قال رحمه الله تعالى: [باب الآنية] الآنية جمع إناء، وقد ناسب أن ينتقل المصنف رحمه الله تعالى بعد المياه إلى الظروف والأوعية التي تكون فيها المياه، وهي الآنية.
[لا يجوز استعمال آنية الذهب والفضة ] أي: الآنية المصنوعة من الذهب أو الفضة، ومثلها في ذلك الآنية التي تصبغ وتطلى بالذهب والفضة، أو تموه بهما، وذلك لأنه يطلق عليها جميعاً آنية ذهب أو فضة بحسب الظاهر منها.
[في طهارة] يعني: في وضوء أو غسل.
[ولا في غيرها] يعني: كالشرب أو سائر ألوان الاستعمالات.
ويدخل في الآنية الأوعية التي يوجد فيها الماء كما يدخل فيها غيرها، فيدخل فيها مثلاً الدواة التي يكون فيها الحبر، ويدخل فيها المكحلة التي يكون فيها الكحل، والمرود الذي يكون في المكحلة، وغير ذلك مما يستعمل وليس بثياب ونحوها.
والحديث دليل بطريق الإيماء والإشارة إلى تحريم جميع الاستعمالات غير الأكل وغير الشرب، كالوضوء بها مثلاً أو ما أشبه ذلك، وذلك لأنه قال: ( فإنها لهم في الدنيا، ولكم في الآخرة ) (فهي لهم) يعني للمشركين والكفار في الدنيا، هل الكفار يقتصرون فيها على الأكل والشرب فحسب؟ كلا، بل يستعملونها في سائر أنواع الاستعمال. وكذلك المؤمنون في الآخرة يستخدمون الذهب والفضة كيف شاءوا، فدل على أن العلة عامة في الأكل والشرب وغيرهما. وبعض ألوان الاستعمال أشد وأعظم من الأكل والشرب، فإذا حرم الأكل والشرب فيها فالتبول فيها مثلاً واستخدامها كمراحيض هو من باب الأولى، وفيه أعظم مما في الأكل والشرب من تضييق النقدين، وكسر قلوب الفقراء، ومن الخيلاء والفخر وغير ذلك، وإنما نص على الأكل والشرب لأنه هو الغالب حسب وليس المعنى تخصيص الحكم بهما.
أقوال في المذهب: قيل: يرتفع حدثه، وهو قول معروف. وقيل: لا يرتفع حدثه، بل عليه أن يعيد الوضوء والغسل، وهو اختيار الشيخ الإمام ابن تيمية رحمه الله في شرح العمدة .
والظاهر -والله تعالى أعلم- أن حدثه يرتفع مع إثمه بذلك؛ لأن الإناء ليس من شروط الطهارة ولا من أركانها، فإذا أتى بشروط الطهارة وواجباتها، فإنه حينئذ يرتفع حدثه ويأثم باستخدام هذا الإناء.
وينبغي أن يعلم أن هذا الاستعمال منهي عنه بالنسبة للذكر والأنثى على حد سواء، وإن كان الشارع أباح استخدام الذهب للأنثى -والفضة- كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هذان حرام على ذكور أمتي حل لإناثها. وأشار إلى الذهب وإلى الحرير )، وإنما المقصود أنه حل للإناث في لبسه، أما استخدامه كأوانٍ فهو حرام على الذكور والإناث على حد سواء.
والمضبب هو الذي وضعت فيه الضبة، والضبة هي ما يوصل به الإناء من السلسلة والخيط الذي إذا شعب الإناء جمع بين شعبتين، فقال: حكم المضبب بالذهب حكم الذهب بالتحريم، وحكم المضبب بالفضة حكم الفضة بالتحريم أيضاً، إلا في حال واحدة وهو أن تكون الضبة يسيرة، فلا تكون كبيرة أو كثيرة بحيث تغلب على الإناء أو تكون كثيرة فيه، والثاني: أن تكون الضبة من فضة فلا تباح ضبة من ذهب بحال من الأحوال، لا يسيرة ولا كثيرة، وهناك شرط ثالث ذكره أبو الخطاب وغيره من الفقهاء هو أن تكون الضبة لحاجة، يعني: لم توضع زينة، ولا للجمال، ولكن وضعت للحاجة، كأن يكون الإناء انشعب أو انكسر فيسلسل بهذه الضبة ويجمع بين شعبتيه.
إذاً: لا يجوز من المضبب إلا ما كانت ضبته يسيرة ومن فضة ولحاجة، بهذه الشروط الثلاثة تجوز، وبذلك يعلم أن الضبة الكثيرة لا تجوز مطلقاً، يعني: سواء كانت لحاجة أو لغير حاجة، وقيل: تجوز للحاجة.
ثانياً: أن الضبة من الذهب لا تجوز مطلقاً، سواء كانت لحاجة أو لغير حاجة، وسواء كانت يسيرة أم غير يسيرة.
وثالثاً: أن الضبة لغير حاجة لا تجوز مطلقاً، لا من الذهب ولا من الفضة.
بقي أن نعلم، إذا كانت الضبة لحاجة، ما معنى الحاجة؟ هل معنى الحاجة أن لا يقوم غير الفضة مقامها، مثال: لو وجد عند الإنسان إناء فانكسر وانشعب، وكان يمكن أن يسلسله بفضة، ويمكن أن يسلسله بحديد، ويمكن أن يسلسله بخيط، فهل تعتبر هذه حاجة تباح فيها الفضة أو لا تعتبر حاجة؟ الصحيح أنها تعتبر؛ لأن هذه هي الحاجة، يعني: أنه وضع الفضة لحاجة ولو أجزأ غيرها عنها، فحينئذ يجوز أن يستخدم الفضة، وتعتبر هذه حاجة.
طيب، لو كان لا يجزي أو لا يمكن أن يسلسل الإناء حينئذ إلا بالفضة، فماذا تسمى هذه؟ تسمى ضرورة.
وهل يجزئ الذهب للضرورة؟ أي: عندي إناء انكسر، ولم يمكن أن يسلسل أو يضبب إلا بذهب، فهل يجزئ حينئذ، أو يجوز أن يستخدم الذهب أو لا يجوز؟
الصواب أنه حينئذ يجوز.
إذا: الذهب تجوز ضبته اليسيرة إذا كانت لضرورة، بحيث لا يجزئ غيره، ومن أمثلة ذلك: لو أن الإنسان احتاج إليه في بدنه كما جاء في حديث عرفجة : ( أن أنفه قطع يوم الكلاب، فاتخذ أنفاً من ورق- يعني: من فضة- فأنتن عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب؛ لأنه لا ينتن ). والحديث صحيح، فهذا دليل على أن استخدام الذهب للضرورة جائز.
إذاً: ما سوى ذلك من الآنية يجوز استعمالها واتخاذها، وإنما عبر بالاستعمال ليشمل ذلك الطهارة والشرب والأكل، كما يشمل ما أسلفنا من اتخاذها محبرة أو دواة أو للكحل أو للزينة أو لغير ذلك من ألوان الاستعمالات.
إذاً: استعمال أواني أهل الكتاب جائز ما لم تعلم نجاستها، أما إذا علمت نجاستها فإن النجاسة لا يجوز استعمالها بل لابد من غسلها، إذا علم أن فيها خمراً أو ميتة أو غير ذلك من النجاسات حرم عليه استعمالها حتى يغسلها، ولذلك جاء في الصحيح من حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه أنه قال: ( يا رسول الله! إنا بأرض قوم أهل كتاب -زاد في رواية-: وإنهم يشربون في قدورهم الخمر ويطبخون في قدورهم الخنزير- أفنشرب في آنيتهم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها ) وفي رواية: ( فارحبوها في الماء )، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن استعمالها حتى تغسل، هذا إذا علمت فيها النجاسة؛ لأنه قال: ( يشربون فيها الخمر ويطبخون فيها الخنزير )، ولذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغسلها.
إذاً: إذا عرف النجاسة في آنية الكتاب فلا يجوز استعمالها حتى تغسل، أما إذا لم تعلم فيها النجاسة وشك في نجاستها، فإن الأصل فيها الطهارة، فيجوز له أن يستعملها حتى ولو لم يغسلها، وذلك لحديث جابر الذي رواه أبو داود بإسناد صحيح، قال: ( كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم فنصيب آنية أهل الكتاب ونستعملها )، فذلك دليل على جوازها بلا كراهة إذا لم يعلم نجاستها. ومن المعلوم المستفيض أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يداخلون أهل الكتاب، ويأكلون بآنيتهم، ويأكلون من طعامهم، ويشربون أيضاً، وقد ( أكل النبي صلى الله عليه وسلم عند يهودي خبز شعير وإهالة سنخة )، كما في مسند أحمد بسند صحيح، بل الحديث في صحيح البخاري : ( أن يهودياً دعا النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة
هذا فيما يتعلق بالأواني.
وفي المسألة ثلاثة أقوال في المذهب:
القول الأول: أن ذلك جائز مطلقاً بلا كراهة.
القول الثاني: أن ذلك مكروه مطلقاً.
القول الثالث: التفريق بين من يتعبدون باستعمال النجاسات، وبين من لا يتعبدون بذلك ولا يستخدمونها، والتفريق بين من يأكلون الميتة، وبين من لا يأكلون الميتة. ذكرها الإمام ابن تيمية ثلاث روايات في المذهب.
والصواب -والله تعالى أعلم- أنه إن رأى النجاسة وجب عليه غسلها كما هو معلوم بالإجماع، وإن لم ير النجاسة فالأصل الطهارة، فإن غلب على ظنه أنها نجسة استحب له أن يغسلها احتياطاً لا وجوباً، وذلك كما إذا كانوا يستخدمون النجاسات ويشربون الخمور ويأكلون الخنزير وما أشبه ذلك، فإنه يستحب له أن يغسلها حينئذ ولكن لا يجب عليه ذلك؛ لأنه لا يجب الغسل إلا إذا تيقن النجاسة.
أما إذا استعملوها وكان استعمالهم لها أيضاً استعمالاً ظاهراً، يعني: في ظاهر ثيابهم، ولم يوجد عليها نجاسة فهي طاهرة أيضاً، ويجوز للمسلم أن يلبسها ويستعملها ويصلي فيها، وهي طاهرة ولا يجب عليه غسلها، بل يتجه أن يقال: ولا يستحب له غسلها.
أما إن كانت الثياب في باطنهم كالثياب التي تلي عوراتهم كـ السراويل -وهو مفرد، جمعه سراويلات-، فقال بعض أهل العلم: يستحب له أن يغسلها، ونقل هذا عن الإمام أحمد قال: [ أحب إلي إذا صلى فيها أن يعيد الصلاة ]؛ لاحتمال أن يكون خالطها شيء من نجاساتهم؛ لأنهم لا يزيلون النجاسات ولا يتعبدون بذلك، ووجوب الإعادة حينئذ احتمال، ويحتمل أن يقال: إن كان عليها نجاسة وجب غسلها وإزالتها وإعادة الصلاة، وإلا لم يجب عليه أن يعيد الصلاة. هذا ما يتعلق بملابسهم، وذلك لأن الأصل الطهارة، ولا تزول الطهارة بالشك.
ويبقى الكلام في أصل الريش الذي فيه الرطوبة هل يغسل فتزول نجاسته بالغسل أم لابد من قطع ما لامس رطوبة الميتة وإزالته؟ وجهان وقولان في المذهب.
المهم أن صوف الميتة وشعرها ونحوهما طاهر، سواء جز في حال الحياة أو أخذ منها بعد الموت، وذلك لأن الحياة لا تحله، وكذلك الموت لا يحله، فهو باق على أصله.
وجاء فيما يتعلق بالمتن في بعض الروايات قال: (بشهر..) وفي بعضها قال: (بشهرين..) وفي بعضها لم يذكر تحديداً للمدة، فلما اضطرب الرواة في متنه واضطربوا في سنده تركه الإمام أحمد ورجع عن القول به كما قال الترمذي.
ولذلك فإن الصواب في هذه المسألة أن جلد الميتة يطهر بالدباغ إذا كانت مأكولة اللحم، وهو أحد أقوال سبعة في المسألة.
الصواب: أن جلد مأكول اللحم يطهر بالدباغ كجلد البقر والغنم والإبل والغزال ونحوها مما هو مأكول اللحم يطهر إذا دبغ، وذلك لأدلة تزيد على عشرة جاءت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، منها: أنه عليه الصلاة والسلام ( رأى شاة ميتة، فقال: ألا أخذتم إهابها، فدبغتموه فانتفعتم به. قالوا: يا رسول الله! إنها ميتة. قال: إنما حرم من الميتة أكلها )، وفي بعض الأحاديث كحديث ابن عباس وهو في الصحيح أيضاً: ( إذا دبغ الإهاب فقد طهر )، وفي حديث ثالث: ( دباغ جلود الميتة طهورها )، وفي بعض الألفاظ: ( دباغها ذكاتها )، فهذه الأحاديث تدل على أمرين:
الأول: أن مأكول اللحم إذا دبغ جلده طهر، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( إنما حرم أكلها )، ( ألا أخذتم إهابها فانتفعتم به )، ( دباغه طهوره )، ( دباغه ذكاته ).
الثاني: أنه لا يطهر غير مأكول اللحم، يعني: جلد غير مأكول اللحم لا يطهر بالدباغ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما حرم أكلها ) وما هو الذي حرم أكله بالموت؟ هو مأكول اللحم. أما غير مأكول اللحم فهل تحريم أكل لحمه هو بالموت؟ كلا. هو حرام حتى لو أنه ذكي مثلاً، فذكاته غير شرعية، ولا تنفع فيه شيئاً، لا في حل لحمه ولا في طهارة جلده بالدباغ.
كذلك قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: ( دباغه ذكاته ) فالحيوان الذي لا يحل أكله هل تفيد فيه الذكاة؟ كلا. فكذلك لا يفيد في جلده الدباغ؛ لأنه قال: ( دباغه ذكاته )، فكما أن هذا الحيوان لا يفيد فيه الذكاة فكذلك لا يفيد الدبغ في جلده.
إذاً: القول المختار أن الحيوان مأكول اللحم إذا دبغ جلده طهر: الشاة.. الغنم.. والبقر والإبل ونحوها من مأكول اللحم، ولذلك أيضاً جاء في أحاديث صحاح عن معاوية والمقدام بن معدي كرب وغيرهما من الصحابة رضي الله عنهم: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن جلود السباع ومياثر النمور )، وقال: ( لا تصحب الملائكة رفقة فيها جلد نمر ) وما ذلك إلا لأن هذه الأشياء نجسة لا يحل استعمالها ولا تطهر بالدباغ، فلذلك نهى عنها النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا هو القول المختار.
وفي المسألة أقوال أخرى في المذهب كما ذكرت، هذا هو أحد الأقوال في المذهب.
وفي المذهب القول الآخر الذي ذكره المصنف وهو أن الجلد نجس لا يطهر بالدباغ، ولكن يحل استخدامه بعد الدبغ في اليابسات.
والدبغ يكون بأشياء كثيرة، كأن يكون الدبغ بالقرض أو بالشب، أو بغير ذلك من ألوان المعالجات التي تقتضي زوال الرطوبات والنجاسات عن الجلد.
ومما ينبغي أن يعلم فيما يتعلق بحديث عبد الله بن عكيم الذي ذكرته قبل قليل أن العلماء أجابوا فيه بأجوبة، ذكرت اثنين منها:
أولهما: أن الحديث مضطرب الإسناد.
الثاني: أن الحديث مضطرب المتن.
الجواب الثالث: أنه على فرض صحته عند من صححه وقد صححه جماعة من أهل العلم، فلا تعارض بينه وبين الأحاديث الأخرى التي دلت على الطهارة بالدباغ؛ لأن قوله: ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ) قال النضر بن شميل من أئمة اللغة: الإهاب هو الجلد قبل أن يدبغ، فإذا دبغ سمي شناً أو قربة أو ما أشبه ذلك، وبهذا يجمع بينه وبين الأحاديث الأخرى، فكأن الحديث حينئذ يقول: ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ) يعني: لا تنتفعوا من الميتة بجلد غير مدبوغ.
أما قوله: [إلا الآدمي] فلقول النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي هريرة كما في الحديث المتفق عليه: ( لما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم فانخنس منه، فقال: أين كنت يا
أولاً: الآدمي.
ثانياً: حيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه، يعني: لا يعيش في البر، إنما يعيش في البحر فقط، فهو طاهر إذا مات، وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال: ( يا رسول الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا به عطشنا. قال النبي صلى الله عليه وسلم: هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ) والحديث رواه أهل السنن، وقال الترمذي: حسن صحيح، وهو كما قال. وقال الله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [المائدة:96]، فأحل الله لنا صيد البحر وطعامه، أحله لنا فدل على طهارته؛ وذلك لأنه إذا خرج من البحر مات سواء كان هذا الحيوان مما مات بخروجه من الماء، أو مات في الماء وطفا فيه على القول الصحيح المعتمد الذي تسنده الأدلة. يعني: سواء مات في البحر أو مات خارج البحر وألقى به البحر إلى الساحل، فإنه حلال أكله طاهر كله كما دل على ذلك حديث أبي عبيدة وهو في الصحيح: ( في قصة الحوت الضخم الذي لقيه الصحابة وأكلوا منه فدراً، وقالوا: نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله. ثم أخذوا منه وشائق، فلما وصلوا إلى المدينة أكل منه النبي صلى الله عليه وسلم ) فدل على حله وعلى طهارته سواء كان خارج البحر أو داخله.
قال المصنف: [وحيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه] وذلك يقتضي أن الحيوان الذي يعيش في البر يكون غير طاهر ولا حلال الأكل إذا مات، وهذا هو أحد الأقوال.
والقول الآخر: أنه إذا كان في البحر فهو طاهر أيضاً، وحلال أكله، وهو القول الصحيح؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته ) فكل ما مات في البحر من حيوانات البحر فهو حلال طهور ولو كان يعيش في البر لعموم الحديث.
قال: [لقوله صلى الله عليه وسلم في البحر: ( هو الطهور ماؤه ) ] والطهور بفتح الطاء كما سبق [ ( الحل ميتته ) ] أي: الحلال ميتته، فميتة البحر حلال.
قال: [وما لا نفس له سائلة] المقصود بالنفس هاهنا: الدم، والدم يسمى نفساً كما قال السموأل في قصيدته الشهيرة:
تسيل على حد الظبات نفوسنا وليست على غير الظبات تسيل
يعني: أن دماءنا تسيل على السيوف، لا نقتل إلا في المعارك مقبلين غير مدبرين، ومنه سميت النفساء؛ لأنه يخرج منها الدم.
فقوله: [ما لا نفس له سائلة ] يعني: ما ليس له دم يسيل، وذلك مثل الحيوانات التي لا يكون فيها دم، كالبرغوث والقمل والصرصار والذباب ونحوها، ومثله أيضاً الحوت فإنه ليس له نفس سائلة، ولهذا كان حلالاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( هو الطهور ماؤه، الحل ميتته ) كما سبق. ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم إذا وقع الذباب في إناء الإنسان أن يغمسه (فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر دواء)، زاد أبو داود: ( إنه يتقي بجناحه الذي فيه الداء ) فلو كان ينجس بالموت لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بغمسه، فإن غمسه وهو ميت نجس يقتضي تنجيس الطعام والماء، ووصول النجاسة إلى ما لم تكن وصلت إليه، هذا لو كان نجساً، فدل الأمر بغمسه على أنه ليس بنجس ولا ينجس بالموت، وهكذا كل ما ليس له نفس سائلة فإنه لا ينجس بالموت، وليس على الإنسان منه بأس إن أصاب بدنه أو ثيابه أو طعامه أو شرابه أو ما أشبه ذلك، فإنه يخرجه ولا شيء عليه، وذلك لأنه ليس فيه دم، وللمشقة الكبيرة التي تحصل بالقول بنجاسته أو تحريمه كما ذهب إليه بعض الشافعية.
فالصواب: أن ما لا نفس له سائلة ليس بنجس، وهو مستثنى من النجاسات.
إذاً: استثنى المصنف رحمه الله تعالى من قوله: [ وكل ميتة نجسة ]، استثنى من ذلك ثلاث مسائل:
الأولى: الآدمي، سواء كان مسلماً أو كافراً.
الثانية: حيوان الماء الذي لا يعيش إلا فيه، والأولى التعميم، فحيوان الماء طاهر سواء كان لا يعيش إلا فيه أو يعيش فيه ويعيش في البر أيضاً، إذا مات في البحر.
الثالثة: ما لا نفس له سائلة. فهي أيضاً مستثناة من نجاسة الميتة.
قال المصنف: [إذا لم يكن متولداً من النجاسات] وهذا يقتضي أن ما تولد من النجاسات نجس، وذلك مثل الصرصار الذي يكون في المراحيض، فإنه متولد من النجاسات، فعلى المذهب الذي اختاره المصنف يكون نجساً؛ لأن أصله النجاسة، وهذا قول في المذهب.
والقول الثاني وهو الذي عليه جمهور العلماء وهو الصحيح الذي تسنده الأدلة، أنه حتى المتولد من النجاسات طاهر أيضاً وليس بنجس، يعني: بعد الموت إذا لم يكن له نفس سائلة؛ لأنه لا دليل على نجاسته، وكون أصله من النجاسة لا يدل على أنه نجس، فهؤلاء جماعة من أهل العلم يرون أن المني نجس، ومع ذلك لم يقولوا بنجاسة الإنسان المخلوق منه، وخاصة الإنسان المسلم، وهكذا أشياء كثيرة قد يكون أصلها من نجاسة، ثم تحولت إلى مادة أخرى، ولا نقول: إنها استحالت، فإن المادة لم تتحول -لم تستحل- بل انتقلت إلى مادة أخرى، فالماء النجس -مثلاً- الذي سقي به الزرع، هل نقول: إن الزرع هو نفس الماء وعينه؟ كلا، بل الزرع مادة أخرى غير الماء، وإن كان الماء سبباً في نمائه وحياته، فلا نقول: إن الزرع ينجس؛ لأنه سقي بماء نجس، كلا، ولا ثمرته نجسة أيضاً.
إذاً: لا علاقة للشيء بأصله الذي خلق منه.
فكون الصرصار -مثلاً- خلق في الأصل من العذرات ومن النجاسات لا يعني أنه نجس؛ لأنه لا يمكن أن يقول أحد: إن الصرصار عذرة أو نجاسة بذاته, بل تحول إلى مادة أخرى حية لا علاقة لها بالمادة الأولى.
إذاً: قول المصنف: [ إذا لم يكن متولداً من النجاسات أيضاً ]، عليه نقد واعتراض, والصواب: أن كل ما لا نفس له سائلة طاهر بعد موته, ولا يعد نجساً.
هذه عشر مسائل ذكرها المصنف رحمه الله تعالى في باب الآنية.
الجواب: توضأ, إن كنت قلت: شرب، فهذا سبق لسان, بل هو توضأ عليه الصلاة والسلام في تور من صفر.
الجواب: نعم، ولو أداه بعد طلوع الشمس لم يكن عليه من حرج أيضاً, كما في حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من نام عن ورده من الليل أو عن شيء منه فقرأه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر كتب له كأنما قرأه من الليل ).
الجواب: إن كان هذا الجلد من حيوان محرم الأكل فالأظهر أنه نجس ولا يطهر بالدباغ, ولا يحل استعماله مع الوعيد الوارد كما أسلفت في شأنه, أما إن كان من حيوانات مباحة الأكل فهو طاهر ويجوز استعماله بعد الدبغ.
الجواب: الخمر فيها قولان:
القول الأول: وهو مذهب الجمهور، ورواية واحدة في مذهب الإمام أحمد : أن الخمر نجسة؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. فقال: رِجْسٌ .
والقول الثاني: وذهب إليه جماعة من فقهاء الشافعية وغيرهم، واختاره عدد من المتأخرين: أن الخمر ليست نجسة بذاتها, وهو القول الذي تشهد له الأدلة, فلا دليل صريح على نجاسة الخمر بذاتها, نعم الإجماع قائم على تحريمها, وأنها من كبائر الذنوب, وأنه يجب اجتنابها, ويحرم البقاء في مكان تتعاطى فيه الخمر, ولا يجوز للإنسان أن يعين عليها بحال من الأحوال, ( ولعن رسول صلى الله عليه وسلم شاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومشتريها ), ولكن القول بنجاستها بحيث يجب غسل ما أصاب منها هذا فيه نظر, ولا دليل صريح عليه, بل الأدلة على خلافه، وقد جاء: ( أن رجلاً كان معه راوية خمر، فهمس في أذن النبي صلى الله عليه وسلم وأهداها له, فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أما علمت أن الخمر حرمت؟ فقال لرجل عنده كلاماً؛ قال: ما قلت له؟ قال: أمرته أن يبيعها, قال: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه, ففتح فم المزادتين وأهراقها )، ولو كانت نجسة لما حدث ذلك, ولأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يغسل القربتين, وقد أريقت الخمور في شوارع المدينة لما حرمت, ولو كانت نجسة ما فعل الصحابة ذلك, فلم يكونوا ليفعلوا هذا بشيء نجس؛ أن يلوثوا به الشوارع, ولما حرمت الخمر كانت في أوانيهم وقربهم.. وغير ذلك, بل وفي أفواههم, ولم يؤمروا بغسل شيء من ذلك.
الجواب: لا, هذه ليست كلمة عربية, إنما هي على وزن الجمع العربي, وإنما هي كلمة أعجمية مفردة.
الجواب: إذا كانت الريشة من ذهب فلا يجوز استخدام هذا القلم, وكذلك النظارات التي تكون إطاراتها من الذهب أو تكون مطلية بالذهب الحقيقي.
الجواب: إذا كان حريراً حقيقياً فلا يجوز لبسه كما هو معروف.
الجواب: كلا, بل هو مطلق, طاهر مطلقاً.
الجواب: أصلاً الضفدع حرام الأكل بالإجماع فيما أعلم, وهو من حيوانات الماء على ما هو معلوم, وبناء عليه فهو نجس، ومثله أيضاً مما ينبغي أن يشار إليه هناك حيوان يقال له: الكوسج, وهو نوع من السمك معروف, له ميزة: خرطومه طويل كأنه منشار كما يقول بعض العلماء العارفين بالحيوان, وقد ذهب جماعة من الفقهاء من الحنابلة وغيرهم إلى تحريمه, وبالتالي يكون نجساً إذا ثبت ذلك, وأقول: إذا ثبت أن الكوسج نوع من السمك فلا يمكن أن يقال بتحريمه, والحديث بين أيدينا: ( هو الطهور ماؤه الحل ميتته )، وهو من الحيوانات التي تعيش في البحر.
الجواب: لا, لا يؤمر بأن يغتسل من النجس, بل يتركهما معاً ويعدل إلى التيمم.
الجواب: لا, ليست كثير من مسائله مرجوحة, بل أكثر مسائله صحيحة وراجحة, وهو كتاب مفيد جداً ونافع, وسهل الحفظ, وبعيد عن التعقيد, ولا أعلم في كتب الحنابلة أفضل منه للحفظ.
الجواب: دم الحيوان الذي يؤكل لحمه إذا كان هذا الحيوان قد ذكي -والسؤال عن الدم الذي يكون مختلطاً باللحم- فهذا الدم معفو عنه؛ لاختلاطه باللحم وصعوبة الاحتراز منه, أما إن كان السؤال عن الدم المسفوح فهو نجس, كما قال الله تعالى: أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [الأنعام:145].
والأصل في الدماء التي تخرج من الجروح وغيرها أنها نجسة, كما هو مذهب جماهير من أهل العلم, ويعفى عن يسيرها للمشقة.
الجواب: السؤال غير واضح, لكن هناك حيوانات مائية كالسمك؛ التمساح أيضاً مستثنى, فإن التمساح حرام, حرام الأكل عند فقهاء الحنابلة وعند كثير من أهل العلم غيرهم, فهو يلحق بالضفدع في القول بتحريمه, وبالتالي يكون نجساً, وإنما يوجد حيوانات تسمى حيوانات برمائية, يعني: تعيش في الماء وتعيش في البر أيضاً.
الجواب: كلا, لكن الحيوانات التي تنجس بالموت إذا لابس الإنسان شيئاً منها بعد الموت, كأن يقع عليه شيء من لحمها أو دمها أو شحمها فيصيبه, فحينئذ يكون نجساً, ويغسل منه.
هذا والله تعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر