وإذا ما فقد الإنسان عقله لم يفرَّق بينه وبين سائر الحيوانات العجماوات، بل لربما فاقه الحيوان الأعجم بعلة الاندفاع، ومن فقد عقله لا نفع فيه ولا ينتفع به، بل هو عالة على أهله ومجتمعه.
هذا العقل الثمين الذي هو مناط التكليف يوجد في بني الإسلام من لا يعتني بأمره، ولا يحيطه بسياج الحفظ والحماية، بل هناك من يضعه تحت قدميه ويتبع شهوته، وتعمى بصيرته، كل هذا يبدو ظاهراً جلياً في مثل كأسة خمر، أو جرعة مخدر، أو استنشاق مسكر، وشرب مفتِّر، تفقد الإنسان عقله، فينسلخ من عالم الإنسانية، ويتقمص شخصية الإجرام والفتك والفاحشة، فتشل الحياة ويهدم صرح الأمة، وينسى السكران ربه ويظلم نفسه، ويهيم على وجهه ويقتل إرادته، ويمزق حياءه .. أيتم أطفاله، وأرمل زوجته، وأزرى بأهله لما فقد عقله، فعربد ولهاً، وسكر ولغاً.
وبذلك كله يطرح ضرورة من الضروريات الخمس التي أجمعت الشرائع السماوية على وجوب حفظها ألا وهي ضرورة العقل .. إنها واجبة الحفظ والرعاية؛ لأن في حفظها قوام مصلحة البشرية، ففاقد العقل بالسكر يسيء إلى نفسه ومجتمعه، ويوقع مجتمعه وبني ملته في وهدة الذل والدمار، فيخل بالأمن ويروع المجتمع، ويعيد أساطير الثمالى الأولين، ومجالس الشراب عند العرب الجاهليين.
السكر في الجاهلية
عباد الله: فقدان العقل بالسكر عادة قبيحة، كانت تلازم أهل الجاهلية عند معاقرتهم الخمرة، يقضون الليالي الساهرة مع الأصحاب والخلان على احتسائها، وهم مع ذلك يعدونها وسيلة من وسائل الفخر والكرم، لقد أغرم الجاهليون بالخمرة حاضرة وبادية، وافتخر الشعراء بمعاقرتها وبذل المال في احتسائها، أقبل الجاهليون على الخمرة من أجل قتل الفراغ ونسيان الفقر، فأكثر شعراؤهم القول في الخمر على حين فترة من الرسل، فصُدرت الخمرة في مطلع معلقة هي من أشهر معلقات العرب السبع، والتي قيل: إنها علقت على أستار الكعبة، أنشد فيها
عمرو بن كلثوم :
تناول العرب والشعراء تلك المعلقة، وكأنها قرآن يتلى، فأخذت بمجامع الناس وأيام العرب، حتى قال قائلهم:
إذاً: كانت الخمرة في الجاهلية من دواعي فخر العربي وكرمه، وكان تقديمهما للضيوف وجمع الفتيان لشربها مفخرة أي مفخرة، ثم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً لأمته قوله صلوات الله وسلامه عليه: {ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع }.
مخالفة السكر للفطرة
تحريم الإسلام الخمر
عباد الله! إن الخمور التي كانت من مفاخر الجاهلية ومن تقاليدهم المألوفة جاء الإسلام بإلغائها، وخلص الجماعة المسلمة من رواسب الخمرة، بعد أن رسخ دعائم التوحيد والعقيدة في نفوسهم، وأخرجهم من عبادة العباد، وعبادة الشهوة والجسد إلى عبادة الله وحده، وأخرج كثيراً من الصحابة رضي الله عنهم من منادمة الخمر فصقلهم الإسلام صقلاً، هجروا بسببه كل عادة تغضب الله ورسوله.
فهاهو حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه يقول عن الخمر في الجاهلية:
فلما خالط الإسلام قلبه، صار شعره أشد على نحور المشركين من وقع النبل، كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا أبو محجن الثقفي رضي الله عنه، الذي اشتهر بالخمرة في جاهليته، وهو الذي ينسب إليه قوله:
فلما تمكن حب الله ورسوله من قلبه، أبلى بلاء حسناً في القادسية ، وقال له سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: لا حبستك في الخمر بعدها أبداً. فقال أبو محجن : وأنا والله لا أشربها بعد اليوم أبداً. فنعم الإسلام هادياً ومؤدباً.
استغلال أعداء الإسلام لسلاح الإدمان
أيها الناس: إن رذيلة المخدرات والمسكرات آفة خبيثة، لم تفشُ في عصر من العصور كما فشت في عصرنا الحاضر، ولم تصب المجتمعات بحمى السكر التي شنها أعداء الإسلام على بلاد المسلمين بهدف تخديرهم وإهدار طاقاتهم وشل جهودهم وتغييب عقولهم علناً كما أصيبت في هذا العصر.
لقد قام أعداء الإسلام بزج كميات رهيبة من جميع أصناف المخدرات إلى بلاد المسلمين حسداً من عند أنفسهم، يريدون للأمة المسلمة أن تتورط بهذه السموم، فلا تخرج منها إلا بعد لأواءٍ وشدائد وتعب مضنٍ وتوبة صادقة.
وقد وقع جمع من الناس في براثنها، ورضعوا من أثداء المخدرات والمسكرات، فنقضوا بناء المجتمعات ونثروا أعضاءها، وبددوها شذر مذر .. نفخت روح الحضارة العصرية في بعضهم نفخة كاذبة، وخيلت إليهم أنهم خلق وجيل مغاير لما مر من الأجيال في التاريخ كله، زعم المتفننون منهم أنهم خلق لا تنطبق عليم سنة ولا يخضعون لسابقة، رأوا أنهم في عصر الذرة وعصر المعلومات، فقالوا للناس أجمع: أما علمتم أن الدنيا دخان وكأس، وسكر وغانية.
أمة الإسلام: كم من الآلاف في أمتنا يعكفون على المسكرات والمخدرات، يهلكون أنفسهم عن طريق هذه الكيوف السامة القتالة، فأخذوا يزهقون أرواحهم، ويحفرون قبورهم، حتى صاروا أشباحاً بلا أرواح، وأجساماً بلا عقول.