الحمد لله المبدئ المعيد، الفعَّال لما يريد، خلق الخلق بعلمه، وقدَّر لهم أقداراً، وضرب لهم آجالاً، لا يستأخرون عنها ساعة ولا يستقدمون، قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة:
وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ 
[هود:7] علم ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون:
كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ 
[الرعد:8] ومشيئته تنفُذ لا مشيئة العباد، إلا ما شاء لهم، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن:
عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ 
[لقمان:34] فله الحمد كله:
وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ 
[هود:123] وبيده الخير كله:
يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ 
[القصص:68].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من صلى وقام، وحج وصام، ونصح لله، وجاهد فيه حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، أولي العفاف والنُّهى، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا وصية مبذولة، ولا تذكير مقروء، يقرب إلى الله من تقواه سبحانه، فاتقوه وراقبوه على كل حال، واعبدوه كأنكم ترونه، فإن لم تكونوا ترونه فإنه يراكم:
وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى
[طه:132].
أيها المسلمون: في شهر رمضان المبارك تتجلى أسرار خوالد، وتترادف حلقات حِكَم بواهِر، يَتَضَوَّأ بعضُها على بعض، بحيث لا يُمَل كثرةُ الحديث عنها، فلا تخْلَق جِدَّتُه، ولا يَبْلى ترجيعُه، ولا تُسْأَمُ سيرتُه، بل قد يحلو إذا أُعيد وتكرر، كما يحلو مذاق الشهد عند تكريره.
ولأجل ذا -عباد الله- ما برحت النفوس المسلمة تشرئب لمثل هذه الإطلالة السنوية والتي تعم المدر والوبر ما عم الأجدَّان: الليل والنهار.
فلا غروَ إذاً عباد الله، حين نسلط الضوء ولو قليلاً على ما نصحح به بعض مفاهيمنا أو رتابتنا مع شهر رمضان، وما نحيي به ما تراكم عليه غبار النسيان في النفوس، حين يتخذ كثير من الناس في هذا الشهر صورة تقليدية تحكمها حركة العادة، لا حركة العبادة.
ففي هذا الشهر المبارك -عباد الله- تُشَدُّ النفوسُ إلى الدين والتديُّن، يذكرهم هذا الشهر بحق الله تعالى عليهم، تُشَمُّ رائحة التديُّن في أكثر من مجلس يُجلس فيه، يُحَث بإقبال الناس على العبادة والعمل الصالح، حتى إنهم يرفعون بذلك درجة الاستعداد لتغيير ما في النفوس، حتى يغير الله ما بهم:
إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ
[الرعد:11].
يشعر الكثيرون في هذا الشهر المبارك بضرورة هذا الدين لهم، كضرورة الماء والهواء، ثم إن كل أمة تهمل أمر دينها، وتعطل كلمة الله في مجتمعها، فإنما تهمل أعظم طاقاتها، وتعطل أسباب فلاحها في الدنيا والآخرة.
وكل أمة يُفْقَد التدين في مجتمعها، فلا جرم أن أمورها تضطرب، ويموج بعضُها في بعض، فيقلب الله عزها ذلاً، وأمنها خوفاً، وإحكامها فوضى.
في شهر رمضان المبارك ترتفع معايير القوة لدى المرء المسلم؛ بحيث يصعب اهتزازه، إذا هو أحسن الإعداد فيه، وأدرك سراً عظيماً من أسرار هذا الشهر، قد تمثل في مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دخل شهر رمضان فُتِّحت أبواب الجنة، وغُلِّقت أبواب النيران، وصُفِّدت الشياطين ) رواه البخاري ومسلم .
يقول ابن القيم رحمه الله معلقاً على هذا الحديث: لأن في الصوم تضييق مجاري الشيطان من العبد بتضييق مجاري الطعام والشراب.
فالخشية إذاً كل الخشية -عباد الله- على أنفسٍ مسلمة لم تجعل للشيطان حساباً في واقعها، وباتت غير آبهة بمكره وألاعيبه، هو وجندُه من الجن والإنس:
وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ
[الأنعام:121].
الشلل الأخلاقي
إنه مما لا شك فيه أن النفوس المسلمة قد تكون معترفة بقابليتها لألاعيب الشيطان ومكره؛ لكونها غير معصومة؛ إلا أن بعض هذه النفوس قد اعتقد أهلها أنهم محميون ضد آثاره وإفساده، بعد أن كوَّنوا حولهم هالة زائفة من الاطمئنان لأحوالهم وأوضاعهم الرتيبة، مع الاكتفاء بظواهر طفيفة من الإسلام، حتى أمسوا وكأن ما يحملونه هو الإسلام فحسب، مما يحرمهم ولا شك من إصلاح أخطائهم من جهة، ومن الاستفادة من الصواب الذي يأتي به الخير من جهة أخرى.
ألا إن هذا هو الشلل الأخلاقي بقضه وقضيضه، وهو الارتضاع من ثدي الهوى بعد الفطام، مع أن الرضاع إنما هو للطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء، والذين يتضورون على مرارة الفطام.
فلا جرم عباد الله! إذ الهوى مكايد، وكم من صنديد في غبار الحق اغتيل! كيـف لا ورسـول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم }؟! رواه البخاري ومسلم .
إن الشعور الدائم بالتقصير هو الشعور الإيجابي المثمر الذي يدفع للعمل الآني واليومي، كما أن الشعور بالكمال العقيم شعور عاطفي، لن ينفي عن كل مسلم مسئوليته أمام الله عن أي سوء في حاله أو سلوكه أو حياته، دينياً كان أو دنيوياً:
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه
[النساء:123].
بطولات رمضان وأمجاده
الطريق إلى النصر
إن طريق المسلمين إلى النصر هو في سلوك فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما أحيا ليله في
بدر ، وهو قائم يصلي، ويلظ بالحي القيوم؛ ليتأكد من خلال هذا عِظَم شأن الصلاة واللجوء إلى الله في كشف الملمات ورفع النوازل، فقد جاء في
السنن : {
أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة }.
إن شعوباً لا تخاف إلا الله لن يغلبها من لا يخاف الله، وإن من لا يعرف إلا الحق لن يغلبه من لا يعرف إلا الباطل، فجند الله هم الغالبون بالسيف والسنان، كما أنهم هم الغالبون بالحجة واللسان؛ غير أن الأمر قد بات من الخطورة بحيث يوجِِب البحث عن الأسباب المفضية إلى ضعف المسلمين وإلى تكاثر خسائرهم الفادحة، ثم لننظر إلى مصدرها. هل هو خلل ثقافي، أو عوج خُلُقي، أو تضارب سياسي واجتماعي، وما الذي أفقد الأمة كيانها، وجعلها تتلقى الضربات تلو الضربات، ثم هي تُصْرَع أمامها.
عباد الله: في شهر رمضان المبارك يلوح عبر الأجواء المطمئنة خلق الرحمة والتراحم بين المسلمين الذي هو مفتاح القبول لدى القلوب، والذي يضع الحياة الهانئة محل الجاهلية الجهلاء والأثرة العمياء، فيرهُف الطبع، وتَجِمُ فيه النفس؛ إذ هذا هو الدواء إذا استشرى الداء، وهو النصرة حين تُخْذَل القوة.
إنه لو أدرك المرء المسلم أن أول حق للمسلمين عليه أن يحمل في نفسه معنى الناس، لا معنى نفسه، لَعَلِم أن مَن فاق الناس بنفسه الكبيرة دون تميز، كانت عظمته في أن يفوق نفسه الكبيرة، بهذا الأثر الطيب يحس المرء بقيمة المال، لما يحققه من مصالح، ويضمنه من منافع.
الضوابط المالية في الكسب والإنفاق
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، أحمده حمداً لا ينفد، أفضل ما ينبغي أن يُحمد.
وأصلي وأسلم على أفضل المرسلين محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان فصام وصلى وتعبَّد.
أما بعد:
فيا أيها الناس: حسن العبادة ووفرة الطمأنينة الناتجة عن الذكر والتذكير والمدارسة في هذا الشهر المبارك تبدو واضحة جلية في استشعار عظمة هذا الشهر والإحساس بحرمته وهيبته، والبُعد عن المنغصات والملهيات التي تفسد على المرء دينه، أو تشوش عليه عبادته، أو تخلق له جواً من المتضادات اللامسئولة، فكما أن للشهر مرغبات وحوافز، فإن هناك مزعجات ومنغصات، ينبغي أن يزِمَّ المسلمون نفوسهم عنها.
فمن ذلكم -عباد الله- ما يُشاهَد من حركة نشطة واستنفار مثير للدهشة في برامج مرئية عبر أقمار متنوعة، تفتقد إلى الهدف المنشود من خلاف عرض ما يخدش الحياء أو ينشر الإثم، مما يحلق الدين قبل حلق العفاف والحياء، فيبرز الطرب والسهر الذي يتناوش الرشيد والسفيه والقويم والفاسق.
وكأن معدِّي تلك المشاهد قد رأوا الأمة في حالة من المحاصرة عن الترويح بحلول هذا الشهر المبارك، أو أنهم على شفا جرف هلكة، لا يتم الإيناس فيها والتعويض عن الصوم والإمساك فيها عما يغضب الله إلا بمثل ذلك، فلا غرو أنه بذلك يختل برنا برمضان، ثم إن الأمة بذلك تخسر في كل لحظة مواطناً صالحاً، يضل بسبب مشهد يغش به ويخدع، ويسرق ويغتال ويتعلم مما يرى كيف يتخلص من عقوبة السرقة، أو بفتاة فاتنة يصورون فكاكها من غيرة وليها بالتضليل عليه، أو بالتعويل على إلفة الاختلاط بين الجنسين، وليس بمثل هذا يترفه الناس، ولا يتعلم الناس، ولا يصلح الناس؛ إذ كيف يستقيم الظل حينئذٍ والعود أعوج؟!
خطر الاختلاط
ومنغص آخر من المنغصات في هذا الشهر المبارك يتمثل في وضع الشباب والفتيات حينما يشغلون أوقاتهم فيما يذهب سبهللاً؛ بحيث لا يغوي الشباب إلا الطرق والممرات، فيزعجون ويوقظون ويلحظون ويضايقون، حتى تبدو الممرات والطرق، وكأنها لهم مأدبات إبليسية بتلقي القبيح من القول، والسيئ من الفعل.
وأما الفتاة المسلمة فبإضاعة وقتها في التفنن بأنواع الطعام والشراب إن هي أحسنت، أو أن تكون خرَّاجة ولاَّجة جرياً بين الأسواق، أو أماكن العبادة، دون تقيد بآداب الشرع أو إعطاء الطريق حقه بالحشمة والستر والبُعد عن أن تَفتن أو تُفتن، فتحمل بذلك الوزر من حيث أرادت الأجر، وليس ذلك بمُعْفٍ للوالدَين عن المسئولية، فالكل راعٍ، والكل مسئول عن رعيته، و{كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يعول }.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم .. إنك حميد مجيد.
وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين .. إنك حميد مجيد.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم.
اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.