هذا يوم الإثنين السابع من شهر صفر لعام (1414هـ).
قال رحمه الله تعالى: [ باب: نواقض الوضوء ]، والنواقض جمع ناقض، وهو ما يبطل الطهارة في الحدث الأصغر، ويوجب استئناف الوضوء.
وقد قال المصنف رحمه الله تعالى: [وهي سبعة]، أي: النواقض.
أولاً: الإجماع، فقد أجمع أهل العلم أن ما خرج من السبيلين من غائط أو بول أنه ينقض الوضوء ويوجب الطهارة للصلاة، وكذلك من القرآن في قول الله جل وتعالى: أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ [النساء:43]، فإنه دليل وجوب الطهارة من الغائط؛ والبول مثله.
وأما من السنة، فقد سبق معنا حديث صفوان بن عسال في قوله: ( ولكن من غائط وبول ونوم )، وهو صريح في أن الغائط والبول ناقض للوضوء، وكذلك حديث عبد الله بن زيد بن عاصم المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يجد الشيء في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً ) ؛ وذلك دليل على أن خروج الريح من الدبر ناقض للوضوء، وكذلك الريح إذا خرجت من قبل المرأة على الرواية الراجحة في المذهب فإنها توجب الوضوء؛ لأنها تخرج منتنة وتخرج من موضع هو منفذ إلى الجوف، واختلف فيما إذا خرجت من قبل الرجل، والأقرب أنها غير ناقضة للوضوء.
ومن ذلك أيضاً المذي، فإن المذي ناقض للوضوء كما سبق، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالوضوء، بل أمر أيضاً بغسل الذكر والأنثيين، وفي حديث علي رضي الله عنه أنه قال: ( كنت رجلاً مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكانة ابنته مني، فأمرت
نعم يجب الوضوء مطلقاً سواء كان طاهراً أو غير طاهر، ولذلك الريح يجب لها الوضوء مع أنها طاهرة، ويمكن أن يقال ذلك في المني، وإن كان المني موجباً للطهارة الكبرى -موجباً للغسل- وهو طاهر على الراجح كما سلف، ومع ذلك فهو موجب للغسل، والطهارة الصغرى تندرج فيه.
إذاً: لا يشترط فيما يخرج من السبيلين أن يكون نجساً، بل كل ما خرج من السبيلين فهو موجب للطهارة سواء كان طاهراً أم نجساً.
ومثل ذلك أيضاً دم الاستحاضة فإنه موجب للطهارة عند جمهور أهل العلم عند الأئمة الثلاثة وغيرهم؛ وذلك لحديث عائشة رضي الله عنها في صحيح البخاري ومسلم لقصة فاطمة بنت أبي حبيش : ( أنها شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله إني أستحاض فلا أطهر، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: إنما ذلك عرق وأمرها أن تتوضأ لكل صلاة )، كما في صحيح البخاري، في رواية البخاري من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـ
هذا ما يتعلق بهذه الأشياء الخارجة من السبيلين، سواء كانت معتادة أو غير معتادة.
(إذا فحش)، أي: إذا كان فاحشاً كثيراً، والفاحش معناه الكثير، وليس له ضابط معين، وإنما المقصود به ما فحش في نظر الإنسان وعد كثيراً عنده، وهذا الخارج الفاحش النجس من سائر البدن يدخل فيه سائر النجاسات التي يعدها الفقهاء، فيدخل في ذلك الدم عندهم، فإنه معدود في النجاسات، ومثله القيح والصديد والقيء والدود، فينقض الفاحش من هذه الأشياء كلها في المذهب -مذهب الحنابلة-، واستدلوا لذلك بما روى خالد بن معدان عن أبي الدرداء : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ، قال
وقد حكي الوضوء من الرعاف، حكاه الإمام أحمد وابن المنذر وغيرهما عن جماعة من الصحابة كـعمر وابن عمر وعلي رضي الله عنهم وابن مسعود وغيرهم، فقال هؤلاء: ذلك دليل على أن الدم وما كان في معناه من القيء والرعاف والصديد ونحوها ناقض للوضوء، قالوا: أما اليسير فلا ينقض على الرواية المشهورة من المذهب، قالوا: لأن ذلك فيه مشقة، في إيجاده مشقة؛ لأنه لا يخلو الإنسان من حكة أو بثرة أو ندة أو صديد أو نحوها، فاليسير الذي لا يثبت في عين الإنسان ونظره ليس ناقضاً للوضوء، ومنهم من جعل هذه الرواية واحدة لا يختلف المذهب فيها، هذا هو القول الأول والذي حكاه المصنف واختاره.
القول الثاني: وهو مذهب الجمهور وهو الراجح، وهو مذهب أهل الحجاز كافة، وفقهاء المدينة السبعة، وهو مذهب الإمام الشافعي ومالك رحمهما الله تعالى أن ذلك لا ينقض الوضوء لعدم الدليل، واحتج هؤلاء على ما ذهبوا إليه -وهو الراجح كما أثبت- بحجج وأدلة:
أولها: أن هذا هو الأصل، ولا يُنتقل عن الأصل إلا بيقين ثابت لا شك فيه، فالأصل أن الطهارة باقية لحالها لا تزول بهذا كله، ولا تزول إلا بيقين.
الدليل الثاني: أن الصحابة رضي الله عنهم كانت تصيبهم الجراحات وتخرج منهم الدماء الكثيرة فلا يتوضئون، ولهذا صلى عمر وجرحه يثعب دماً، وقال الحسن : كان الصحابة رضي الله عنهم يصلون في جراحاتهم، وعفر ابن عمر رضي الله عنه بثرة وصلى ولم يتوضأ، وكذلك نقل عن جماعة من الصحابة كـابن عمر: أنه بلل أطراف أصابعه بالرعاف ثم صلى، ونقل هذا عن جماعة كثيرة.
ومثله أيضاً ما جاء في قصة عباد بن بشر عند أهل السنن: أن رجلاً طعنه وهو يصلي حتى خرج الدم منه واستمر في صلاته، وهكذا دل ذلك على أن الدم غير ناقض للوضوء.
وهاهنا السؤال: إذا قال قائل: إن هؤلاء دماؤهم تسيل باستمرار فيُحمل هذا على من به سلس، يكون الحكم حكم من به سلس فكيف نجيب على ذلك؟
نقول: بعضها لم يكن حدثاً دائماً مستمراً، هذا جواب.
الجواب الثاني: أن يقال: حتى الذي حدثه دائم مستمر هل نقل عنهم أنهم توضئوا لكل صلاة كما أمر من به حدث دائم؟ كلا، لم ينقل عنهم ذلك، فمثلاً عمر رضي الله عنه: صلى في المسجد وجرحه يثعب دماً، مع أن الجرح طري جديد نازف، وكان يجب أن يتوضأ أو يتيمم إذا عجز عن ذلك، ثم إذا استمر الدم واحتاج إلى الوضوء لصلاة أخرى توضأ لكل صلاة، فلم يكونوا يعاملون الدم معاملة من به حدث دائم، فدل ذلك على أنه غير ناقض للوضوء، وهكذا ما ذكر في هذا الباب فإنه لا ينقض على الراجح من أقوال أهل العلم.
وأما ما ذكروه واحتجوا به من قصة أبي الدرداء وثوبان : ( وأن النبي صلى الله عليه وسلم قاء فتوضأ )، فإنها يجاب عنها بجواب ظاهر، وهو أن نقول: إن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ليس دليلاً على إيجاب الوضوء من القيء، كونه عليه الصلاة والسلام قاء فتوضأ قد يكون هذا للتطهير والتنظيف، وقد يكون للاستحباب وقد يكون.. فليس دليلاً صريحاً على وجوب الوضوء، ومن المعلوم عند علماء الأصول أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم بمجرده لا يدل على الوجوب، قال بعضهم: حتى لو تكرر، فكيف وهذه حادثة فردية رواها أبو الدرداء وأقرها ثوبان رضي الله تعالى عنه.
ومما يمكن أن يستدل به من السنة على أن الإغماء ونحوه موجب للوضوء ما جاء في الصحيحين: ( في قصة مرض النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ضعوا لي ماء في المخضب، ثم ذهب ينوء فأغمي عليه، ثم أفاق فقال: ضعوا لي ماء في المخضب.. ) إلى آخر القصة المعروفة، وهي في خبر موت النبي عليه الصلاة والسلام.
فقوله: ( ضعوا لي ماء في المخضب )، أي: ليتوضأ به صلى الله عليه وآله وسلم.
الخامسة: قال: [ إلا النوم اليسير جالساً أو قائماً ]؛ وذلك أن المصنف رحمه الله تعالى عد النوم تابعاً لزوال العقل، ولم يعده ناقضاً مستقلاً، ومن الفقهاء من ينص عليه لذاته، فيكون ناقضاً مستقلاً، والمصنف أدخله بقوله: (وزوال العقل)، ولهذا استثنى النوم اليسير جالساً أو قائماً، وهذا يدل بمفهومه على أن النوم الطويل ناقض للوضوء، ويدل أيضاً على أن النوم من المضطجع -عند المصنف- ناقض للوضوء؛ لأنه استثنى النوم اليسير من جالس أو من قائم.
وهذا أحد ثمانية أقوال في حكم النوم وهل ينقض الوضوء أو لا، فمنهم من قال: ينقض مطلقاً سواء كان يسيراً أم كثيراً من قاعد أو قائم أو راكع أو ساجد أو مضطجع، ومنهم من عكس فقال: لا ينقض مطلقاً، ومنهم من توسط في ذلك، وأعدل الأقوال وأصوبها: هو أن النوم الناقض للوضوء هو النوم الكثير المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك، وهو الذي يكون مظنة الحدث، بحيث يمكن أن يحدث وهو لا يشعر ولا يدري، وهذا تقريباً هو مذهب الجمهور، فإنهم يقولون: الذي ينقض هو النوم الكثير، فيرون أن الناقض هو الكثير، وإنما زاد أصحاب هذا التفصيل أنهم ذكروا ضابطاً للكثير فقالوا: إن الكثير هو النوم المستغرق الذي لا يبقى معه إدراك، والذي يكون مظنة الحدث بحيث يمكن أن يحدث الإنسان وهو لا يدري ولا يشعر.
قالوا: ولا يقيد ذلك بكونه من قائم أو قاعد أو راكع أو ساجد أو مضطجع، ولذلك جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه الذي رواه أهل السنن وأصله عند مسلم : ( أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ينتظرون العشاء على عهده صلى الله عليه وسلم حتى تخفق رءوسهم ثم يصلون ولا يتوضئون )، وجاء في رواية صحيحة عند الدارقطني : أن أنساً قال: ( كانوا على عهده ينتظرون العشاء حتى تخفق رءوسهم )، وفي بعضها: ( حتى يسمع لهم غطيط )، وهو صوت ثقل النَفَس بسبب غلبة النوم، بل جاء في رواية أخرى صحيحة عند الخلال وقال الحافظ في الفتح : إسنادها صحيح، جاء: أنهم يضطجعون على جنوبهم، قال: ( حتى يضعون جنوبهم )، فدل على أنهم ينامون على جنوبهم ويسمع لهم غطيط، وأحياناً تخفق رءوسهم، وأحياناً ينعسون، ثم يصلون في جميع ذلك ولا يتوضئون، فدل على أن العبرة ليست بكونه قائماً أو قاعداً أو نائماً، وإنما العبرة بحد النوم، فإذا نام نوماً لا يبقى معه إدراك فإنه حينئذ ينتقض وضوءه، وهذا يشبه أن يكون قول الجمهور كما أسلفت.
والدليل على أن لمس الذكر ناقض للوضوء هو حديث بسرة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من مس ذكره فليتوضأ )، وحديث بسرة حديث صحيح أخرجه الخمسة: أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وغيرهم، وهو حديث صحيح، صححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري : هو أصح شيء في الباب، وهو حديث صحيح لا مطعن فيه بوجه من الوجوه، وهو أرجح وأصح من أي حديث آخر في الباب، وله شواهد عن جماعة كثيرة من الصحابة.
ومثل ذلك أيضاً المرأة، فإن المرأة إذا مست فرجها وجب عليها أن تتوضأ لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ( أيما امرأة مست فرجها وجب عليها الوضوء، وأيما رجل مس ذكره وجب عليه الوضوء ) والحديث رواه أحمد، وصححه البخاري .
ومثل أيضاً حديث أم حبيبة رضي الله عنها: ( من مس فرجه فليتوضأ )، فهذه الأحاديث كلها تدل على أن مس القبل ناقض للوضوء، وهذا هو أحد الأقوال في المذهب.
وفي المسألة قول آخر: وهو أن ذلك ليس ناقضاً للوضوء.. أن مس الفرج ومس الذكر لا ينقض الوضوء، واحتج هؤلاء بحديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يمس فرجه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو بضعة منك ) بفتح الباء: ( إنما هو بَضعة منك )، فدل ذلك على أنه كما لو مس الإنسان يده أو رجله أو ركبته أو أنفه أنه غير ناقض للوضوء، وحديث قيس بن طلق بن علي عن أبيه، رواه الخمسة أيضاً وصححه الطحاوي وقال: إسناده لا مطعن فيه، وكذلك صححه ابن حبان وابن القطان وغيرهم من أهل العلم وضعفه آخرون؛ فضعفه الشافعي وأحمد وأبو زرعة والدارقطني والبيهقي وأبو حاتم وغيرهم من أهل العلم، والراجح أن الحديث فيه مقال وفيه ضعف، وحتى على فرض ثبوته فهو لا يرقى إلى درجة حديث بسرة رضي الله عنها.
إذاً: المرجح حديث بسرة السابق: ( من مس ذكره فليتوضأ )، وهو يترجح بعدة مرجحات:
أولاً: أنه أقوى إسناداً من حديث قيس بن طلق، وهذا لا شك فيه عند من له بصر بالحديث.
ثانياً: أنه ناقل عن الأصل، فإن الأصل أن الذكر كغيره لا يوجب الوضوء، وحديث طلق بن علي موافق للأصل، أما حديث بسرة فهو ناقل عن الأصل، وآت بحكم جديد وهو إيجاب الغسل من مس الذكر، والناقل عن الأصل الآتي بحكم جديد مقدم على غيره، بمعنى: أنه قد يكون الأول على البراءة الأصلية ثم طرأ ذلك بعد أو غير هذا.
المرجح الثالث: أنه قد يكون حديث بسرة ناسخاً لحديث طلق، خاصة وأن حديث طلق جارٍ على الأصل كما أسلفنا، وأيضاً طلق بن علي جاء والنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة أول الهجرة، كما جاء عند الدارقطني وغيره: ( أنه جاء وهم يبنون المسجد ).
وممن روى مثل حديث بسرة أبو هريرة رضي الله عنه: ( من مس ذكره فليتوضأ ) مع أن أبا هريرة أسلم في السنة السابعة من الهجرة، فدل ذلك على أن هذا الحكم متأخر، ويمكن أن يقال بأنه ناسخ لما سبق، وهذا أحد الوجوه في الجمع بينها.
ومما يرجح به حديث بسرة، وهو المرجح رقم أربعة، كثرة شواهده، فقد جاء له شواهد عن عمرو بن شعيب وعن عبد الله بن عمرو بن العاص وعن أم حبيبة وعن أبي هريرة وجماعة كثيرة من الصحابة.
المرجح الخامس: أن الصحابة رضي الله عنهم سمعوا حديث بسرة وحدثت به وهم متوافرون، وأخذوا به، وممن رجع إليه عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأخذ به سعد بن أبي وقاص وغيره، فدل ذلك على أنه هو المرجح عندهم والمقدم على حديث طلق بن علي رضي الله عنهم أجمعين. وهناك مرجحات أخرى كثيرة.
وثمة قول ثالث في المسألة: أن ذلك على الاستحباب لا على الوجوب، وقول رابع: أنه إن مس ذكره بشهوة وجب الوضوء وإلا لم يجب، وهذا القول اختاره الإمام ابن تيمية رحمه الله.
و الذي أختاره -والله تعالى أعلم-: أن مس الذكر ناقض للوضوء مطلقاً، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وسواء كان ذلك عمداً أم عن غير عمد؛ لعموم اللفظ وإطلاقه: ( من مس ذكره فليتوضأ )، وهذا ليس له علة يمكن الرجوع إليها، فقد يقال: إن ذلك مظنة حصول الشهوة، وقد يقال: إن ذلك مظنة أن يقع على يده نجاسة.. أو غير ذلك من الأسباب، ولكن يبقى أن هذه الأشياء كلها التماسات واحتمالات، أما النص فهو: ( من مس ذكره فليتوضأ )، فهو موجب للوضوء على كل من مس ذكره، وهذا هو الذي اختاره شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز حفظه الله تعالى.
أما تلك الأحاديث التي فيها ذكر الفرج، فإنما يقصد بها -والله تعالى أعلم- القبل، يعني: يقصد بها القبل من الذكر أو الأنثى، والدليل على أن المقصود بها القبل قوله عليه الصلاة والسلام في المذي: ( توضأ وانضح فرجك )، فالمقصود بالفرج هاهنا القبل، الذكر قولاً واحداً، وهو مظنة وصول الشهوة والمتعلق به ذلك، أما الدبر فلا تعلق له بشيء من ذلك، ولا نص صريحاً واضحاً على أنه ناقض للوضوء، وإن كان من الفقهاء من قال: إن مس حلقة الدبر ناقض للوضوء.
أولها: النقض مطلقاً، أي: أن كل مس للمرأة ناقض للوضوء، سواء كان بشهوة أو بغير شهوة، وهذا هو الذي يمكن أن يستدل له بقول الله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، فإن الله تعالى لم يشترط شهوة ولا غيرها، بل أطلق اللمس، وقال: (أو لمستم النساء)، وفي القراءة الثانية: أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [النساء:43]، والقراءتان يفسر إحداهما الأخرى، والراجح أن المقصود بالآية الكناية عن الجماع، كما في قوله تعالى: إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الأحزاب:49] أي: تجامعوهن، فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:49]، وما أشبه ذلك من النصوص.
إذاً: القول الأول: أن المس ينقض الوضوء مطلقاً بشهوة أو بغير شهوة.
والثاني: هو ما اختاره المصنف رحمه الله: أنه لا ينتقض الوضوء إلا إذا مس المرأة بشهوة.
والثالث وهو الراجح المعتمد: أن مس المرأة لا ينقض الوضوء مطلقاً سواء مسها بشهوة أو بغير شهوة، أن مس المرأة بمجرده لا ينقض الوضوء مطلقاً، إنما الذي ينقض الوضوء لو خرج منه شيء بسبب الشهوة، كما إذا خرج منه مذي أو غيره فهاهنا ينتقض الوضوء، أما مجرد لمس المرأة سواء كانت زوجة أو محرماً له أو غير ذلك، فإن مجرد لمسها لا ينقض الوضوء، وهو مذهب أبي حنيفة ،ورواية عن الإمام أحمد، والأدلة تسنده.
ومن الأدلة على أن مس المرأة لا ينقض الوضوء: ما جاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي فإذا قام بسطت رجلها، قالت: فإذا سجد غمزني فقبضت رجلي )، والبيوت يومئذ ليس فيه مصابيح، فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الظلام وإذا سجد غمز عائشة، فهل كان يتقي أن يمس بشرتها؟ كلا؛ لأنه قد تقع يده على بشرتها أو رجلها أو طرف ساقها، فتقبض رجلها، فذلك دليل على أن اللمس غير ناقض للوضوء.
ومثل ذلك أيضاً ما جاء في الصحيح: ( أن
ومما يستدل به على أن اللمس غير ناقض ما رواه إبراهيم عن عائشة رضي الله عنها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج وصلى ولم يتوضأ )، والمقصود عائشة رضي الله عنها، والحديث جاء من طرق كثيرة جداً لا تخلو من مقال، وقد سردها وساقها البيهقي رحمه الله في كتابه: الخلافيات، وذهب بعض أهل العلم إلى أن هذه الروايات يشد بعضها بعضاً ويقوي بعضها بعضاً، ويدل أن للحديث أصلاً.
وعلى كل حال فإن عدم النقض هو الأصل، عدم النقض هو الأصل والأصل بقاء الطهارة ولا يقال بالنقض إلا بدليل ظاهر لا إشكال فيه.
فالقول الراجح إذاً: أن مس المرأة غير ناقض للوضوء.
ولهذا فإن بعض فقهاء المذهب لم يذكروا الردة عن الإسلام ضمن نواقض الوضوء باعتبار أنها موجب للغسل، وأنها موجبة للطهارة الكبرى، وعدها كثير منهم إما باعتبار أن ما أوجب الغسل أوجب الوضوء، أو باعتبار أن الغسل ليس بواجب، وإنما هو مستحب، على ما سوف يأتي إن شاء الله تعالى.
ومما يستدل به على أن الردة عن الإسلام ناقض قول الله عز وتعالى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65]، قالوا: والطهارة عمل يحبط بالكفر والشرك والردة. فدل ذلك على أنه يجب أن يستأنف الوضوء، وهذا أورد عليه بعضهم أن من عمل عملاً في حال إسلامه ثم ارتد لا يحبط عمله إلا إذا مات على الردة، فلو حج مثلاً في الإسلام ثم ارتد ثم أسلم فهل يجب عليه أن يعيد حجه أو لا يجب؟ المشهور أنه لا يجب ويجزئه الأول، فعلى هذا قالوا: إنه ينازع في كون ذلك محبطاً للعمل.
ولكن هناك استدلال لطيف. أولاً: نقول: إن الطهارة حكم يستصحب ويستدام، بخلاف مثل الحج أو الصلاة أو غيرها من الأعمال التي فعلها وانتهى منها لا يقال باستئنافها، ولكن الطهارة عمل مستديم، فإذا ارتد انتقض، هذا وجه.
الثاني: أن بعض فقهاء الحنابلة -وهذا مأخذ لطيف قل من أشار إليه- استدلوا على أن الردة ناقض من نواقض الطهارة والوضوء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي مالك الأشعري وهو في صحيح مسلم : ( الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان ).. إلى آخر الحديث، فقوله: ( الطهور شطر الإيمان )، فإن الطهور من الإيمان، فإذا انتقض الإيمان انتقض الطهور تبعاً له.
وعلى كل حال هذه المسألة خلاصتها: أن الردة عن الإسلام ناقضة للوضوء موجبة للطهارة.
والعلة في ذلك قالوا: أن الإبل فيها شرة وشدة، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في معاطنها، وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( إنها من الشياطين ) وفي رواية: ( إن على ذروة كل بعير منها شيطاناً )، وقال ابن تيمية : هذا -والله أعلم- على التشبيه. أي: أن الإبل فيها شدة وشرة وشراسة وقوة، فإذا أكل الإنسان لحمها خالط بدنه وأوجب له شرة، فيجب عليه الوضوء حينئذ حتى يزول ما فيه، كما ورد في الوضوء إذا غضب الإنسان، وقالوا: عكس ذلك الغنم، فإن الغنم فيها السكينة، والسكينة من سيماء الملائكة، ( كما جاء في قصة الصحابي الذي كان يقرأ القرآن وهو
وخالف في ذلك الثلاثة من الأئمة وهي رواية أخرى في المذهب: أنه لا يجب الوضوء من لحم الإبل، وقالوا: إن ذلك منسوخ، وقالوا: إن أول الأمر كان الوضوء ثم نسخ، واستدلوا بما رواه جابر، قال: ( كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما مست النار )، فقالوا: نسخ بذلك الوضوء من لحم الإبل وهذا فيه نظر، فإن ذلك عام فيما مست النار، يعني: في المطبوخ من لحم الإبل والغنم، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث الباب: ( لما سئل: أنتوضأ من لحوم الغنم، ماذا قال؟ قال: إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ )، فهل هذا مما مست النار أو ليس مما مست النار؟ لحم الغنم؟ يقيناً هو مما مست النار، ومع ذلك فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين لحم الإبل، فأمر بالوضوء من لحم الإبل، ولم يأمر بالوضوء من لحم الغنم، مع أن الوضوء مما مست النار فيه أقوال أصحها: أنه ليس بمنسوخ، وإنما لا يجب الوضوء، بل يستحب أن يتوضأ الإنسان مما مست النار؛ لأحاديث كثيرة منها وضوءه صلى الله عليه وسلم من ذلك وأمره أصحابه أن يتوضئوا مما مست النار.
فعلى كل حال الناقض الأخير هو (أكل لحم الجزور) وفاقاً لـإسحاق وفقهاء الحديث خلافاً للأئمة الثلاثة، وقد سبق أن بينت أدلة ذلك.
وهذا نظراً للقاعدة السابقة، وللأحاديث التي ذكرنا قبل، كما في حديث عبد الله بن زيد : ( في الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا ينصرف حتى يسمع صوتاً أو يجد ريحاً )، واليقين لا يزول بالشك، والأصل باق حتى ينتقل عنه الإنسان بيقين لا شك فيه، فإذا تيقن الحدث وشك في الطهارة فهو محدث؛ لأن الأصل هو الحدث، وإذا تيقن الطهارة وشك في الحدث فهو طاهر ويعتبر الحدث لا شيء لغواً، فالشك يلغى ولا يعتد به، فهو على ما تيقن منهما، يعني: من الحدث أو من الطهارة.
الجواب: أما المني فهو: الذي يخرج عقب الشهوة ويعقبه فتور، وهو أبيض غليظ ومنه يكون الولد.
أما المذي فهو: السائل الرقيق ليس له لون كالماء يخرج عند تحرك الشهوة، وقد يخرج دون علم الإنسان، وهو سائل لزج ليس له لون كما ذكرت.
الجواب: إن كان لم يتوضأ بسبب اجتهاد رآه فلا حرج عليه في ذلك، وإن كان ذلك بتساهل أو تفريط فلا يعذر، أما إن كان الناقض خفياً كلحم الإبل مثلاً، ولم يتوضأ بسبب الجهل؛ لعدم اطلاعه على الحديث فقد نص الإمام أحمد على أنه لا يجب عليه أن يعيد الصلاة.
الجواب: المس مطلقاً إذا مس ذكره بكفه فإنه يوجب الطهارة كما أسلفت.
يعني: بقي أن أشير فيما يتعلق بمس الذكر إلى مسألة ذكرنيها هذا السؤال.
الجواب: إذا مس الإنسان ذكر غيره فهو كما لو مس ذكره، يجب عليه الوضوء، وأما مس ذكر الصبي فكنت ذكرت سابقاً أنه موجب للوضوء، وذلك في شرحي لـبلوغ المرام، ثم ظهر لي أن الصحيح أنه لا يوجب الوضوء؛ لأن الصبي الصغير لا يعد له عورة، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة جداً، منها حديث -وإن كان فيه إرسال-: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما تقول الرواية عن
فبالنسبة للصبي الصغير ليس له عورة، ولهذا لا يكون مس ذكره موجباً للوضوء، خاصة وأن الأم تحتاج إلى ذلك كثيراً، وفي إيجاب الوضوء عليها من ذلك مشقة شديدة.
الجواب: إسبال الإزار ليس ناقضاً للوضوء، والحديث فيه مقال، فيه أبو جعفر رجل من أهل المدينة لا يعرف اسمه، والحديث منكر في لفظه.
الجواب: هذه القصة: ( أن رجلاً أحدث فاستحيا.. ).. فذكر الحديث، هذه القصة لا أصل لها، وكيف يوجب النبي صلى الله عليه وسلم الوضوء على الأمة كلها إلى قيام الساعة من أجل مجاملة لرجل واحد كان في المجلس.
الجواب: أما إن كان من وراء حائل فهذا لا يوجب الوضوء؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : ( إذا أفضى إلى ذكره ليس دونه ستر أو حائل فعليه الوضوء )، أما إن أفضى إليه فعليه أن يتوضأ.
الجواب: الأقرب أنه يبدأ المسح أيضاً؛ لأنه مسح على الخفين، فبدأت مدة المسح، فنقول: يبدأ من أول مسح، سواء كان ذلك بعد الحدث أو قبله، فإذا مسح على الخف بدأ مدة المسح.
الجواب: أنهم يقولون: إنه كغيره من اللحوم، وأنه منسوخ بترك الوضوء مما مست النار.
الجواب: نعم، يوجب إعادة الوضوء، إلا إذا كان ذلك حدثاً دائماً مستمراً كما أسلفت.
الجواب: هذا قول في المذهب -كما أسلفته أمس-، قول في مذهب الحنابلة، وأما دليلهم فهم يقولون: إن واجب القدم في الأصل هو الغسل، فلما لبس الخف انتقل الواجب إلى المسح، فإذا خلع الخف رجع إلى الواجب الأصلي وهو الغسل، فإن كان ذلك عقب الوضوء مباشرة وقبل أن يخل بالموالاة وجب الغسل، وإن أبطأ وتأخر وكان هناك فاصل طويل جداً، فحينئذ يجب أن يستأنف الوضوء كله؛ لأنه أخل بالموالاة، هذه وجهة نظر، ويجب أن أقول: إن هناك قولاً آخر قوياً جداً في المسألة: وهو أن ذلك لا يوجب وضوءاً ولا يبطل طهارة، وإنما يمنع من أن يعيد لبس الخف، وهاهنا نسأل: ما هو الدليل على أنه يمنع من لبس الخف؟ هذا هو الذي يشكل على هذه المسألة.
الجواب: سبق أن ذكرت أن القول الراجح المختار في مسألة الخمر أنها ليست بنجس.
الجواب: كل هذه الأشياء إذا وضعها الإنسان لحاجة حكمها حكم الجبيرة.
الجواب: لأن علياً رضي الله عنه كانت تحته فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
الجواب: ينبغي ألا يكثر الإنسان من الشك في هذا والتفكير فيه؛ لأنني جربت ورأيت كثيراً من الناس لا يظنون أنه وسواس ولا يخطر في بالهم أنهم موسوسون، ولكن كثرة التفكير في الفرج وخروج شيء، وخشية خروج شيء والاحتياط يوجب عند الإنسان استرخاء، وإلا فإن من المعلوم طبياً أنه يبقى في مجاري البول قطرات يسيرة جداً تكون خرجت من المثانة وربما تخرج، ولهذا قال الفقهاء بالعفو عن اليسير من البول لمشقة التحرج منه.
فينبغي للإنسان ألا يكثر من التفكير في ذلك، فإذا توضأ يضع على فرجه وعلى سراويله ماء ويصلي ويتوكل على الله ولا يفكر في ذلك.
الجواب: الحديث صحيح.
الجواب: نعم، مس المرأة بذاته غير ناقض للوضوء، أما مس الفرج فكما أسلفت، مس الإنسان فرجه أو فرج غيره ناقض للوضوء.
الجواب: كلا، نهى عن الصلاة في معاطن الإبل، إن كنت قلت عن الوضوء، فهذا سبق لسان، نهى عن الصلاة.
الجواب: كلا.
الجواب: هذا لا أظنه صحيحاً، بل المعروف عند أهل السير أنه أسلم في السنة السادسة أو السابعة.
الجواب: لا، لم يكن كثيراً مستغرقاً، فإن المستغرق هو الذي لا يبقى معه إدراك، بحيث يغلب على ظن الإنسان أنه لو أحدث لم يشعر بحدث، أما لو قال الإنسان: أنا صحيح نمت، لكنني لو أحدثت لشعرت بذلك، فهذا لا ينتقض وضوءه.
الجواب: الأصل بقاء الطهارة، كما قال المؤلف: (إن تيقن الطهارة وشك في الحدث بنى على اليقين).
الجواب: لا حرج عليه في ذلك، حتى لو كان يتساقط بسبب التسريح أو الدهن أو ما أشبه ذلك، فإنه يسرحها ولا يضره ذلك.
الجواب: هل يسمى المرق لحم الإبل؟ المرق لا يسمى لحم الإبل، فلا يأخذ حكمه.
الجواب: أقوال، الصحيح أن لبن الجزور غير ناقض، وكذلك المرق كما سلف.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر