إسلام ويب

شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب الوضوء -2للشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الوضوء عبادة شرعية تعني الغسل والمسح في أعضاء مخصوصة، وله واجبات لا يجزئ إلا بالإتيان بها، وله سنن يستحب للمسلم المحافظة عليها.

    1.   

    واجبات الوضوء

    هذا اليوم يوم السبت الرابع تقريباً من شهر صفر هو بداية الخمس الثاني من هذه الدورة المباركة في هذا الصيف عام ألف وأربعمائة وأربع عشرة للهجرة.

    أولاً: النية

    قال المصنف رحمه الله: [ والواجب من ذلك: النية ].

    أي: الواجب من هذه الأعمال التي سبق، فإن ما سبق يعتبر وصفاً للوضوء الشرعي أدخل فيه الواجب والمسنون، ثم انتقل بعد ذلك رحمه الله تعالى إلى تفصيل الواجب من المسنون فقال: [ والواجب من ذلك: النية ] للحديث السابق حديث عمر رضي الله عنه، فإن النية واجبة بإجماع أهل العلم بلا خلاف، وهي واجبة في العبادات كلها.

    ثانياً: غسل الأعضاء مرة مرة عدا الكفين

    المسألة الثانية قال: [ والغسل مرة مرة ما خلا الكفين ].

    وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنه الذي رواه الجماعة إلا مسلماً : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة )، وأيضاً جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ مرتين مرتين، وثلاثاً ثلاثاً. فهذا دليل على أن الوضوء مرة مرة كافٍ.

    ومن الدليل على ذلك أيضاً: قوله عليه الصلاة والسلام في حديث لقيط السابق: ( أسبغ الوضوء )، فإن الواجب هو الإسباغ، فإذا حصل الإسباغ بمرة كان كافياً، وما زاد عليه فليس بواجب، فالغسل مرة واحدة كافٍ.

    قال: [ ما خلا الكفين ] أي: ليس بواجب ولا مرة واحدة.

    ومقصوده بالكفين: غسلهما قبل المضمضة والاستنشاق وغسل الوجه. فقد سبق ذكر الإجماع على أنه سنة لم يخالف في ذلك إلا الزيدية، وخلافهم غير معتد به.

    إذاً: غسل الكفين في بداية الوضوء سنة، وسبق التفصيل.

    أما غسل الأعضاء بعد ذلك كغسل الوجه واليدين والرجلين مرة مرة فهو واجب إجماعاً.

    ثالثاً: مسح الرأس

    قال: [ ومسح الرأس كله ] وهذه هي المسألة الثالثة.

    وهذا هو المشهور عند الحنابلة أنه يجب مسح الرأس كله، وعليه غالب الأصحاب منهم، واستدلوا لذلك بأدلة منها:

    أولاً: القرآن الكريم، فإن الله تعالى قال: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، وهذه الآية الأصل أنها دليل على وجوب مسح الرأس كله.

    وأما الباء في قوله: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6] فالراجح أنها للإلصاق، أي: أن في الكف شيئاً يلصقه بالرأس، فليس مسح الرأس باليد مجردة، وإنما مسح الرأس باليد مع ماذا؟ مع الماء، فهذا هو سر وجود الباء في الآية، ولهذا إذا قلت أنت أو كما جاء في بعض الأحاديث أيضاً: ( امسح رأس اليتيم )، هل يلزم أن يكون في اليد شيء تمسح به رأس اليتيم؟ لا، وإنما تمسحه بيدك مجردة من باب ملاطفته ورحمته.

    أما إذا قلت: امسح في الرأس، فذلك دليل على أن اليد تكون مبللة بالماء، ومثله قوله تعالى أيضاً فيما يتعلق بالتيمم: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ [النساء:43]، وهذا دليل على أن اليد فيها أثر الصعيد وهو الغبار، فيمسح به الوجه.

    وأما من قال: إن الباء للتبعيض كما نقله بعض الفقهاء فإن ذلك ليس بجيد؛ لأنه غير معروف عند أهل اللغة، وقد أنكره كثير منهم وقالوا: إن الباء لا تعرف بالإلصاق.

    أما ما جاء في بعض الشواهد وفي بعض الألفاظ: فلا يؤخذ التبعيض من الباء، وإنما يؤخذ من السياق جملة، فهذا هو الدليل الأول الآية، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه مسح رأسه كله، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه، فمسح الرأس كله، فهذا هو المشهور كما أسلفت.

    وهناك قول ثانٍ في المسألة عند الحنابلة وغيرهم: أنه يجزئ مسح معظم الرأس وغالبه؛ لأن من مسح معظم الرأس يطلق عليه أنه مسح برأسه.

    وهناك قول ثالث: أنه يجزئ مسح جزء منه؛ الناصية أو غيرها، واستدلوا لذلك بما روى المغيرة بن شعبة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى العمامة )، فقالوا: إن ذلك دليل على أنه يجزئ المسح على بعض الرأس، ولكن هذا فيه نظر، والذي حققه غير واحد من أهل العلم منهم الإمام ابن القيم رحمه الله وغيره أنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه اقتصر على مسح جزء من الرأس فقط، وإنما هذا مسح على الناصية وأكمل على العمامة ولا إشكال حينئذ، أما أن يمسح جزءاً من الرأس ويترك ما بقي دون الانتقال إلى بديل، فهذا لم ينقل عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

    ولكن الأولى أن يقال في مسح الرأس: أنه لا يجزئ إلا مسح معظمه، أنه لابد من مسح معظمه، ولا يلزم أن يستوعب الرأس كله بالمسح -والله تعالى أعلم-؛ لأن هذا يقال: مسح برأسه إذا مسح غالب الرأس.

    وكذلك أن المسح تسومح فيه، فإنه انتقل من الغسل إلى المسح للتسامح والتيسير، فالمناسب لذلك -كما أسلفنا- أن يتسامح أيضاً فلا يلزم أن يستوعب بالمسح كل شعرة، بل يمسح مجموع الرأس لا جميعه، ونظير ذلك أيضاً ما يقال بتقصير شعر الرأس عند التحلل من الإحرام، فإنه يقصر مجمله ومعظمه ولا يلزم أن يستوعبه كله بذلك، وهذا هو المتناسب مع رخصة المسح والتيسير فيها، وهو لا يعارض الأدلة بل يوافقها كما جاء في حديث المغيرة وغيره.

    رابعاً: ترتيب الوضوء

    قال: [ وترتيب الوضوء على ما ذكرنا ] وهذه هي المسألة الرابعة، وظاهر المذهب: أنه يجب ترتيب الأعضاء، فيبدأ بالوجه، ثم اليدين، ثم الرأس، ثم القدمين، هذا هو ظاهر المذهب.

    وهناك رواية أخرى أيضاً نقلها أبو الخطاب أنه لا يجب -يعني: في المذهب- أنه لا يجب الترتيب، بل يجوز الوضوء من غير ترتيب منكساً، أو يقدم عضواً على آخر، وهذه ليست نصاً عن الإمام أحمد، وإنما هي أخذ من أنه أجاز أن يتمضمض بعدما ينتهي من غسل أعضائه.

    والدليل على وجوب الترتيب: الآية الكريمة، فإن الله تعالى أدخل الممسوح بين المغسولين مما يدل على وجوب الترتيب، فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] فبدأ بالمغسولين: وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، ثم أدخل الممسوح: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، ثم رجع للغسل قال: وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] يعني: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين.

    وهذا يدل على وجوب الترتيب، وإلا لو لم يكن الترتيب واجباً لم يكن لذلك معنى، فإن الكلام اللغوي الفصيح الجزل يقتضي أن تساق المغسولات أولاً، ثم تذكر الممسوحات بعدها لو لم يكن ثمة معنى لإدخال الممسوح بين المغسولات، فهذا دليل على وجوب الترتيب.

    الدليل الثاني الذي ذكره بعض الفقهاء استنباطاً أيضاً واستقراءً من النصوص القرآنية قالوا: إن المأمورات التي ذكرت في القرآن الكريم متعاطفة، وهي مرتبط بعضها ببعض أنها واجبة الترتيب كما في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فإن الركوع يكون قبل السجود، ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، فهذه الأشياء المتعاطفة إذا كان متعلقاً بعضها ببعض ومرتبطاً بعضها ببعض، وكما في قوله تعالى: إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ [البقرة:158] فإن البداءة تكون بالصفا أو بالمروة؟ تكون بالصفا لا بالمروة، بخلاف الأشياء غير المتعلق بعضها ببعض، فإن هذه لا تدخل فيما ذكرنا، كما في قوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ [البقرة:43]، وكما في قوله: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ [التوبة:60] إلى غير ذلك من المواضع.

    الدليل الثالث على وجوب الترتيب: قوله صلى الله عليه وسلم: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) حديث جابر أنه صلى الله عليه وسلم أتى الصفا ثم قال: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، والحديث رواه النسائي بلفظ الأمر: ( ابدءوا بما بدأ الله به )، وهو في صحيح مسلم بلفظ الخبر: ( أبدأ بما بدأ الله به )، فعلى رواية الخبر فإنه قد لا يكون دليلاً صريحاً على الوجوب، لكن على رواية الأمر: ( ابدءوا ) فإن الأصل في الأمر أنه للوجوب إلا إذا وجد قرينة تصرفه عن الوجوب إلى الاستحباب، فقالوا: إن رواية الأمر: ( ابدءوا بما بدأ الله به ) دليل على وجوب الترتيب في الأشياء التي بدأ الله عز وجل بها في القرآن الكريم، ولكن الاستدلال بهذا اللفظ يعتمد على ثبوته، فإن الحديث واحد كما قال الإمام أبو الفتح القشيري، من هو أبو الفتح القشيري وهو ابن دقيق العيد، لكن هذا من الأسماء الخفية، وقد يعبر عنه بغير ذلك، وابن حجر رحمه الله ممن يفعل هذا ليس من باب التدليس؛ لأنه لا مجال للتدليس، لكن من باب التفنن وإثارة الذهن للتيقظ لمثل ذلك، فإن الإمام أبا الفتح القشيري ابن دقيق العيد يقول: إن الحديث واحد. يعني: في أصله. وقد اتفق جماعة من الأئمة الثقات كـمالك، وسفيان، ويحيى بن سعيد القطان على روايته بلفظ الخبر: ( نبدأ بما بدأ الله به ) وليس بلفظ الأمر.

    قال الحافظ ابن حجر : وهم أحفظ من الباقين ممن رووا الحديث، ولهذا يكون المصير إلى روايتهم ويكون الاستدلال برواية الأمر فيه ما فيه.

    وعلى كل حال: فإن الأصل هو وجوب الترتيب، ولعله مما ينبغي أن يساق في الدليل على ذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم فإنه توضأ مرتباً، كما ذكر ذلك الذين نقلوا وضوء النبي صلى الله عليه وسلم كـعثمان وعائشة وعمرو بن شعيب وعلي وغيرهم، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخل بالترتيب إلا في مواضع لا إشكال فيها، مثل: تقديم غسل الوجه على المضمضة والاستنشاق، وهذا لا إشكال فيه، لا يجب تقديم المضمضة والاستنشاق، بل يجوز غسل الوجه قبل المضمضة والاستنشاق؛ لأنهما من الوجه، والعضو الواحد يجوز غسله كيفما اتفق؛ يبدأ من أوله أو من آخره، كل ذلك واسع، فهذا لا إشكال فيه.

    وكذلك جاء أنه صلى الله عليه وسلم تمضمض بعدما انتهى من الوضوء لأنه نسي المضمضة، وهذا أيضاً لا إشكال فيه؛ لأنه قد يقال: إنه لو نسي موضعاً يسيراً من العضو ثم ذكره بعد ذلك قبل أن ينتهي من الوضوء أنه يدلك ذلك الموضع أو يغسله، قد يقال بذلك، أما أن يقال: إن هذا دليل على عدم وجوب الترتيب مطلقاً ففي ذلك نظر.

    مسألة: رفع الحدث بالغسل لا يشترط فيه الترتيب في غسل أعضاء الوضوء

    فيما يتعلق بترتيب الوضوء أيضاً أحب أن أشير إلى ما يتعلق بالغسل، فإن من المعلوم أن الوضوء داخل في الغسل. يعني: لو كان عليه وضوء واجب وغسل واجب فاغتسل بنية رفع الجنابة، هل يحتاج بعد ذلك إلى وضوء خاص لرفع الحدث الأصغر؟ لا يحتاج إلى ذلك، لماذا.. لماذا لا يحتاج؟ لأن الحدث الأصغر يدخل في الحدث الأكبر، فإذا ارتفع الأكبر ارتفع ما دونه، وحينئذ هل يلزم الترتيب في أعضاء الوضوء؟ لا يلزم الترتيب في أعضاء الوضوء؛ لأن الحدث الأصغر دخل في الأكبر كما ذكرنا، والغسل لا يجب فيه ترتيب بل يغسل بدنه بأي صورة كان؛ لأن البدن كله يصبح كالعضو الواحد في حال الغسل، ولا يشترط له ترتيب ولا موالاة أيضاً مثلما هي الحال بالنسبة للوضوء، فيدخل الوضوء حينئذٍ في الغسل حتى إنهم قالوا -وهذا من الطريف- قالوا: لو أنه اغتسل في بدنه كله إلا أعضاء الوضوء، بمعنى: أن هناك إنساناً عليه حدث أكبر فغسل كل أعضائه إلا الوجه واليدين والرأس والرجلين، هل يلزمه الترتيب في هذه الأعضاء إذا أراد غسلها أم لا يلزمه الترتيب؟ قالوا: لا يلزم، لأن الذي سوف يفعله الآن هل هو وضوء أو غسل؟ غسل، والوضوء داخل فيه، فقالوا: حتى لو غسل بدنه كله إلا أعضاء الوضوء فإنه لا يلزمه أن يرتب بينها، بل يجزئه أن يغسلها غير مرتبة، لأن الأمر حينئذ غسل وليس وضوءاً.

    خامساً: الموالاة في الوضوء

    قال: [ ولا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله ] وهذه هي المسألة الخامسة.

    وهذا ما يعرف عند الفقهاء بالموالاة، والمصنف يذهب إلى أن الموالاة واجبة؛ لأنه ذكرها في الواجبات، وهذا هو ظاهر المذهب، والمنصوص في رواية الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهناك رواية أخرى أن ذلك لا يجب بل هو مستحب.

    والدليل على وجوب الموالاة عدة أدلة: بعضهم أخذ ذلك من الآية، لكن هذا فيه شيء من التكلف، وإنما ثبت ذلك بالسنة في أحاديث، منها: حديث خالد بن معدان رحمه الله تعالى عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً في قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء والصلاة ) قالوا: لو كان يكفيه أن يغسل اللمعة فقط لأمره النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فلما أمره بإعادة الوضوء دل على وجوب الموالاة بين أعضاء الوضوء؛ لأن القدم هي آخر ما يغسل، والحديث رواه أحمد وأبو داود وإسناده جيد كما قال ذلك الإمام أحمد، سئل: إسناد هذا الحديث جيد؟ قال: إسناده جيد، وحسنه غير واحد وله شواهد.

    ومن ذلك أيضاً: حديث عمر رضي الله عنه وهو في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً ترك موضع ظفر من قدمه لم يغسله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ارجع فأحسن وضوءك )، فهذا دليل على وجوب الموالاة في الوضوء.

    والموالاة عبر عنها المصنف بأنه [ لا يؤخر غسل حتى ينشف الذي قبله ]، وذلك لأنه لم يرد في الموالاة حد شرعي، فيرجع في ذلك إلى العادة، فما فحش في العادة اعتبر إخلالاً بالموالاة، وما لم يفحش لم يعد إخلالاً.

    وينبغي أن نشير إلى أن في المسألة قولاً ثالثاً ذكره الإمام ابن تيمية رحمه الله، ونسبه إلى أنه قول في المذهب واختاره، وهو أن الموالاة تجب إلا لعذر، أي: أنه يجوز الإخلال بالموالاة إذا كان ذلك لعذر كإنقاذ مسلم من هلكة مثلاً، أو لأمر يتعلق بالوضوء، وهذا نقل عن أحمد رحمه الله أنه قال: إن كان ذلك لأمر الوضوء فلا بأس، يعني: مثلما لو احتاج إلى الماء أو كان الماء شحيحاً أو كان زحاماً شديداً في الحصول على الماء أو ما أشبه ذلك.

    وأيضاً ينبغي أن يقال: مثله الموسوس الذي يغسل العضو ثم يبدأ يتردد ويظن أن العضو نشف، ثم يقول: أنه أخل بالموالاة ويبدأ من جديد وما أشبه ذلك، فهذا يقال له: لا يلزمك الموالاة، بل تغسل العضو، ثم تغسل الذي بعده بأي صورة كان ذلك.

    هذه هي الأشياء التي ذكر المصنف رحمه الله أنها تدخل في الواجبات.

    1.   

    سنن الوضوء

    قال: [ والمسنون ]. انتقل بعد ذلك إلى المسنونات.

    أولاً: التسمية

    قال: [ والمسنون: التسمية ]. يعني: التسمية على الوضوء أن يقول: (بسم الله)، أو أن يقول: (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقد سبق أن بينا دليل سنيته وهو الحديث، والصوارف عن الوجوب وذكرت في أول هذا الدرس، وهذه هي المسألة السادسة.

    ثانياً: غسل الكفين

    قال: [ وغسل الكفين ] يعني: ثلاثاً، وقد جاء هذا في بعض نسخ العمدة، فمن لم يكن هذا موجوداً عنده فليلحقه بالمتن: [ وغسل الكفين ثلاثاً ]، وهو مستحب، مسنون بالإجماع، وهذه هي المسألة السابعة.

    ثالثاً: المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً

    قال: [ والمبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائماً ] أما المبالغة في المضمضة والاستنشاق فلها أدلة، منها حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( تمضمض مرتين بالغتين أو ثلاث )؛ لأن قوله: ( بالغتين ) دليل على المبالغة في المضمضة ومثله الاستنشاق، ومنه أيضاً حديث لقيط بن صبرة الذي رواه الخمسة وقال الترمذي : حسن صحيح وصححه أهل العلم، وسبق غير مرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( أسبغ الوضوء وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً )، وفي رواية: ( إذا توضأت فمضمض ) فهذا دليل على استحباب المبالغة في المضمضة والاستنشاق.

    هل يمكن أن يقال: إن حديث لقيط دليل على وجوب المبالغة؛ لأنه أمر بذلك وقال: ( بالغ في الاستنشاق ) وفي حديث ابن عباس : ( تمضمض مرتين بالغتين )، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، فهل يمكن أن يقال: إن هذا دليل على وجوب المبالغة في المضمضة والاستنشاق، وما هو الصارف عن الوجوب؟ الصارف قوله: ( إلا أن تكون صائماً )، ما وجه كون ذلك صارفاً؟ لأنه لو كان واجباً لم يسثنِ من ذلك حالة الصيام، وإلا كان واجباً بالإطلاق، سواءً في حال الصيام أو في غيره، فلما أباح ترك ذلك وأذن فيه حال الصيام دل على أنه ليس بواجب، لأنه لو كان واجباً ما ترك للصوم، فهذا دليل على أنه مستحب في غير حال الصيام. وهذه هي المسألة الثامنة.

    رابعاً: تخليل اللحية والأصابع

    المسألة التاسعة: قال المصنف رحمه الله: [ وتخليل اللحية والأصابع ].

    وقد سبق التفصيل في تخليل اللحية بينما إذا كانت خفيفة أو كثيفة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخلل لحيته.

    وأما الأصابع والمقصود بها أصابع اليدين والرجلين فالسنة تخليلها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك كما في حديث ابن عباس، وفعله كما في حديث المستورد بن شداد، وهو من الإسباغ الذي أمر به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في حديث لقيط، وكذلك جاء في حديث لقيط الأمر بتخليل الأصابع: ( وخلل بين الأصابع )، ويدخل في ذلك أصابع اليدين والرجلين، وهي سنة كما ذكر المصنف، وتنتقل إلى الوجوب في حال واحدة وهي إذا كانت الأصابع متلاصقة جداً بحيث لا يصل الماء إلى باطنها إلا بالتخليل.

    خامساً: مسح الأذنين

    قال المصنف: [ ومسح الأذنين ].

    فالمصنف ذهب إلى أن مسح الأذنين ليس بواجب بل هو سنة، مع أن الأذنين من الرأس كما سبق، فما هي حجة المصنف ومن وافقه على عدم وجوب مسح الأذنين؟ قالوا: لأن اعتبارهما من الرأس هو أمر حكمي، ولذلك جاء في بعض النصوص أنهما من الوجه كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سجد وجهي لله الذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره )، فنسب السمع إلى ماذا؟ إلى الوجه، وهذا الدعاء يقال أين؟ يقال في سجود التلاوة، ثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن ذلك دليل على أن الأذنين من الرأس حكماً، ولا يلزم أن تكون منه بكل حال، فلا يجب مسحهما.

    وكذلك قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم مسحهما بماء فضل من الرأس، ولم يأخذ لهما ماءً جديداً، فدل ذلك على عدم الوجوب.

    وفي المسألة قول آخر في المذهب: أنه يجب مسح الأذنين، وبطبيعة الحال فإن المسح في الأذنين السنة فيه أن يدخل السبابة في صماخ الأذن، ويجعل الإبهام على ظاهر الأذن، ثم يديرهما إلى أن يصل إلى نهاية الأذن، فيمسح بذلك ظاهر أذنيه وباطنهما كما في حديث ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح الأذنين ظاهرهما وباطنهما )، وهو عند الترمذي، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

    وعلى كل حال: فإن هذا داخل فيما أسلفت من أن الواجب في مسح الرأس أن يغسل معظم الرأس، فالأذنان من الرأس، فينبغي أن يمسحا ولو لم يستوعبهما في المسح.

    سادساً: غسل الميامن قبل المياسر

    قال في المسألة الحادية عشرة: [ وغسل الميامن قبل المياسر ] يعني: اليمين قبل الشمال، كأن يغسل اليد اليمنى قبل اليسرى، أو الرجل اليمنى قبل اليسرى، فإن هذا ليس بواجب بل مستحب، ولا يجب الترتيب بين العضو الواحد، فيجوز أن يغسل الشمال قبل اليمين؛ وذلك لأن مخرجهما واحد في كتاب الله تعالى: وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] من غير تفصيل، فلم يذكر اليمين قبل الشمال، فدل ذلك على عدم الوجوب، وهذا ظاهر معروف.

    أما استحباب غسل اليمين فأدلته كثيرة: منها حديث عائشة المتفق عليه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله )، فهذا من طهوره أن يغسل اليمين قبل الشمال، وقد يؤخذ من حديث عائشة رضي الله عنها عدم وجوب غسل اليمين قبل الشمال، كيف يؤخذ ذلك؟ كيف يؤخذ عدم الوجوب ( كان يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله ) يؤخذ منه: عدم الوجوب، وإنما على الأفضلية والاستحباب، فإن هذا لا يعبر به عن الواجب.

    وكذلك من الأدلة على استحباب غسل اليمين قبل الشمال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم )، حديث أبي هريرة : ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم )، وهذا حديث صحيح رواه أبو داود وابن ماجه وسنده صحيح، زاد ابن حبان وغيره: ( وإذا لبستم )، قد يقال: الحديث دليل على وجوب البداءة باليمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في قوله: ( إذا توضأتم فابدءوا بميامنكم )، والصارف عن الوجوب حديث عائشة السابق: ( كان يعجبه )، وأيضاً من الحديث قوله: ( وإذا لبستم ) في رواية ابن حبان، فإنه لا قائل بوجوب لبس اليمين قبل الشمال لا في الثياب ولا في النعال ولا في غيرها، وإنما ذلك على سبيل الاستحباب، فيستحب أن يلبس النعل اليمنى قبل اليسرى، ويستحب أن يدخل الكم الأيمن قبل الأيسر، لكن لا قائل بالوجوب، فقرن اللبس مع الوضوء فدل على عدم الوجوب، وهذا يسمى عند الأصوليين، نعم دلالة الاقتران، يسمى عند الأصوليين دلالة الاقتران.

    سابعاً: غسل أعضاء الوضوء ثلاثاً ثلاثاً

    المسألة الثانية عشرة: [ والغسل ثلاثاً ثلاثاً ] يعني: غسل كل عضو ثلاثاً ثلاثاً، وذلك لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً، ولما جاء في حديث عثمان وهو متفق عليه، ولما جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة الأعرابي الذي سأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الوضوء، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثاً ثلاثاً، فهذا دليل على أن السنة أن يتوضأ ثلاثاً.

    ولو خالف بين الأعضاء فغسل عضواً ثلاثاً وعضواً مرتين وعضواً مرة واحدة فهل في ذلك من حرج أو بأس؟

    الصواب: أنه لا بأس بذلك ولا حرج فيه، بل فعله النبي صلى الله عليه وسلم فتوضأ ثلاثاً ثلاثاً، ومرتين مرتين، ومرة مرة وذلك لبيان الجواز، ولو خالف بين الأعضاء لم يكن في ذلك حرج أيضاً.

    مسألة: كراهة الزيادة على ثلاث غسلات لأعضاء الوضوء

    المسألة الثالثة عشرة: قال: [ وتكره الزيادة عليها ] أي: على الثلاث؛ وذلك لأن هذا فيه زيادة على ما شرع الله تعالى وعلى ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وضوء النبي صلى الله عليه وسلم انتهى إلى الثلاث، والزيادة عليه تنطع وتقعر لم يأذن به الله تعالى، هذا من وجه.

    الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما توضأ للأعرابي كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص وهو حديث حسن كما أسلفت قال له بعد ذلك: ( هذا الوضوء، فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم )، والحديث رواه أحمد، وأبو داود وقد ذكرته غير مرة.

    فقوله: ( فمن زاد فقد أساء وتعدى وظلم ) دليل على أن الزيادة على الثلاث مذموم وهو إساءة وتعدٍ وظلم.

    الدليل الثالث: أن ذلك يفضي إلى الوسوسة وهي أيضاً من مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم والتنطع في الدين، وقد جاء في حديث صحيح سوف يأتي إن شاء الله وهو حديث عبد الله بن مغفل عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء )، فهذا من الاعتداء في الطهور أن يغسل الإنسان العضو أكثر من ثلاث مرات، أو يبالغ في الغسل مبالغة تخرج عن حد الإسباغ إلى حد الوسوسة، ولهذا قال المصنف رحمه الله: (وتكره الزيادة عليها)، يعني: الضمير في قوله: (عليها) يعود على ماذا؟ على الغسلات الثلاث.

    مسألة: كراهية الإسراف في الماء

    المسألة الرابعة عشرة: قال: [ والإسراف في الماء ] يعني: أن هذا من المكروه، فكأن المصنف رحمه الله انتقل من المسنونات إلى المكروهات، وسوف يعود بعد ذلك إلى السنن، فقال: (وتكره الزيادة عليها والإسراف في الماء)، أي: أن الإسراف في الماء مكروه، وهذا لا شك فيه؛ لقوله تعالى: َلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، وربما يستأنس بقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا [الإسراء:27].

    أما السنة فقد جاء في ذلك أحاديث، منها حديث سعد رضي الله عنه: ( أنه كان يتوضأ فمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: لا تسرف. قال: يا رسول الله! أوفي الوضوء إسراف؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم. ولو كنت على نهر جارٍ )، والحديث رواه ابن ماجه وفي سنده ضعف، من ذلك أن فيه عبد الله بن لهيعة وفيه مقال فقد احترقت كتبه فأصبح يحدث من حفظه، وهذا ليس من رواية العبادلة عنه، ففيه ضعف من هذا الوجه حديث سعد بن أبي وقاص : ( لا تسرف ولو كنت على نهرٍ جار ).

    ومثله أيضاً حديث أبي بن كعب أنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن للوضوء شيطاناً يقال له: الولهان )، هذا الحديث رواه ابن ماجه وأحمد، وهو لا يعرف إلا من حديث خارجة بن مصعب وهو ضعيف، والأصح أن يحتج ويستدل بما ذكرته قبل قليل من حديث عبد الله بن مغفل : ( أن أباه سمعه يقول: اللهم إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الداخل إلى الجنة. -يعني: الرجل يصف كأنه دخل الجنة ورأى القصر الأبيض عن يمينك إذا دخلت، فكان يقول: اللهم! إني أسألك القصر الأبيض عن يمين الداخل إلى الجنة- فقال له أبوه وقد سمعه: يا بني! اسأل الله الجنة وتعوذ به من النار، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سيكون أقوام يعتدون في الطهور والدعاء )، وهذا الحديث رواه أحمد وغيره وسنده صحيح، فهذا دليل على النهي عن الإسراف في الماء والمبالغة في ذلك والزيادة على الثلاث كما سبق.

    السواك والمواطن التي يسن فيها

    المسألة الخامسة عشرة: قال المصنف: [ ويسن السواك عند تغير الفم ] إلى آخر ما ذكر.

    فهذا يتعلق بالسواك، وهو من سنن الوضوء، ولهذا ناسب أن يذكره المصنف هاهنا، مع أنه من سنن الفطرة على العموم ومن سنن المرسلين، وذكر المصنف بعد قليل أنه يستحب في سائر الأوقات، ولكن مناسبة ذكره عند الوضوء أنه يستحب عند الوضوء أيضاً.

    فقال المصنف: [ ويسن السواك ] والسواك من السنن المتواترة في الجملة، فقد جاء فيما يزيد على مائة حديث فهو من المتواتر المعنوي، جاء فيما يزيد على مائة حديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فضل السواك أو الأمر به أو ذكر مواضعه أو ما أشبه ذلك، ولهذا يصلح مثالاً للمتواتر المعنوي، يعني: الذي ثبتت فيه أحاديث كثيرة جداً لا بالألفاظ ولكن بالمعنى.

    ويسن في مواضع أو يتأكد في مواضع:

    الموضع الأول: أشار إليه المصنف بقوله: (عند تغير الفم)، وذلك يمكن أن يستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )، وقد رواه النسائي وغيره عن عائشة رضي الله عنها وهو حديث صحيح، فإن قوله: ( مطهرة للفم ) دليل على أنه يستحب لتطهير الفم، فإذا تغير الفم إما بأكل أو بنوم أو بكلام أو بغير ذلك فإنه يستحب السواك لإزالة تغيره، هذا هو ظاهر الحديث: ( السواك مطهرة للفم ).

    الموضع الثاني: قال: [ وعند القيام من النوم ]، وإنما يستحب السواك عند القيام من النوم لما جاء في الصحيحين من حديث حذيفة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يشوص فاه بالسواك )، ومعنى: (يشوص فاه) أي: يدلكه ويغسله يقال: شاصه وماصه يعني: غسله، وهذا معروف عند العامة. يقال: أموص هذا الإناء يعني: أغسله، هذا من فصيح العامية.

    فقول حذيفة رضي الله عنه: ( يشوص فاه بالسواك ) أي: يدلكه ويغسله، فهذا دليل على استحباب السواك للقائم من النوم.

    الموضع الثالث: عند الصلاة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة وهو متفق عليه: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، ومعنى: ( لأمرتهم بالسواك ) أي: لأوجبته عليهم، وإلا فهو مستحب بلا شك، ولهذا جاء في بعض الروايات: ( لفرضت عليهم السواك ) وهذه رواية مفسرة، وذلك دليل على أن السواك ليس بواجب، فهو دليل لما قاله المصنف: (ويسن السواك) أي: ولا يجب في حال من الأحوال، فهو دليل على أن السواك ليس بواجب على الأمة.

    وهل هو واجب على النبي صلى الله عليه وسلم؟

    قولان في المذهب وغيره؛ قيل: هو واجب عليه صلى الله عليه وآله وسلم؛ لما جاء في حديث لا بأس بإسناده: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خشي أن يفرض عليه الوضوء لكل صلاة فعفي عن ذلك وأمر بالسواك )، فدل ذلك على وجوب السواك عليه، والقول الثاني -وهو الراجح- أن السواك ليس بواجب أيضاً على النبي صلى الله عليه وسلم لأدلة كثيرة منها: أولاً: أن الأصل مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته في سائر الأحكام، وإذا كان السواك غير واجب على الأمة فالأصل أنه ليس واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم، هذا واحد.

    ثانياً: أن الأصل براءة الذمة أيضاً.

    ثالثاً: ما جاء في الحديث الصحيح عند أحمد وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لقد أمرت بالسواك حتى خشيت أن يكتب علي )، فهذا دليل على أنه لم يكتب عليه، يعني: لم يوجب عليه، أما الاستحباب والسنية فهو ثابت في حقه صلى الله عليه وسلم كما هو ثابت في حق أمته.

    إذاً: الحال الثالثة: أنه يستحب السواك عند الصلاة؛ لقوله: ( لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، وهناك حالة أخرى يستحب فيها السواك لم يذكرها المصنف، منها الحال الرابعة: عند دخول المنزل؛ لما رواه مسلم : ( عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت: بأي شيء كان يبدأ النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك )، فهذا دليل على استحبابه عند دخول المنزل.

    الخامس: عند الوضوء، سواءً في بداية الوضوء أو عند المضمضة؛ لما جاء في الحديث الذي رواه أهل السنن وسنده صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لولا أن أشق على أمي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )، يعني: لأوجبته عليهم، فهذا دليل على استحبابه عند كل وضوء.

    الحال السادسة: عند قراءة القرآن، وقد جاء عن علي وغيره من طرق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أفواهكم طرق القرآن أو مجاري القرآن فطيبوها بالسواك )، الحديث له طرق كثيرة لا تخلو من مقال، ولكن قال غير واحد: يشد بعضها بعضاً .

    ويمكن أن يعزز ذلك بالسواك للصلاة، فإن هذا نظيره، فإن الصلاة قراءة ومناجاة، وكذلك قراءة القرآن، وإذا كان يستحب أن يطيب الإنسان فمه لمخاطبة المخلوقين، فكذلك بل أولى أن يطيبه لقراءة كلام الله جل وتعالى.

    فهذه ستة مواضع يستحب للإنسان أو يتأكد الإنسان أن يستاك فيها.

    مسألة: استحباب السواك في سائر الأوقات

    ويستحب السواك في سائر الأوقات كما ذكر المصنف: [ ويستحب في سائر الأوقات ]؛ لعمومات الأدلة، ومنها ما ذكرته قبل أنه ثبت في السواك ما يزيد على مائة حديث، ومنه أيضاً قول عائشة فيما روته عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( السواك مطهرة للفم مرضاة للرب )، فهذا عموم: ( السواك مرضاة للرب ) يدل على استحباب السواك في كل حال.

    ومما يتعلق بمباحث السواك -ما دمنا بدأنا فيها نكملها- مما يستحب في السواك: أنه يستاك باليد اليسرى كما سبق أن أشرت إلى هذا المبحث، نص عليه الإمام أحمد رحمه الله أنه يستاك بالشمال كما في رواية ابن منصور أو أبي منصور الكوسج عن الإمام أحمد .

    وقال الإمام ابن تيمية : وما علمنا أحداً خالف في ذلك من الأئمة. والظاهر أن الخلاف معروف، فمنهم من قال: إن السواك تطهر فهو من باب الاستطابة فيكون بالشمال. ومنهم من قال: أنه يكون باليمين مطلقاً. ومنهم من فصل في ذلك، فقال: إن كان السواك لتطييب الفم من تغير أو نحوه فإنه يكون بالشمال، وإن كان لصلاة أو نحوها فإنه يكون باليمين. والمسألة ليس فيها أدلة يمكن أن يعتمد عليها في الترجيح. والله تعالى أعلم.

    إذاً: ذكرنا الخامسة عشرة مسألة السواك وأحواله، والسادسة عشرة قوله: [ يستحب في سائر الأوقات إلا للصائم بعد الزوال ] هذه السادسة عشرة، [ ويستحب السواك في سائر الأوقات إلا للصائم بعد الزوال ]، هذه هي المسألة السادسة عشرة في السواك أضيفها.

    مسألة: حكم السواك للصائم بعد الزوال

    قوله: [ إلا للصائم بعد الزوال ] مسألة السواك للصائم بعد الزوال فيها:

    أولاً: أما المذهب فكما قال ابن عقيل رحمه الله أبو الوفاء يقول: لا يختلف المذهب أنه لا يستحب السواك للصائم بعد الزوال.. لا يختلف المذهب في ذلك.

    أما العلماء فهم مختلفون، ففي المسألة قولان: قيل: لا يستحب للصائم بعد الزوال بل هو مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الحديث المتفق عليه: ( لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك )، وقالوا: الخلوف هو: رائحة الفم بعد الزوال من التغير الذي يكون بسبب الصيام، فالسواك يزيل ذلك، والخلوف رائحة مستحبة فلا ينبغي إزالتها، فهي كدم الشهيد ونحو ذلك، وكأثر العبادة على الوجه، وربما قال بعضهم: هي كالماء الذي يكون بعد الوضوء وما أشبه ذلك، فهذا من حجتهم.

    ومن حجتهم أيضاً: حديث علي : ( إذا صمتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي )، وهذا الحديث لا يصح.

    والقول الثاني: أنه يستحب السواك للإنسان قبل الزوال وبعده للصائم وغيره، وهذا هو الراجح، أن السواك مستحب قبل الزوال وبعده لأدلة منها:

    أولاً: قوله عليه الصلاة والسلام: ( لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة )، (فكل) هاهنا من ألفاظ العموم تشمل ما قبل الزوال وما بعده، وهو حديث صحيح ومضى.

    وكذلك حديث: ( لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء )، فهذا (كل) من ألفاظ العموم تشمل ما قبل الزوال وما بعده، وكذلك عمومات الأمر بالسواك كما في قوله: ( مطهرة للفم مرضاة للرب )، وهذا هو المعتمد من الأدلة.

    ومن ذلك أيضاً: ( رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا أحصي يستاك وهو صائم ) قول عامر بن ربيعة، والحديث رواه الترمذي وغيره وقال: حديث حسن، والواقع أن الحديث ضعيف أيضاً فيه عاصم بن عبيد الله .

    فالأحاديث النافية والمثبتة في موضوع السواك بعد الزوال ضعيفة، فنرجع إلى العمومات ونعتمد عليها.

    وأما حديث: ( ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ) فيجاب عنه بأجوبة منها:

    أولاً: أن هذه الرائحة ليست من الفم بل هي من المعدة، فلا تعلق للسواك بها ولا يزيلها السواك، هذا أولاً.

    ثانياً: أن قوله: ( أطيب عند الله ) لم يقل عند الناس ( أطيب عند الله من ريح المسك )، فهذا لا يمنع أن تزال، بل جاء في بعض الألفاظ: ( أطيب عند الله تعالى يوم القيامة من ريح المسك )، فالسواك لا تعلق له بذلك، ولا مانع من أن يطيب الإنسان هذا الأمر، ونحن لم نتعبد بوجود هذه الرائحة الكريهة، إنما تعبدنا بالصيام، فلو كان سبيل إلى إزالة هذه الرائحة دون الإخلال بالصوم لم يكن في ذلك من حرج، وإنما كان طيبها لأنها أثر من عبادة، فإذا وجدت العبادة كانت العبادة هي المحبوبة إلى الله تعالى وليست ذات الرائحة، كما أن الكلام فيما يتعلق بدم الشهيد أنه أطيب عند الله من ريح المسك، ليس الكلام للدم ذاته، فإن الدم قد يقال بأنه نجس، ولكن الطيب لأن ذلك ناتج عن مجاهدة واستشهاد في سبيل الله جل وتعالى.

    هذا خلاصة ما يقال في موضوع السواك بعد الزوال، وهي المسألة السادسة عشرة.

    الغرة والتحجيل

    المسألة السابعة عشرة ألحقها في باب الوضوء مسألة تتعلق بما جاء في حديث أبي هريرة الغرة والتحجيل، التحجيل والغرة، والغرة تكون بغسل شيء من الرأس مع الوجه، والتحجيل يكون بغسل العضدين مع اليدين وغسل الساقين مع القدمين، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يفعل ذلك إذا لم يكن أحد يراه، وهذا من فعله واجتهاده رضي الله عنه لم ينقله عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كان يتخفى منه ويقول لبعض بني فروخ: [ لو كنت أعلم أنكم ترونني ما فعلته ].

    أما قوله: ( إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، فمن استطاع منكم أن يطيل غرته وتحجيله فليفعل )، فإن هذا مدرج من كلام أبي هريرة رضي الله عنه، حكم بذلك الأئمة الكبار كـابن حجر وابن القيم، وابن تيمية، والنووي وغيرهم من أهل العلم صرحوا بأن هذا الكلام مدرج من قول أبي هريرة رضي الله عنه، وليس من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والسنة ألا يجاوز الإنسان ما كان يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، كان يغسل يده حتى يشرع في العضد من أجل أن يطمئن إلى غسل المرفقين، ويغسل رجله حتى يشرع في الساق من أجل أن يطمئن إلى غسل ماذا؟ الكعبين، من أجل أن يطمئن؛ لأن الكعبين والمرفقين مأمور بغسلهما، أما الساق وأما العضد فليس مأموراً بغسلها، ولهذا يغسل اليد ويشرع في العضد، ويغسل الرجل ويشرع في الساق حتى يطمئن إلى استيعاب جميع المفروض في الغسل، لكن المبالغة في غسل الساق وغسل العضد هذا ليس بمشروع، وهو زيادة ينبغي أن يقال: إنها مكروهة وقد تفضي إلى الوسوسة.

    1.   

    بعض سنن الفطرة

    هاهنا مسائل أيضاً تتعلق بالسواك؛ لأن السواك ذكره المصنف وهو يتعلق بسنن الفطرة، فأذكر بعض سنن الفطرة بإيجاز؛ لأنه قد لا تتاح الفرصة لذكرها في غير هذا الموضع.

    أولاً: الاكتحال

    من ذلك: الاكتحال، فإنه يسن أن يكتحل الإنسان وتراً، يعني: ثلاثاً ثلاثاً، ثلاثاً في اليمين وثلاثاً في الشمال، خاصة بكحل الإثمد، وهو حجر معروف أحمر يميل إلى السواد بـالمدينة، وأحسن الإثمد نوع يؤتى به من أصبهان، وهو كحل معروف طيب مفيد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاكتحال به عند النوم، كما في حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير أكحالكم الإثمد ) وهو بكسر الهمزة وسكون الثاء وكسر الميم، ( خير أكحالكم الإثمد ينبت الشعر ويجلو البصر )، يعني: شعر العين، ويجلو البصر أي أنه يطيبه ويزينه، والحديث رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح، وابن ماجه، وأحمد، وأبو داود وغيرهم، وهو كما قال الترمذي رحمه الله تعالى.

    ومن الطريف أنني رأيت دكتوراً كبيراً في بعض بلاد الغرب طبيباً في العيون ومتخصصاً، وقال لي: إن بنته أصيبت بمرض شديد في عيونها، وقال الأطباء: إنه لا أمل فيها، وأن عيونها سوف تذهب، فقال: كحلتها بالإثمد فشفاها الله تعالى، وهو طبيب ثقة رأيته وسمعت منه بنفسي، فشفاها الله تعالى من ذلك. وكأن فيه خاصية بجلاء البصر وإزالة بعض الأشياء التي تؤثر فيه.

    هذا ما يتعلق بالاكتحال، والحديث عام، وقد جاء في بعض الأحاديث ( أن النبي صلى الله عليه كان يكتحل عند النوم وتراً )، قال بعضهم: (وتراً) يعني: ثلاثاً في اليمنى وثنتين في اليسرى، ليكون المجموع وتراً، والصواب: أنه يكتحل ثلاثاً ثلاثاً كما جاء ذلك عند أبي الشيخ في أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وعند ابن سعد وسنده صحيح، فالسنة أن يكتحل ثلاثاً ثلاثاً، هذا معنى قوله: ( وتراً )، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: ( اكتحلوا وتراً ).

    ثانياً: الترجل

    المسألة الثانية: [ الترجل ].

    والمقصود بالترجل: تسريح شعر الرأس ودهنه، بل دهن البدن كله، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ففي شمائل الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدهن غباً ويكتحل وتراً )، يعني: يوماً بعد يوم، قال العراقي : إسناده حسن كما في تعليقه على إحياء علوم الدين قال: سنده حسن، فهو دليل على أن الادهان -يعني: دهن شعر الرأس والبدن- سنة مأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر نهى عن الادهان إلا غباً، يقول: لا تدهن يومياً، وإنما تتدهن يوماً بعد يوم لئلا تنشغل بدهن رأسك دائماً، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الادهان إلا غباً، وحديث جابر رواه أبو داود، وأحمد وغيرهم، وقال الترمذي وقد رواه: حديث حسن صحيح. وإسناده جيد، ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الادهان إلا غباً )، فدل ذلك على أنه ينبغي أن يقتصر في الادهان على أن يدهن يوماً بعد يوم، وينبغي أن يقيد ذلك أيضاً فيما إذا لم يكثر شعر الإنسان، أما إذا كثر شعره كما إذا كان جمة أو لمة إلى أذنيه أو إلى منكبيه فإنه حينئذٍ يرخص له أن يدهنه كل يوم ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه أبو هريرة : ( من كان له شعر فليكرمه )، والحديث رواه أبو داود وسنده حسن، وقد رخص النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً لمن كثر شعره بذلك وأمره بإكرامه والقيام عليه.

    وهذا يدل على ضرورة عناية الإنسان بذلك وتعاهده؛ لئلا تكون منه الرائحة أو الشعث، وقد جاء في حديث رواه أبو داود وغيره وهو صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً شعثاً رأسه فقال: ( أما يجد هذا ما يدهن به رأسه )، وقال في رواية أخرى: ( أمر الرجل أن يتزين ويتطيب. وقال: هذا خير من أن يأتي أحدكم أشعث الرأس كأنه شيطان ).

    مسألة: اتخاذ الشعر أفضل أم إزالته

    ومما يتعلق بذلك مسألة: هل اتخاذ الشعر أفضل أم إزالته؟ وهذه مسألة شهيرة، وقد نص أحمد رحمه الله تعالى على أن اتخاذ الشعر وإبقاءه أفضل من حلقه، وقال: إن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان لهم جمم وعشرة كان لهم شعر، يعني: بعضهم كان شعرهم جمة، وبعضهم كان أطول من ذلك أحياناً يكون إلى المنكبين، وكذلك شعر النبي صلى الله عليه وسلم، كان له شعر -كما في الصحيح- يضرب إلى منكبيه، وأحياناً إلى شحمتي أذنيه، فإذا طال فإلى المنكبين، وإذا قصر فإلى شحمتي الأذنين، وربما يقال: إن بعضه إلى هاهنا، وبعضه إلى هاهنا، فهذا دليل لمن قال باستحباب ذلك، وقد نص الإمام أحمد على أن ذلك سنة مستحبة.

    وهل يكره حلقه؟

    روايتان في المذهب: الرواية الأولى: نعم يكره حلقه؛ لأدلة منها قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوارج كما في الصحيح: ( سيماهم التحليق )، وقال عمر لـصبيغ بن عسل الذي كان يكثر من السؤال: [ لو وجدتك محلوقاً لضربت الذي فيه عينيك ] يعني: رأسك؛ لأن هذه سيما الخوارج، فقالوا: ذلك دليل على الكراهة، وقد جاء في حديث: ( لا توضع النواصي إلا في حج أو عمرة )، يعني: الحلق.

    والقول الثاني: أن ذلك لا يكره، ومن الدليل على عدم كراهته ما جاء في سنن أبي داود وغيره، ورواه أحمد وإسناده صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى غلاماً محلوقاً بعض رأسه فقال عليه الصلاة والسلام: ( احلقوه كله أو دعوه كله )، فهذا دليل على أن حلق الرأس كله جائز غير مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رخص به وقال: ( احلقوه كله أو دعوه كله )، وكذلك جاء في قصة آل جعفر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمهل آل جعفر ثلاثاً، ثم أتاهم بعد ذلك، وقال: ائتوني ببني جعفر، فأتوه بهم وهم صغار فقال: ائتوني بالحلاق، فأمر بهم فحلق رءوسهم )، وهو حديث صحيح رواه أحمد وأهل السنن، فهذا دليل على جواز الحلق بلا كراهة وهو أقرب، ولكن إبقاء الشعر أفضل وأولى كما سبق وهو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو المعروف عند أصحابه مع العناية بالشعر وإكرامه، وقد كان الإمام أحمد رحمه الله يزيل شعره ويتعلل بالمئونة؛ لأنه لا يجد قوة على تعاهد شعره بالتسريح والدهن والترجيل وغير ذلك؛ لانشغاله بأمور كثيرة، فيقول: نعجز عن تعاهد الشعر والقيام بمئونته ويتعذر عن إبقاء الشعر.

    هذا فيما يتعلق بترجيل الشعر وتسريحه ودهنه.

    وأنا أبحث هذه المسائل لغرض، يعني أولاً: لأنها تتعلق بالسواك، وقد بحثها الإمام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة في هذا الموضع.

    والأمر الثاني: أنها مناسبة أن تبحث الآن؛ لأن الناس اليوم ينظرون إلى الشباب المتدين كأنهم الشامة فيهم، ويراقبون أعمالهم وتصرفاتهم وملابسهم، وطريقتهم في الأخذ والعطاء والارتفاق واللبس والقيام والقعود والدخول والخروج والكلام وكل شيء، فهم الآن كما يقول العوام: في عين الزبون، مثل البضاعة التي في عين الزبون، وذلك يوجب أن ينتبهوا إلى هذا الأمر، ويدركوا أنهم محل نظر، فهناك عدو ينظر يبحث عن العيب لينتقده، وهناك محب ينظر ليبحث عن المحاسن، وهناك أحد متردد يسمع النقد والمدح ويريد أن يتأكد بنفسه، فمثل هذه المباحث هي مباحث شرعية أصلية وهي من سنن المرسلين كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( عشر من سنن المرسلين ) وذكر بعض ما لدينا الآن، و( عشر من الفطرة ) إلى غير ذلك، فبحثها ضروري.

    ثالثاً: الطيب

    من ذلك أيضاً: الطيب فهو من سنن الفطرة ومن سنن المرسلين، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب ويقول: ( حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة ) كما رواه أبو داود والنسائي وأحمد وسنده حسن، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطيب لإحرامه ويتطيب لحله كما قالت عائشة رضي الله عنها، ( وكان يرى وبيص الطيب في مفارق النبي صلى الله عليه وسلم )، ويتطيب بألوان من الطيب، وكذلك أصحابه رضي الله عنهم، وربما تطيبوا بأطيب الطيب وبألوان الطيب المخلوط الممتاز الجيد.

    و طيب الرجال أحسنه وأفضله ما ظهر ريحه وخفي لونه؛ لأن الرجل مطلوب أن يظهر ريح الطيب منه ويشم وأن يخفى لونه، وعلى النقيض من ذلك طيب النساء، فأفضله ما خفي ريحه وظهر لونه، فأما خفاء الريح يشمه من يحتاجه كالزوج مثلاً، وظهور اللون لأنه مخفي عن الأجانب، وهذا جاء في حديث صحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( طيب الرجال ما ظهر ريحه وخفي لونه، وطيب النساء ما ظهر لونه وخفي ريحه )، والأحاديث في الطيب كثيرة جداً.

    رابعاً: قص الشارب

    ومن ذلك أيضاً قص الشارب، فإنه من سنن الفطرة ومن سنن المرسلين، وقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي هريرة وابن عمر المتفق عليهما، ومن حديث زيد بن أرقم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من لم يأخذ من شاربه فليس منا )، والحديث رواه أحمد، والنسائي، والترمذي وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وهو كما قال، ( من لم يأخذ من شاربه فليس منا )، وهو دليل على تعاهد الشارب، وأن ذلك من سنن المسلمين بخلاف أهل الكتاب والكفار، فإنهم قد يطيلون شواربهم جداً ويتركونها، وقد يعقدها بعضهم، وقد قرأت في بعض المجلات أطول شارب في العالم ويتفاخرون بذلك، وقد يصل طول شارب بعضهم إلى أمتار ويتفاخرون بهذا الأمر، ويعتبرونهم ضربوا فيه رقماً قياسياً، وهذا من السفه وقلة العقول وضعف المدارك والاشتغال بما لا طائل فيه، ومن تلاعب الشيطان ببني آدم إذا ضلوا عن سواء السبيل.

    فمن سنن المرسلين ومن سنن المسلمين قص الشارب والأخذ منه، ولهذا قال: ( من لم يأخذ من شاربه )، وهذا أيضاً يدل على أن حلق الشارب غير مستحب، لا يستحب حلقه، بل يستحب أن ينهكه وأن يأخذ منه ويقص منه، وأهم ذلك أن يظهر الإطار وهو طرف الشفه، وقد كان ابن عمر وغيره من الصحابة يبالغون في القص حتى يظهر موضع القص، ويكون قصه أخا الحلق، يعني: يقصه بعضهم قصاً قريباً من الحلق وبعضهم دون ذلك.

    المهم أن المستحب في الشارب القص وليس الحلق، وقد نهى الإمام مالك عن حلقه وقال: إنها مثلة كما نقل الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الزاد وغيره.

    خامساً: إعفاء اللحية

    ومن ذلك أيضاً ما يتعلق باللحية وإعفائها، فقد جاء أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإعفاء اللحية كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة وابن عمر رضي الله عنهما وذلك من سنن المرسلين أيضاً، قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، وكذلك لحية النبي صلى الله عليه وسلم، كان له لحية كثيفة كما وصف أصحابه قيل: ( كيف تعرفون قراءته؟ قالوا: باضطراب لحيته )، وذكر أنس أنه لم يكن في لحية النبي صلى الله عليه وسلم إلا عدد من الشعرات البيض.

    وقد جاء في حديث عمرو بن شعيب عند الترمذي وغيره: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها )، والحديث رواه الترمذي وقال: غريب، وهذا إشارة إلى ضعف الحديث، فإن الحديث ضعيف، فيه عمر بن هارون البلخي وهو ضعيف، قال البخاري رحمه الله تعالى ما معناه: ليس لـعمر بن هارون البلخي حديث ليس له أصل إلا هذا الحديث، يعني قوله: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأخذ من لحيته من طولها وعرضها )، فالحديث ضعيف، ولكن صح هذا عن ابن عمر في صحيح البخاري، فإنه كان يأخذ ما زاد على القبضة من لحيته، كان يقبض لحيته فيأخذ ما زاد على القبضة، ثبت هذا عنه في صحيح البخاري، وثبت نحوه عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والطريف أنهما جميعاً هما اللذان رويا حديث الإعفاء، فعلى ماذا يحمل فعلهما رضي الله عنهما، على ماذا يحمل؟ يحمل على أنهما يعتقدان أن الأخذ من أطراف اللحية لا يعارض الإعفاء، فإن الإعفاء وجود الشعر وبقاؤه، ويرون أن أخذ ما زاد على القبضة أو قص أطراف اللحية أو الشعر المتطاير منها أو ما كان فيه آفة أو علة أو ما أشبه ذلك أنه لا يعارض الإعفاء، وإلا حاشاهما رضي الله عنهما أن يعاندا النص الشرعي الذي روياه بأنفسهما، وهذا أيضاً نص عليه الإمام أحمد، فإنه قال: يأخذ من لحيته ما زاد على القبضة، ويأخذ ما كان تحت حلقه، أذن الإمام أحمد بذلك لما سئل عنه، وكذلك كان هو رحمه الله يفعل ذلك كما جاء في روايات كثيرة ذكر بعضها الإمام ابن تيمية في شرحه للعمدة وذكرها غيرهم من أهل العلم.

    وذكر صاحب المصنف روايات كثيرة عن السلف رضي الله عنهم في أنهم قد يخففون من شعر لحاهم، ويبقى الحديث على عمومه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإعفاء اللحية: ( وأعفوا اللحى )، ( وأكرموا اللحى )، فإذا وفر الإنسان لحيته وأعفاها وتركها على هيئتها فهذا أفضل وأطوع للنص وأبعد عن المخالفة، ولكن ينبغي أن يكون مع الإعفاء تسريح اللحية وكدها وتطييبها والعناية بها حتى تكون في ذلك كما هو الحال فيما يتعلق بشعر الرأس، وقد سبق أن ذكرت ما فيه.

    سادساً: الاستحداد

    ومما يتعلق بذلك أيضاً الاستحداد، وهو إزالة الشعر النابت على العانة بالحديدة، وهو من سنن المرسلين وليس بلازم أن يكون بالحديدة، بل يزال بأي شيء، فلو أزاله بالنتف مثلاً أو أزاله بالاطلاء بالنورة جاز ذلك، وقد فعلها الصحابة رضي الله عنهم، واطلى بها ابن عمر وكان يطلى بالنورة، فإذا بقيت عانته قام بنفسه بذلك، وكذلك الإمام أحمد طلي بالنورة فلما بقيت العانة تولاها بنفسه، فلا يجوز للإنسان أن يطلع على عورته أحداً إلا زوجه أو ما ملكت يمينه، وإلا يتولى هذا الأمر بنفسه، وقد قال ابن عمر عن النورة: هي مما أحدث من النعيم.

    فالمقصود: إزالة الشعر بالحديدة أو بالنتف أو بغيره بمشقص أو بالنورة أو بغير ذلك من الوسائل.

    سابعاً: قص الأظفار

    ومثل ذلك أيضاً قص الأظفار، فإنه سنة وهو من سنن المرسلين ومن سنن المسلمين، وقد جاء في حديث له طرق عديدة وإن كانت كلها لا تخلو من مقال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً فأوهم -يعني: سها في صلاته- ثم قال بعد الصلاة: وما لي لا أوهم -يعني: أسهو في صلاتي- ورفغ أحدكم بين ظفره وأنملته )، يعني: وسخه بين الظفر والأنملة، يعني: أن الواحد قد ترك ظفره ومع ذلك هو متسخ فبقيت الأوساخ بين الظفر والأنملة، وهاهنا لا تتم الطهارة، وهذا دليل على أن حال المأمومين قد يؤثر في الإمام، والحديث له طرق وإن كانت كلها لا تخلو من مقال، وقد حسنه الهيثمي في مجمع الزوائد، وقال أهل العلم: ينبغي أن يقتصد في قص الأظافر، يعني: لا يبالغ مبالغة شديدة في القص؛ لأنه قد يحتاج إلى الظفر، وإنما يقصها بحيث لا تطول ولا يكون في ذلك تشبه بالسباع، ولا تكون مستودع للأشياء القذرة، ولا تكون مانعاً من كمال الطهارة، وإلا فقد يحتاج إلى ظفره كما إذا كان في غزو أو سفر أو غير ذلك كما ذكره الإمام أحمد وغيره.

    ثامناً: الختان

    ومن ذلك أيضاً الختان، وهو إزالة الجلدة في أعلى الذكر بالنسبة للرجل، وهو واجب على الرجال في المشهور من المذهب وهو من سنن المرسلين، بل هو سنة مؤكدة في حق هذه الأمة، بل هو واجب كما أسلفت.

    وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من دخل في الإسلام أن يختتن، وليس الختان كقص الأظافر، ولا كإزالة شعر الإبط أو العانة أو غيره، بل هو واجب، وذلك لأنه يتعلق بالطهارة، فإن غسل الذكر عقب التبول هو إزالة للنجاسة، وقد جاء في حديث ابن عباس : ( أما أحدهما فكان لا يستبرئ من البول )، وفي رواية: ( لا يستتر من البول )، فالختان فيه تطهير لهذا الموضع وإزالة للنجاسة منه، وتعلقت به الطهارة، ولهذا كان واجباً.

    أما فيما يتعلق بختان المرأة ففيها روايتان في المذهب: قيل بسنيته وقيل بغير ذلك، وقد جاء في ذلك أحاديث كثيرة من أصحها ما رواه الطبراني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لامرأة خافضة اسمها أم عطية قال لها: ( أشمي ولا تنهكي ) يعني: لا تبالغي في إزالة ما يزال بالختان، وإنما أزيلي بعضه، وهذا الحديث لا بأس بإسناده، وله شواهد كثيرة، وقد جاء أن ذلك أحظى للزوج وأنظر للوجه، ومما يدل ويرشح استحباب الختان للأنثى ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ) يعني: ختان الرجل وختان المرأة، وهذا دليل على أن الختان كان معروفاً عندهم.

    وقد ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أهل العلم أن ختان المرأة إذا كان معتدلاً فإنه يعدل الشهوة عندها، وأن ترك الختان يزيد في الشهوة ويضاعفها، قال: ولهذا كانوا يعيرون الرجل إذا كان مريباً يقولون له: يا ابن القلفاء! فهذا كان معروفاً عندهم، وهو يدل على أن الختان سنة والله أعلم، وقد خولف في ذلك على كل حال، ولكن في بعض النشرات التي توزعها وزارة الصحة وغيرها أنهم يقولون: إن الختان ليس له أصل في الدين وهذا غلط، له أصل، وكون هناك قول بأنه ليس بسنة لا يعني أنه لا أصل له في الدين.

    1.   

    مسألة: حكم التنشيف من الوضوء والغسل

    وأختم -وقد طال الأمر- بـ ما يتعلق بالتنشيف، فإنه يكره أن ينشف الإنسان أعضاءه للوضوء والغسل في إحدى الروايتين عند أحمد لحديث ميمونة الذي رواه الشيخان وأهل السنن أنها قالت: ( ثم أتيته بالمنديل فلم يَردْه، وجعل ينفض يديه ).

    والرواية الثانية أن ذلك لا يكره، وهي الرواية المعتمدة، وذلك لحديث قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم زارهم قال: ( فأعددنا له غسلاً فاغتسل، ثم ناولته ملحفة مصبوغة بزعفران أو ورس، فاشتمل النبي صلى الله عليه وسلم بها ).

    وقد جاء أنه صلى الله عليه وسلم تنشف غير مرة، وعلى كل حال: أحاديث المنديل معظمها ضعيف، لكن كونه صلى الله عليه وسلم التحف بهذه الملحفة واشتمل بها هذا صحيح رواه أحمد وابن ماجه وأبو داود ورجاله رجال الصحيح وله شواهد.

    أما حديث ميمونة فلا دليل فيه على كراهة ذلك، بل قال بعض أهل العلم: يكره أن ينفض يديه أيضاً عقب الوضوء، وذكروا حديثاً: ( أنها مراوح الشيطان )، والحديث ضعيف منكر، وهو معارض للحديث الذي في الصحيح وسقته قبل قليل حديث ميمونة أنه صلى الله عليه وسلم جعل ينفض يديه.

    1.   

    مسألة: حكم القزع

    وأخيراً، فإنه مما ينبغي التنبيه عليه فيما يتعلق بألوان التطيب وسنن الفطرة أنه شاع عند الناس في هذا الوقت ما يتعلق بتسريح الشعر وغير ذلك، وما يسمى بالقزع، وهو حلق بعض الرأس وترك بعضه، وقد ذكرت قبل قليل حديث أبي داود وغيره: ( احلقوه كله أو اتركوه كله )، وقد جاء في الصحيحين عن ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القزع )، والقزع مأخوذ من قزع السحاب، وهو أن يكون متفرقاً، والقزع: هو أن يحلق بعض الرأس ويترك بعضه، فهذا منهي عنه، قال بعض الفقهاء: نهي كراهة، وقال آخرون: هو نهي تحريم وهو الظاهر من النص، فإن حلق بعض الرأس وترك بعضه مكروه تحريماً، والله تعالى أعلم.

    سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767985574