إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالحمد لله تعالى على ما أنعم ويسر ووفق.
وسوف يكون هذا الدرس في كتاب عمدة الفقه للإمام المقدسي، وهذا الكتاب هو عمدة الحنابلة في الفقه، وهو من أقدم المختصرات وأنفعها وأوسعها، وسيكون هذا الدرس، أو سيكون هذا اليوم خاصة عبارة عن مقدمة لذلك، مع شرح مقدمة المؤلف رحمه الله تعالى.
ثم بعد ذلك سنبدأ بدراسة الكتاب اعتباراً من غد بإذن الله تعالى حسب الطريقة التي سوف أشير إلى شيء منها الآن.
وأبدأ بالطريقة لأنها مهمة.
أولاً: بعد نهاية هذا الدرس سوف يكون هناك تسجيل للإخوة الراغبين في حضور هذا الدرس، حيث تسجل أسماء جميع من يرغبون في الحضور باستمرار وانتظام، كما تسجل أسماء الإخوة الراغبين في حفظ المتن؛ لأنه متن فقهي مختصر، وليس متناً معقداً، بل هو متن واضح العبارة سهل الفهم يمكن حفظه.
فنريد من الإخوة الذين يرغبون في حفظ هذا المتن، ويؤنسون من أنفسهم قوة على ذلك أن يسجلوا أنفسهم أيضاً حتى يكونوا قريبين ويمكنوا من الحفظ في كل يوم إن شاء الله.
ثم سنخصص في كل يوم باباً بعينه أو أبواباً أو جزءاً من باب بحسب طول الباب أو قصره، إذ لو تصورنا مثلاً -حسب الطبعة الموجودة معي- أننا سوف ننهي ثلث الكتاب تقريباً في هذه الإجازة: ( والثلث كثير ) كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو قدر لا بأس به في نظري؛ لو تصورنا أننا في هذه الإجازة سوف ننهي ثلث الكتاب لكان معنى ذلك أننا سوف ننتهي من كتاب الصلاة على أقل تقدير آخر صلاة الجنائز؛ وذلك يستوعب حسب الطبعة الموجودة هنا إلى صفحة تسعين، فإذا كان ذلك ممكناً فنحن محتاجون إلى أن نأخذ في كل يوم ما لا يقل عن ثلاث صفحات، بل ما يزيد على ثلاث صفحات.
فمثلاً كتاب الطهارة نحن محتاجون إلى أن نأخذ منه ثلاث صفحات، ففي اليوم الأول: لابد أن نأخذ أحكام المياه كلها، وفي اليوم الثاني: لابد أن نأخذ باب الآنية كله، وفي اليوم الثالث: لابد أن نأخذ باب قضاء الحاجة كله.. وهكذا.
وبهذه الطريقة نستطيع أن نمشي بشيء من الرفق يتيح للطلاب الحافظين الحفظ، ويتيح التسميع، ويتيح الشرح أيضاً بصورة معقولة ومعتدلة، ولو أحببنا أن نمشي أكثر من ذلك لكان هذا ممكناً أيضاً، لكن بشيء من المشقة.
فالذي سنبدأ فيه الآن هو ذلك.
وعندي فكرة أخرى سنسعى إليها إن شاء الله، وهي أن نبحث عن شيخ آخر يدرس بعد صلاة العشاء حيث أنه يوجد بعض الفراغ في هذا المسجد ويأخذ الكتاب من كتاب الزكاة ويمشي بالطلاب أيضاً، بحيث أن الطالب يقطع في اليوم الواحد مرحلتين في هذا الكتاب، ولكن هذه الفكرة وإن كانت قابلة للتطبيق إلا أنها لا تخلو من بعض المشقة على الطالب.
على كل حال هذا لا مانع أن يدرس، وإذا كان أحد له رأي فيمكن أن يقدم رأيه بعد نهاية هذا الدرس فيما يتعلق باستحداث درس آخر.
فيتم تسميع هذا القدر من قبل الطلاب الذين حفظوه، ثم بعد ذلك يتم شرحه باختصار، وسوف نراعي في الشرح إن شاء الله تعالى تبسيط المادة العلمية بحيث تكون واضحة للطالب، دون الدخول في تفاصيل طويلة فيما يتعلق بالشرح، بل سأقتصر على بيان مراد المؤلف رحمه الله تعالى من عبارته مع ذكر الدليل لما ذهب إليه من المسائل والأقوال الفقهية، ثم ننتقل بعد ذلك إلى اختيار القول الراجح، فإن كان ما رجحه المؤلف رحمه الله تعالى هو الراجح من حيث الدليل كان ذلك، وإلا فإنه يمكن ذكر ما على اختيار المؤلف رحمه الله تعالى من الإيرادات، واختيار القول الراجح بدليله دون الدخول في سرد الأقوال ولا المذاهب ولا الروايات، ودون الدخول في الأسئلة أيضاً الفقهية على الأقوال؛ لأن ذلك أمر يطول، ولو أن كل قول وقفنا عنده وناقشنا الأقوال فيه والأدلة واستمعنا إلى إيرادات الطلاب لما استطعنا أن نمشي ولا في جزء من هذا الكتاب.
فيراعى أن المقصود: هو فك رموز الكتاب وحل مشكلاته للطالب بحيث يفهم مراد المصنف منه، ويفهم أن هذا هو المعتمد عند الحنابلة في الجملة، وأن هذا القول دليله كذا.
يقول المؤلف رحمه الله تعالى:
[ بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة المؤلف:
قال الشيخ الإمام العالم الجليل شيخ الإسلام قدوة الأنام موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قدس الله روحه ونور ضريحه وأثابه الجنة برحمته.
الحمد لله أهل الحمد ومستحقه، حمداً يفضل كل حمد، كفضل الله على خلقه ].
وفي بعض النسخ المطبوعة: بفضل الله على خلقه، وهذا خطأ مطبعي، فالصواب: كفضل الله على خلقه.
[ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة قائم لله بحقه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله غير مرتاب في صدقه صلى الله عليه وعلى آله ما جاد سحاب بودقه، وما رعد بعد برقه.
أما بعد:
هذا كتاب أحكام في الفقه اختصرته حسب الإمكان، واقتصرت فيه على قول واحد؛ ليكون عمدة لقارئه ولا يلتبس عليه الصواب باختلاف الوجوه والروايات.
سألني بعض أصحابنا تلخصيه ليقرب على المتعلمين، ويسهل حفظه على الطالبين، فأجبته إلى ذلك معتمداً على الله سبحانه في إخلاص القصد لوجهه الكريم، والمعونة على الوصول إلى رضوانه العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وأودعته أحاديث صحيحة تبركاً بها واعتماداً عليها، وجعلتها من الصحاح لأستغني عن نسبتها إليها].
أما اسمه فهو: عبد الله بن أحمد بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي الجماعيلي الحنبلي العمري، يقال له المقدسي نسبة إلى بيت المقدس، إذ المقادسة جماعة من الحنابلة معروفون مشهورون، منهم الإمام الموفق صاحب هذا الكتاب، ومنهم الإمام عبد الهادي المقدسي، ومنهم البهاء المقدسي، ومنهم أبو عمر أخو المؤلف، ومنهم جماعة يفوقون الحصر من المعروفين بهذا اللقب الشهير.
ويقال له: الجماعيلي بضم الجيم وفتح الميم المشددة، الجماعيلي نسبة إلى قرية يقال لها جماعيل وهي في فلسطين من أعمال نابلس .
ويقال له أيضاً: الحنبلي ؛ لأنه كان من الحنابلة وأبوه وجده كذلك.
ويقال له: العمري ؛ لأن مترجميه يذكرون أنه من سلالة سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إذاً: فهو من سلالة المهاجرين.
ومن الجدير بالذكر أن شارح الكتاب رحمه الله البهاء المقدسي في كتاب العدة يقال إنه من الأنصار أيضاً.
هذا فيما يتعلق باسمه رحمه الله، وقد سقطت أسماء بعض الأجداد في بعض التراجم فلا مانع من إضافتها.
ولد الإمام المقدسي في فلسطين سنة (541هـ)، ثم غادرت أسرته بلاد فلسطين بعد عشر سنوات بسبب سيطرة الصليبيين عليها، فذهبوا إلى دمشق واستقروا بها، وطلب الإمام المقدسي العلم بـدمشق على شيوخ عصره من الحنابلة خاصة ومن غيرهم من أهل العلم.
ثم غادر بعد ذلك دمشق إلى بغداد هو وابن خالته عبد الهادي المقدسي .
وفي ذلك الوقت كان يوجد في بغداد تاج الحنابلة في زمانه وإمام من أئمتهم، وهو الشيخ عبد القادر الجيلاني ؛ ذهب هو والحافظ عبد الغني إلى بغداد قبل وفاة الشيخ عبد القادر بنحو أربعين يوماً، وجلسوا عنده هذه المدة وقرءوا عليه بعض المتون في فقه الحنابلة، ثم توفي الشيخ عبد القادر فانتقلوا بعد ذلك إلى علماء آخرين.
ويقول بعض من ترجموا للشيخ الموفق : إنه جلس بمعية عبد الغني في بغداد نحواً من أربع سنوات، ثم بعد ذلك غادرها إلى دمشق مرة أخرى، وكانت هذه رحلته الثانية، إذ إن رحلته الأولى كانت من فلسطين إلى دمشق، أما الرحلة الثانية فكانت من دمشق إلى بغداد، أما رحلته الثالثة فكانت إلى الحج؛ حيث حج والتقى ببعض الشيوخ في الحج، أما رحلته الرابعة فكانت عودته إلى بغداد، حيث عاد إليها مرة أخرى وأفاد منها والتقى ببعض الشيوخ، ثم رجع إلى دمشق مرة أخرى، وقد لقي الأعلام في عصره من شيوخ الحنابلة وغيرهم كما ذكر ذلك مترجموه.
من ذلك ما قاله عنه الإمام تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى قال: ما دخل دمشق بعد الأوزاعي أفقه من الموفق، أو ما دخل الشام بعد الأوزاعي أفقه من الموفق، يعني: الإمام ابن قدامة رحمه الله تعالى.
وكذلك قال عنه عدد من مترجميه أوصافاً في إمامته وجلالته لم تتوفر لغيره، حتى قال بعضهم: لو رأيت الموفق فكأنما رأيت رجلاً من الصحابة؛ ذلك أنه كان بهي الطلعة، حسن الصورة، على وجهه نور الإيمان والعبادة والتقوى.
ومن الأوصاف الجليلة لهذا الإمام: أنه جمع علوماً شتى؛ فكان إماماً في الفقه، إماماً في الفرائض، إماماً في اللغة، إماماً في الحديث، إماماً في الجدل.. إلى غير ذلك من العلوم، فهذه صفة توفرت له، ومع ذلك فإنه لم يكن مقلداً، بل كان مجتهداً، وهذا ظاهر جداً في كتابه العظيم المغني الذي شرح فيه مختصر الخرقي في فقه الحنابلة، فإن له اختيارات في هذا الكتاب عظيمة تدل على سعة علمه، وقد جمعها أحد المعاصرين، وهو الشيخ الدكتور علي بن سعيد الغامدي في كتاب مطبوع في مجلدين ومتداول؛ جمع فيه اختيارات الموفق في المغني، فهذه الصفة الأولى.
الصفة الثانية: أنهم ذكروا أن الرجل كان عظيم الخُلُق، فمن أخلاقه أنه كان كريماً مع الطلاب، يذهب من الحلقة مع الفقراء والمحتاجين منهم فيكرمهم ويضيفهم ويغديهم ويعشيهم، ومن جانب آخر فإن الرجل كان حليماً صبوراً لا يعجل ولا يغضب ولا يثور، حتى قالوا: إنه كان يعقد مجلساً للمناظرة في كل يوم جمعة، وكان لا يغضب أبداً أثناء المناظرة ولا يرتفع صوته، بل لا يزيد على التبسم، حتى قال بعض مترجميه: إن هذا الرجل يقتل خصومه بتبسمه، هم يغضبون ويرفعون أصواتهم ويجلبون، أما هو فلا يزيد على التبسم، مع أن المناظرة مدعاة للغضب ومدعاة للانفعال والرد والقلق والتوتر، أما هو رحمه الله فكان لا يخرجه النقاش والجدل عن طوره، ولا يتعدى أن يتبسم لخصمه إذ إن الغلبة في المناظرة بالحجة وليست برفع الصوت ولا بالانفعال ولا بالغضب، بل إن الإنسان أحياناً ربما يستر عجزه عن إيراد الحجة وعن الدليل وعن البرهان بالغضب والانفعال والهجوم على خصمه، فكان رحمه الله حليماً واسع الصدر لا يغضب على خصمه ولا يعاجله.
ومن صفاته أيضاً رحمه الله: أنه كان كثير التعبد، يظهر عليه سيماء الخشوع والإخبات لله جل وعلا، حتى قال فيه الإمام ابن النجار في ذيل تاريخ بغداد، وهو كتاب مطبوع أيضاً في ثلاث مجلدات، قال فيه: إن الإنسان ينتفع برؤيته قبل كلامه، أي: أن سمته وهديه وهيئته وشكله ينتفع به الطالب قبل أن ينتفع بكلامه؛ وما ذلك إلا لكثرة عبادته وحسن خلقه ودأبه وقربه من الله جل وعز، وكذلك ذكر عنه سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان من التعبد وحسن الخلق والزهد والورع ما لم يكن لغيره من علماء عصره.
هذه بعض صفاته، وله صفات أخرى كثيرة لا يتسع المجال للإطناب فيها.
وهذا الكتاب المغني قد توسع فيه المؤلف رحمه الله، فشرح فيه عبارة المصنف، وذكر فيه الأقوال والوجوه والروايات والمذاهب بأوسع تفصيل وأبسطه وأوضحه، مع ذكر الأدلة العقلية والنقلية واختيار القول الراجح، حتى قال الإمام عز الدين بن عبد السلام الفقيه الشافعي المعروف: ما طابت نفسي بالفتيا حتى اقتنيت كتاب المغني .
وقال: إن كتاب المغني مع كتاب المحلى للإمام ابن حزم رحمه الله هما من أعظم دواوين أهل الإسلام، فهذا يدل على عظم كتاب المغني وجلالة قدره وسمو شأنه، فهذا من أعظم مؤلفاته.
ومن مؤلفاته أيضاً هذا الكتاب الذي بين أيدينا، وهو العمدة في الفقه الحنبلي وسوف أتحدث عنه بعد قليل، وإذا كان المغني للمنتهين، فإن العمدة للمبتدئين، وقد ألف بينهما المؤلف رحمه الله كتباً أخرى غيرهما، فبعد العمدة في الفقه الحنبلي يأتي كتاب ألفه المصنف أيضاً رحمه الله تعالى وسماه: المقنع وهو أوسع قليلاً من كتاب العمدة، ثم ارتقى بعد ذلك للمتوسطين فألف كتاباً شهيراً سماه الكافي وهو مطبوع أيضاً في أربع مجلدات هذا يعتبر للمتوسطين، إذ هو أوسع في إيراد الأقوال وذكر الأدلة من كتاب العمدة .
إذاً: المصنف رحمه الله تعالى ألف للمبتدئين وللمتوسطين وللمنتهين في الفقه الحنبلي.
ومن كتبه أيضاً في العقيدة كتاب: ذم التأويل، وهو مطبوع، ومنها كتاب مختصر شهير يسهل أيضاً حفظه ودراسته في الاعتقاد وهو كتاب: لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد، وقد كان المصنف رحمه الله تعالى كما ذكر مترجموه كـابن النجار وغيره أنه كان على قانون السلف رحمهم الله تعالى، وهذا ظاهر من سيرته كما هو ظاهر من كتبه أيضاً.
ومن كتبه كتاب: روضة الناظر وجُنَّة المناظر في أصول الفقه، وهو من الكتب الشهيرة في أصول الفقه على طريقة الحنابلة، ولا شك أن المؤلف استفاد في كتاب الروضة ممن سبقه، بل اختصر جهدهم وعملهم ككتب الإمام الغزالي أبي حامد وغيره، فقد اختصرها في روضة الناظر، إذ إن الحنابلة في أصول الفقه استفادوا من الشافعية وغيرهم كما هو معروف وكما هو ظاهر، وإن كانت لهم أصولهم المستقلة.
ومن كتبه أيضاً في الأنساب: التبيين في أنساب القرشيين، وكتاب الاستبصار في أنساب الأنصار .. إلى كتب أخرى كثيرة وشهيرة وغالبها مطبوع.
[ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، غير مرتاب في صدقه صلى الله عليه وعلى آله ما جاد سحاب بودقه ]، الودق هو المطر والغيث، كما قال الله تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43].
فلا مزنة ودقت ودقها ولا أرض أبقل إبقالها
[ وما رعد بعد برقه.
أما بعد: ]. وهذه كلمة تقال للفصل بين الديباجة والمقدمة وبين بيان المقصود منها.
[ فهذا كتاب أحكام في الفقه اختصرته حسب الإمكان ]، هاهنا شرع المصنف رحمه الله تعالى في بيان ميزة الكتاب والغرض من تأليفه وطريقته فيه، فبين أن موضوع الكتاب هو الأحكام، فهو ليس كتاباً في العقيدة مثلاً، ولا كتاباً في الأصول، ولا كتاباً في الجدل، وإنما هو كتاب في الأحكام في الفقه.
[ اختصرته حسب الإمكان ]، إذاً: هو أيضاً ليس من الكتب المطولة ولا المفصلة، وإنما هو كتاب مختصر.
[ واقتصرت فيه على قول واحد ]، فلم يذكر فيه الأقوال ولا الروايات ولا الأصول في مذهب الحنابلة، وإنما ذكر فيه قولاً واحداً هو القول المختار عند الحنابلة في الغالب.
[ ليكون عمدة لقارئه ]، وهذا إشارة إلى اسم الكتاب، فإن المؤلف رحمه الله تعالى لم يصرح باسم الكتاب صراحة، ولكن كل من ذكر الكتاب سماه كتاب العمدة أو عمدة الفقه، ومن هؤلاء الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى، فإنه سماه العمدة، ومن هؤلاء البهاء المقدسي أيضاً فإنه سماه بذلك، وهكذا الذين ترجموا للمصنف ذكروا أنه ألف كتاب العمدة في الفقه، اعتماداً على هذه الكلمة: (ليكون عمدة لقارئه)، وإن لم يكن النص صراحة على اسم الكتاب، وهو كما قال رحمه الله تعالى؛ فإنه عمدة في الفقه ومرجع للحفاظ.
[ ليكون عمدة لقارئه، ولا يلتبس عليه الصواب باختلاف الوجوه والروايات ]، أي: أنه أشار إلى أن المبتدئ قد يلتبس عليه الأمر بكثرة إيراد الوجوه والأقوال ويختلط بعضها ببعض، فاقتصر على قول واحد ليسهل حفظه وفهمه والانطلاق منه للمبتدئ.
[ سألني بعض أصحابنا تلخيصه؛ ليقرب على المتعلمين، ويسهل حفظه على الطالبين، فأجبته إلى ذلك معتمداً على الله سبحانه في إخلاص القصد لوجهه الكريم، والمعونة على الوصول إلى رضوانه العظيم، وهو حسبنا ونعم الوكيل ].
ولم يطول الكتاب بذكر الأدلة، بل كان يقتصر في الباب على دليل واحد يذكره -كما سوف أسوق بعد قليل- استدلالاً وتبركاً بذكر كلام الله تعالى وكلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد حضي هذا الكتاب بعناية العلماء والفقهاء منذ ألفه مؤلفه رحمه الله تعالى.
ويكفي في فضل هذا الكتاب أنه قد شرحه عدد من الأئمة، ومن أعظم من شرح الكتاب الإمام تقي الدين أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية الإمام شيخ الإسلام عليه رحمة الله تعالى؛ فقد شرح هذا الكتاب في كتاب عظيم سماه: العدة شرح العمدة، وهذا الكتاب كتاب ابن تيمية رحمه الله كتاب فذ في بابه شرح فيه لفظ المؤلف، وأورد فيه الأقوال في مذهب الحنابلة والوجوه المختلفة وأدلة كل منها وفصل في ذلك وطول واستطرد، وذكر مسائل لم يذكرها المصنف رحمه الله تعالى وفصل فيها، وهو يعتبر كتاباً فذاً نادراً من كتب شيخ الإسلام، إذ إن عادة الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى أنه لا يشرح كتاباً، بل يستطرد ويسترسل في الأقوال والمعاني والوجوه والأدلة بطريقة لا تتوفر لغيره؛ نظراً لسيلان ذهنه وعبقريته وشدة حفظه وتوقد قريحته، أما في شرحه للعمدة فإنه يظهر كما لو كان نمطاً آخر، فإنه فقيه من الطراز الأول، يذكر متن المؤلف ثم يشرحه، ثم يفصل فيه، ويورد الأقوال داخل المذهب، ويورد الأدلة، ويرجح، ويذكر الدقائق الفقهية، ثم ينتقل من المسألة إلى المسألة التي تليها ولا يترك مسألة من المسائل في الباب إلا أوردها حتى لو كان المؤلف لم يذكرها في المتن، فإن الإمام ابن تيمية رحمه الله يوردها ويذكرها، ويذكر الأقوال فيها والروايات والراجح والمرجوح دون أن يخرج عن ذلك إلى غيره.
وهذا الكتاب قد وصل فيه الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى من أول كتاب العمدة إلى آخر كتاب الحج، أي: أنه قد شرح القسم المتعلق بالعبادات كما يسمونه، وليس كل الكتاب موجوداً ولا مطبوعاً -أعني: كتاب ابن تيمية رحمه الله- فإنه يوجد معظمه، لكن سقط أجزاء من آخر كتاب الصلاة لم يتم العثور على مخطوطتها إلى الآن حسب علمي، وأما بقية الكتاب فموجود، وقد طبع أجزاء منه، ككتاب الحج طبع في مجلدين، وكذلك حقق أجزاء منه على شكل رسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعة الإسلامية وفي جامعة الإمام محمد بن سعود بـالرياض، والكتاب كتاب مفيد عظيم، وهو يضفي على كتاب العمدة للإمام الموفق ابن قدامة أهمية إضافية، إذ يقوم رجل كالإمام ابن تيمية رحمه الله بشرحه.
وممن شرحه أيضاً البهاء المقدسي في كتاب اسمه أيضاً العدة شرح العمدة وهو في مجلد واحد، وهو مطبوع متداول، وكتاب البهاء المقدسي أيضاً سهل ينبغي للطلاب أن يقتنوه؛ لأنه اقتصر فيه على شرح مراد المؤلف وذكر دليله وما لابد منه، فهو كتاب من الشروح المختصرة المفيدة النافعة.
وقد ذكر المترجمون للإمام ابن قدامة أن كتاب العمدة شرحه جماعة من المتقدمين كما شرحه أيضاً جماعة من المتأخرين كالشيخ ابن بسام، وكذلك الشيخ محمد الحركان رحمه الله له شرح على الكتاب، وإن كان مختصراً أظن لم يصل فيه إلى نهاية الكتاب، أظنه وقف فيه على كتاب: الأيمان والنذور ولم يتم له إنجاز بقية الشرح. فهذا ما يتعلق بكتاب العمدة وطريقته وشروحه.
إذاً: الإجماع القطعي الثابت حجة قائمة بذاته، ولا يحل لأحد أن يخرق إجماع الأمة القطعي المتوارث، فهذا هو الدليل الأول الذي يمكن به معرفة الحق.
فالفقه لا يستغني عن الحديث؛ لأنه يحتوي ويشتمل على الأدلة التي يعرف بها الراجح من المرجوح، ولذلك كان ذكر الأدلة من الأحاديث والآيات ضمن الفقه ليس للتبرك، وإنما للاعتماد عليها كما ذكر المصنف: (واعتماداً عليها)، اعتماداً عليها في معرفة سبب الترجيح وفي معرفة القول الراجح من الأقوال المختلفة أيضاً؛ ليعبد الإنسان ربه على بصيرة.
وأقل ما يجب على طالب الفقه المبتدئ أن يحفظ القول الراجح ويحفظ دليله، إذ لا يكفي أن تقول: الراجح كذا، فإذا قيل لك: لماذا؟ قلت: لأن فلاناً رجحه، فلان ليس حجة عليك، بل ينبغي أن القول الراجح كذا؛ لأن الله تعالى قال كذا، أو لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا.
والاحتمال الثاني: أن يكون المقصود أنه اختار من الكتب الصحيحة؛ كـصحيح البخاري أو صحيح مسلم أو صحيح ابن خزيمة أو صحيح ابن حبان .. أو ما أشبهها من الكتب التي وسمها مؤلفوها بالصحة، فإنها تجمع أيضاً على صحاح، وهذه الأحاديث وهذه الكتب الصحاح هي على قسمين:
القسم الأول: كتب سماها مؤلفوها بالصحاح واشترطوا الصحة ووفوا بما شرطوا، وهذا لا يتوفر إلا للصحيحين: صحيح البخاري، وصحيح مسلم .
القسم الثاني: كتب سماها مؤلفوها بالصحاح ووسموها بذلك واشترطوا الصحة، ولكن فاتهم أحاديث لم تكن على شرطهم وأودعوها كتبهم، وهذا كما في صحيح ابن خزيمة، فإنه رحمه الله وإن كان كتابه صحيحاً وسمي بالصحيح واشتهر بذلك، إلا أنه أورد فيه أحاديث ليست على شرطه، بل أحاديث يشك هو في صحتها ويقول: إن صح الخبر، مما يدل على أن المؤلف لا يجزم بصحته، ومثل ذلك أيضاً صحيح ابن حبان فإن فيه أحاديث كثيرة ليست بصحيحة، ومثل ذلك أيضاً مستدرك الحاكم على الصحيحين، فإنه بمقتضى شرطه لابد أن يكون كل ما فيه صحيح، والواقع أن فيه الصحيح والحسن والضعيف، بل والموضوع، وقد قسم الإمام ابن حجر صحيح الحاكم أو مستدركه إلى أقسام وفصله تفصيلاً وبين ما فيه أتم بيان في كتابه المعروف في المصطلح، والذي طبع منه مجلدان ويسمى (النكت على ابن الصلاح)، وهو عبارة عن تعليقات متفرقة للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى على مقدمة ابن الصلاح المعروفة المشهورة في علم مصطلح الحديث.
المقصود: أن من الصحاح ما اشترط فيها مؤلفوها الصحة، لكنهم لم يفوا بذلك، ومن هؤلاء الإمام الحاكم وتعليق ابن حجر على كتاب المستدرك تعليق نفيس عظيم يحسن الرجوع إليه.
فيحتمل قول المؤلف: (وجعلتها) أي: الأحاديث (من الصحاح)، يحتمل أنه يقصد من الأحاديث الصحيحة، يعني: التي صحت عنده هو رحمه الله تعالى، ويحتمل أن يكون مقصوده: من كتب السنة الصحيحة كـالبخاري ومسلم .
قال: [ وجعلتها من الصحاح لأستغني عن نسبتها إليها ]، وهذا يرجح أن يكون مقصوده: وجعلتها من كتب الصحاح لأستغني عن نسبة الأحاديث إلى تلك الكتب، فيقول: إن كل ما أورده هو من كتب الصحاح، فلا أحتاج أن أقول: رواه البخاري .. رواه مسلم ؛ لأنها كلها من هذه الكتب، هذه أهم المطالب المتعلقة بمقدمة المؤلف رحمه الله تعالى.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر