إسلام ويب

الزاد بعد شهر العباداتللشيخ : سعود الشريم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أصبح الكثير من الناس لا يعرفون الله إلا في رمضان، فتجدهم مصلين، قارئين لكتاب الله، محافظين على الصفوف الأولى وعلى الصدقات، والنوافل والطاعات، فما أن ينتهي رمضان إلا وانقطعت تلك الأعمال كلها، كأنها أوراق خريف أتت عليها الرياح فتطايرت وتساقطت، ومن كان هذا حاله فهو ولاشك على خطر عظيم فلينتبه.
    الحمد لله الحي القيوم، الدائم الذي لا يزول، هو الأول فليس قبله شيء، والآخر فليس بعده شيء، والباطن فليس دونه شيء، والظاهر فليس فوقه شيء، يُقلِّب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، ويداول الأيام بين الناس وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:140]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أفضل من خاف ربه، وصلى فرضه، وصام شهره، وحجَّ بيته، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على طريقهم واتبع هداهم إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    فاتقوا الله معاشر المسلمين، وراقبوه في السر والعلن، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:217-220].

    عباد الله: إن في كَرِّ الأيام والليالي لعبرة، والأيام تمر مَرَّ السحاب، عشيةٌ تمضي، وتأتي بكرةٌ، وحسابٌ يأتي على مثقال الذرة، والناس برمتهم منذ خُلقوا لم يزالوا مسافرين، وليس لهم حط عن رحالهم إلا في الجنة أو في السعير، ألا وإن سرعة حركة الليل والنهار لتؤكد تقارب الزمان الذي هو من أشراط الساعة كما صح بذلكم الخبر عن الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه.

    وهذا كله -عباد الله- يُعدَّ فرصة عظمى لإيقاظ ذوي الفطن وأصحاب الحجى؛ لفعل الخير، والتوبة النصوح، وإسداء المعروف، وترك ما يشين: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62].

    لقد ظل المسلمون -جميعاً- شهراً كاملاً ينالون من نفحات ربهم، ويرون الله من أنفسهم، متقلبين في ذلك بين دُعاءٍ وصلاة وذكر وصدقة وتلاوة للقرآن؛ ولكن سرعان ما انقضت الأيام، وتلاشت الذكريات، وكأنها أوراق خريف عصفت بها الريح على أمرٍ قد قُدِر، أو بلابل روح قد هدأ تغريدها، وإلى الله المصير.

    أيها المسلمون: إنَّ من يُقارن أحوال الناس في رمضان وبعد رمضان ليأخذ العَجَب مِن لُبِّه كلَّ مأخذ، حينما يرى مظاهر الكسل والفتور، والتراجع عن الطاعة في صورة واضحة للعيان، وكأن لسان حاله يحكي: أن العبادة والتوبة وسائر الطاعات لا تكون إلا في رمضان، وما علموا أن الله -سبحانه- هو رب الشهور كلها، وما شهر رمضان بالنسبة لغيره من الشهور إلا محط تزوُّد وترويض على الطاعة، والمصابرة عليها، إلى حين بلوغ رمضان الآخر؛ ولا غرو في ذلك عباد الله، فالله -جلَّ وعلا- أتبع فرض الصيام على عباده بقوله: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183].

    عقوبة ترك الطاعة وفعل المعصية

    ومن هنا -عباد الله- كان لزاماً علينا أن ننظر إلى حقائق العبادات وآثارها، لا إلى صورها ورسومها؛ إذْ كم مِن مُجهِدٍ نفسَه كان حظه من صيامه الجوع والعطش، وكم من مواصل للعبادة فيه فكان حظه من ذلك التعب والسهر، وآكَد ما يدل على ذلك حينما يسائل الناس أنفسهم: كم مرة قرءوا القرآن في رمضان؟! وكم سمعوا فيه من حِكَم ومواعظ وعبر؟! ألم يسمعوا كيف فعل ربهم بعادٍ؟!: إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ [الفجر:7-8] ألم يقرءوا صيحة عادٍ؟! وصاعقة ثمود؟! وخسف قوم لوط؟! ألم يقرءوا الحاقة، والزلزلة، والقارعة، وإذا الشمس كورت؟!

    فسبحان الله! ما هذا الران الذي على القلوب؟! أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] أفَقُدَّت قلوبُنا بعد ذلك من حجر؟! أم خلقت من صخر صلب؟!

    ألا فليت شعري! أين القلب الذي يخشع؟! والعين التي تدمع؟! فلِلَّه كم صار بعضها للغفلة مرتعاً! وللأُنس والقُربة خراباً بلقعاً! وحينئذٍ لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الكبير فينا يلتحق بالصفوة، بل قد فرطنا في كتاب ربنا بالخلوة والجلوة، وصار بيننا وبين الصفاء أبعد ما بين الصفا والمروة ، فلا حول ولا قوة إلا بالله: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا * إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ [محمد:24-25].

    ألا فاعلموا يا رعاكم الله! أن من قارب الفتور والكسل بعُد عنه النصب والاجتهاد، ومن ادعى الترويح والتسلية وُكِل إلى نفسه، ومن وُكِل إلى نفسه فقد وُكِل إلى ضيعة.

    الاغترار بفعل الطاعات في رمضان

    فإياك إياك -أيها المسلم- أن تغتر بعزمك على ترك الهوى في رمضان بمقاربة الفتنة بعده، فإن الهوى مكايد، وكم من صنديد شجاع في غبار الحرب اغتيل، فأتاه ما لم يحتسب ممن يأنف النظر إليه، واذكروا رحمكم الله حمزة مع وحشي رضي الله عنهما.

    إن من وقع في التقصير بعد التمام، أو تمكَّن من الذنوب بعد الإقلاع عنها لَهُوَ أبعد ما يكون عن الفوز بالطاعة، ولو غش نفسه بعبادات موسمية ذات خداج، إلا أنها لا تبرح مكانها، بل لربما وجد معها خفي العقوبة الرئيس، وهو سلب لذة المناجاة، وحلاوة التعبد؛ إلا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات مِنْ عُبَّاد رب الشهور كلها، بواطنهم كظواهرهم، شَوَّالهم كرمضانهم، الناس في غفلاتهم وهم في قطع فلاتهم، وحينئذٍ:

    أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته     ومدمن القرع للأبواب أن يلجا

    ولأجل هذا لم يكن العجب في أن يَغْلِب الطبع، وإنما العجب في أن يُغْلَب الطبع، وأمثال هؤلاء هم ولا شك ممن يسيرون على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في المداومة على الطاعة.

    نعم. لرمضان ميزة وخصوصية بالعبادة ليست في غيره من الشهور، بيد أنه ليس هو محل الطاعة فحسب، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً في كل حياته غير أن جوده يزداد إذا حلَّ رمضان، ناهيكم عن أن الرجوع والنكوص عن العمل الصالح هو مما استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله فيما صح عنه: {وأعوذ بك من الحور بعد الكور } والله جلَّ وعلا يقول: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً [النحل:92] ويؤكد ذلك ما قاله صلى الله عليه وسلم في دعائـه المشهور: {واجعل الحياة زيادة لي في كل خير } إذ لم يُقْصِر الخير على شهر رمضان فحسب، بل إن هذا كله إنما هو استجابة لأمر ربه -جل وعلا- بقوله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] فلا منتهى للعبادة والتقرب إلى الله إلا بالموت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089009889

    عدد مرات الحفظ

    780551238