأما الدليل على مشروعية الدلك باليد فما جاء عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث أسماء الذي رواه مسلم لما ذكر لها صفة الغسل قال عليه الصلاة والسلام: ( فتدلك دلكاً شديداً )؛ يعني: شعرها تدلكه بيدها؛ وذلك لأن الشعر يحتاج إلى الدلك حتى يبلغه الماء ويصل إلى أصوله، فهو مطلوب لا لذاته ولكن للإسباغ، وقد ذهب الجمهور -كما أسلفت- إلى عدم الوجوب، وهو الصحيح أن الدلك ليس بواجب، ولكنه يكون إذا احتيج إليه للإسباغ، فهذا قوله: [ ويدلك بدنه بيده ].
وهاهنا سؤال: لماذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بغسل الفرج؟
لأنه سيتوضأ وضوءه للصلاة، فبدأ قبل ذلك بالاستنجاء وغسل النجاسة التي على بدنه هذا أولاً.
ثانياً: وهذا مهم جداً؛ لأن بعض الناس يستشكله، وهو حتى لا يحتاج إلى أن يمس فرجه بيده عند الغسل فينتقض الوضوء بمس الفرج؛ لأنه إذا غسل فرجه هل يحتاج إلى أن يغسله مرة أخرى؟ لا، يكفي هذا، فيرتفع به الحدث الأصغر والأكبر، فحينئذ لا يحتاج إلى أن يغسل فرجه مرة أخرى، بل يفيض الماء على بدنه دون أن يمس قبله؛ دون أن يمس فرجه مما يوجب له الوضوء عند من يقول بأن مس الذكر ناقض للوضوء.
( فغسل فرجه وما أصابه، ثم ضرب بيده على الحائط والأرض )، ولماذا ضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده على الحائط أو على الأرض؟ لينقي يده مما قد يكون بها من النجاسة أو الأذى، ولهذا قال أهل العلم: يستحب له أن يغسل يده بتراب أو أشنان، ويدخل في ذلك الصابون أو نحوه من المواد المطيبة المنظفة التي تزيل النجاسة من اليد وتزيل أثرها أو رائحتها، وهذا من كمال التطيب والنظافة.
( ثم توضأ وضوءه للصلاة، ثم أفاض الماء على بدنه، ثم تنحى فغسل رجليه ).
فأما الغسل المجزي فهو كما ذكر المصنف؛ أن يفيض الماء على بدنه كله مع المضمضة والاستنشاق، فهذا يجزي ويرفع الحدث، ولهذا جاء عن جبير رضي الله عنه أنه قال: ( تذاكرنا الغسل من الجنابة مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أما أنا فأصب الماء على رأسي، ثم أفيض بعد على سائر جسدي ) وهذا الحديث رواه الإمام أحمد وهو حديث صحيح، وفيه دليل على أنه يجزئ في الغسل أن يفيض الإنسان الماء على سائر بدنه.
ومثله أيضاً حديث أم سلمة الذي رواه الجماعة إلا البخاري، رواه مسلم وأهل السنن وأحمد عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: ( يكفيك أن تفيضي على رأسك ثلاثاً، ثم تغسلي سائر بدنك ) هذا هو الغسل المجزي.
أما الغسل الكامل فقد ذكر العلماء فيه إحدى عشرة خصلة، لعلنا نتذاكرها معكم.
الغسل الكامل، أول ما يبدأ به التسمية، فيقول: بسم الله.
ثانياً: يغسل كفيه ثلاثاً.
ثالثاً: يغسل فرجه كما ذكر في حديث ميمونة وعائشة رضي الله عنهما.
رابعاً: يضرب بالحائط فيغسل يديه بالتراب أو الأشنان أو الصابون أو نحوها.
خامساً: يتوضأ وضوءه للصلاة، وهذا الوضوء جاء فيه روايتان: الرواية الأولى: عن عائشة -وهي المشهورة-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وضوءاً كاملاً ) يعني: بما في ذلك مسح الرأس وغسل القدمين، وهذا جاء في الصحيحين عن عائشة، وهو الغالب من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الحال الثانية: أن يتوضأ وضوءه للصلاة إلا القدمين فإنه يغسلهما في مكان آخر؛ يتنحى ثم يغسل قدميه، وهذا هو الذي جاء في حديث ميمونة وهو أيضاً متفق عليه، والغالب الأول، وجمع بينهما بعض أهل العلم، فقال: إن كان المكان الذي يغتسل فيه نظيفاً طاهراً توضأ وضوءاً كاملاً، وإن كان المكان غير نظيف وسيحتاج بعد ذلك إلى أن يغسل قدميه فإنه لا يغسل قدميه أولاً، بل يؤخر غسلهما إلى ما بعد أن ينتهي من الغَسل، وقال بعضهم: يفعل هذا تارة وهذا تارة.
وقال المالكية: لا يحتاج أيضاً في الوضوء إلى أن يمسح رأسه، لماذا؟ لأنه سوف يفيض عليه الماء ويغسله غسلاً، والصواب أنه يستحب له أن يمسح رأسه، والغالب أنه يغسل قدميه خاصة أيضاً، خاصة إذا كان المكان نظيفاً كما هو الحال في دورات المياه ومغتسلات الناس اليوم. هذا هو الأمر الخامس: أن يتوضأ وضوءه للصلاة.
السادس: الرأس. ماذا يصنع بالرأس؟
يصب عليه الماء حتى يروي أصول الشعر ويدلكه دلكاً شديداً.
يفعل ذلك كم مرة؟
هذا لم يرد فيه شيء، يصب عليه الماء ويدلكه دلكاً شديداً حتى يروي أصول الشعر.
السابع: يفيض الماء على رأسه ثلاث مرات، يعني: بعدما يرويه ويدلكه دلكاً شديداً يفيض عليه ثلاث مرات، وهذا جاء مصرحاً به في حديث عائشة رضي الله عنها، وكذلك في غيره من الأحاديث، فمثلاً في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( ثم يخلل شعره بيده حتى إذا ظن أنه قد روى بشرته -كما ذكرت قبل قليل- أفاض عليه الماء ثلاث مرات )، والضمير في قوله: ( أفاض عليه الماء ) يعني: على رأسه.
إذاً: مطلوب أن يروي البشرة ثم يفيض عليه الماء ثلاث مرات.
الثامن: يفيض الماء على بدنه، وكم يفيض الماء على بدنه، ثلاثاً أو واحدة؟
قال الحنابلة: يفيض الماء على بدنه ثلاثاً.
والصواب والراجح أنه يفيض الماء على بدنه واحدة؛ لأنه لم يرد في شيء من الأحاديث المعتمدة أنه غسل بدنه في الغسل ثلاث مرات، وإنما يغسله مرة واحدة، وهذا مما يخالف فيه الغسلُ الوضوء من وجهين: ففيما يتعلق بالوضوء المستحب مسح الرأس مرة واحدة. وفي الغسل ثلاثاً، أما سائر البدن فالمستحب في الوضوء ثلاثاً، أما في الغسل فالمستحب واحدة.
إذاً: هذه هي الثامنة: أن يفيض الماء على بدنه ويغسله مرة واحدة.
التاسع: التيمن، أن يبدأ باليمين قبل الشمال، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن غسلن ابنته: ( أبدأن بميامنها )، وكما قالت عائشة : ( كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره ) والغسل من الطهور.
العاشر: الدلك، كما أشار إليه المصنف رحمه الله تعالى، فإنه قال: ويدلك بدنه بيده.
الحادي عشر: أن يتنحى ثم يغسل قدميه كما قالت ميمونة رضي الله عنها: ( يتنحى ثم يغسل قدميه )، وهذا محله فيما إذا كان لم يغسل قدميه أول مرة، أو غسلهما ولكن المكان غير طيب وغير نظيف فيتنحى ويغسل قدميه.
ويمكن أن يقال: إن الثانية عشرة هي أن يقول الذكر: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ لأن الطهارة الكبرى والصغرى قد تمت له حينئذ فيشرع له هذا الذكر، فهذه اثنتا عشرة مسألة أو اثنا عشر عملاً يتم بها الغسل الكامل كما يذكره الفقهاء.
الدليل على عدم وجوب نقض الشعر في غسل الجنابة هو أحد الأقوال في المذهب، وهو مذهب جمهور أهل العلم، والدليل له ما روت أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: ( يا رسول الله إني امرأة أشد شعر رأسي أو أظفر رأسي -أي: أنها تظفره وتجعله قروناً- أفأنقضه لغسل الجنابة؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما تحثين على رأسك ثلاثاً، ثم تفيضين الماء على بدنك ) والحديث رواه الجماعة إلا البخاري ؛ رواه مسلم وأهل السنن وأحمد ؛ رواه الجماعة إلا البخاري، وهو دليل على أنه لا يجب على المرأة أن تنقض شعرها لغسل الجنابة.
وهذا كما قلت: مذهب الجمهور ورواية في مذهب الإمام أحمد .
أيضاً للحيض، إذا أرادت أن تغتسل من الحيض فهل يجب عليها أن تنقضه؟
الصواب: أنه لا يجب عليها أن تنقضه للحديث ذاته؛ لأنه جاء في رواية عند مسلم أنها قالت: ( يا رسول الله! أفأنقض شعري لغسل الجنابة والحيضة؟ فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: لا، إنما تحثين على رأسك ثلاثاً، ثم تفيضين الماء على سائر بدنك ) وهذا أيضاً مذهب جمهور أهل العلم وهو رواية في المذهب، هذان قولان.
القول الثالث في المسألة: أنه يجب نقض الشعر لغسل الجنابة والحيضة.
إذاً: فيما يتعلق بنقض الشعر عندنا ثلاثة أقوال:
الأول: أنه لا يجب النقض مطلقاً لا للجنابة ولا للحيضة، وهذا مذهب الجمهور، وهو الراجح لحديث أم سلمة .
الثاني: أنها لا تنقضه للجنابة، ولكن تنقضه للحيض، لماذا؟ لأن الجنابة تتكرر كثيراً، أما الحيض فإنه يكون من الشهر إليه، وهذا سهل أن تنقضه.
الثالث: أنها تنقضه مطلقاً لغسل الجنابة والحيضة، والصواب الأول كما ذكرت.
مقصوده رحمه الله تعالى بالطهارتين: الطهارة الكبرى والطهارة الصغرى، يعني: من الحدث الأصغر ومن الحدث الأكبر؛ وذلك لأن الصغرى تدخل في الكبرى، فإذا ارتفعت ارتفعت معها، ولا يحتاج المغتسل إلى وضوء خاص، وقد نقل الإجماع على أن المغتسل لا يحتاج إلى وضوء؛ نقله غير واحد من أهل العلم، وممن نقل الإجماع على ذلك الطبري وابن بطال من المالكية وابن العربي وابن عبد البر وجماعة من أهل العلم، نقلوا الإجماع على أن الإنسان لا يحتاج إلى وضوء قبل الغسل ولا بعده، فإذا عمم بدنه بالماء أجزأ ذلك عن الوضوء والغسل، ودخلت الطهارة الصغرى في الكبرى، ولهذا سبق أنه لا يحتاج إلى ترتيب أعضاء الوضوء، لماذا؟ لأن الطهارة الصغرى اندرجت في الكبرى فزالت بزوالها، ولهذا سبق في الوضوء أنه لا يحتاج إلى ترتيب؛ لأن الغسل يجزئه ويكفيه.
طيب. إذاً الصغرى تدخل في الكبرى وقد نقل الإجماع على ذلك، وإن كان الواقع أنه لا إجماع، فقد خالف في ذلك داود الظاهري وأبو ثور فرأيا أنه لابد له من وضوء يرتفع به الحدث الأصغر، وهذا هو رواية كما نقلها المصنف رحمه الله تعالى في كتابه المغني ؛ نقلها رواية عن الإمام أحمد وعن الشافعي أيضاً، ولكن الصواب الأول، أنه لا يحتاج إلى وضوء مع الغسل، أولاً: للنص، وثانياً: للمعنى، وثالثاً: لفعل الصحابة.
فأما ما يتعلق بالمعنى فكما سلف: أن الطهارة الصغرى اندرجت في الكبرى وزالت بزوالها، هذا من حيث المعنى.
أما من حيث النص فإن الأحاديث السابقة كأحاديث أم سلمة وعائشة وغيرهما لم يذكر فيها وجوب الوضوء، بل حديث أم سلمة صريح في أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الوضوء، ومثله حديث جبير، لما قال: ( تذاكرنا الوضوء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.. فإنه اكتفى عليه الصلاة والسلام بإفاضة الماء على سائر بدنه فإذا هو قد طهر )، فدل على أنه لا يفتقر الأمر إلى وضوء، بل يكفي الغسل.
أما فعل الصحابة رضي الله عنهم، فقد نُقل عن جماعة كثيرة جداً منهم كـابن عمر وحذيفة وغيرهما أنهم كانوا ينكرون الوضوء بعد الغسل، ويعتبرون ذلك نوعاً من التنطع والتعمق في الدين.
ومثل ذلك قول المصنف: [ وإن نوى بغسله الطهارتين أجزأ عنهما ]، مثل ذلك ما سبق أنه لو نوى غسلاً واجباً ومسنوناً أجزأ ذلك على الصحيح من أقوال أهل العلم، وهو رواية واحدة في المذهب فيما أعلم، لو أنه نوى غسلاً مسنوناً وواجباً كالغسل للجمعة والغسل للحيض مثلاً أو النفاس أو الغسل للجنابة، فإنه يجزئه إذا نواهما معاً، ومثله أيضاً لو نوى غسلاً لحدثين معاً، كأن ينوي غسلاً من الجنابة ومن الحيضة، أو غسلاً من جنابتين، أو غسلاً للإسلام وللجنابة أيضاً أو ما أشبه ذلك، ولهذا جاء: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بغسل واحد ).
وسوف يأتي مبحث التيمم غداً إن شاء الله تعالى، ولكن المقصود: لو أن عليه حدثاً أكبر يوجب الغسل وحدثاً أصغر يوجب الوضوء وعلى بدنه نجاسة لا يمكن إزالتها يجب أن يتيمم عنها، فهذه ثلاثة أسباب للتيمم: يريد أن يتيمم عن الحدث الأكبر عوضاً عن الغسل، وعن الأصغر عوضاً عن الوضوء، وعن هذه النجاسة على بدنه فإنه يجزئه تيمم واحد عن جميع هذه الأشياء؛ وذلك للحديث السابق: ( إنما الأعمال بالنيات )، وهذا هو المشهور في المذهب وهو الصحيح.
قال: [ وإن نوى بعضها فليس له إلا ما نوى ].
فتعمد تركه صلى الله عليه وسلم قراءة القرآن وتعليمهم إذا كان جنباً مع حرصه على ذلك دليل على أن الجنب يحرم عليه قراءة القرآن، وهذا هو الصحيح وله أدلة كثيرة لا مجال لذكرها، اللهم لا نقول بأن كل من عليه حدث أكبر يمتنع، فإنه ما يتعلق بالحائض والنفساء يجوز لها أن تقرأ القرآن على القول الراجح؛ وذلك لأن حدثها يطول وحدثها ليس بيدها بحيث تستطيع أن ترفعه بالغسل، بل هو ملازم لها حتى يرتفع من الله تعالى وليس منها، وقد يترتب على تركها لقراءة القرآن قسوة في قلبها أو هجراناً للقرآن أو نسياناً لما حفظت أو ما أشبه ذلك، ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله تعالى في الاختيارات : ويجوز لها أن تقرأ القرآن وإن خشيت نسيانه وجب. وهو قول مشهور لأهل العلم لـمالك وغيره، ومنقول عن جماعة من الصحابة والسلف، وهو اللائق بأحوال الصحابة، فإنه لم ينقل عن الحائض والنفساء أنها كانت تتقي قراءة القرآن على كثرة ما يقع هذا في النساء على ما هو معروف.
هذه هي المسألة الأولى: قراءة القرآن.
ويجوز للجنب أن يقرأ القرآن بغير نية القرآن، كما لو قرأه بنية الدعاء مثلاً، فإذا ركب السيارة جاز أن يقول: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا [الزخرف:13]، وإذا نزلت به نازلة جاز أن يقول: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:156] وما أشبه ذلك مما يقرأ لا على أنه قرآن وإنما على سبيل الذكر أو الدعاء.
وكذلك نقل هذا وصح عن ابن عمر رضي الله عنه، فدل على أن المحدث حدثاً أصغر يحرم عليه مس المصحف مباشرةً، فالحدث الأكبر من باب أولى، هذه مسألة.
ذكرت في أول المجلس الأغسال الواجبة، أما الأغسال المستحبة فهي كثيرة، ويمكن أن تقسم إلى نوعين:
منها -من هذه الصوارف-: ما جاء في حديث عائشة في الصحيحين أيضاً: ( أن الناس كانوا يأتون إلى الجمعة في مهنتهم -في الأثواب التي يعملون بها- فتكون منهم الرائحة فقيل لهم: لو اغتسلتم! )، فقول عائشة رضي الله عنها: (لو اغتسلتم) هل يدل على الوجوب؟ كلا. فإن هذا اللفظ لا يدل على الوجوب بحال، بل يدل على أنه حتى الذي تكون منه الرائحة إنما يستحب له الغسل استحباباً ويحض عليه حضاً من غير إيجاب، فيقال له: لو اغتسلت! يعني حبذا لو اغتسلت. هذا واحد.
الدليل الثاني: ما جاء في حديث سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل )، وحديث سمرة رواه الخمسة وحسنه الترمذي وابن خزيمة، وله شواهد كثيرة مجموعها يقضي بأنه حديث ثابت، وهو صريح في عدم إيجاب الغسل.
الدليل الثالث: ما رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من توضأ يوم الجمعة ثم غدا إلى المسجد كتب له أجر الجمعة ) أو كما قال صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم غسلاً وإنما ذكر الوضوء فحسب، والحديث في صحيح مسلم، وهذا مذهب الجماهير كما ذكرته، فهذه الأشياء تقضي بأن حديث أبي سعيد : ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ) لا يعني أنه واجب مفروض.
ومما يصرف الحديث عن الوجوب: أن جاء مقروناً في بعض الروايات بالسواك والطيب، فقال: ( غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم، والسواك، وأن يمس طيباً )، فإذا كان السواك ليس واجباً بالإجماع والطيب ليس واجباً بالإجماع أيضاً فإن الغسل ينبغي أن يكون كذلك، وهذه دلالة اقتران كما أشرت إليها غير مرة، وقيل: إنه واجب لهذا الحديث.
إذاً: من الأغسال المستحبة لأمر مستقبل غسل الجمعة، ومثله أيضاً الغسل للإحرام، فإنه مستحب لأمر مستقبل، وقال بعضهم: الغسل للعيدين والكسوف ونحوها، هذا إذا صح أنه يشرع الغسل لهذه الأشياء بذاتها.
ومثله أيضاً الغُسْل من غَسْل الميت فإنه: ( من غسّل الميت فليغتسل -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- ومن حمله فليتوضأ ) وهو حديث صحيح، ولكن هذا ليس على الوجوب؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عباس : ( ليس عليكم في غسل ميتكم غسل، إنما بحسبكم أن تغسلوا أيديكم )، وهذا الحديث رواه أحمد والحاكم وغيرهما وهو حديث صحيح.
وقد جاء في الغُسل من غَسل الميت أحاديث كثيرة جداً، قال بعضهم: إنها تصل إلى درجة التواتر.
على كل حال: لا يجب من غَسل الميت غُسل وإنما يستحب.
ومثله أيضاً الغسل من الحجامة، فإنه قد جاء: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الغسل من أربع: وذكر منها الحجامة ) وهو حديث عائشة رضي الله عنها، وقد صححه غير واحد.
ومثله أيضاً: غُسل المغمى عليه إذا أفاق: ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أغمي عليه اغتسل ثم ذهب لينوء فثقل ) كما هو معروف في قصة مرضه عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيح.
هذه هي الأغسال المستحبة، وبذلك نكون أتينا على باب الغسل من الجنابة، وكان الأولى أن يبوب عليه: باب الغسل مطلقاً ليشمل الجنابة وغيرها.
الجواب: التجفيف في حديث ميمونة المتفق عليه قالت: ( فأتيته بالمنديل فلم يرده أو بالمنشفة فلم يردها وجعل ينفض بيديه )، وقد سبق أن ذكرت التنشيف في الوضوء، وما يقال في الوضوء يقال في الغسل، والأقرب أن التنشيف من الأعمال العادية المباحة؛ إن نشف بمنشفة أو نفض بدنه، أو ببعض الآلات، فإن بعض الآلات يصدر منها هواء حار ينشف، فكل ذلك من المباحات، ولا شيء فيه.
الجواب: نعم، الراجح أن الحائض والجنب لا يدخلان المسجد فيما ظهر لي.
الجواب: نعم، بشرط أن يلبسها على طهارة كما أسلفنا.
الجواب: بل المعنى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقتصد في ذلك ويعتدل فيه ولم يكن يسرف في الماء.
الجواب: ليس بناقض كما أسلفت لا بشهوة ولا بغيرها إلا أن يخرج من الإنسان مذي أو نحوه يوجب الوضوء.
الجواب: إذا نوى الطهارتين أجزأه، ولم يقع منه ما ينقض وضوءه أثناء الغسل.
الجواب: أما المتن فليس فيه شيء، بل هو متن نير مشرق: ( من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل )، أما الإسناد فالمشكلة في هذا الحديث أنه من رواية الحسن عن سمرة، وقد اختلف هل سمع منه أم لا؟ فرجح جماعة من أهل العلم كـالترمذي وغيره أنه سمع منه، وقال آخرون: سمع منه أحاديث معدودةً، وقيل: لم يسمع منه مطلقاً، والأظهر أنه سمع منه إن شاء الله تعالى كما استظهره جماعة من أهل الحديث.
وحتى لو كان لم يسمع منه لقلنا: إن هذا الحديث فيه انقطاع، وهذا الانقطاع يشهد له أحاديث أخرى وشواهد عديدة تقوي هذا الحديث، إذ إن ضعفه ليس شديداً بحيث لا يقبل أن يتقوى بشواهده.
الجواب: بل ينبغي للإنسان فيما يتعلق بالوضوء أن يضع السبابة داخل الأذن ويضع الإبهام خارجها ويديره، أما في الغسل فيزيد على ذلك أن يعم على صماخ الأذن فيما يتعلق بظاهرها.
الجواب: نعم هذا حديث صحيح.
الجواب: نعم، قد يحدث هذا، خاصة وأنه في الماضي كانت ملابسهم قليلة وربما احتك فحصل منه ذلك.
الجواب: نعم قد يحدث هذا ذكره بعض الفقهاء.
الجواب: ليس تغسيل الميت بناقض من نواقض الوضوء على الصحيح إلا إن مس فرجه؛ إن قلنا: إن مس فرج الميت ناقض للوضوء، والأقرب أنه ليس بناقض مطلقاً.
الجواب: إذا علم أن احتلامه مضى عليه يوم فيجب عليه أن يعيد صلاة ذلك اليوم.
الجواب: قال بعضهم: يخرج أعضاء الوضوء بالترتيب، والظاهر أنه يرتفع حدثه بمجرد الانغماس مع النية.
الجواب: قد يستدل بذلك، وعلى كل حال فيما يتعلق بالغسل لا يشترط له موالاة.
الجواب: ذكرته: (من غسل ميتاً فليغتسل، ومن حمله فليتوضأ)، وهو حديث صحيح، هذا أحد أحاديث بلوغ المرام.
الجواب: لا يقرأ الآيات، ويستحب للجنب إذا أراد أن ينام وهو جنب أن يتوضأ.
الجواب: لم نذكر نحن النية في الغسل الكامل؟! نعم لم نذكرها، ذكرنا أول شيء التسمية، إذاً يجب أن تذكر النية قبل التسمية وتكون الأعمال ثلاثة عشر.
الجواب: الظاهر أنه لابد من ذلك.
الجواب: إن كانت مؤسسات أو شركات ربوية كالبنوك الربوية ونحوها أو أماكن الفساد، فينبغي أن تنزه عنها المساجد.
الجواب: النبي عليه الصلاة والسلام كان يغتسل بصاع من ذلك، وربما يُحمل هذا على من ترك شيئاً من ذلك متعمداً؛ لئلا يفضي بالإنسان إلى الوسواس.
الجواب: الظاهر أنه يتوضأ؛ لأن اللحم يطلق على ذلك كله كما هو الغالب.
الجواب: على كل حال حديث عائشة : ( من أصابه قيء أو رعاف ) فيه ضعف، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ثوبان ليس دليلاً على الوجوب -كما ذكرته بالأمس- فالفعل المجرد لا يدل على الوجوب، وإنما قد يقال باستحباب الوضوء من الحجامة أو القيء أو نحوه، وقد يحمل الوضوء على أنه غسل اليدين والفم كما ذكره غير واحد من الفقهاء.
وأما حديث: ( صلى ولم يتوضأ ولم يزد على غسل محاجمه )، فهو دليل على أن الغسل من الحجامة ليس بواجب كما ذكرت قبل قليل.
الجواب: بالاحتلام. هذا وجه.
الوجه الثاني: لو أن امرأة عليها جنابة، ثم حاضت قبل أن تغتسل ولم تغتسل بعد ذلك حتى طهرت فيكون غسلها للجنابة والحيض.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر